رقم ( 2 )
i. الفصل الأول: جذور الإنحلال الخلقى الجسدى وتشريعه فى عقيدة التصوف وتاريخ الصوفية.

  الفصل الأول: جذور الإنحلال الخلقى الجسدى وتشريعه فى عقيدة التصوف وتاريخالصوفية.

أولا : جذور الإنحلال الخلقى فى عقيدة الصوفية:

      ــ  وحدة الوجود وأثرها فى نشر الإنحلال الخلقى.

مقالات متعلقة :

      ــ  نكاح المحرمات .

      -  وحدة الفاعل

      ــ  سقوط التكاليف الإسلامية .

      ــ  الولى الصوفى لاتؤثر معصيته فى ولايته .

      ــ  التخويف من الاعتراض على الولى العاصى .

ثانيا  : الصوفية ونشر الإنحلال الخلقى وتشريعه :

      ــ الصوفية والعوام .

      ــ  حفلات السماع الصوفية.

      ــ تعبيرات جديدة للانحلال الخلقى .

      ــ  اعتراف بمسئولية التصوف عن الانحلال الخلقى .

      ــ  الدعوة للعصيان .

أولا : جذور الانحلال الخلقى فى

عقيدة التصوف

       عقيدة التصوف فى وحدة الوجود هى الأساس فى الإنحلال الخلقى للصوفية وأساس انتشاره فى المجتمعات التى سيطروا عليها . وتؤثر هذه العقيدة فى نشر الإنحلال الخلقى من زوايا مختلفة ..

وحدة الوجود :

      فعقيدة وحدة الوجود ترى أن الكون جزء من الله وأن البشر بالذات هم أبرز مظهر يتجلى فيه الإله فى هذا العالم ، وفى ذلك يقول ابن عربى الشيخ الصوفى الأكبر (لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى أن يرى أعيانها، وإن شئت قلت أن يرى عينه فى كون جامع يحصر الأمر كله .. يكون له كالمرآه .. فكان آدم عين جلاء تلك المرآه وروح تلك الصورة .. فظهر جميع مافى الصورة الإلهية من الأسماء فى هذه النشأة الإنسانية .. فأوجد فى هذا المختصر الشريف الذى هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية)[1] . إذ يرى ابن عربى أن آدم هو امتداد لله وأنه جمع كل الصفات الإلهية فيه .

      ثم تحدث عن خلق حواء بعد آدم فيرى أنها أيضا جزء من الله ( .. ثم اشتق له شخصا على صورته سماه امرأته ، فظهرت بصورته ، فحنَ إليها حنين الشىء إلى نفسه ، وحنَت إليه حنين الشىء إلى وطنه)[2] .

      ثم يرى ابن عربى فى النكاح الجنسى بين الذكر والأنثى اتحادا بالله على اعتبار أن الرجل والمرأة جزء إلهى ثم بالإتصال بينهما يعودان إلى نفس النشأة الإلهية ، وأن الصوفى الحق هو الذى يعايش هذا الإحساس بالإتحاد بالله حين يمارس الجنس ، أما غير الصوفى فينهمك فى الصورة وينسى الأصل، يقول ( ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة .. فلم يكن فى صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح ، ولهذا تعمُ الشهوة الأجزاء كلها، ولذلك أمر بالإغتسال منه ، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة، فإن الحق ــ يقصد الله تعالى ــ غيورعلى عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره، فطهَره بالغسل، فيرجع بالنظر إليه فيمن فنى منه )[3]. أى ابن عربى يؤول الغسل بعد الجنابة بأن الله أوجبه لأنه يغار من الرجل إذا اعتقد أنه يلتذ بغيره ليعرف الرجل فيمن التذ به ، هل بالمرأة ، أم بالإله !!.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا !!

       ثم يتحدث ابن عربى عن أنواع الشهود الإلهى وقت الجماع الجنسى او كيفية الاتحاد الإلهى فى الرجل والمرأة لحظةالشهوة الجنسية ، يقول:  ( فإذا شاهد الرجل الحق فى المرأة كان شهوده فى منفعل ، وإذا شاهده فى نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده فى فاعل) ثم يصل بعد استطراد، إلى أن الإله  يتجلى أكثر فىالمرأة عند الجماع لأنها محل الشهوة، يقول ( فشهوده للحق فى المرأة أتم وأكمل شهود الحق فيهن، إذ لم يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا ، فإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا ، ولم تكن الشهادة إلا فى مادة فشهود الحق فى النساء أعظم الشهود)[4]. فابن عربى يرى أنه لايمكن مشاهدة الله إلا فى المادة الحسية، ويفسر الجماع الجنسى على هذا الأساس ، فيقول ( وأعظم الوصلة النكاح ، وهو نظير التوجه الإرادى على من خلقه على صورته ليخلفه ، فيرى صورته بل نفسه ، فسوَاه وعدَله ونفخ فيه من روحه الذى هو نفسه ، فظاهره خلق ، وباطنه حق)[5] . وواضح أن ابن عربى يعتمد على الأحاديث الكاذبة التى تمثل عقائد التصوف ، مثل( أن الله خلق آدم على صورته) ، وهو موجود فى البخارى ، وأصله زيف أدخله اليهود فى سفر التكوين المضاف للتوراة ، ثم نسبوا ذلك الحديث فيما بعد للرسول محمد ، ويعتمد ابن عربى أيضا على تأويله للروح بالنفس البشرية ، مع أن كلمة الروح لم تأت فى القرآن إلا وصفا لجبريل ومايتعلق به ، ثم ينتهى ابن عربى إلى اعتبار الإنسان الهيا ، ظاهره خلق أى مخلوق وباطنه حق يعنى الله تعالى ، وعليه فالجماع بين الرجل والمرأة هو رجوع بهما إلى النشأة الإلهية ، ومن يفهم الجماع على هذا الأساس فقد عرف الحق وعرف أنه لايلتذ بالمرأة وإنما يلتذ بالإله الذى فى داخل المرأة يقول ابن عربى فى ذلك :ـ

        ( فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهى ، ومن أحبهن على جهة الشهوة الطبيعية خاصة، نقصه علم هذه الشهوة ، فكان صورة بلا روح عنده ، وإن كانت تلك الصورة فى نفس الأمر ذات روح ولكنها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى حيث كان، لمجرد الإلتذاذ لكن لايدرى لمن ، فجهل من نفسه مايجهل الغير منه ، مالم يسمه هو بلسانه حتى يعلمه، كما قال بعضهم:

           صح عند الناس إنى عاشق            غير أن لم يعرف عشقى لمن

كذلك هذا، إذا أحب الإلتذاذ، فأحب المحل الذى يكون فيه، وهو المرأة ولكن غاب عنه روح المسألة، فلو علمها لعلم بمن إلتذ ، وكان كاملا [6] ). وهذا هو مقياس الإنسان الكامل عندهم .

ومن السهل بعد هذا الانحراف الهائل فى العقيدة ان ينحرف السلوك ويباح الزنى، طالما أن الجماع الجنسى بأى طريق هوالوسيلة للتحقق بالحق وشهود الإله فى المرأة، وواضح من النص السابق أن ابن عربى لايفرق بين جماع الرجل لزوجته أو لأى أنثى، فهويقول(ولكنها غير مشهودة لمن جاء لامرأته أو لأنثى، حيث كان لمجرد الإلتذاذ ...).

     وقدهلك ابن عربى قبيل العصر المملوكى، ولكن عقيدته التى استقاها من الغزالى والرواد الصوفية الأوائل ظلت مسيطرة على العصر المملوكى ، رددها عبدالكريم الجيلى فى القرن التاسع فىكتابه (الإنسان الكامل) ورضعها الشعرانى أكبر الصوفية المخضرمين للعصرين المملوكى والعثمانى. فالشعرانى استشهد بأقاويل ابن عربى فى عبادة المرأة عند الجماع،واعتبارها أبرزمجال للشهود الإلهى لحظة الجماع ، واستشهد بقوله أن أعظم الملائكة قوة مخلوق من أنفاس النساء ــ وهو ترديد ساذج لعبادة الجاهليين للملائكة على أنها بنات الله ــ وردد قوله أن من جملة قوة النساء أنها استدعت أعظم ملوك الدنيا إلى هيئة السجود حال الوقاع ــ أى الإتصال الجنسى ، وهو بذلك يضفى على حركات الجماع سمات العبادة من السجود والركوع والقيام ، وأن من جملة قوتها أنها قدرت على إخفاء محبتها للوقاع من كون شهوتها تزيدعلى شهوة الرجل بسبعين ضعفا،ولانعرف من أين استمدهذا التقدير، ومن قوتها أيضا استخدامها الرجل فى حوائجها وتحصيل شهواتها وتقبيلها،وهذه الأمورلاتكون إلا لمن حقت له السيادة على ذلك الخادم أى الذكر، ثم يجتهد الشعرانى فى الربط بين الحق تعالى وبين جماع المرأة ويأتى بمعان جديدة لم ترد فى كتاب الفصوص لابن عربى، كقوله ( شرع الشارع الاستخارة للعبد فى السفر والتزوج والمشاركة وغير ذلك ، مما لذته دون لذة الجماع ، وحجابه دون حجاب الجماع ) وطبيعى أن دليله فى مشروعية الاستخارة مستقى من الأحاديث الكاذبة ، وليس القرآن إذ فى القرآن توكل على الله بعد التفكير والإعداد ، ولكن الشعرانى بعد هذه المقولة يرتب عليها عقيدته الصوفية فى اعتبار الجماع شهودا لله فى المرأة فيقول( ولاينبغى لعبد أن يقدم على فعل شىء يخاف أن يحجبه عن شهوده لربه عز وجل كالجماع) ثم يجعل من الله تعالى مشاركا إيجابيا للعبد فى لذة الجماع، فيقول( ومن علامة كون الحق جل وعلا يحب من

عبده الجماع أن يدوم انتشار فرجه ، أو ينتشر إن كان له فيه ارتخاء، إحسانا للظن بالله) [7]. ويفتخر الشعرانى

بتجربته قائلا( ومما  أنعم الله تبارك وتعالى به على .. حضورى مع الحق تبارك وتعالى فى حال اجتماعى

بزوجتى كما أحضر معه تبارك وتعالى فى صلاتى على حد سواء فى أصل الحضور .. بجامع أن كل منهما

عبادة مأمور بها).                                                                                                  

       فالشعرانى يزاوج بين الجماع والصلاة وبين المرأة والإله، ثم يقول ( وماشرع الحق جميع المأمورات الشرعية إلا ليحضر العبد مع ربه حال فعلها ،إنما لم يصرح الشارع لنا بالأمر بالحضور بالجماع اكتفاء بما أمرنا به من التسمية عنده، فإن ذكر اسمه تعالى وسيلة للحضور معه تعالى) فهو يتحدث عن شهود الإله فى المرأة حال الجماع، ويدلل بالأمربذكر اسم الله، عند الجماع وذلك افتراء لاسند له .

       ويستند الشعرانى لأقوال اشياخه ، يقول ( وكان سيدى المرصفى يقول: لايتحقق لعارف قط وجه العبودية ذوقا فى شىء من العبادات كما تحقق فى حال الجماع أبدا، فإنه يشهد نفسه مقهورا تحت حكم شهوة طبيعية، حتى لايقدر على دفع حكمها عليه ولايكاد يتذكر شيئا آخر غير ماهو فيه ، ولذلك كان من شأن القطب الغوث الإكثار من النكاح ، لما يجده فيه من التحقق بالعبودية . فإياك والإعتراض على من يكثر من الجماع فربما يكون سبب كثرة جماعه الحكمة التى ذكرناها، وقد رأيت شخصا يدعى القطبية يدخل الحمام فى النهار ثلاث مرات،فازدادت فيه اعتقادا وتعظيما) وبغض النظر عما فى كلام الشعرانى من مآخذ تستدعى الضحك والسخرية إلا أن رائحة الجد تظهر فى كلامه، إذ يجعل من الجماع الجنسى أهم مظهر للعبادة الصوفية ، وأهم مناسبة لشهود الإله، وأهم معلم من معالم التفوق الصوفى، وكلما ازداد أحدهم فى ممارسته الجنسية بغض النظر عن كونها حلالا أو حراما كلما ازدادت درجته الصوفية .

       ولأنه عبادة كان لابد من اختراع طقوس تأديتها، والشعرانى تحدث عن طقوسه فى ممارسة الجنس مع زوجته فيقول ( ومما أنعم الله تبارك وتعالى به على كثرة شفقتى على ذريتى من قبل أن تحمل بهم أمهم ، وذلك أنى لا أجامع أمهم قط وأنا غافل عن الله تبارك وتعالى، ولا أجامعها وأنا غضبان ،ولا أنا مقبل على الدنيا، ولا أنا مخاصم أمهم لحظ نفس ،ولا وأنا حسود أو متكبر)[8] . أى يمارس الجنس كأنه فى عبادة صوفية.

       ودارت اصطلاحات الصوفية حول هذا المعنى مثل (المحق) ( والمحبة الأصلية) ( النكاح السارى فى جميع الذرارى) ( مجمع الأهواء) وهو( حضرة الجمال المطلق ، فإنه لايتعلق هوى إلا برشحة من الجمال ، ولذلك قيل :

                    نقل فؤادك حيث شئت من الهوى          ماالحب إلا للحبيب الأول

        وقال الشيبانى :

                   كل الجمال غدا لوجهك مجملا          لكنه فى العالمين مفصلا[9].

 

نكاح المحرمات :

      فالصوفية يعتقدون أن كل وجه جميل إنما هو مظهر لجمال الله ، لذا فالعقيدة الصوفية لاتحرم الزنى وشيخهم ابن عربى(كان لايحرم فرجا)[10] ، وبعض الصوفية أعلنها صراحة ولم يبال باعتراض الناس بل تعدى إلى استحلال المحارم مثل الأم والبنت والأخت ، وأبرز مثل ذلك هو الشيخ عفيف الدين التلمسانى تلميذ ابن عربى، الذى كان( لايحرم فرجا وأن عنده ما ثمَ ولاغير ــ أى لايوجد سوى الله فالله هو الكون ، وأن العبد إنما يشهد السوى ــ أى غير الله ــ إذا كان محجوبا ، فإذا انكشف حجابه ورأى أن ماثمًَ غيره ــ أى ماهنالك غير الله ــ تبين له الأمر ، ولهذا كان يقول : نكاح الأم والبنت والأجنبية واحد وإنما هؤلاء المحجوبون ــ أى غير الصوفية ــ قالوا حرام علينا ، فقلنا حرام عليكم)[11]

      وتوافد صوفية المشرق لمصر المملوكية واتسموا بصراحتهم فى إعلان عقائدهم بوضوح ، ولأنهم فقراء مهاجرون ملأوا طرقات القاهرة فقد استنكر الناس أفعالهم ، وقال عنهم المقريزى( ينتحلون مذاهب الإلحاد ، ويصرحون بتعطيل الصانع تعالى ، وينكرون شرائع الأنبياء ، ويجهرون بإباحة المحرمات)[12]. أى إباحة الزنى بالمحرمات فى الزواج كالأم والبنت .

       ويبدو أنه كان من بين أولئك الوافدين من صوفية المشرق أتباع لطائفة الحروفية أو النسيمية، وقد أعلنوا إباحة المحرمات من النساء ، وقد قتل زعيمهم التبريزى(ت سنة820 هـ)وقيل فيه ( قتل الشيخ نسيم الدين التبريزى نزيل حلب وهو شيخ الحروفية، وقد قرر نسيم الدين أن الشرائع أباطيل لاحقائق ، وأنه لا إله ،( وقد وصل فى ضلاله إلى أن وطأ ابنته واتخذها كالزوجات إلى أن أولدها ولدا). وقد سكن حلب وكثر أتباعه وشاعت بدعته فأمر السلطان بقتله)[13]، إذا فقد  انتشرت طوائف النسيمية الذين أعلنوا وطبقوا ماقاله فلاسفة التصوف كابن عربى وعفيف الدين التلمسانى، بل أن أتباع النسيمى تكاثروا بعد موته ووصلوا إلى مصر ضمن التوافد الصوفى إلى القاهرة عاصمة الدولة المملوكية المسيطرة على أهم مراكز العالم الإسلامى، فبعد مقتل النسيمى بثمانية عشر عاما، يقول ابن حجر فى حوادث سنة   838 (حضر للسلطان شريف من الشام بأوراق فيما يتعلق بالنسيمى وشيخه فضل الله وأن بالشام ومصر جماعة على عقيدته وأنه تصدى لتتبعهم) [14].

      وهكذا فقد أتاح التصوف نشر الإنحلال الخلقى مع المحارم كالأم والبنت ، ومن الطبيعى أن ينتشر أكثر الإنحلال الخلقى الطبيعى مع النساء الأجنبيات ، بل أن يمارس علىأنه نوع من التدينٍ ، طالما أن له جذورا دينية ، ولعل ابن تيمية هو الذى فطن إلى ذلك بسبب صراعه مع الصوفية وأعوانهم المعتقدين فيهم والذين تأثروا بهم، يقول ابن تيمية فى قوله تعالى عن ابليس (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) (وفى هذا الوصف نصيب كبير لكثير من المنتسبين إلى القبلة من الصوفية والعباد والأمراء والأجناد والمتفلسفة والمتكلمين والعامة وغيرهم، يستحلون من الفواحش ماحرم الله ورسوله ظانين أن الله أباحه، أو تقليدا لأسلافهم ، وأصله العشق الذى يبغضه الله ، فكثير منهم يجعله دينا ويرى أنه يتقرب به إلى الله إما لزعمه أنه يزكى نفسه ، ويهذبها، وإما لزعمه أنه يجمع بذلك قلبه على أدمى ثم ينقله إلى عبادة الله وحده ، وإما لزعمه أن الصور الجميلة مظاهرالحق ومشاهده، ويسميها مظاهر الجمال الأحدى ، وإما لاعتقاده حلول الرب فيها واتحاده بها ، ولذا تجد بين نساك هؤلاء وفقرائهم وامرائهم وأصحابهم توافقا وتآلفا على إتخاذ أنداد من دون الله يحبونهم كحب الله ، إما تدينا وإما شهوة، وإما جمعا بين الأمرين ، ولهذا يتآلفون ويجتمعون على السماع الشيطانى الذى يهيج الحب المشترك فيهيج من كل قلب مافيه من الحب)[15]

       وواضح فى ذلك النص أن كثيرين تأثروا بمقالة الصوفية من الأمراء والأجناد والفلاسفة والمتكلمين والعامة ، وماأسهل انتشار دعوات الإنحلال خصوصا إذا صبغت بالدين ، وكان الصوفية هم الأولياء والمعلمون فى العصر والأئمة فى التطبيق، ويقرر ابن تيمية أنهم جعلوا الإنحلال الخلقى دينا يتقربون به لله ، وأورد حججهم مثل تزكية النفس أو إتخاذ المعشوق واسطة تقربهم لله ، أو أن الصور الجميلة مظاهر يتجلى فيها الله ، وهو نفس مايقرره ابن عربى وغيره فى كتبهم التى كانت منتشرة فى العصر تحظى بالإهتمام والرعاية ، ثم ذكر ابن تيمية أنهم كانوا يمارسون الإنحلال فى صورة جماعية فى السماع الصوفى، أو حفلات الذكر التى يحضرها النساء والصبيان ، وقد جمَلوهم بالألوان والأصباغ، حتى تهيج الشهوات ، ويستدلون بالصنعة على الصانع فى زعمهم ، وقد كان ذلك عادة لهم حتى قبل العصر المملوكى ، فيقول عنهم ابن الجوزى فى القرن السادس (ويصحبون المردان فى السماعات يجملونهم فى الجموع فى ضوء الشموع، ويخالطون النسوة الأجانب، ينصبون لذلك حجة ألبساهن الخرقة)[16]. أى أدخالهن فى الطريق الصوفى. ومخالطة النساء أو الاختلاط بالنساء هو اصطلاح الفقهاء الذى يعبر عن الزنا.

       " وحدة الفاعل" ثم من مظاهر عقيدة الوجود أن الله هو الفاعل لكل حركة، باعتبار أنه موجود فى داخل كل إنسان ، أو مايعبر عنهم الصوفية بقولهم وحدة الفاعل . يقول الغزالى ( وحاصلة أن يتكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى ، وأن كل موجود من خلق  ورزق وعطاء ومنع وحياة وموت وغنى وفقر إلى غير ذلك مما ينطق عليه اسم، فالمتفرد بإبداعه واختراعه هو الله لاشريك له فيه ، وإذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره ، فإنه الفاعل على إنفراد دون غيره، وماسواه مسخرون له لا استقلال لهم بتحريك ذرة فى ملكوت السماوات والأرض)[17]

       والغزالى يخلط عامدا بين قدرة الله واختبار العبد ليؤكد صلة عقيدته الصوفية فى وحدة الفاعل بالإسلام ، والواقع القرآنى يؤكد علىأن الله هو خالق كل شىء( ذلكم الله ربكم لا إله إلاهو خالق كل شىء..الأنعام 102 )، والله هو الذى سمح للبشر بمساحة من الاختيار فترك الحرية للإنسان فى التفكير والمشيئة وترك له الحرية فى العمل  فقال( أعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ..فصلت 40 ) ، وترك له الحرية فى الإيمان أو الكفر فقال( وقل: الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. الكهف 29)، والآيات السابقة ختمت بتقرير مسئولية البشر أمام الله حيث سيحاسبهم يوم القيامة على هذه الحرية التى سمح لهم بها ، بل على أساس هذه الحرية تمتع الصوفية مثلا بحريته فى الكفر والعصيان وكتب الغزالى وأمثاله مايخالف آيات الله التى حاول التلاعب بها لتتفق مع عقيدته .

       وقد فصل الغزالى القول فى تقرير وحدة الفاعل وربط أفعال البشر بقضاء الله وقدره ليثبت أن لامسئولية على العصاة فيقول مثلا ( ولاينبغى أن تقول هذا فعلى .. بل هو الذى صرف داعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه والفعل المحبوب بالشخص المحبوب)[18]. فالغزالى هنا ينسب الفعل المكروه لله خلافا للقرآن الذى ينسب العمل الصالح لهداية الله والعمل السىء لابتعاد النفس عن هدى الله ، يقول الله تعالى للرسول

( ماأصابك من حسنة فمن الله ،وماأصابك من سيئة فمن نفسك ، وأرسلناك للناس رسولا .. النساء 79 )، والهداية تبدأ من النفس البشرية باختيارهم ثم يزيدها الله هدى ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم : محمد 17 )، ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وأن الله لمع المحسنين: العنكبوت 69)، إلا أن الغزالى جعل البشر مجرمهم وصالحهم أوراقا يحركها الله بلا إرادة منهم ، يقول( والعلماء يعلمون أنهم محركون، إلا أنهم لايعرفون كيفية التحريك ، وهم الأكثرون إلا العارفون ، والعلماء الراسخون فإنهم أدركوا بحدة أبصارهم خيوطا دقيقة عنكبوتية بل أدق منها بكثير معلقة بين السماء متشبثة الأطراف بأهل الأرض .. ثم شاهدوا رءوس تلك الخيوط فى مناطات لها هى معلقة بها،وشاهدوا لتلك المناطات مقابض هى فى أيدى الملائكة المحركين للسموات وشاهدوا أيضا ملائكة السماوات مصروفة إلى حملة العرش ينتظرون منهم ماينزل عليهم من الأمر من حضرة الربوبية، كى لايعصوا الله ماأمرهم ويفعلون مايؤمرون)[19]. وصارت وحدة الفاعل من مصطلحات الصوفية تعرف بالعبودية ومحو عين العبد، أى( إسقاط إضافة الوجود إلى الأعيان ، فإن الأعيان شئون ذاتية ظهرت فى الحضرة الواحدة، أى الله، إلا أن وجود الحق ظهرفيها مع كونها ممكنات معدومة لها آثار فى الوجود الظاهر بها) ( والوجود ليس إلا عين الحق تعالى، والإضافة ليست لها وجود فى الخارج ، والأفعال والتاثيرات ليست إلا تابعة للوجود، إذ المعدوم لايؤثر، فلا فاعل ولا موجود إلا الله تعالى ، فهو العابد باعتبار تعينه وتقيده بصورة العبد.. وهو المعبود باعتبار إطلاقه)[20] أى وصفوا الله بأنه العابد وأنه المعبود، ووصفوا الإنسان بأنه العابد والمعبود تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

       والخطورة الأخلاقية فى (وحدة الفاعل) أن الصوفية يبرئون المجرم من جريمته وينسبون الجريمة لله باعتبار أنه الفاعل وحده ،أما المجرم من البشر فلا إرادة له فيما يرتكب ، ولأن كل الأ فعال من الله،وقد جعل الغزالى من هذه المقالة أساسا فى ( التوحيد الصوفى) فيقول: ولست أعنى بالتوحيد أن يقول بلسانه لا إله إلا الله .. فلا ينفع القول بلسانه ، وإنما ينفع الصدق فى التوحيد ، وكمال التوحيد أن لايرى الأمور كلها إلا من الله ، وعلامته أن لايغضب على أحد من الخلق بما يجرى عليه ، إذ لايرى الوسائط ، وإنما يرى مسبب الأسباب)[21]. فمن كمال التوحيد عندهم ألا يغضب المظلوم من ظالمه ، بل ينسب الإثم لله لا للبشر ،  وصار من اصطلاحاتهم(الموت الأسود) وهو (احتمال الأذى من الخلق .. لكون يراه من محبوبه)[22]. أى من الله ، تعالى عن ذلك علو كبيرا ..

        ويساوى الصوفية على هذا بين الحسنة والسيئة، وبين الصالحين والعصاة ، والمؤمنين والكفرة، فكل هذه الأعمال من الله لا من البشر، فيقول أبو سليمان الدارانى( ليس أعمال الخلق بالذى يسخطه ولا بالذى يرضيه ، وإنما رضى عن قوم فاستعملهم بعمل أهل الرضا، وسخط على قوم فاستعملهم بعمل أهل السخط)[23].وأعطى الصوفية ذلك المعنى اصطلاحا هو ( جمع الجمع) ( وهو تصريف الحق جميع الخلق ، فجمع الكل فى التقليب والتصريف من حيث أنه منشىء ذواتهم ومجرى صفاتهم ، ثم فرقهم فى التنويع ، فريقا أسعدهم وفريقا أبعدهم وأشقاهم وفريقا  أضلهم وعماهم )[24]. ولذلك دافع ابن عربى عن المشركين من الأمم السابقة من قوم نوح وقوم عاد ، وفرعون .

         ولكن لايمكن أن تستوى الحسنة مع السيئة( ولاتستوى الحسنة ولا السيئة .. فصلت 34 ) كما لايمكن أن يتساوى الفاجر بالصالح( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ؟ مالكم؟ كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون أن لكم فيه لما تخيرون؟ .. القلم ــ 35).

            ومادام التصوف يساوى العصيان بالصلاح وينسب الفعل السىء لله لا للبشر ومادامت النفوس تميل للرذائل فالعصيان أقرب للهوى ، والصوفى باختياره للعصيان إنما يختار ماقضى به الله فى زعمهم، وقد اقترب بعضهم من هذا المعنى حين قال ( مادام العبد يتعرف فيقال لا تختر شيئا ولاتختر ولاتكن مع اختيارك ، فإذا عرف وصار عارفا ــ أى تصوف ــ فيقال له إن شئت اختر وإن شئت لاتختر ، وأنك إن اخترت فباختيارنا اخترت ..)[25]. فالصوفى أوالعارف له أن يختار مايشاء واختياره هو اختيار الله ، ولأنه عارف صوفى فهو يعلم الغيب ويتمتع بالعلم اللدنى كما ادعى الجنيد نفسه [26].

         والصوفى الذى يدعى علم الغيب بزعمهم يستطيع أن يعلم المستقبل وماقدره الله له من معاصى ، وبذلك إذا وقع فى معصية مثلا فلأنه عرف من علمه اللدنى أن وقوعه فى المعصية قدر لافكاك منه . والجنيد سيد الطائفة وزعيم الصوفية المعتدلين القائل( العارف من نطق عن سرك وهو ساكت) هو نفسه الجنيد الذى سئل

( أيزنى العارف ) فأطرق مليَا ثم قال( وكان أمر الله قدرا مقدورا)[27]. فالجنيد الذى كان يستتر بالفقه ويقرر التصوف سرا ويدعى التزامه بالإسلام وقع فى حيرة حين سئل سؤالا مباشرا عن إمكانية وقوع الصوفى فى الزنا، فأطرق مليَا ثم استشهد بقوله تعالى( وكان أمر الله قدرا مقدورا) ويلمح بذلك إلى معرفة الصوفى بالغيب ، وأنه إذا عرف المقدر عليه فلا يستطيع منه فكاكا.

           أما الغزالى الذى يتقضى أثر الجنيد فى التمسح بالإسلام فقد حاول أن يقرر نفس العقيدة من خلال أسطورة سبكها يقول فيها ( كان آصف بن برخيا من المسرفين وكانت معصيته فى الجوارح فقد روى أن الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه السلام : يارأس العابدين .. إلى كم يعصينى ابن خالتك آصف وأنا أحلم عليه مرة بعد مرة ، فوعزتى وجلالى لإن أخذته عصفة من عصفاتى عليه لتركته مثلة لمن بعده ..فلما دخل آصف على سليمان أخبره بما أوحى الله تعالى به ، فخرج حتى علا كثيبا من رمل ثم رفع رأسه ، وقال إلهى وسيدى أنت أنت وأنا أنا ، فكيف أتوب إن لم تتب على ؟ وكيف استعصم ؟ إن لم تعصمنى لأعودن، فأوحى الله تعالىإليه صدقت ياآصف أنت أنت وأنا أنا، أنا استقبل التوبة وقد تبت عليك وأنا التواب الرحيم)[28].. وفى النص الذى اخترعه الغزالى افتراء على الله بأنه يوحى إلى عاصى بزعمه ،وفيه تفضيل لذلك العاصى على الله ، لأن الله غضب على العاصى لعصيانه وهدده بأن يجعله عبرة لمن بعده ، ولكن بعد ماتكلم العاصى مع الله يفترى الغزالى أن الله قال له( صدقت ياآصف) أى كما لو أن الله ــ تعالى عن ذلك ــ أخطأ فى الحكم الأول ، ثم اعتذر للعاصى حين أدرك عقيدة الصوفية فى أنه الفاعل الوحيد للعصيان والتوبة معا .

          وربما لم يتنبه الغزالى لهذه السقطة الهائلة حين جعل الله كأنه يعتذر لبشر ،لأن غرض الغزالى حين ألف هذه الأسطورة هو تقرير عقيدة وحدة الفاعل الصوفية ونسبها لله افتراء كى تكتسب مشروعية، وبها فلا مسئولية على البشر إن عصوا ، فإن شاء الله تاب عليهم وإن شاء تركهم فى عصيانهم ..

         والغزالى الذى يشجع على الإنحلال الخلقى إلى درجة الإفتراء السابق على الله هو نفسه الغزالى الذى إضطر للإنكار على صوفية عصره حين طبقوا تعاليم الغزالى فأثاروا عليهم الناس  ، وخشى الغزالى من أن يمتد إنكار الناس على الصوفية العصاة إلى إنكار على دين التصوف ، فهب يقطع الطريق على الفقهاء الأعداء التقليديين للصوفية ،فأخذ يهاجم بنفسه منحلى الصوفية وادعاءاتهم ، مع أن أقوالهم لاتختلف عما يقرره هو فى نفس كتابه الأحياء ، فيقول عن صوفية عصره(طائفة وقعت فى الإباحة ــ أى إباحة المحرمات وليس مجرد ارتكابها ــ وطووا بساط الشرع ، ورفضوا الأحكام ، وسووا بين الحلال والحرام)، وهو نفس مايحاول الغزالى إثباته بالأساطير المفتراه ،ثم يورد أقوالهم ( فبعضهم يزعم أن الله مستغن عن عملى فلم أتعب نفسى ، وبعضهم يقول قد كلف الله تطهير القلوب عن الشهوات وعن حب الدنيا وذلك محال ، فقد كلفوا مالم يكن ، وإنما يغتر به من لم يكن يجرب ، وأما نحن فقد جربنا وأدركنا أن ذلك محال ، وبعضهم يقول الأعمال بالجوارح لاوزن لها ، وإنما النظر إلى القلوب ، وقلوبنا والهة بحب الله وواصلة إلى معرفة الله ،وإنما نخوض فى الدنيا بأبداننا وقلوبنا عاكفة فى الحضرة الربوبية ، فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب ، ويزعمون أنهم قد ترقوا عن رتبة العوام واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية ، وأن الشهوات لاتصدهم عن طريق الله لقوتهم فيها، ويرفعون أنفسهم على درجة الأنبياء .. إذ كانت تصدهم عن طريق الله خطيئة واحدة ) ثم يقول الغزالى فى النهاية ( وأضاف غرورأهل الإباحة من المتشبهين بالصوفية ــ لا تحصى)[29] . وفى الجملة الأخيرةالسبب الذى من أجله هاجمهم الغزالى ، فقد أنكر صلتهم بالصوفية وجعلهم متشبهين بالصوفية، وحرمهم من شرف الإنتماء لأمثاله حتى لايعطى فرصة لخصومه الفقهاء .

        وقبل الغزالى كان الصوفية يمارسون نفس الانحلال الذى كان فى عصر الغزالى، وفقا لعقيدة التصوف فى وحدة الوجود ووحدة الفاعل ، فأضطر القشيرى ليكتب رسالته فى الإنكار عليهم يقول فى مقدمتها[30]: (رفضواالتمييز بين الحلال والحرام) وهو ما يماثل قول الغزالى أنهم وقعوا فى إباحة المحرمات ( واستخفوا بأداء العبادات ، واستهانوا بالصوم والصلاة) أى أسقطوا التكاليف الإسلامية ( وركضوا فى ميدان الغفلات ، وركنوا إلى إتباع الشهوات وقلة المبالاة بتعاطى المحظورات ، والارتفاق بما يأخذونه من السوق والنسوان) أى وقعوا فى الإنحلال الخلقى ( ثم لم يرضوا بما تعاطوا من سوء هذه الأفعال ، حتى أشاروا إلى أعلا الحقائق والأحوال ، وأدعوا أنهم تحرروا عن رق الأغلال وتحققوا بحقائق الوصال) أى إدعوا الإتحاد بالله وتحرروا عن رق الجسد وتحققوا بالله وأصبحوا جزءا من الله ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ( وتحققوا بحقائق الوصال ، وأنهم قائمون بالحق تجرى عليهم أحكامه وهم محو ، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يزرونه عتب ولا لوم) أى وحدة الفاعل فالله ــ بزعمهم ــ هو الذى يتصرف فيهم ، وقد انمحت ذواتهم فلا عتب ولا لوم عليهم فيما يقعون فيه من آثام ( وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية ، واختطفوا عنهم بالكلية ، وزالت عنهم أحكام البشرية) أى كاشفهم الله بأسراره وبالعلم اللدنى الإلهى ، وتحققت أرواحهم بالله فلم يعودوا كالبشر لتجرى عليهم أحكام البشر ( وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية) أى بقت أجسادهم على الأرض بعد أن فنت أرواحهم وتحققت بالله ، وذلك يشابه قول الغزالى السابق عن معاصريه أنهم يخوضون فى الدنيا بأجسادهم وقلوبهم عاكفة فى الحضرة الربوبية ، فهم مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب ، لذا فلا موجب للوم عليهم( وبقوا بعد فنائهم بأنوار الصمدية ، والقائل غيرهم إذا نطقوا والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا) أى أن الفاعل هو الله لا هم .. ثم يقول القشيرى ( ولما طال الإبتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوحت بعضه من هذه القصة ، وماكنت لأبسط هذه الغاية لسان الإنكار غيره على هذه الطريقةأن يذكر أهلها ..إذ البلوى فى هذه الديار بالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة) فهو هنا يعلل السبب فى إنكاره على الصوفية وهو خوفه على الطريقة الصوفية من الفقهاء أعدائه ، ثم قال (ولما أبى الوقت إلا استصعابا ،وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تماديا فيما اعتادوه واغترارا بما ارتادوه ، أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده، وعلى هذا  النحوسارسلفه ، فعلقت هذه الرسالة إليكم) أى تمادى الصوفية فى انحلالهم الذى اعتادوه فخشى القشيرى أن يحسب الناس أن التصوف هو ذلك الانحراف الخلقى والعقيدى الذى يمارسه صوفية عصره فكتب رسالته القشيرية . ومع ذلك فإنه لم يستطع فى هذه الرسالة إلا أن يقرر نفس العقائد الصوفية وستأتى نصوص فى ذلك كما سبق إيراد بعضها ،وبعد القشيرى جاء الغزالى يكرر نفس الإتهام لصوفية عصره ، يقول مثلا ( رأى بعضهم أن الله مستغن عن عبادة العباد لاينقصه عصيان عاص ولاتزيده عبادة متعبد ، فعادوا للشهوات وسلكوا مسلك الإباحة وطووا بساط الشرع والأحكام ، وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد)[31].

         وأصبحت عادة الصوفية أن يتهم كبار الصوفية وفقهاؤهم أوباش الصوفية الآخرين المعاصرين لهم مثل مافعل القشيرى والغزالى .. فالشعرانى فى آواخر العصر المملوكى يتهم معاصريه من أوباش الصوفية الذين أعلنوا عقائدهم بصراحة ولم يتمتعوا باعتقاد الشعرانى ، لذا رماهم على لسان شيخه الخواص بأنهم( زنادقة ، وهم أنجس الطوائف ، لأنهم لايرون حسابا ولا عقابا ولا جنة ولا نارا ولا حلالا ولا حراما ولا آخرة، ولا لهم دين يرجعون إليه ، ولامعتقد يجتمعون عليه ، وهم أنجس الطوائف)[32]. هذا مع أن الشعرانى يدافع باستماتة عن ابن عربى ، ويلخص كلامه ويتابع آراءه ويكتب فى سلوك أشياخه ما يخجل أعتى الفسقة ، وسيأتى تفصيل ذلك.

  سقوط التكاليف

 ويتصل بمقالة ( وحدة الفاعل) إدعاء الصوفية ( سقوط التكاليف الإسلامية) من صلاة وصيام وغيرها ويلحق بها سقوط الالتزام الأخلاقى من ابتعاد عن الآثام ، فالصوفية الذين أسقطوا العبادات الأسلامية هم أنفسهم الذين مارسوا الإنحلال الخلقى ، ومر بنا قول القشيرى فى معاصريه( استخفوا بأداء العبادات واستهانوا بالصوم والصلاة وركضوا فى ميدان الغفلات وركنوا إلى إتباع الشهوات .. إلخ )

      والقشيرى الذى أنكر على صوفية عصره ذلك هو نفسه الذى يلمح بين السطور فى رسالته إلى تقرير أشياخه السابقين لسقوط التكاليف الإسلامية على الصوفى الواصل، غاية ماهناك أنه لايرى فى أوباش الصوفية فى عصره من يستحق أن يكون صوفيا عارفا واصلا.. والقشيرى أتى باقوال الصوفية المعتدلين فى نظره ــ  أو المنافقين فى رأينا ــ وهم الذين تجنبوا صراحة الحلاج وتحاشوا مصيره ، فعبروا عن عقائد التصوف بعبارات غامضة أوملتوية أو رمزية .ٍ

       فالجنيد يرمز إلى إسقاط التكاليف بقوله( العبودية ترك الأشغال) إلى ترك الاشتغال بالفرائض الإسلامية

( والاشتغال بالشغل الذى هو أصل الفارغة) أى دعوى الإتحاد بالله وحلوله ــ وهو الأصل ــ فى الأجساد الفارغة . أو يقول ( لاتصل إلى صريح الحرية وعليك من حقيقة عبوديته بقية ) أى لاتصل إلى الحرية أى إسقاط التكليف وعناء العبودية طالما بقيت فى مشاعرك بقية تؤمن بالفرائض وتحرص عليها،,(وقال بشر الحافى : من أراد أن يذوق طعم الحرية ويستريح من العبودية فليطهر السريرة بينه وبين الله) أى يدعى الإتحاد بالله ويزيل الحجاب فى قلبه ويتحقق بالحق ، وحينئذ تتطهر سريرته ويستريح من العبودية ويتمتع بالحرية الإلهية وتسقط عنه الفرائض، ثم يقول القشيرى( وقال الحسين بن منصور : إذا استوفى العبد مقامات العبودية كلها يصير حرا من تعب العبودية ..) فالقشيرى ينقل رأيا عن الحلاج ويتحاشى ذكر لقبه المشهور ويكتفى بإسمه ( الحسين بن منصور) ويرى الحلاج أن العبد إذا استوفى مقامات العبودية، أى أكمل ادعاءه بالإتحاد يتمكن من طرح العبودية عنه، ويصير حرا فلا يتعب نفسه من تكاليف العبودية .

        والحلاج كان يستعجل رفاقه فى استيفاء مقامات العبودية والوصول إلى اليقين فى التأويل الصوفى ، وهو اسقاط التكاليف طبقا لتأويلهم لقوله تعالى( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)*. بمعنى الفناء فى التوحيد فمن " تحقق" فقد سقطت عنه العبادة ولذلك قال الحلاج للخواص ( أفنيت عمرك فى عمران باطنك فاين الفناء فى التوحيد) أى أضعت عمرك فى تعمير باطنك بالطاعات والبعد عن المعاصى ، فاين الوقت اللازم لإعلان الإتحاد بالله وإدعاء الألوهية وإسقاط تكاليف العبودية ..

 

         بل اعتبر الصوفية الخوف من الله حجابا يعوق إعلان الإتحاد بالله ، فيروى القشيرى عن الواسطى قوله( الخوف حجاب بين الله تعالى وبين العبد) ( وإذا ظهر الحق على السرائر ــ أى حل فى البشر ــ لايبقى فيها فضله لرجاء ولا لخوف)[33]

         وينسى القشيرى أن الأنبياء كانوا أخوف الناس من عذاب الله( قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم : الأنعام15) وأن الإنسان إذا خاف من ربه ارتدع عن المعاصى، أما  إذا أعلن أن الخوف حجاب يجب إزالته ليتمتع بالقرب من الله فقد تشجع على المعصية .

       ثم جاء الغزالى بعد القشيرى فتوسع فى إسقاط التكاليف الإسلامية( الأحياء جـ 4 /299، 367 ،368 )..

         وإسقاط الإلتزام من طاعات وأخلاق أدى إلى نتيجتين أصبحتا معا من قواعد دين التصوف الأخلاقية ، وهما أن الولى لاتؤثر فيه معاصيه، وأنه ينبغى على المريد ألا يعترض على شيخه إذا وقع فى معصية، ووضح فى موقف الغزالى والقشيرى أنهما طبقا هاتين القاعدتين فى تعاملهما مع عقائد الأشياخ السابقين فأوردهما، وفى نفس الوقت هاجما معاصريهم من أوباش الصوفية .

  الولى الصوفى لاتؤثر معصيته فى ولايته :

فالقشيرى يقول تحت عنوان( فهل يكون الولى معصوما) أن الولى يكون محفوظا حتى لايصر على الذنوب إن حصلت هنات أو آفات أو زلات فلا يمتنع ذلك فى وصفهم ، ولقد قيل للجنيد : العارف يزنى ياأبا القاسم؟ فاطرق مليَا ثم رفع راسه وقال : وكان أمر الله قدرا مقدورا) والتمعن فى النص يبرز أن القشيرى يستعمل أسلوب الفقهاء والمتكلمين ويتلاعب بالألفاظ فلم يصف الأولياء بالعصمة التى شاع اسنادها للأنبياء، ولو ساوى بين الولى والنبى فى العصمة لما كان صوفيا معتدلا، لذا ترك لفظ العصمة من الوقوع فى الذنب، وأسند معنى آخر مساويا له وهو الحفظ من الوقوع فى الذنب ، ولأنه يعلم أن كبار الصوفية منحلون خلقيا، فقد عدل من الصياغة لتكون الحفظ من الإصرار على الذنوب، ومعناه أن يقع الأشياخ الصوفية فى الذنب ولايصممون عليها، ثم جعل كبار الذنوب كالزنا مجرد هنات أو زلات أى صغائر، واستشهد بمقالة الجنيد عن زنا العارف

( وكان أمر الله قدرا مقدورا).

          بل إن القشيرى فى موضع آخر يدافع عن إنحلال الأشياخ فى شذوذهم الجنسى مع الصبيان ويعتبره من الصغائر والهنات، يقول( ومن أصعب الآفات فى هذه الطريقة صحبة الأحداث) فجعل الشذوذ مجرد آفة وإن كانت صعبة، ثم خفف من وصف هذه الفاحشة بقوله عنها(صحبة الأحداث) ثم يقول فيما بعد( وماقالوه من وسائس القائلين بالشاهد) أى اعتبار الصبى الجميل شاهدا على جماله الله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا

( وإيراد حكايات عن بعض الشيوخ لما كان الأولى بهم إسبال الستر عن هناتهم) فوصف ذلك الشذوذ بأنه (هنات) ودعا للسكوت عنها.

          والمهم أن يظل الأشياخ الصوفية أولياء وعارفين وإن وقعوا فى كبائر الذنوب كالزنا والشذوذ الجنسى. وأتى الغزالى فحاول أن يؤكد نفس الفكرة بطريقته الفريدة وهى اختراع الأحاديث، فقام بنفسه باختراع حديث نسبه للرسول يقول فيه( إذا أحب الله تعالى عبدا لم يضره ذنب) ثم ذكر قولا آخر أشد نسبه لزيد بن أسلم يقول فيه( إن الله ليحب العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول إعمل ماشئت فقد غفرت لك)،والغزالى لو أنصف لاستشهد بالقرآن بدل من أن يتحدث عن الله فى شأن من شئون الله ويأتى بكلام البشر، ولكنه يعرف أن القرآن كلام الله الحق ينفى هذه المقالة، بل يؤكد العكس وهو أن المؤمن الحق يقدم الطاعة وهو يخشى ألا يقبلها الله، ويظل بين الرجاء والخوف( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون، والذين هم بربهم لا يشركون، والذين يؤتون ماأتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون .. المؤمنون 57 : 60)

            والفارق بين إفتراء الغزالى والحق القرآنى أن الغزالى فى عقيدته يؤمن بأن الصوفى إله ،والآلهة الصوفية فى زعمهم لاتؤثر فيهم أعمالهم لأنهم لايسألون عما يفعلون ، ولقد صاغ الغزالى لذلك المعنى أسطورة تقول( كان إبراهيم بن أدهم فى سياحته على الجبل فسمع قائلا يقول:

      كل شىء منك مغفور سوى الإعراض عنا      وقد وهبنا لك مافات فهب مافات منا

       فاضطرب وغشى عليه فلم يفق يوما وليلة وطرأت عليه أحوال ثم قال سمعت النداء من الجبل: ياإبراهيم كن عبدا، فكنت عبدا وإسترحت )[34].

        فإبراهيم بن أدهم فى هذه الأسطورة سمع هاتفا أو وحيا إلهيا يقرر أن الله يغفر له كل شىء من الذنوب سوى الإعراض عن الله ــ وهو مايعنى فى رموز التصوف الإلتفات للخلق وعدم شهود الحق فيهم . ثم يستمر

الهاتف المزعوم ليقرر أن الله غفر لإبراهيم بن أدهم وبقى على إبراهيم بن أدهم أن يغفر لله (قد وهبنا لك مافات فهب لنا مافات منا) وهنا مساواة بين الله والصوفى ومعاملة على قدم المساواة يؤكدها التعليق الذى جاء بعدها، فقد غش على إبراهيم بن أدهم ــ أو بالتعبير الصوفى فنى عن نفسه ــ وطرأت عليه أحوال ــ أى حلت الألوهية فيه ، ثم أفاق ورجع إلىبشريته حين قال له الله ــ كن عبدا ــ فكان عبدا أى رجع إلى بشريته بعد أن كان إلها طبقا لعقيدته الصوفية فى الإتحاد والحلول ..

       وفى العصر المملوكى كان( الاحياء) و(الرسالة القشيرية) دستورا للصوفية يرتلونهما ويستشهدون بهما ويعقدون المجالس فى التدبر فيهما، والشعرانى أبرزصوفية القرن العاشر تأثرا بالقشيرى فى هذاا الشأن، يقول(من كان لله وليا فى علم الله لاتتغير ولايته، وإن وقع فى المعصية بادر للتوبة فورا، فلا يكون ذلك قادحا فى ولايته ولامزيلا لها .. لأن الحقائق الوضعية لا تقدح فيها النقائص الكسبية) وردد الشعرانى هذا المصطلح

 ( أن الحقائق الوضعية يعنى الولاية الإلهية (لا تقدح فيها النقائص الكسبية) أى الذنوب، وحاول أن يشرح هذاالتعبير بالحكايات الأسطورية فيحكى أن واحدا من الأولياء أصحاب التصريف زار أخا له ، وفىغيبة صاحب البيت قبل الولى جارية صاحب البيت ، ومع ذلك أظهر ذلك الولى بعض الكرامات ، فتحيرت الجارية فى أمره ،فقال لها  سيدها: "أن الخصائص الوهبية لايشينها النقائص الكسبية، وتقبيله لك من الصغائر، والتوبة تجب ما قبلها من الصغائر والكبائر، والعصمة شرط فى النبوة لا فى الولاية ).

         فالشعرانى منح الأولياء الكرامات ليغطى انحلالهم وجعلهم فى نفس الوقت مستريحين من الالتزام الخلقى، فلا بأس عليهم إذا وقعوا فى أى ذنب طالما أن الحقائق الوضعية لاتؤثر فيها النقائص الكسبية ، ثم يروى الشعرانى أسطورة أخرى عن ولى آخر صاحب كرامات ـ ولابد أن يكون صاحب كرامات  فى الأسطورة ليثبت أن تصريفه فى ملك الله مستمر حتى لو وقع فى أشد الذنوب ــ وتقول الأسطورة أن ذلك الولى نام عند أبى العباس المرسى فزنى بجارية المرسى تلك الليلة ثم اغتسل وخرج يمشى على الماء فى بحر الأسكندرية حتى غاب عنهم ، فقال أبو العباس المرسى لسائل مندهش من ذلك : هذا عطاؤه وذلك قضاؤه)[35]. فالكرامات عطاؤه ووقوعه فى الزنا قضاؤه الذى لا مفر منه من الوقوع فيه ، وهو باعتباره وليا صاحب كرامات لابد أنه عرف بأنه مقدر عليه أن يزنى بجارية أبى العباس المرسى ، وذلك مايذكرنا بالرسالة القشيرية ومقالة الجنيد عن العارف الزانى ( وكان أمر الله قدرا مقدورا).

           ويجتهد الشعرانى فى هذا المجال ويقرر ( أن أحدا من الخواص لاينزل عن مقامه العلى بارتكابه زلة من الزلات)[36].  ولكى يؤكد هذه المقالة يفترى أسطورة كرامة من السهل أن تنتشر وأن يصدقها الناس فى عصره ويترسب مضمونها فى عقولهم ، فيحكى عن الشيخ يوسف الحريثى ( لما حججت سهرت ليلة فى الحرم خلف المقام وكانت ليلة مقمرة فلما راق الليل دخل جماعة يخفق النور عليهم فطافوا وصلوا خلف المقام ، وجلسوا يسيرا فجاءهم شخص وقال : يعيش رأسكم فى الشيخ على ، فقالوا رحمه الله ، من يكون فى موضعه؟ فقالوا: حسن الخلبوص بناحية زفتى بالغربية فقال :أناديه ، فقالوا ياحسن، فإذا هو واقف على رءوسهم عليه ثوب معصفر ووجهه مدهون بالدقيق وعلى كتفه سوط، فقالوا  له كن موضع الشيخ على ، فقال على العين والرأس ،فذهب ، ولما رجعت إلى بلادى قصدته بالزيارة فى خان بنات الخطا، فوجدت واحدة راكبة على عنقه ويدها ورجلها مخضوبتان بالحناء وهى تصفعه فى عنقه وهو يقول لها .. برفق فإن عيناى موجوعتان ، فأول ماأقبلت عليه قال لى مبادرا.. يافلان زغلت عينك وغرك القمرماهو أنا ، فعرفته أنه هو ، وأمرنى عدم إشاعة ذلك )[37]

         فتلك الأسطورة المضحكة تتحدث عن الأولياء اصحاب النوبة أى الذين يتناوبون حكم الأرض ولكل منهم( دركه) ، وقد مات الشيخ على وخلا ( دركه )  فقررت لجنة توزيع (الدرك) تعيين الشيخ حسن الخلبوص ، ولقبه يعنى(مدمن الزنا) فى اللهجة المصرية ، وفى لمح البرق كان(الخلبوص) قد انتقل من زفتى غربية إلى مكة وقبل التعيين، وذهب الراوى لزيارة الشيخ حسن الخلبوص فى محل إقامته ففوجىء بالشيخ الخلبوص يمارس مهمته التى يتستر وراءها وهى حمل إحدى المومسات على ظهره وهى تصفعه على قفاه والشيخ الخلبوص الذى يقيم فى خان بنات الخطا يرجو أن تترفق به حين تضربه على قفاه حتى لاتضر عينيه، وتنتهى الأسطورة بالشيخ حسن الخلبوص وهو يتعرف على الراوى ويأمره بعدم إشاعة حقيقة كونه إلها أو وليا صوفيا من أصحاب النوبة او أصحاب الدرك. والهدف من الأسطورة واضح ين السطور ، إن الولى لاتؤثر فيه معصية ولو كان على مستوى الشيخ حسن الخلبوص يقيم فى دار  المومسات ، وتتسلى المومسات بصفعه على قفاه، وهو يحملهن على ظهره ، فالشيخ حسن يتستر بهذه الصفة ويخفى عن الناس كونه وليا خطيرا من المتصرفين فى الكرة الأرضية وقد قسمت عليهم أركانها، والمؤسف فإن الذين اخترعوا هذه الأساطير عن أصحاب النوبة لم يكونوا يعرفون أمريكا والعالم الجديد فظلت تلك النواحى التى اكتشفها الأوربيون محرومة من عناية الصوفية وخرافاتها .

          ويرى الشاذلى ( إن الولى يكون مستورا إما بالأسباب وإما بالعزة والسطوة والقهر ، على حسب مايتجلى الحق تعالى لقلبه)( وإما بنواحى أخرى كالخمول أو المزاحمة على حب الدنيا أو غيرها)[38] . فأضيفت أسباب كثيرة يمكن للولى الصوفى أن يمارس بها المعصية بدعوى أنه يتستر على الخلق بهذه الصفات .

          وتستر الولى بإظهار المعصية مقالة اشتهر بها القلندرية، وهم من أشهر طوائف العصر المملوكى، وقد بدأ انحلالهم الخلقى تحت عناوين عدم الإهتمام باعتراض الناس ، يقول المقريزى عن بدايتهم فى مصر( القلندرية طائفة تنتسب إلى الصوفية وتارة تسمى نفسها ملامتية ، وحقيقة القلندرية أنهم قوم طرحوا التقيد بآداب المجالسات والمخاطبات، وقلت أعمالهم من الصوم والصلاة والفرائض ولم يبالوا بتناول شىء من اللذات المباحة .. والفرق بين الملامتى  والقلندرىأن الملامتى يعمل فى كتم العبادات والقلندرى يعمل فى تخريب العادات)[39].

          ولم يجد المقريزى مطعنا فى ظاهر القلندرية أو الملامتية فى عهده، ولو وجد فيهم مطعنا لهاجمهم كما هاجم بقية الصوفية فى عصره . وسرعان ماتحول شعار الملامتية أو القلندرية إلى ستار للتظاهر بالعصيان على أساس عدم التقيد بالآداب فى المخاطبات والأفعال ، ويبدو ذلك من دراسة النص الذى يترجم فيه الشعرانى لأحد شيوخه من الملامتية وهو الشيخ على أبوخودة ، ونحن ننقل النص بحذافيره مع تقديم الاعتذار الكافى عما يحويه لكى ينطق النص بوضوح عن سلوك الأولياء فى عصر الشعرانى وتقدير العصر وتقديسه لهم بالغا مابلغ عصيانهم يقول الشعرانى فى ترجمة الشيخ( على أبوخودة) ( كان رضى الله عنه من أرباب الأحوال ومن الملامتية، وكان رضى الله عنه يتعاطى أسباب الإنكار عليه قصدا، فإذا أنكر عليه أحد عطبه.. وكان رضى الله عنه يهوى العبيد السود والحبش لم يزل عنده نحو العشرة .. وكان رضى الله عنه إذا راى امرأة أو أمرد راوده عن نفسه وحسس على مقعدته سواء أكان ابن وزير ولو كان بحضرة والده أو غيره ولايلتفت إلى الناس ولا عليه من أحد،واجتمعت به مرات عديدة وقال لى مرة إحذرك أن(تن(؟) ك ك) أمك فقلت لعبد من عبيده مامعنى كلام الشيخ؟ قال يحذرك أن يدخل حب الدنيا فى قلبك لأن الدنيا هى أمك ) [40].

         ولانستطيع الإفاضة فى التعليق على ذلك النص الذى يوضح سلوك الأولياء الصوفية والحرية المطلقة التى يتمتعون بها ، ولكن نركز على أن الشيخ أباخودة كان يتستر  وراء شعار الملامتية فيمارس الفاحشة علنا، أو بتعبير الشعرانى( كان رضى الله عنه يتعاطى أسباب الإنكار عليه قصدا) أو قوله( ولايلتفت إلى الناس ولا عليه من أحد) وبعد ذلك يجد الشيخ أبوخودة من يشيع عنه الكرامات التى تخوف الآخرين من الاعتراض عليه بحيث يشيعون أن من أنكر عليه عاقبه الشيخ أو بتعير الشعرانى( فإذا أنكر عليه أحد عطبه) أى أهلكه.

         والشعرانى نفسه ردد فى كتبه التخويف من الأولياء ومن الاعتراض عليهم يقول( لاتقربوا من الأولياء إلا بالإذن ولوباسطوكم ، فإن قلوبهم مملوكة ، أنفسهم مفقودة، وعقولهم غير معقولة، فيمقتون على أقل من القليل، وينفذ الله مرادهم فيكم، وأما المجاذيب فسلموا عليهم بترك السلام عليهم، ولاتسألوهم الدعاء فربما دعوا عليكم، وكشفوا عوراتكم)[41].

         وندخل بذلك على تخويف الناس من الاعتراض على الولى، ونجد أن أول من أرسى هذه القاعدة فى تاريخ التصوف هو حمدون القصار رائد الملامتية(ت271 ) والذى نشرها فى نيسابور، وترجم له القشيرى فى رسالته ضمن أعيان الصوفية مع الجنيد ، وذكر مقالته التى صارت فيما بعد عنوانا لطريقته وشعارا للملامتة والصوفية فى عدم الاعتراض وهى : )إذا رأيت سكرانا فتمايل لئلا تبغى عليه فتبتلى بمثل ذلك)[42]. والقشيرى عقد فصلا كاملا فى رسالته بعنوان( باب حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم) ملآه بالحكايات التى تحذر من الاعتراض على الأشياخ، واستدل باقوال الأشياخ فى هذا الشأن، ومنها( من صحب شيخا من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه نقض عهد الصحبة، ووجبت عليه التوبة)[43]. وهى مساواة للشيخ بالله فى اعتقاد الصوفية.

         ومن الرسالة القشيرية صاغ صوفية العصر المملوكى قوانين عدم الاعتراض على الشيوخ ولو فىالباطن، فإحدى مقامات الطريق عدم الاعتراض على المشايخ مع التسليم لهم، والمريد الصادق يترك الإعتراض على شيخه ولو فى الباطن فى غيبة أو حضور ، فكثرة الاعتراض (بعد عن حضرة الله)[44].

        ثم التفتوا للآخرين يحذرونهم من الإنكار على معاصى الأولياء( خوف الهلاك أو المقت)[45]. ومن الطبيعى أن يستجيب المريدون لهذه الأوامر فالعصر كله تقريبا مريدون للأولياء الصوفية ومعتقدون فى كراماتهم وتصريفهم فى ملك الله .

         أذا أصبح عدم الاعتراض أساسا أخلاقيا فى التاريخ الصوفى وفى العصور التى سيطروا عليها، بحيث كان فى مقدور الشيخ أن يجهر بانحلاله على قارعة الطريق وهو آمن من مجرد الاعتراض عليه من الناس، لأنهم يؤمنون بكراماته وتصريفه المزعوم فى الخلق، ونستشهد بنص آخر يؤكد هذه الحقيقة التاريخية، وكالعادة نقدم الاعتذار الكافى عن إثبات النص بلفظه، يقول الشعرانى فى ترجمته لشيخه على وحيش( ومنهم سيدى على وحيش من مجاذيب النحارية، كان رضى الله عنه من أعيان المجاذيب أرباب الأحوال وكان يأتى مصر والمحلة وغيرها من البلاد، وله كرامات وخوارق، واجتمعت به يوما بين القصرين.. وأخبرنى الشيخ محمد الطنيحى رحمه الله تعالى فقال .. كان الشيخ وحيش رضى الله عنه يقيم عندنا فى المحلة فى خان بنات الخطا، وكان كل من خرج يقول له.. قف حتى أشفع فيك عند الله قبل أن تخرج، فيشفع فيه ، وكان يحبس بعضهم اليوم واليومين ولايمكنه أن يخرج حتى يجاب فى شفاعته، وقال يوما لبنات الخطا.. اخرجوا فإن الخان رايح يطبق عليكم، فما سمع إلا واحدة ، فخرجت ووقع على الباقى فمتن كلهن وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة، ويقول له أمسك لى رأسها حتى أفعل فيها، فإن أبى شيخ البلد تسمرفى الأرض لايستطيع أن يمشى خطوة، وإن سمع حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه، وكان له أحوال غريبة وقد أخبرت عنه سيدى محمد بن عنان رضى الله فقال .. هؤلاء يخيلون للناس هذه الأفعال وليس لها حقيقة)[46]

          فالصوفى يجد التأويل لانحلاله من أقرانه الفقراء الفقهاء الصوفية، ويجد الخوف من العامة من تصريفه الإلهى المزعوم فيهم إذا تجرأ أحد وأنكر عليهم ، ومؤرخو الصوفية كالشعرانى لايتحرجون من إثبات ذلك كله لأنهم يكتبون فى عصر يؤمن بكرامات التصوف وحصانة رجاله من أى اعتراض، بل يبدو تمجيدهم لأولئك الأشياخ بين ثنايا السطور، فكلما ازداد انحراف الشيخ خلقيا زادت نسبة الكرامات إليه وزاد الإعتقاد فى حظوته عند ربه، دلاله عليه ــ فى اعتقاد الناس، وبالتالى زاد خوفهم منه ، وهكذا فكتابات الشعرانى تعبر عن حقيقة اعتقاد الناس فيهم إلى درجة جعلته يجد المصدقين لكل ادعاءاته عن كراماته وكراماتهم، واستغل ذلك فى التخويف من الاعتراض عليهم ، فيقول عن نفسه إنه أنكر ( على مايفعله القلندرية فى زاويتهم)

( فإذا بشخص متربع فى الهواء يقول لى: تنكر على القلندرية وأنا منهم، فتركت  الإنكار)[47]

         وإذا كان عدم الاعتراض مظهرا أساسيا من مظاهر العقيدة الصوفية فإنهم نشروه فى العصر المملوكى حين سيطروا عليه فأصبح من سمات المصريين حسبما يذكر المؤرخ المصرى المقريزى( الانهماك فىالشهوات والإمعان من الملذات وكثرة الاستهتار .. والفقير المجرد ــ أى الصوفى فيها مستريح من جهة رخص  الخبز وكثرته، ووجود السماعات والفرج فى ظواهرها ودواخلها، وقلة الاعتراض عليه فيما تذهب  إليه نفسه، يحكم فيها كيف يشاء من رقص فى السوق أو تجريد ــ أى عرى ــ أو سكرمن حشيشة أو غيرها أو صحبة مردان ــ أى شذوذ ــ وماأشبه بخلاف غيرها من بلاد المغرب ، ولاينكرفيها إظهار أوانى الخمر ولا آلات الطرب ذات الأوتار ولاتبرج النساء العواهر ولا غير ذلك مما ينكر ببلاد المغرب )[48] .

          وبلاد المغرب جاء منها زائر لمصر وهو ابن ظهيرة فاندهش من حال المصريين فى عصرنا المملوكى من( عدم اعتراضهم على الناس فلا ينكرون عليهم ولايحسدونهم ، بل يسلمون لكل أحد حاله، العالم مشغول بعلمه والعابد عبادته والعاصى بمعصيته)[49]

          وإذا كان عدم الاعتراض مظهرا أخلاقيا لدين التصوف نشر الإنحلال الخلقى فى الشارع المصرى كما سيأتى تفصيله فيما بعد ــ فإن الشرع الإسلامى الحقيقى يتميز بفضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فالله تعالى يصف الدولة الإسلامية بأنها التى تقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر

( الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .. الحج 41 ).

       ووصف المجتمع المسلم بنفس الوصف ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة .. التوبة71 ) .

والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى القرآن الكريم يعنى التناصح والتواصى بالأخلاق الحسنة .

  وفى المقابل وصف الله مجتمع المنافقين بأنهم( والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف .. التوبة 67 ) . ولعنهم( لعن الذين كفروا من بنى اسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لايتناهون عن  منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون..المائدة78 )

 

       

ثانيا: الصوفية ونشر الانحلال

الخلقى وتشريعه

الصوفية والعوام :

       

      أكثرية البشر على هذا الكوكب الأرضى ضالون مضلون وقد حذر الله تعالى النبى منهم فقال له( وإن تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله : الأنعام 116). والأقلية من البشر هى التى تؤمن الإيمان الحقيقى وتتحكم فى غرائز الجسد وتتقى الله تعالى ،ومن معانى التقوى عدم الإصرار على المعصية (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ ولم يصروا على مافعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار .. آل عمران 135 )، فالتقوى لاتعنى عدم الوقوع مطلقا فى الذنب وإنما تعنى التوبة منه وعدم الرجوع إليه والانهماك فى الطاعة حتى لايبقى وقت للمعصية . والتقوى الإسلامية على هذا تتطلب إرادة حديدية وحربا مستمرة مع مكائد الشيطان ، وفى النهاية فلن ينجح فى هذا الإختبار إلا الأقلية من البشر التى تقرن الإيمان بالعمل الصالح (إلا الذين آمنوا وعملو الصالحات وقليل ماهم : ص24).

        وإذا كانت الأكثرية من البشرضالة مضلة فلأنها تسىء استخدام الحرية التى منحها الله لهم وترسب فى اختبار الحياة الدنيا وتستسهل الوقوع فى الذنوب خصوصا إذا وجدت دعاة للعصيان ، فما أسهل سريان دعوات الانحلال إذا صبغت بالدين وصار رواد الانحلال الخلقى أشياخا ذوى صبغة دينية يدعون للانحلال علنا ويجعلونه أساسا من أسس التدين على نحو ماسبق من صلة الانحلال الخلقى بعقيدة التصوف . ودين الله يهدف لتزكية هذه الأكثرية الضالة من البشر والسمو بأخلاقها أما تدين البشر ــوالتصوف بالذات ــ فهو يتطلع للانتشار بين هذه الأكثرية الضالة ومغازلة غرائزها وإرضاء نزواتها تعطيهم المشروعية الدينية لما هم منهمكون فيه من انحلال خلقى ، وخطورة ذلك فى أن العاص العادى إذا وقع فى الذنب فإمكانية توبته قائمة طالما يعرف أنه اقترف معصية ، أما إذا وجد من يبرر له معصيته بل يصبغها بالدين ويجعلها وسائل للتقرب لله ــ على نحو ماسيأتى ــ فإنه لن يستمر فى انحلاله فقط ، بل سينشر ذلك الانحلال ويجاهد فى سبيله باعتباره دينا .

        ويفسرذلك سرعة انتشار التصوف بين العامة وتحوله إلى طرق صوفية تغلغل بين طوائف الشعب الذى انخرطت جموعه فى التصوف وأعلنوا مقالات الأشياخ بما سبب الحرج الكبير لهم، فهب القشيرى والغزالى فى القرن الخامس يهاجمان أولئك العامةمن المتصوفة (العمليين) ويحاولون دون جدوى تبرئة التصوف النظرى من صراحة أولئك الرعاع . يقول الغزالى عنهم (طائفة ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال الملازمة فى عين الشهود والوصول إلى القرب ، ولايعرف هذه الأمور إلا بالأسامى والألفاظ ، لأنهم تلقفوا من ألفاظ الطامات كلمات فهو يرددها، ويظن أن ذلك من علم الأولين والآخرين .. حتى أن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته فيلازمهم أياما معدودة ، ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة فيرددها كأنه يتكلم عن الوحى ويخبر عن الأسرار ويستحقر بذلك جميع العُبَاد والعلماء ، فيقول فى العُبَاد أنهم أُجراء متعبون ،ويقول فى العلماء أنهم بالحديث عن الله محجو بون )[50]. فأولئك الفلاحون  والحائكون تركوا الحرفة والتحقوا بجماعات التصوف يرددون عباراتهم عن الإتحاد بالله والحلول ، ولايعرفون منها إلا مجرد التعبيرات ثم يحتقرون القائمين بالعبادة والمنهمكين بالعلم ، فاعتبروا العباد قد أتعبوا أنفسهم بالعبادة وأن العلماء قد حجبهم العلم عن معرفة الله .

        وأولئك الفلاحون والحائكون وغيرهم من جموع العامة وإن أعوزهم فهم ألفاظ التصوف الفلسفى ،فهم أقدر على تطبيقها عملا حين وقعوا حسب كلام الغزالى فى إباحة المحرمات( طائفة وقعت فى الإباحة ، وطووا بساط الشرع ، ورفضوا الأحكام ، وسووا بين الحلال والحرام)[51] .

        وقبل الغزالى فى نفس القرن الخامس كان القشيرى يتهم معاصريه بالكفر والفسق وسبق بيان ذلك ، ولكن يهمنا أن القشيرى أشار لانتشار هذا الفسق بين جموع العوام قبيل عصر الغزالى مما اضطر القشيرى لكتابة رسالته إليهم ليحمى التصوف من إنكار الفقهاء يقول( ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوحت بعضه من هذه القصة ..) أى أن القشيرى لم يقصص علينا تفصيلات انحلالهم الخلقى إلا مضطرا ، ثم يقول

( ولما أبى الوقت إلا استصعابا وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تماديا فيما اعتادوه واغترارا بما فعلوه أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده وعلى هذا النحو سار سلفه فعلقت هذه الرسالة إليكم ) أى أن كل جهده فى النصح ضاع، فاضطر لكتابة رسالته ليدافع عن دينه الصوفى .

 

 حفلات السماع الصوفية:

       وفى القرن السادس فى عصر ابن الجوزى ألف كتابه ( تلبيس إبليس) فى الإنكار على انحراف الطوائف فى عصره ، وخص الصوفية بالقسم الأكبر منه ، يقول فيه عنهم ( إتخذوا مناخ البطالة وهى الأربطة فانقطعوا إليها عن الجماعات فى المساجد ، فلا هى مساجد ولاهى خانات ، وصمدوا فيها للبطالة عن  أعمال المعاش ، وبدنوا أنفسهم بدن البهائم للأكل والشرب والرقص والغناء).

       وكان القشيرى قد إتهم معاصريه الصوفية بالتسول فى الأسواق ومن أصحاب السلطان(وقلة المبالاة بتعاطى المحظورات والإرتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان) مما يعنى وجود التفاعل بين الصوفية وطوائف المجتمع من تجار ونساء وحكام فى الأسواق والقصور، ثم جاء ابن الجوزى فى القرن السادس يتحدث عن بناء الأربطة للصوفية حيث يقيمون فيها بدون عمل إلا  الأكل والشرب والغناء والرقص والكسل عن صلاة الجماعة ، إلا أن معيشتهم فى الأربطة واحتجابهم عن الصلاة لم يكن مانعا من اختلاطهم بطوائف المجتمع ونشرهم الانحلال الخلقى بين طبقاته بالطريقة الصوفية المبتكرة ، وهى إقامة السماع الصوفى أو حفلات الذكر ثم اختراع الأزياء المزركشة وصباغة الوجوه أو(المكياج) ، وقصدوا بذلك كله التأثير على النساء لاجتذابهن للطريق الصوفى ، يقول ابن الجوزى ( وعولوا على الترقيع المعتمد به التحسين تلميعا والمشاوذ بألوان مخصوصة أوقع فى نفوس العوام والنسوة من تلميع السلاقطون بألوان الحرير ، واستمالوا النسوة والمردان ( الشباب) بتصنيع الصور والملابس، فما دخلوا بيتا فيه نسوة فخرجوا إلا على فساد قلوب النسوة على أزواجهن ، ثم يقبلون الطعام والنفقات من الظلمة والفجار وغاصبى الأموال .. ويستصحبون المردان فى السماعات يجملونهم فى الجموع مع ضوء الشموع ، ويخالطون النسوة الأجانب ينصبون لذلك حجة الباسهن الخرقة) ( والناس يقولون إذا أحب الله خراب بيت تاجر عاشر الصوفية ، لأن الصوفية أجازوا لبس النساء الخرقة من الرجال الأجانب ، فإذا حضروا السماع والطرب فربما جرى فى خلال ذلك مغازلات واستخلاء بعض الأشخاص ببعض ، فسارت الدعوة عرسا للشخصين فلا يخرج إلا وقد تعلق قلب شخص بشخص ، وتتغير المرأة على زوجها، فإن طابت نفس الزوج سمى بالديوث ، وإن حبسها طلبت الفرقة إلى من تلبس منه المرقعة والاختلاط بمن لايضيق الخناق ولايحجر على الطباع، ويقال تابت فلانة وألبسها الشيخ الخرقة ، وصارت من بناته)[52].

        إذا تسلط الصوفية فى عصر ابن الجوزى على الحرائر فى بيوتهن ، فأغروا الزوجة علىهجر زوجها إن لم يرض بوجودها منحرفة فى داخل بيته، والإغراء فى الخارج أشد، ففى رحاب الصوفية تتنقل بين الرجال كيف تشاء دون تحجير بل ويقال أنها تابت وتصوفت وأصبحت بنتا للشيخ الصوفى، وتلك المظاهر التى أشار إليها ابن الجوزى فى القرن السادس لم تلبث أن انتشرت بانتشار التصوف وانحلاله منذ القرن السابع الهجرى وما تلاه فى العصر المملوكى، وسيأتى تفصيل ذلك فى أوانه .

 

تعبيرات جديدة للانحلال الخلقى :                       

       ولكننا نذكَر بأن الصوفية على عادة كل اتباع دين جديد يخترعون الأسماء الجديدة لمظاهر تدينهم فيسمون عقيدتهم فى وحدة الوجود( بالتوحيد) وإدعاء الألوهية بأنه ( التحقق بالحق) وإضفاء الألوهية على الكائنات بأنه

( مشاهدة الحق فى الخلق) إلى غير ذلك فاستحدثوا مسميات لكل مايشتهونه من رذائل، ومنذ بدء التصوف كان هناك من لايهوى انحلال الصوفية مع الصبيان مثل الواسطى ت320 القائل عن شذوذهم الجنسى (إذا أراد الله بعبد هو أن ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف) يقول القشيرى معلقا (يريد به صحبة الأحداث ) ولم يرض الواسطى عن قيام رفاقه المنحرفين خلقيا باختراع مسميات جديدة لرذائلهم التى اعتادوها قبل التصوف ثم أجازوها فى إطار التصوف تحت شعارات جديدة ، فيقول الواسطى عنهم(جعلوا سوء أدبهم "إخلاصا" وشره نفوسهم " انبساطا" ودناوة الهمم"جلادة")[53]. هذا بينما نجده فى عقيدته صوفيا اتحاديا يؤمن بأن الخوف والرجاء من سوء الأدب مع الله)[54] شأن المقالات الصوفية الأخرى التى عرضنا لها ..

       ونظيره ماقاله ابوالعباس الدينورى فى عقيدته الصوفية الاتحادية(أدنى الذكر أن تنسى مادونه ، ونهاية الذكر أن يغيب الذاكر فى الذكر عن الذكر)[55]. ومع هذه العقيدة الصوفية الصريحة فإن أبا العباس الدينورى لم يرض عن انحلال رفاقه الخلقى وإدخال إنحلالهم ضمن اصطلاحات جديدة للتصوف ، فقال فيهم ( نقضوا أركان التصوف وهدموا سبيلها، وغيروا معانيها بأسامى أحدثوها ، سمٌوا الطمع(زيادة) وسوء الأدب (إخلاصا) والخروج عن الحق (شطحا) والتلذذ بالذموم (طيبة) وإتباع الهوى (إبتلاء) والرجوع إلى الدنيا(وصلا) وسوء الخلق(صوله) والبخل(جلادة) والسؤال ــ أى التسول (عملا) وبذاءة اللسان (ملامة) ــ أى ملامتية ــ وماكان هذا طريق القوم)[56]. أى ماكان هذا إبتداء التصوف .

       لقد بدأ التصوف عقيدة مخالفة للإسلام فاخترع اصطلاحات جديدة تستر وراءها، وكان من رواده ممن إهتم بالعقيدة ولم يجرفه تيار الرذيلة ، فاستنكر أن يقوم المنحرفون خلقيا الذين إنضموا للتصوف باستحداث مصطلحات جديدة توافق غرائزهم ، وأولئك تناسوا فى غمرة إنكارهم على صوفية العامة ومشرعيهم أن تدين البشر يستمد اصطلاحاته من البشر ، وأن كل الصوفية سواء فى اختراع مظاهر التصوف ورسومه ومصطلحاته، لذا كان تدين البشر دائما مسرحا للاختلاف ، ولكل شيخ صوفى مثلا اجتهاداته ونزواته والهاماته ومريدوه ومصطلحاته .

       ثم بدخول  التصوف دور الانتشار بين أوساط العامة وغرائزهم كان لابد أن يتوالى اختراع الاصطلاحات الجديدة لتفى بحاجة الغرائز للصوفية الجدد، فكان تعبير(صحبة الأحداث) عن الشذوذ الجنسى ، وتعبير (الشاهد) عن الصبى الجميل، ويقال عن المرأة التى تهجر زوجها إلى صحبة الصوفية(تابت فلانة وألبسها الشيخ الخرقة وصارت من بناته) على حد قول ابن الجوزى فيما سبق ، وأخفت هذه المصطلحات الجديدة عورة الرذائل الصوفية وصبغتها بتدين التصوف وطقوسه مهما أنكر بعض المتزمتين وقد تناقص وجود المتزمتين فيما بعد حتى إذا جاء القرن السادس وجدنا ابن الجوزى يقول عن صوفية عصره( ويسلمون أنفسهم إلى شيوخهم فإن قبل أمرد قيل رحمة ، وإن خلا بأجنبية قيل بنته وقد لبست الخرقة ) ثم يعلق على اصطلاحاتهم  التشريعية فيقول

( وإنما هم زنادقة جمعوا بين مرادع العمال مرقعات صوف ، وبين أعمال الخلعاء الملاحدة من أكل وشرب ورقص وسماع وإهمال لأحكام الشرع ، ولم تتجاسر الزنادقة أن ترفض الشريعة حتى جاءت المتصوفة، فجاءوا بوضع أهل الخلاعة ، فأول ماوضعوا أسماء وقالوا حقيقة وشريعة .. وأهلكوا بهذه الخرافات قلوب الأغمار ، وأنفقت عليهم لأجلها الأموال)[57].

        وفىالنص السابق مظاهرلبعض أسباب انتشار الإنحلال الصوفى من استهواء العامة والحكام الظلمة بالغرائز وتسويغها باصطلاحات جديدة ، ويلاحظ أن الفقيه غير الصوفى ابن الجوزى هو الذى احتل مكان القشيرى والغزالى فى الإنكار على الصوفية ووصل إلى الهجوم على التصوف نفسه أحيانا ، أى أن الساحة الصوفية خلت من وجود فقيه صوفى فى القرن السادس، وأن الصوفية وقتها أسلموا أنفسهم لأشياخهم  المنحلين خلقيا، أو بتعبير ابن الجوزى ( ويسلمون أنفسهم إلى شيوخهم) وقاموا هم بتاويل عصيان الأشياخ ، فإن وقع فى الشذوذ قالوا رحمة، وإن (زنا) قالوا(بنته) ، ثم اشتد الأمر بكثرة انخراط العامة وتأييد الحكام الظلمة الذين أقاموا للصوفية الرباطات وأعطوهم الأموال. 

        لقد ارتبطت بداية التصوف بتشريع الفساد الخلقى ، وحتى من أنكر من الصوفية على إخوانه ذلك الفساد استعمل اصطلاحات صوفية مخففة كقول يوسف بن الحسين (رأيت آفات الصوفية فى صحبة الأحداث ومعاشرة الأضاد ، ورفق النسوان ).[58] وبعد انتشار التصوف وقلة المؤولين والمدافعين كالقشيرى والغزالى اتسع المجال لبعض الصرحاء كاليعمرى فى القرن التاسع، قد نقل المقريزى رأيه فى صوفية عصره ونسجل هذاالرأى مع الاعتذار يقول: صارت الصوفية كما قال الشيخ فتح الدين اليعمرى :

 

       ماشروط الصوفى فى عصـرنا سوى سـتة بــغير زيادة

       وهى(ن(؟)ك) العلوق والسكر والسـطلة والغنا والقــيادة

       وإذا ماهـذى وامــدى اتــحادا وحلـولا من جـهله وأعـاده

       واتى المنكرات عقلا وشرعا فهو شيخ الشيوخ والسجادة.

 

       ويعلق المقريزى (ثم يتلاشى الآن حال الصوفية ومشايخها حتى صاروا يعدون من سقط المتاع لاينسبون إلى علم ولا ديانة وإلى الله المشتكى..)[59]. وأولئك الصوفية فى عصر المقريزى هم أغلية المشاهيرفى العصر المملوكى . والشعر الذى استشهد به المقريزى مع ركاكته وبذاءته يلخص معالم الفساد الخلقى فى العصر المملوكى .وقد أصبحت تلك لوازم الشخصية الصوفية بعد انتشار التصوف فى المجتمع الذى اصطبغ بتلك الصبغة الصوفية كما سيظهر فيما بعد.

 

اعتراف بمسئولية التصوف عن الانحلال:

       إن مسئولية التصوف عن نشر انحلاله الخلقى فى المجتمعات التى سيطر عليها أمر مقرر يتفق مع طبائع الأشياء ، فالشأن فى العقائد الدينية المنحرفة أن يتكاثر أتباعها من العامة والحكام الظلمة أدعياء العلم وهم فى نهاية الأمر يمثلون أغلبية البشر.

       ومع وضوح الأمر فإن مصادر الصوفية نفسها تعترف بمسئولية التصوف فى نشر الانحلال ،فالغزالى فى القرن الخامس يقول عن طوائف الصوفية  فى عصره (إنهم لايجتنبون المعاصى الظاهرة فضلا عن الباطنة) أى يعلنون المعصية( وهم بذلك يظنون بأنفسهم الخير) وذلك طبيعى طالما صبغوا انحلالهم بالدين ، فلم يعد العصيان عيبا ثم يقول ( وشر هؤلاء مما يتعدى إلى الخلق فيهلك من يقتدى بهم) أى يعترف هنا بأن الصوفية قدوة فى الانحلال ، ثم يقول ( ومن لايقتدى به تفسد عقيدته فى أهل التصوف كافة)[60].ولأجل ذلك هاجم الغزالى صوفية عصره أملا فى أن يؤمن الناس به باعتباره وليا صوفيا ولاتفسد عقيدتهم فى أهل التصوف كافة .

       وبعد الغزالى بخمسة قرون يرى الخواص نفس الرأى يقول( ينبغى الإبتداء بتحذير الفقهاء والفقراء ، لأن هاتين الطائفتين هم القدوة للناس فى كل زمان ومكان، فإن انعوجوا انعوج أتباعهم وراهم)[61]. ولقد كان الفقراء والفقهاء عامة أهل التصوف فى ذلك الوقت وقد ( انعوجوا) حسبما يأتى ذكره( فانعوج) الناس خلفهم.

 

الدعوة للعصيان :

      وشارك مفكروا التصوف فى تلك القدوة بآراءهم  التى دعوا فيها للعصيان، طبقا لعقائد التصوف التى لاتفرق بين الحسنة والسيئة وطبقا لمقولة وحدة الفاعل والتى أوضحناها.

      فالجنيد رائد الاعتدال يقول فى التوبة ( هى نسيان ذنبك)[62]. وإذا نسى الإنسان ذنبه فلابد أن يقع فيه مرارا وكل مرة يتوب ثم ينسى وهكذا حتى إذا  جاء يوم الحساب أخبرهم الله بالسيئات التى نسوها طبقا للتعليمات التى وضعها الجنيد، يقول تعالى( يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه .. المجادلة 6 ).

       وقد حاول الطوسى صاحب كتاب اللمع الذى أورد مقالة الجنيد السابقة أن يؤول معناها فقال معلقا( بأنه أجاب عن توبة المتحققين فهم لايذكرون ذنوبهم لما غلب على قلوبهم من عظمة الله تعالى ودوام ذكره)[63]

       وبقدر ماحاول الطوسى أن يبتعد بالجنيد عن الدعوة للمعصية بنسيان الذنب فإنه اقترب من تقرير عقيدة الصوفية فى الاتحاد بالله وحلول الحق فى قلب العارف بحيث ينسى ماعداه ولو كان ذنبا.

      والقشيرى تخلص من المأزق الذى وقع فيه الطوسى فحاول أن يقرر نفس الفكرة فى الدعوة للمعصية عن طريق المنامات فيروى أن القاضى يحيى بن أكثم وكان قاضيا فى عهد المأمون مشهورا بالشذوذ الجنسى

( رؤى فى المنام فقيل له مافعل الله بك؟ قال غفر لى إلا أنه وبخنى ، ثم قال لى يحيى خلطت علىَ فى دار الدنيا ، فقلت أى رب اتكلت على حديث: إنك قلت أنى لأستحى أن أعذب ذا  شيبة بالنار فقال قد عفوت عنك)[64]. فالقشيرى اختار قاضيا مشهورا بالشذوذ ليتناسب حاله مع الأشياخ الصوفية وأصدر قرارا بالعفو الإلهى عنه فى هذا المنام الذى صيغ بعد موت يحيى بن أكثم بأكثر من قرنين،  والهدف واضح هو تشجيع الأشياخ الصوفية على الشذوذ الجنسى طالما قد شابت رءوسهم ، فالعفو جاهز أمامهم .

       وكما تطوع القشيرى بطمأنة رجال الشذوذ الكبار فإنه تفضل أيضا بطمأنة المخنثين حتى تستمر مسيرة الشذوذ، فيروى أسطورة أخرى يقول صاحبها( رأيت جنازة يحملها ثلاثة من الرجال وامرأة ، فأخذت مكان المرأة وذهبنا إلى المقبرة فصلينا عليها ودفناها، وقلت للمرأة: من كان هذا منك؟ فقالت ابنى ، فقلت أولم يكن لكم جيران ؟ قالت نعم ولكنهم صغروا أمره، فقلت وأين كان هذا؟ قالت كان مخنثا، فنمت فى تلك الليلة ، وكأنه أتانى آت كأنه القمر ليلة البدر وعليه ثياب فجعل يتشكر لى فقلت من أنت ..؟ فقال أنا المخنث الذى دفنتموه اليوم رحمنى الله عز وجل باحتقار الناس إياى)[65]. فذلك المنام المزعوم لايكتفى بتوفير الجنة للمخنثين فى الآخرة، ولكنه يحذر من الاعتراض عليهم أو احتقارهم حتى تستمر مسيرة الشذوذ.

       ثم يضفى القشيرى بركاته على الزناة فيفترى أسطورة ينسبها لنبى الله عيسى، يقول( قيل خرج عيسى ومعه رجل صالح من صالحى بنى اسرائيل، فتبعهما رجل خاطىء مشهور بالفسق ، فقعد منتبذا عنهما منكسرا، فدعا الله وقال: اللهم اغفر لى ودعا الرجل الصالح وقال اللهم لاتجمع غدا بينى وبين ذلك العاصى ، فأوحى الله إلى عيسى: أنى قد استجبت دعاءهما جميعا رددت ذلك الصالح ، وغفرت لذلك المجرم )[66]

       وهكذا أضاع الغزالى مستقبل رجل صالح بسبب كلمة، وأعطى الجنة لفاسق بسبب كلمة، ووصف الله تعالى بالظلم وافترى على الله وعلى رسوله عيسى.. وكل ذلك ليطمئن العصاة من الصوفية ، ويغيظ الطائعين من العُبَاد، الذين ينكرون على الصوفية انحلالهم .

      والشاذلى فى العصر المملوكى كان يقول( ماطلبت من الله حاجة إلا قدمت إساءتى أمامى)[67]

      وهى كلمة قد تحتمل معنيين، إما أنه يعترف بالذنب أمام الله حين يطلب الحاجة وذلك يعنى أنه يخالف شيخه الجنيد فى نسيان الذنب ، وإما أنه يقدم إساءته أمام الله بمعنى أنه يقع فى المعصية قبل ذلك،وذلك المعنى الذى يتفق مع دعوة الشاذلى للمعصية، حين يخاطب الناس فيقول( من أحب ألا يعصى الله تعالى فى مملكته فقد أحب ألا تظهر مغفرته ورحمته ولايكون لنبيه شفاعة)[68]. فهو هنا يهدد من لايعصى بإغضاب الله والرسول.

 

      ويتمسح الصوفية بنسبة الشفاعة للرسول ويشجعون الناس على الانحلال الخلقى اعتمادا عليها، ثم ينسبون الشفاعة لأنفسهم ضمن كراماتهم المزعومة فى الدنيا والآخرة ويشجعون الناس على العصيان طبقا لذلك أيضا ، وقد مر بنا ماكان يفعله الشيخ على وحيش المقيم فى بيت الدعارة ، والذى كان يصمم على عدم خروج أحد من الزناة إلا بعد أن يشفع فيه ، ويعلن انه قد قبلت شفاعته عند الله ، وربما يحبس بعضهم اليوم والإثنين حتى تقبل شفاعته على حد مايزعمون فى الأسطورة .

       والقشيرى يشارك فى ذلك عن طريق المنامات ،فيدعى ان صوفيا شفع فى شاب خليع أراد الناس طرده من البلد لفسقه ثم يموت الشاب فى الأسطورة ، وقد أوصى أمه أن تتشفع فيه ، فوقفت على قبره تتشفع فيه فسمعت الشاب من القبر يقول( انصرفى ياأماه فقد أقبلت على ربى الكريم )[69].

       وفى العصر المملوكى كان مولد البدوى أكبر تجمع بشرى فى مصر ــ ولايزال ــ ويعتمد ذلك التجمع البشرى على أسطورة البدوى تأليه فى عقيدة المصريين . ويمثل هذا المولد مناسبة هامة للانحلال الخلقى منذ العصر المملوكى وحتى الآن . ويرتكز هذا الانحلال الخلقى على أساس عقيدى ، هو شفاعة البدوى فيمن يعصى فى مولده وينسبون للبدوى قوله( وعزة الربوبية ماعصى أحد فى مولدى إلا وتاب وحسنت توبته، وإذا كنت ارعىالوحوش والسمك فى البحار أفيعجزنى الله عن حماية من يحضر مولدى ؟ ) [70] وفى ذلك يقول أحدهم عن رواد المولد الأحمدى فى طنطا:

          وأعجب شىء أن من كان عاصيا        بمولده يعنى به ويرفق [71].

         وطالما كان العاصى فى مولد البدوى محوطا بعناية البدوى وشفاعته فلا عليه مهما فعل . وإذا تركنا الطريقة الأحمدية الشاذلية، رأينا ابن عياد الشاذلى يفترى مناما(رؤيت امرأة من بنات الخطا) فى الأسكندرية فى حالة حسنة بعد موتها فسئلت عن ذلك فقالت ( مات أبوالحسن الشاذلى ودفن فى حميثرة  فغفر الله لكل من دفن من المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها من أجله ، فكنت أنا ممن غفر الله له بحرمةالشيخ  إكراما له)[72]

 وعليه فلابد أن البرقيات توالت فى المنامات من جميع الأموات من الهند والصين والمغرب تشكر أبا الحسن الشاذلى للمغفرة التى تمتعوا بها لمجرد أنهم (دُفعة)الشاذلى فى الموت . وبقى على الدفعات التالية من الموتى أن تنتظر موت ولى آخر من الشاذلية ، ولهم أن يستمروا فى الانحلال الخلقى فيما بقى لهم من عمر ويظفروا فى النهاية بشفاعة ذلك الولى الشاذلى طبقا لمقولة على وفا الشاذلى( وعزة الرب المعبود قيل لى : ياعلى وحقك على ــ وهو القسم العظيم ــ ما أحبك أحد إلا أحببته ، ولو عمل ماعمل ، ولا أبغضك أحد إلا أبغضته ، ولو عمل ماعمل)[73]. وفى ذلك النص تجديد الإفتراء الصوفى على الله ، فهم يجعلون الله تعالى يقسم لعلى وفا بحقه عند الله     

( وهو القسم) الذى لو تعلمون( عظيم) بأن الذى يحب على وفا يحظى بحب الله له ولو كان أعتى الفجار، وأن الذى يبغض على وفا يبغضه الله ولو كان أتقى الأبرار ، إذن لاعبرة بالمعصية أو الطاعة وإنما العبرة هى حب على وفا، ولاشىء فى الإسلام سوى ذلك العلى وفا ولا تثريب على العصاة طالما رضى عنهم على وفا.

       وهكذا تعلم العصاة الاستمرار فى المعصية تحوطهم بركات الأشياخ وشفاعتهم ولسان حالهم يقول كما يورد الشعرانى نفسه ( فيقولون مادام شيخنا يعيش لا نحمل هما. وفى الآخرة يأخذ بيدنا، وقد يكون شيخهم قد سبق فى علم الله أنه فحمة من فحم جهنم، فوقع استنادهم على عدم)[74]

      وبعد لقد شرع الصوفية الفساد وصبغوه بالصبغة الدينية بحيث لم يعد مستوجبا للإنكار وصدقهم المجتمع المملوكى مما جعل ابن القيم يقول متعجبا( ومن أبلغ كيد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصورأنه يمنى أحدهم إنه إنما يححب ذلك الأمرد أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى لا للفاحشة ، ويأمره بمؤاخاته) ويتحدث عن تشريع التعاون على الفاحشة ( وقد يبلغ الجهل بكثير من هؤلاء إلى أن يعتقد أن التعاون على الفاحشة تعاون على الخير والبر، وأن الجالب محسن إلى العاشق جدير بالثواب وأنه ساع فى دوائه وشفائه وتفريج كرب العشق عنه، وإنه من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة[75]

وتلك جناية التصوف على العامة التى هدف الإسلام للرقى بهم ، فجاء التصوف يشرع لهم الانحلال ويجعله دينا..

 


  [1]ابن عربى، فصوص الحكم بشرح القاشانى ط البابى الحلبى : 14، 8  ،252 ، 271 ، 272  

[2] نفس المرجع

[3]نفس المرجع

[4]نفس المرجع

[5]نفس المرجع

[6]نفس المرجع

[7]الشعرانى : المنن الصغرى مخطوط 98 ، 111 ، لطائف المنن 32 ط دار الفكر

[8]  الشعرانى : المنن الصغرى مخطوط 98 ، 111 ، لطائف المنن 32 ط دار الفكر

[9]القاشانى اصطلاحات الصوفية تحقيق كمال جعفر مركز تحقيق التراث : 81 ، 78 ، 97 ، 87  ,

[10]ابن تيمية مجموعة الرسائل والمسائل 4/76 البقاعى : تنيه الغبى 178 ، 182 .

[11] شذرات الذهب جـ 5/ 412

[12]السلوك 4/3 /1206

[13]ـ انباء الغمر ج3/136،548

[14]ـ نفس المرجع ونفس الصفحة

[15]ـ ابن القيم : إغاثة اللهفان ج2/156.

 

 

[16]ـ ابن الجوزى: تلبيس إبليس 36.

[17]ـ الإحياء جـ 4/213.

[18]ـ ـالإحياء جـ 4 / 102، 332، 340.

[19]ـ الإحياء جـ 4/ 84 ، 85 .

[20]ـ اصطلاحات الصوفية 80.

 

[21]الإحياء جـ 4/26.

[22]ـ  اصطلاحات الصوفية 93.

[23]ـ الطوسى: اللمع: تحقيق عبدالحليم محمود 59.

[24]ـ  اصطلاحات الصوفية 61.

[25]ـ   ا للمع 61.

[26]ـ الرسالة القشيرية 31، 32، 277.

[27]ـ الرسالة القشيرية 31، 32، 277.

[28]ــ الإحياء جـ 4/293 ، جـ 3/345.

[29]ـ نفس المرجع

[30]ـ الرسالة القشيرية 4.

 

[31]ـ ـ الإحياء جـ 3/199.  

[32]ـ   لطائف المنن 423 ط قديمة .

(*)اليقين فى الآية معناه الموت

 

[33]ـ الرسالة القشيرية 156، 171، 130، 101، 103 .

 

[34]ـ الرسالة القشيرية 276،277 ،320.

[35]ـ الإحياء جـ 4/280، 287، 288.

[36]ـ لطائف المنن 523، 416.

[37]ـ الجواهر الدرر 238.

[38]ـ ـ لواقح الأنوار 98.

[39]ـ الطبقات الكبرى للشعرانى1/7.

[40]ـ خطط المقريزى جـ 3/ 431.

[41]الطبقات الكبرى للشعرانى جـ 2 / 122 صبيح .

[42]ـ درر الغواص 82، الطقات الكبرى جـ 2/151.

[43]ـ الرسالة القشيرية 31، 258.

[44]ـ الشعرانى البحر المورود 319، لطائف المنن 212،388، قواعد الصوفية جـ1 /174.

[45]ـ لواقح الأنوا رللشعرانى 102.

[46]ـ الطبقات الكبرى جـ 2/135 ط صبيح.

[47]ـ لطائف المنن 192، 315 ط قديمة

[48]ـ خط المقريزى جـ2 / 55.

[49]ابن ظهيرة محاسن مصر والقاهرة 204.

 

[50]ـ الإحياء جـ3/ 345.

[51]ـ الأحياء جـ 3 / 345 .

[52]ـ. تلبيس إبليس 360، 363.

[53]ـالرسالة القشيرية 41 ، 50 .

[54]ـالرسالة القشيرية 41 ، 50 .

[55]ـالرسالة القشيرية 41 ، 50 .

[56]. ـالرسالة القشيرية 41 ، 50 .

[57]تلبيس ابليس 360 ، 361 ، 37

[58]تلبيس ابليس 360 ، 361 ، 37

[59]خطط المقريزى جـ 3 / 401 ط التحرير .

[60]. الاحياء جـ 3 / 334

[61].الشعرانى إرشاد المغفلين 133 .

[62]الطوسى : اللمع 68 .

[63]الطوسى : اللمع 68.

[64]. الرسالة القشيرية 110 ، 109 ، 104

[65] . الرسالة القشيرية 110 ، 109 ، 104

[66]الرسالة القشيرية 110 ، 109 ، 104 .

[67]ابن عطاء لطائف المنن 113 .

[68]الطبقات الكبرى للشعرانى 2 /5

[69]الرسالة القشيرية 109 .

[70]عبدالصمد الأحمدى : الجواهر السنية 69 ، 120 ، 71  .

[71]عبدالصمد الأحمدى : الجواهر السنية 69 ، 120 ، 71  

[72]المفاخر العلية 38 .

[73]المناقب الوفائية 5 . مخطوط

[74]البحر المورود 175

[75]إغاثة اللهفان تحقيق حامد الفقى جــ 2 / 141 ، 142 . 

أثر التصوف فى الانحلال الخلقى فى المجتمع المصرى المملوكى

أثر التصوف فى الانحلال الخلقى فى المجتمع المصرى المملوكى

648 ــ 921 هجرية
1250 ــ 1517 م


المؤلف /
د./ أحمد صبحى منصور
الفصل الأول : جذور الإنحلال الخلقى الجسدى وتشريعه فى عقيدة
التصوف وتاريخ الصوفية
• الفصل الثانى : مفردات الانحلال الخلقى الجسدى عند الصوفية
• الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف
• الفصل الرابع : انعكاسات الانحلال الخلقى الجسدى فى المجتمع المملوكى
• الفصل الخامس: أكل أموال الناس بالباطل
• الفصل السادس: فى المساوىء الاجتماعية
• الخاتمة
• المصادر والمراجع
more