رقم ( 7 )
• الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية.

 

الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية.

 

الكذب :

      ـ          بين التصوف والكذب، أكاذيب المنامات والكرامات ، حكايات الصالحين.

 

القذارة :

 ــ        القذارة فى طقوس التصوف ، تشريع القذارة فى المصادر التاريخية، وفى ولاية العهد، الذباب،  الوضوء الصوفى ، قذارة الزى والمظهر، القمل والتصوف ، معايشة القاذروات، قذارة البيوت والشوارع ، وفى الأزهـــر.

 

البذاءة :

    ــ بين التصوف والبذاءة ، الشطح، عدم الاحتشام، البذاءة فى رسوم التصوف ومؤسساته، القضاة والبذاءة.

 

الغيبة والنميمة:

    ــ بين التصوف والغيبة والنميمة ، دور المؤسسات الصوفية ،شيوخ الصوفية فى مجال الغيبة والنميمة

 

 

"المساوىء الاجتماعية"

 

     كانت الحياة الأجتماعية أكثراستجابة للتصوف وتعبيرا عنه بالقدر الذى كان فيه التصوف نفسه تعبيرا عن غرائزالمجتمع واهوائه. وبين هذا التفاعل بين المجتمع والتصوف انتشرت قيم اجتماعية هابطة اعتادها الناس ولم يروها عيبا، ولاتزال آثارها ماثلة فى تصرفات المجتمعات الشرقية المسلمة حتى الآن من الكذب والقذارة والبذاءة.

"الكذب"

بين التصوف والكذب :

       افترى أولئك الصوفية على الله كذبا حين ادعوا أنهم وحدهم من دون الناس أولياء الله وخاصته،وحين زكوا أنفسهم ، وبذلك استحقوا قول الله تعالى" ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولايظلمون فتيلا، انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا.. النساء49 :50).

      ثم ازداد افتراء أولئك الصوفية حين ادعوا لأنفسهم مستلزمات الألوهية من علم الله وتحكمه فى الكون واتحادهم بالله وحلوله فيهم ورتبوا على ذلك حقوقا لهم على الناس فصدقوهم وقصدوهم بالعبادة والتقديس.

      وتدين يقوم على الكذب على الله ويحظى بتقديس الناس لابد أن تتحول فيه الأكاذيب إلى فضائل طالما دارت على ألسنة الصوفية أو حول الأولياء، وعلى ذلك استشرت دعاوى الكرامات حتى أصبح التصديق بها معلوما من الدين بالضرورة والاعتراض عليها مؤذنا بالأذى والإنكار.

         ولسنا فى مجال التوقف مع مظاهر الكذب الدينى فى تدين التصوف فقد ناقشنا عقائد التصوف ورسومه من قبل ولكننا نتتبع آثار ذلك الكذب الدينى فى الكرامات والمنامات والأحاديث المفتراه فى نشر رذيلة الكذب وجعلها ظاهرة اجتماعية سيئة.

        فالكذب العادى لاينجو منه بشر ، بل قد يمكن القول أن الإنسان قد يعرف الكذب مع بداية معرفته نطق الكلمات ، ولكن يظل الكذب رذيلة ولايتخذ له مسميات أخرى من الكرامات والمنامات إلا فى عصور التصوف والدجل الدينى.

      وتاريخ التصوف هو تاريخ " الكذب الدينى" بادعاء المنامات والأساطير العاطفية والحديث مع الله والملائكة،والصفحات الأولى التى كتبت عن دين التصوف ملئت بمثل ذلك وحتى من ادعى التصوف المعتدل وأنكر على الآخرين أكاذيبهم ودعاويهم فإنه وقع فيما وقعوا فيه ، فالقشيرى يروى عن ابن خفيف أحد معتدلى الصوفية قوله عن نفسه ، ربما كنت أقرأ فى إبتداء أمرى فى ركعة واحدة عشرة آلاف مرة قل هو الله أحد، وربما كنت أقرأ فى ركعة واحدة القرآن كله، وربما كنت أصلى من الغداة إلى العصر ألف ركعة[1].

       بل إن القشيرى الذى استكثر على أجلاف الصوفية فى عصره دعاويهم عن الاتحاد والشهود هو نفسه القائل" لايصح لأحد منازلة مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام ليصح بناء أمره على قاعدة صحيحة"[2]. أى أنه لإدعاء الصوفية فى الحلول والشهود قاعدة تتيح لأحدهم أن يدعى مايدعى ولايطالب ببينة أو دليل.

        والغزالى فى " الاحياء" أتى بطائفة من الاساطير والمبالغات لم يكن ليجرؤ على ذكرها لولا أن العصر يتحملها ويقبلها، من ذلك قوله " روى أنه كان فى بنى إسرائيل رجل يتعبد فى صومعته فمكث كذلك زمانا طويلا، فأشرف ذات يوم فإذا بإمرأة فأفتتن بها وهمَ فأخرج رجله لينزل إليها، فأدركه الله بسابقة فقال ماهذا الذى أريد أن أصنع؟ فرجعت إليه نفسه وعصمه الله تعالى، فلما أراد أن يعيد رجله إلى الصومعة ، قال هيهات رجل خرجت تريد أن تعصى الله تعود معى فى صومعتى؟ لايكون والله ذلك أبدا ، فتركها معلقة فى الصومعة تصيبها الأمطار والرياح والثلج والشمس حتى تقطعت وسقطت ، فشكر الله له ذلك"[3]. فكيف نصدق أن انسانا يترك رجله معلقة فىالهواء إلى أن تنقطع وتسقط؟

      " والاحياء" محشو بأكاذيب منها ماصيغ أحاديث نبوية وقدسية ومنها ماكتب أقاصيص لايصدقها عقل طفل صغير مثل القصة السابقة عن الراهب الإسرائيلى وقدمه العاصية، ومثل هذه القصة التى يرويها عن بعضهم "دخلت على فتح الموصلى فرأيته قد مد كفيه يبكى حتى رأيت الدموع تنحدر من بين أصابعه، فدنوت منه فإذا دموعه قد خالطها صفرة ، فقلت ولماذا بالله يافتح بكيت الدم؟ قال : لولا أنك أحلفتنى بالله ما أخبرتك نعم بكيت دما. فقلت له: على ماذا بكيت الدموع؟ فقال على تخلفى عن واجب حق الله تعالى ، وبكيت الدم على الدموع لئلا يكون ماصحت لى الدموع، قال فرأيته عند موته فى المنام فقلت : ماصنع الله بك قال غفر لى فقلت له فما صنع فى دموعك ،قال قربنى ربى عز وجل وقال لى يافتح الدمع على ماذا قلت يارب على تخلفى عن واجب حقك قال والدم على ماذا قال على دموعى أن لاتصح لى فقال لى يافتح ما أردت بهذا كله وعزتى وجلالى لقد صعد حافظاك أربعين سنة بصحيفتك مافيها خطيئة؟[4].

       وبازدياد التصوف ازدادت جرعة الأكاذيب الدينية وملئت بها كتب المناقب التى أفردت فى تقديس الأشياخ الصوفية وتعداد مناقبهم ونشر كراماتهم ، وتمتعت كالعادة بتصديق الناس حتى أن بعض الحوليات التاريخية اقتبست منها الكثير من هذه الأكاذيب ورددتها معتقدة بصحتها خصوصا فى عصر الدولة البرجية .

        ولم تكن كتب المناقب على كثرتها لتفى بإشباع شهية الصوفية فى اختلاق الأكاذيب وإنما دارت المجالسات والندوات حول أقاصيص الكرامات الصوفية وحكايات الصالحين، مما  دعا الفقيه الصوفى ابن الحاج فى القرن الثامن للإنكار على هذه الظاهرة فيقول " كثير من الناس يدعى الدين والصلاح وأنه من أهل الوصول ويأتى بحكايات من تقدم من الأكابر ويطرز بها كلامه ، وهو مع ذلك يشير إلى نفسه بلسان حاله وأن منها عنده طرفا، وبعضهم يزعم أنه حصل له من ذلك الأمر حاصل، ومنهم من له القدرة على تصنيف الحكايات والمراءى التى يختلقها من تلقاء نفسه ، ولاسيما ما ابتلى به بعضهم من دعواه رؤيا النبىعليه السلام فى المنام، وأنه أقبل عليه وخاطبه وأمره ونهاه، بل بعضهم يدعى رؤيته عليه السلام وهو فى اليقظة، وهذا باب ضيق، وقل من يقع له ذلك إلا من كان على صفة عزيز وجودها فى هذا الزمان، بل عدمت غالبا،مع أننا لاننكر من يقع له هذا من الأكابر الذين حفظهم الله تعالى فى ظواهرهم وبواطنهم.. ومنهم من يشير إلى نفسه بالكرامات وخرق العادات وهو عرى عنها بالاتصاف بضدها"[5]. وابن الحاج ـ مثل فقهاء التصوف ــ يقرر المبدء ويستكثره على صوفية عصره، فلا يراهم مستحقين لدعوى رؤية النبى مناما أو يقظة ويجعلها شرفا لأشياخه، وكان شيخه محمد بن أبى حميرة ممن يدعى رؤية الرسول يقظة، وعقدوا له مجلسا للمحاكمة بسبب ذلك [6].

       ومما قاله ابن الحاج يظهر أن الأشياخ الصوفية فى القرن الثامن كانوا يعقدون مجالس لقص أساطير الكرامات والمنامات ، ويحول الشيخ المجلس فى النهاية إلى حفل تكريم لنفسه،ثم كانت تلك الأكاذيب التى يرويها الشيخ عن نفسه تجد آذانا مصغية لا عقولا منتقدة مستنكرة.

       وبعد ابن الحاج وفى القرن العاشر حيث تعاظمت سيطرة التصوف وجدنا الشعرانى لايكتفى بحكاية الأكاذيب عن أشياخه وإنما يؤلفها عن نفسه فى معرض التفاخر حيث أفرد كتابا ضخما هو لطائف المنن يقول فى كل فقرة "  ومما من الله تعالى به على أن..." ومن ثنايا السطور تتكاثر الأكاذيب التى كانت تحظى بالتصديق فىعصره وإن كانت الصحوة العقلية الآن تستفظع أكاذيبه أو لا تستسيغ بلعها..

       يقول مثلا " ومما أنعم الله تبارك وتعالى به على مساعدتى لأصحاب النوبة فى سائرأقطار الأرض فى حفظ إدراكهم من برارى وقفار ومدائن وبحار وقرى وجبال ، فأطوف بقلبى علىجميع أقطار الأرض فى نحو ثلاث درج .. وصورة طوافى كل ليلة على مصر وجميع أقاليم الأرض أننى أشير بأصبعى إلى أزقة جميع المدائن والقرى والبرارى والبحار وأنا أقول الله الله الله ، فأبدأ بمصر العتيقة ثم بالقاهرة ثم بقراها حتى أصل

 إ لى مدينة غزة ثم إلى القدس ثم إلى الشام ثم إلى حلب ثم إلى بلاد العجم ثم إلى البلاد التركية ثم إلى بلاد الروم ، ثم اعدى من البحر المحيط إلى بلاد المغرب فأطوف عليها بلدا بلدا حتى أجىء إلى الإسكندرية ، ثم أعطف منها إلى دمياط ثم منها إلى أقصى الصعيد ثم إلى بلاد الرجر وهى اقطاع جدى الخامس، ثم أعطف إلى بلاد التكرور وبلاد السقوط ، ومنها إلى بلاد النجاشى ثم إلى أقصى بلاد الحبشة وهى سفر عشر سنين ثم منها إلى بلاد الهند ثم إلى بلاد السند، ثم إلى بلاد الصين ثم ارجع إلى بلاد اليمن ثم إلى مكة ، ثم اخرج من باب العلى إلى الدرب الحجازى إلى بدر ثم إلى الصفراء، ثم إلى مدينة النبى صلى الله عليه وسلم ، فاستأذنه عند باب السورة ثم أدخل حتى أقف بين يديه صلى الله عليه وسلم فأصلى وأسلم عليه وعلى صاحبيه وأزور من فى البقيع .. وما أرجع إلى دارى بمصر إلا وأنا ألهث من شدة التعب كأنى كنت حاملا جبلا عظيما، ولا أعلم أحدا سبقنى إلى مثل هذا الطواف ، وكان إبتداء حصول هذا المقام لى فى سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة فرأيت نفسى فى محفة طائرة ، فطافت بى سائر أقطار الأرض فى لحظة وكانت تطوف بى على قبورالمشايخ من فوق أضرحتهم ، إلا ضريح سيدى أحمد البدوى وضريح سيدى إبراهيم الدسوقى .. فإن المحفة نزلت بى من تحت عتبة كل من أحدهما ومرت من تحت قبره ، ولم أعرف إلى الآن الحكمة فى تخصيص هذين الشيخين بذلك"[7]!!

             والشعرانى حين يفترى هذه الأكاذيب المضحكة كان يتيقن أن عصره لن يقابلها بالسخرية بل بالتصديق وزيادة الإعتقاد في كراماته وولايته،وذلك يؤكد الصلة الوثيقة بين الكذب والولاية الصوفية، كلما ازداد أحدهم جرأة في الكذب ومهارة فيه كلما انتشر سيطه وازداد أتباعه،والشعرانى حتى الآن – وبعد وفاته بنحو خمس قرون- لا يزال أستاذاً مقدساً عند الصوفية " وكهفهم الصمدانى وقطبهم الربانى".

     ومن ناحية أخرى فإن ذلك يعنى أن التصوف كرًس في عقائد الناس الإيمان بأكاذيب الصوفية بالغاً ما بلغت ،وفي عصر الشعرانى خفت صوت العقل وعلا صوت الخرافة ومع ذلك فإن الشعرانى يحاول أن يجتس العقل من جذوره فيقول داعياً إلى تصديق أكاذيبه" ومما أنعم الله تبارك وتعالى به على تصديقى للصالحين في كل ما يخبرون به من الأمور التى تحيلها العقول عادة، ولم أزل أصدقهم في ذلك من حين كنت صغيراً، وكل شيئ لم أتعقله جعلته من جملة العلم الذى لم أعرفه، ولا أكذب إلا ما خالف النصوص الصريحة أو خرق إجماع المسلمين ، وأجمع أهل الكشف – أى الصوفية- على أنه إذا أنكر شيئاً أخبره به أهل الكشف حرم ذلك الأمر الذى أنكره،ولو بلغ الغاية في السلوك فلا يعطى ذلك الأمر عقوبة له على إنكاره وتكذيبه أولياء الله تعالى،الذين هم آياته في الأرض وبهم يرزق الناس وبهم يمطرون وبهم يدفع الله البلاء عن عباده، وقد جلس عندى مرة الأخ الصالح الشيخ أبو العباس الحريثى بين المغرب والعشاء في رمضان فقرأ بعد المغرب إلى مغيب الشفق الأحمر القرآن خمس مرات وأنا أسمعه ، فلما دخلت أنا وإياه على سيدى على المرصفى حكيت له ذلك فقال قد وقع لى أنى قرأت القرآن في يوم وليلة ثلثمائة وستين ألف درجة كل درجة ألف ختمة ، هذا بلفظه انتهى، ومما وقع لى أننى أحرمت بصلاة الصبح خلف الشيخ عمر الإمام بالزاوية فافتتح سورة المزمل فسبق لسانى فقرأت القرآن من أول سورة البقرة ولحقته في قراءة الركعة الأولى قبل أن يركع فأنصتُ له حتى ركع، هذا أمر شهدته من نفسى وآمنت بأنه كرامة لى من الله تعالى، فإن الإيمان بكرامات الأولياء واجب حق ويجب على الولى أن يؤمن بكرامات نفسه كما يؤمن بكرامات غيره[8] .

 

أكاذيب المنامات والكرامات :

     وبالتصوف انتشرت أكاذيب المنامات فمن قتل مظلوماً رؤيت له منامات صالحة [9]. ومن اشتهر بالصلاح أو التصوف قيلت له منامات عن وقت مولده، وتكاثر الأمر حتى أصبح مثار السخرية،يقول السخاوى معلقًأ على حادثة من هذا النوع " ولم يعدم متهكماً عليه في هذا المنام حسداً وافتراءاً على عادة البطالين" [10]. وأبو المحاسن احتج بدوره على أصحاب المنامات الكاذبة [11]. وقال ابن حجر في ترجمة الشهاب الباعونى ت 816 " كان لا يعاب إلا بالإعجاب والمزيد من الكلام  والمنامات [12]. ومما يدل على أكاذيب المنامات انتشرت من الصوفية إلى غيرهم وأثارت نوعاً من الإحتجاج والسخرية لعدم تمتع أصحابها بإحترام كافٍٍ .

      أما الكرامات فقد كانت خصوصية يدعيها الأولياء الصوفية وأسهم العصر المملوكى في روايتها سرداً وتزايداً واعتقاداً، بل لقد أصبحت رواية أكاذيب الكرامات نوعا من الشعائر الدينية، وذلك ما نفهمه من الربط بين وصف أحدهم بالصلاح والتدين مع وصفه أيضاً بسرد " حكايات الصالحين" .

     يقول السخاوى في ترجمة عباس السندبسطى ت 888 " كان كثير العبادة تالياً للقرآن ذاكراً لنبذة من حكايات الصالحين ونحوها معتقداً بين كثير من العامة والخاصة" [13].

 

     فصاحبنا كان تالياً للقرآن ذاكراً الأكاذيب والكرامات متمتعاً باعتقاد الناس فيه بسبب ذلك . وقيل في ترجمة الشيخ محمد المغربى الشاذلى ت 911 أن الغالب عليه كان " الإطراق " " وعدم الإطالة في الكلام" أما إذا تعلق الأمر بحكايات الصالحين عندئذ يكون " بارعا في استحضار حكايات الصالحين ونقلها مسارعاً" [14].

     والمريدون على وجه الخصوص كانوا أسرع الناس في نشر أساطير أشياخهم ، فالبدر القطى ت 878 " كان يكثر من حكايات كرامات شيخه يوسف الصفى " [15]. ويقول الدسوقى " مطالعة حكايات الأولياء جند من جنود الله " [16] ، أى شعيرة دينية ، والصوفى إذا وجد مريدين اتسع أمامه المجال للأكاذيب طالما بقى فيه رمق حتى لو كان على فراش الموت، كما قيل عن تاج الدين الذاكر أنه أخبر أصحابه ليلة وفاته أن له سبعاً وعشرين سنة ما وضع جنبه إلى الأرض [17]. أى ظل واقفاً أو جالساً إلى أن حضره الموت.

     أما إذا لم يتمتع الصوفي بالشهرة اللازمة فلا حظَ له في أكاذيبه وكراماته إلا السخرية فيقول الأدفوى عن الصوفي ابن سليمان " وكانت له ادعاءات مضحكة : مثل حصر دخان المعصرة كم يجئ من قنطار، والأردب السمسم يعرفه كم حبة ، وأنه تبول في النيل فزاد ، وأنه طلع إلى بربارة ادفو وكسر التتار " [18].

 

حكايات الصالحين:

     على أن تدين التصوف ألهب خيال الناس في اختراع شتى الحكايات والنوادر،وكان يمكن أن تظل في إطار الأقاصيص لولا أن القاص كان يدعى حدوثها لنفسه ويجعل من نفسه البطل أو الراوى الذى شهد وقوع الحادثة بحذافيرها ، فقيل في النصيبى القوصى ت 707 " كانت له قدرة على ارتجال الحكاية المطولة" [19]. وكان ابن المبارك الأثارى ت 806 " كثير النوادر والحكايات العجيبة أعجوبة في وضعها " [20]. وكان بدر الدين العجمى ت 873 " حلو النادرة حسن المحاضرة والمفاكهة والمذاكرة .. وكان يروى لمن يحضر عنده ويذاكره عن أعاجيب، ما اطلَع عليه في البر والبحر والأسفار بالجملة والتفصيل " [21]. أما الشيخ الفنارى ت 903 فقد كان يغلب عليه الصمت " إلا إذا ذكر صحبة مع السلطان فعند ذلك يورد الحكايات العجيبة واللطائف الغريبة " [22]. وقال العيني عن ابن زقاعة الصوفي " كان أعجوبة في استحضار الحكايات والمجريات " [23]. أى ما جرى من أمور وحكايات.

     ويقول الصيرفى في حوادث سنة 875 " وحدث في هذه الأيام أمور تؤذن باقتراب الساعة ، منها أن السيد الشريف الوفائى – نائب قاضى الحنفية – أخبرنى بحضوره أن الأمير تمر المحمودى حاجب الحجاب شاهد عنده بغلة ولدت وعاش الولد أياماً ومات بعد ذلك " [24].

     أى أن مؤرخاً قاضياً مثل الصيرفى صدق هذه الأسطورة واعتبرها إيذاناً بقيام الساعة ، ويذكر ابن العراقى أن الشيخ ابن القارئ ت 776 كان يعلل صممه بأنه سمع عذاب القبر وهو صغير ويبدو من أسلوبه أنه كان يصدق هذه الأكذوبة [25]. على أن بعض الأكاذيب لم تحظ بالتصديق ووصفوا أصحابها بما يستحقون إذا اتسعوا في الدعاوى فيقول أبو المحاسن عن سودون القرمانى 863 " كان مهملاً مسرفاً على نفسه وعنده فشار كبير ومجازفات في كلامه " [26]. بل وصف بعضهم بالكذاب واشتهر به مثل الخالدى [27].

 

     وبانتشار التصوف قدم كثيرون إلى مصر من صوفية المشرق والمغرب وكانت لبعضهم حصيلته الوافرة من الحكايات التى لا ضابط عليه في روايتها خصوصاً وأن المبالغة محمودة في عرف الصوفية الباحثين عن الشهرة والقادمين من أجلها ، يقول ابن حجر في ترجمة الشيخ ابن سيرين الحنفى ت 809 نزيل القاهرة " حدث وخطب بالظاهرية البرقوقية وكان يحدث عن الهند بعجائب والله أعلم بصحتها " [28]

    ويذكر ابن الحجر الهيثمى أنه قدم إلى مصر رجل هندى "يزعم أن عمره مائتا سنة وخمسون سنة على ما يدعيه ،بل شواهد الحال تقطع بكذبه"[29].

 

     ونختم هذا المبحث بنصوص ثلاثة تربط بين التصوف والكذب.

   

   أولها: من فقيه صوفى مشهور هو السيوطىالقائل أن من ادعى التجريد ثم أخذ يذكر الأسباب فهو مدع كذاب [30] .وبداية الطريق الصوفى لكل شيخ هو التجرد ،وكلهم ذكر الأسباب وعاش بها ، فكلهم كذابين عند السيوطى .

 

وثانيها:  ما كانت تنص عليه وثائق الوقف على المؤسسات الصوفية " ألا يكون معروفاً بكثرة الكذب والإفتراء على الناس "[31]. أى كانت تشترط ألا يزيد حظه كثيراًمن الكذب والإفتراء ..

 

وثالثها: ما ذكره السخاوى فى ترجمة ابن المغيربى ت 846 "كان لا يتوقى منه يمين يحلفها فيما لا قيمة له مع إظهار تحرى الصدق والديانة البالغة ويتوسع فى المأكل والملابس من غير مادة ، ويشكو الضيق"[32]. أى يبالغ فى الأيمان على التوافه مع التظاهر بالتدين والصدق ، وانعكس ذلك التناقض فكان مسرفاً فى المأكل والمظهر متبرماً من ضيق الأحوال ، والمعنى الواضح فى النص أنه تعود الكذب فى لسانه وسلوكه ودينه .وتلك جناية التصوف على العصر ..أن جعل الكذب شعيرة دينية .

     ومن الطبيعى وقد أصبح الكذب فضيلة أن ينتشر شهود الزور يقول أبو المحاسن فى حوادث سنة 870 أنه كان من الممكن شراء الشهادات الزور علناً وتحت سمع وبصر القضاة[33] . وفى حوادث سنة 872 " كثر الاطلاع على شهود الزور فضرب منهم جماعة وجرس أحدهم على ثور [34] وفى فتنة البقاعى انبث الصوفية فى البلد وهم كثير ومعهم الجاه وهم أهل مكر وكيد وكذب لا يتوقفون فى شئ ويقولون ما لا يقبله عقل [35]  . ومع أنها مقالة البقاعى عدو الصوفية ، إلا أن شواهد الأحوال تقطع بصدق رأيه فيهم .   

      

 

   "القــذارة"

 

 

        1 ــ الإسلام دين الطهارة المعنوية فى العقيدة والسلوك، ودين الطهارة الحسية بمعنى نظافة المظهر والجسد ، وكان فرض الوضوء جمعا للطهارة الحسية مع الطهارة المعنوية يقول تعالى للمسلمين فى المدينة "ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جُنبا فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ، مايريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون.. المائدة 6"" ياأيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ماتقولون ، ولاجنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا ، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أولامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ، إن الله كان عفوا غفورا .. النساء 43".

         فالآيتان بينتا أسلوب الطهارة للصلاة من الحدث الأصغر والأكبر بالماء أو بالتراب النظيف عند تعذر وجود الماء أو استعماله،وتردد في الآيتين الحث على الطهارة الحسية " وإن كنتم جنباً فاطهروا " " ولكن يريد ليطهركم " بل أن الإسلام حرصاً منه على الطهارة حرم الإتصال بالزوجة الحائض " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ،فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن ،فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.. البقرة 222" .

 

       وجعل الإسلام من الماء الوسيلة الأساسية للطهارة " وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به،ويذهب عنكم رجز الشيطان ،وليربط على قلوبكم..الأنفال 11" " و أنزلنا من السماء ماء طهوراً.. الفرقان48 ".

       والمساجد بيوت الصلاة هى نفسها بيوت التطهر والنظافة أى تجمع بين الطهارة المعنوية والطهارة الحسية ، يقول تعالى" لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين .. التوبة 108" ، ونزلت آيات الوضوء والطهارة في المدينة، وكان العرب قبلها يصلون دون طهارة ، وفي الفترة المكية نزل للرسول في بدايات الوحى " يا أيها المدثر،قم فأنذر،وربك فكبر،وثيابك فطهر .. " .

       وإذا كان المثل الأعلى للمسلم أن يكون من الرجال الذين يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين فإن المثل الأعلى للتصوف هو المجذوب بأسماله البالية وعورته الظاهرة ورائحته المزعجة والحشرات التى ترتع على جسده كما كان معهوداً في مصر إلى عهد قريب.

       وعلى قدر عناية الإسلام بالطهارة اعتنى تدين التصوف بالقذارة وجعلها من رسومه الدينية منذ بدأ التصوف في القرن الثالث الهجرى.

 

القذارة في طقوس التصوف:

اشتهر رواد التصوف الأوائل بقذارة المظهر،يحكى القشيرى في رسالته أن زيتونة كانت تخدم أبا الحسن النورى وأبا حمزة والجنيد، وفي يوم بارد حملت للنورى طعامه من خبز ولبن وكان النورى يقلب فحم الموقد بيده فأخذ يأكل واللبن يسيل على يديه مختلطاً بسواد الفحم ، فقالت الخادمة – في نفسها– حسبما تحكى القصة " ما أقذر أولياءك  يا رب ما فيهم أحد نظيف "  وتنهى الحكاية         باتهام الخادمة ظلماً بالسرقة وتدخل النورى لإنقاذها ولا ينسى أن ينبها إلى أن ذلك عقوبة لها لأنها اعترضت على قذارته" وقال لها لا تقولين بعدها ما أقذر أولياءك ، فقالت تبت إلى الله " [36]. أى أن الصوفية منذ البداية ألفوا كرامات لتدافع عن اتهامهم بالقذارة .

 

     ثم انتشر التصوف منذ عصر الغزالى لأنه يعنى اتباع الهوى في كل شئ والراحة من كل شئ ومنها العناية بالنظافة والطهارة وبه تم قلب الموازين فبعد أن كانت طريقة الإسلام هى طهارة الباطن و الظاهر أصبحت سنة التصوف قذارة المظهر والمخبر،بل أصبح في عصر الغزالى من مظاهر الرياء بالصلاح والتقوى أن يتقذر الإنسان في شكله وهيئته فالغزالى يعد من مظاهر الرياء الديني بالهيئة والزى قوله " أما الهيئة فتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب.. وغلظ الثياب ولبس الصوف وتشميرها. وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقًاً ، كل ذلك يرائى به ليظهر من نفسه أنه يتبع للسنة فيه ومقتد فيه بعباد الله الصالحين" فأتباع السنة والإقتداء بعباد الله الصالحين معناه عند الغزالى والتصوف تشعيث شعر الرأس وقذارة الثوب وتغليظه وتمزيقه.

 

     ثم يقول الغزالى عن أولئك المرائين بالقذارة الصوفية " فمنهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح بإظهار الزهد ،فيلبس الثياب الممزقة الوسخة القصيرة الغليظة ليرائى بغلظتها ووسخها وقصرها وتخريقها أنه غير   مكترث بالدنيا " .

 

     وأراد بعض المترفين الدخول في دين التصوف ولكن – على حد قول الغزالى – " شق عليهم الإقتداء بهم في بذاءة الثياب والرضا بالدون، فأرادوا أن يتظاهروا بالتصوف ولم يجدوا بداً من التزين بهم ، فتركوا الحرير والأبريسم وطلبوا المرقعات النفيسة والفوط الرقيقة والسجادات المصبغة ولبسوا من الثياب ما هو أرفع قيمة من الحرير والأبريسم ، وظن أحدهم مع ذلك أنه متصوف بمجرد لون الثوب وكونه مرقعاً" [37].

 

     ويروى الغزالى أنه قيل للحسن البصرى " لم لا تغسل ثيابك؟ قال: الأمر أعجل من ذلك" وقيل لداوود الطائى " أو سرحت لحيتك؟ قال إنى إذن لفارغ " [38].

 

تشريع القذارة :

 

        وحتى ينشر الصوفية قذارتهم لتصبح سلوكاً عاماً بين المسلمين ينسيهم عادة الإسلام في الطهارة والنظافة فإن الصوفية لجأوا للأحاديث الموضوعة أو تحريف معانى القرآن، فالحسن البصرى الذى كان لا يغسل ثيابه تأول قوله تعالى" وثيابك فطهر" بأن معناها " وخلقك فحسن" فحسبما يروى القشيرى [39]. أما الغزالى الذى أتخم الإحياء بالأحاديث الباطلة فقد أورد منها في الدعوة للقذارة حديث " إن الله يحب المتبذل الذى لا يبالى ما لبس " والعراقى في تخريجه لهذا الحديث قال عنه " لم أجد له أصلاً" أى لم يكن مكتوباً إلا في الإحياء أى اخترعه الغزالى . بل أن الغزالى حرّف حديث أنس " إن الرسول كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته حتى كأن ثوبه ثوب زيات" فجعله الغزالى يؤدى عكس المعنى تماماً فرواه " كان قميص رسول الله كأنه قميص زيات" وروى حديثاً آخر ينطبق على الصوفية وهو " يقول في أمتى قوم شعث رؤسهم دنسة ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم"[40] .

 

        وهناك حديث مزور آخر مشهور حتى الآن يحوى نفس المعنى ونفس اللفظ وهو " رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرَه " فيجعل الصوفي الأشعث الأغبر صاحب دلال وسطوة على الله حتى لو قال لله افعل كذا لأبر الله قسمه، ولابد أن يكون أشعث أغبر حتى تكتمل في الحديث القذارة الحسية والقذارة المعنوية، لو كان يقيم الصلاة ما أصبح أشعث أغبر .

 

       وروج الصوفية لأحاديث كثيرة في القذارة ، منها أن الرسول كان يباشر نساءه في المحيض وأن عائشة كانت تقول أن النبى كان يتكئ في حجرها وهى حائض ويقرأ القرآن ، وأن الناس كانوا يتبركون ببقايا غسل الرسول ونخامته . وأن النبى دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجه منه ومجَ (بصق) فيه ثم قال لأصحابه اشربوا منه ، وأن النبى أمر أناساً من عكل أو عرينة يعيشون في المدينة بأن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها، وكل هذه الأحاديث موجودة في البخارى في كتاب الطهارة وغيره، وكل هذه الأحاديث الصوفية لا تزال تحظى حتى الآن بتقديس عبّاد السنة وصحيح البخارى تعبيراً عن التأثر بالصوفية،ودليلاً على تأثر السلفية والحنابلة بالتصوف الذى يهاجمون أولياءه.

 

في ولاية العهد الصوفي:

       وبالتصوف سادت شهرة البخاري وكتابه في العصر المملوكى حتى كانت له تعقد المواعيد وتختم قراءته في كل عام، ولذلك لم يكن مستغرباً أن تعبر القذارة عن نفسها في طقوس التصوف ترديداً للأحاديث التى ذكرها البخارى. فمن مراسيم ولاية العهد من البدوى لعبد العال أن جعله البدوى يمص دملاً في ذراعه قد ملئ قيحاً وصديداً حتى يمتزج الدم بالدم، وتقول أسطورة أن البدوى تقايأ وشرب قمر الدولة ما تقايأه البدوى فجعله قمر أصحابه وبعثه إلىّ نفياً خوفاً عليه من عبد العال ، ولكن عبد العال علم فحاول أن يدرك قمر الدولة ليغتصب منه شربه من قيئ البدوى [41] .

 

       وعهد الرفاعى للواسطى لأن الواسطى وقف يوضئه وحين تنخم شيخه تناولها الواسطى وازدردها وابتلعها وكافأه الرفاعى بأن كشف له عما بالمشرق والمغرب وصارت كالقصعة بين عينيه [42].

 

       ولما حضرت الوفاة تاج الدين النخال الشاذلى ت 824 استدعى ابنته وقال لها أن أخاه تفل في فمه عندما كان يحتضر، وقال " لما حضرته الوفاة استدعانى إليه وقال لى افتح فمك يا أخى ففتحت فمى فتفل لى فيه، فأعطانى الله تعالى خير الدنيا والآخرة‘ وأنتِ يا عائشة افتحى فمك ففتحت فمها فتفل لها فيه ، وقال لها هذه التفلة ما هى لكِ ، هى زخيرة عندكِ "[43] . أى تستطيع أن تنقلها  لغيرها، لأن البركة في (التفلة) .

 

الذباب :

 

      وكان من طقوس التصوف في بدايته أن يتكاثر الذباب على وجه العارف الصوفي ، يحكى القشيري في رسالته عن بعضهم " رأيت فقيراً يجود بنفسه غريباً ، والذباب على وجهه فجلست أذب الذباب عن وجهه ، ففتح عينيه وقال من هذا،أنا من كذا سنة في طلب وقت يصفو لى فلم يبقى إلا الآن. جئت أنت توقع نفسك فيه؟ مر عفاك الله " [44] . فصاحبنا عاش هادئا ً في ملكوت التصوف والذباب يتكاثر على وجهه حتى استيقظ من أحلامه الصوفية على من يذب الذباب عنه فاحتج عليه.

 

       وبذلك احتل الذباب مكانته السامية على وجه الصوفي لذا يقول الشعرانى في نهاية العصر المملوكى " العارف يجب ألا يدفع عن وجهه الذباب وإلا فقد طلب النعيم المعجل له في الدنيا" [45] .

       وهنا نتذكر حديث البخارى عن الذبابة وتغميسها في الإناء إذا وقعت فيه .

       وإذا كان الغزالى قد احتج على أولئك المرائين الذين يتصنعون القذارة تشبهاً بالأولياء الصوفية ، وهم أقل من أن يكونوا في مستواهم في القذارة ، فإن العصر المملوكى – عصر تسيد التصوف – لم يكتف بالإستنكار وإنما أتى بسلوك إيجابى عبر عنه الشيخ أبو الحمائل السروى حين جاءه الشيخ على الحديدى يطلب الطريق فرآه متلفتاً لنظافة ثيابه فقال له " إن كنت تطلب الطريق فاجعل ثيابك ممسحة لأيدى الفقراء، فكان كل من أكل سمكاً أو زفراً يمسح في ثوبه يده مدة سنة وسبعة شهور ،حتى صارت ثيابه كثياب الزبالين أو السماكين " فلما رأى ثيابه لقنه الذكر وأخذ منه الطريق [46] .

 

الوضوء الصوفي :

 

       وإذا كان الوضوء الإسلامى يهدف إلى تطهير المسلم من القاذورات فإن للصوفية وضوءهم الذى يهدف إلى التجمل بهذه القاذورات .خصوصاً وقد أهملوا الوضوء الإسلامى والصلاة طبقاً لعقيدتهم في إسقاط التكاليف الإسلامية كما سبق بيانه .

 

         والبول كان من أهم عناصر الوضوء الصوفي في مقابل الماء الطهور في الوضوء الإسلامى  وفي بداية التصوف يحكى الرائد الصوفي إبراهيم بن أدهم طبقاً لما جاء فى الرسالة القشيرية " ما سررت لشئ كسرورى أنى كنت يوماً جالساً فجاء رجل  وبال على "[47]. وفى القرن السابع الذى شهد منتصفه بداية العصر المملوكى كان الشيخ يوسف القمينى الموله ت 657 " يتنجس ببوله ويمشى حافياً ويأوى إلى قمين حمام ولا يصلى " فوضؤه التنجس بالبول ومسجده الذى يأوى إليه هو الحمام، إلا أنه لا يصلى ، ويعلق الذهبى قائلاً "وقد كثر هذا فى عصرنا والله المستعان "[48] . إذن كثر ذلك منذ بداية العصر المملوكى ، وطبيعى أن يسود ذلك بسيادة التصوف بمرور الزمن .

        والبدوى أشهر الصوفية عاش فى القرن السابع ولم يكن يصلى – كما أسلفنا فى موضعه- ولكن كان يتحاور ببوله إذا أعيته الحجه ، فمن ذلك أنه تبول وهو على السطح على طائفة من العلماء أتوا إليه للمحاورة وهى قصة مشهورة عن البدوى" إن الشيخ النحوى كان كثير الإنكار عليه ، فراح إلى طندتا هو وجماعة من أصحابه الطلبة فجلسوا تحت حائط السطح الذى هو عليه ،فطلً عليهم الشيخ أحمد البدوى وبال عليهم فقالوا ما هذا البول على طلبة العلم ؟ فقال ما يؤكل لحمه فبوله طاهر ، رضى الله تعالى عنه ونفعنا به"[49] .!!

        وتوسع البدوى فى التعبير عن رأيه ببوله حتى وصل ببوله إلى المسجد وقت صلاة الجمعة والناس قيام للصلاة حين الآذان ، يروى أبوالمحاسن " قال أحدهم بسنده ألزمنى الأمير ناصر الدين محمد بن جنكلى بن البابا بالمسير معه لزيارة الشيخ أحمد البدوى بناحية طندتا، فوافيناه يوم الجمعة، فإذا به رجل طوال عليه ثوب جوخ غال وعمامته صوف رفيع، والناس تأتيه أفواجا منهم من يقول ياسيدى خاطرك مع بقرى ، ومنهم من يقول زرعى، إلى أن حان وقت صلاة الجمعة فنزلنا معه إلى الجامع بطندتا، وجلسنا فى انتظارالصلاة فلما فرغ الخطيب من خطبة الجمعة وأقيمت الصلاة وضع الشيخ أحمد رأسه فى طوقه بعد ماقام قائما وكشف عن عورته بحضرة الناس، وبال على ثيابه وعلى حصير المسجد واستمر ورأسه فى طوق ثوبه وهو جالس حتى انقضت الصلاة ولم يصل"[50].

       وبعد القرن السابع ابتكرالصوفية تنويعات فى وضوئهم، خصوصا مع كثرة المجاذيب وتفننهم فى كل غريب وقذر، ونأتى بمقتطفات سريعة نعتذر عنها ونمسك عن التعليق عليها، يقول العينى فى ترجمة الشيخ أبى بكر البجائى المغربى " كان لايتوضأ، ويتغوط فى مجلسه"[51]. ويقول الشعرانى فى ترجمة الشيخ إبراهيم العريان "كان يخرج الريح بحضرة الأكابر ثم يقول هذه ضرطة فلان، ويحلف على ذلك فيخجل ذلك الكبير منه"[52].ويقول الشعرانى فى ترجمة الشيخ بركات الخياط " أخبرنى الشيخ عبد الواحد.. أحد جماعة سيدى أبو السعود الجارحى.. قال مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتى الجامع الأزهر وجماعة، فقالوا امضوا بنا نزوره، وكان يوم جمعه، فسلم المؤذن على المنارة فقالوا له نصلى الجمعة، فقال مالى عادة بذلك، فأنكروا عليه، فقال نصلى اليوم لأجلكم، فخرج إلى جامع الماردانى ، فوجد فى الطريق مسقاة الكلاب فتطهر منها ،ثم وقع فى مشخة حمير ففارقوه وصاروا يوبخون الشيخ عبدالواحد الذى جاء بهم إلى هذا الرجل[53]. وقال عن الشيخ مدين الأشمونى "كان يوما يتوضأ فى البالوعة التى فى رباط الزاوية[54]. وقال عن بعضهم أنه " تضمخ يوم الجمعة بغائط كلب فى جميع بدنه[55].

        وفى هذا العصر كان المجذوب الذى يصلى ويتطهر نادرة، يقول أبوالمحاسن عن المجذوب عمر البياتى " كانت جذبته غير مطبقة لأنه كان لايُخلُ بالمكتوبة ، بل يغتسل فى الغالب لكل صلاة"[56].

       وكان من عوامل انتشار القذارة ما أشاعه التصوف من انحلال خلقى وشذوذ، وفى طيف الخيال قصص عن العشق المحرم والأحاديث الخرافية الملوثة بنجاسات البول والبراز[57]. تعكس ذلك التردى الخلقى فى العصر المملوكى.

 

قذارة الزى والمظهر:

          والعرى كان أهم مظهر للقذارة تفنن فيه المجاذيب أمثال الشيخ خليل[58]. وشعبان المجذوب، يقول فيه الشعرانى " وكان رضى الله عنه عريانا لايلبس إلا قطعة جلد أو بساط أو حصير أو لباد يغطى قُبله ودبره فقط، وكانت الخلائق تعتقده، ويعدون رؤيته عيدا"[59]. والشيخ نصر المجذوب " كان يركب الفيل بمصر أيام الغورى وكان ملامتيا عريانا"[60].

        وفى القرن الثامن كان الشيخ عبدالله أيبك الموله ت 729" لايكلم أحدا ولايستر عورته وحين مات فجأة شيعته خلائق من الناس[61]، وواضح أن الناس كانوا يعتقدون صلاح أولئك المجاذيب ويربطون بين قذارة مظهرهم وولايتهم طبقا لدين التصوف القائم على القذارة وابن الحاج الفقيه الصوفى ـ الحائر بين الإسلام والتصوف ـ أنكر ذلك الوضع فقال " بعضهم يظهر للناس الزهد فى الدنيا وترك المبالاة بها حتى أنه ليجلس مكشوف العورة، وليس العجب منهم ، بل العجب ممن يعتقدهم مع ماهم فيه من مخالفةالشرع"[62].

        وبعضهم إذا ارتدى ثيابا حافظ على قذارة المظهر فالشيخ سويدان المجذوب ت919 " كان مكشوف الرأس أبدا وله شعر طويل ملبد كث اللحية ، وكان أكثر كلامه إشارات لايفهمها عنه إلا الفقراء الصادقون"[63].

        وكان الشيخ أبوالفضل الأحمدى يقول " والله أنى لاستحى من لبس الثوب النظيف على ذاتى  هذه القذرة"[64]. وهو يتحدث هنا عن نفسه. وذكر الشعرانى بعض مظاهر القذارة للمجاذيب ، فالشيخ عبيد البلقينى " حصل له جذب فى أول عمره فمكث نحو الخمس عشرة سنة بلباس جلده مكشوف الرأس والبدن، لايلتفت إلى تدبير بدنه حتى صار الدود يتساقط من تحت قلنسوته من محل الزيق، ولم يزل أثره ظاهرا فى ناحية قفاه رضى الله عنه"[65].وبركات الخياط كان يقول لزبائنه " هات معك فوطة وإلا يتسخ قماشك من ثيابى"[66]. والشيخ أبو لحاف " كان حافيا مكشوف الرأس ملتحفا بملاءة حمراء وبيده عصا غليظة"[67]. والشيخ سليمان الحانوتى" كانت ثيابه تارة رثة وتارة كثياب القضاة والتجار ولونه تارة تجده أحمر القرمزى وتارة أصفر متحولا"[68]. والشيخ عامر المجذوب " كان عامة نهاره وليله واقفا على كوم عال ومع طوق حجر طاحون يحركه بين رجليه وهما مفرقتان، وكانت له عمامة نحو قنطار لايستطيع أحد أن يضعها على رأسه من ثقلها يجمعها من شراميط الكيمان"[69]. ويحكى الشعرانى عن الشيخ أبى الفضل الأحمدى " كنا إذا خرجنا لمثل أهرام الجيزة أو غيرها من المتنزهات يحمل نعال الجماعة كلهم على عنقه ومن أبى أقسم عليه بالله تعالى حتى يمكنه من حمل نعله "[70].وكان من كرامات شعبان المجذوب أنه " إذا رأى الهلال عرف جميع مافيه مكتوبا علىالعباد، وكان إذا إطلع على موت البهائم يلبس صبيحة تلك الليلة جلد البهائم البقر أو الغنم، أو تسخير الجمال لجهة السلطنة يلبس الشيف الليف فيقع الأمر كما نوُه به"[71].

        والصوفية الأعاجم القادمون لمصر من الشرق اشتهروا بقذارة المظهر أكثر حتى أنه يقال في ترجمة المجذوب على الدميري ت 924 " كان مكشوف الرأس ملتفاً في بزه بحيث أن من يراه يظنه أعجمياً" [72]. ويقال في ترجمة الفقيه ابن جماعة ت 819 " كان يعاب بالتزيين بزى العجم من طول الشارب وعدم السواك"[73]. أى أن التأثر بالقذارة الصوفية وصل للفقهاء المشاهير ، ومثل ابن جماعة الشيخ برهان الدين العثمانى ت 852 يقول فيه أبو المحاسن " عُدّ من الفضلاء إلا أنه كان دنس الثياب غير ضوي الهيئة" [74].

 

     وبعض المجاذيب لم يكتف بقذارته الذاتية وإنما أضاف إليها الرتوش مثل أن يصحب معه كلاباً تفوقه في القذارة، فالشيخ مسعود المجذوب كان له كلب قدر الحمار لم يزل واضعاً بوزه على كتفه " ولقب بعضهم بالكليباتى نسبة لكلابه مثل الشيخ أبو الخير الكليباتى ، وقد أشاعوا أن الكلاب التى كانت تسير معه من الجن، يقول عنه الشعرانى ،" وكان أغلب أوقاته واضعاً وجهه في حلق الخلاء في ميضأة جامع الحاكم ويدخل الجامع بالكلاب.. وكان رجلاً قصيراً في يده عصا فيها حلق وشخاشيخ " [75].

     وبعد العصر المملوكى يقول كلوت بك عن المجاذيب " ويعرف المجاذيب بقذارة أبدانهم وما يتشحون به من أطمار بالية " [76].

      ومن مظاهر قذارة الصوفية أن بعضهم كان يظل يرتدى الزى دون أن يغسله،ويظل هكذا حتى يذوب فيقوم الآخرون بتجريده منه ويبدلونه له بغيره . فالبدوى كان إذا لبس ثوباً أو عمامة لا يخلعها لغسل ولا لغيره حتى تذوب فيبدلونها له بغيرها " [77]. والشيخ المتوفى " كان الغالب إذا توسخ ما عليه لا يكون له ما يبدله به وكانت أخته إذا توسخت ثيابه تنزع ثيابه لغسلها وإلا فهو ما كان يفكر في ذلك " [78]. وكان الشيخ الدميري مكشوف الرأس ملفوفاً في بردة كلما تنقطع يبدلونها له بأخرى ،وأقام على هذه الحالة نحو عشرين سنة " [79]. ومثله الشيخ عمر المجذوب " كان إذا لبس القميص لا ينزعه حتى يذوب " [80]. والشيخ المعتزل الذى كان الأكابر تتردد إليه"وكان يلبس العمامة أو الثوب لايخلعها حتى تذوب "[81] .

 

القمل والتصوف:

 

     بسبب القذارة كان للقمل دوراً في تاريخ التصوف والصوفية ، يقول الرائد الصوفي ابراهيم بن أدهم" ما سررت في إسلامى إلا ثلاث مرات كنت في سفينة وفيها رجل مضحاك كان يقول : كنا نأخذ العلج في بلاد الترك هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي ويهزنى فيسرنى ذلك لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر في عينه منى ، والأخرى كنت عليلاً في مسجد فدخل المؤذن وقال أخرج فلم أطق فأخذ برجلى وجرنى إلى خارج المسجد ، والثالثة كنت بالشام وعلىّ فرو فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته ، وسرنى ذلك" [82].

 

     ولأهمية القمل في حياة الصوفية فقد اخترعوا له الأحاديث ، وتطوع الغزالى بهذه المهمة فيفترى أن نبياً من الأنبياء – لا نعرف  اسمه – " شكا إلى ربه الجوع والفقر والقمل عشر سنين فما أجيب إلى ذلك ثم أوحى إليه : لم تشكر ؟ هكذا كان بدؤك عندى في أم الكتاب قبل أن أخلق السموات والأرض وهكذا سبق لك منى وهكذا قضيت عليك قبل أن أخلق الدنيا أفتريد أن أعيد خلق الدنيا من أجلك؟ أم تريد أن أبدل ما قدرته عليك فيكون ما تحب فوق ما أحب  ويكون ما تريد فوق ما أريد  ؟ وعزتى وجلالى لإن تلجلج هذا في صدرك مرة أخرى أمحونك من ديوان النبوة" [83]. فالغزالى يفترى هذه الحكاية ويكذب على الله لكى يضخم من موضوع الإعتراض على القمل والفقر، ولايكتفى الغزالى بذلك بل يفترى حديثاً عن خاتم المرسلين هو"لقد كان الأنبياء قبلى يبتلى أحدهم بالفقر فلا يلبس العباءة، وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل حتى يقتله القمل وكان ذلك أحب إليهم من العطاء إليكم " [84] .

 

     والقمل كان يوجع جسد الصوفية فاحتاجوا إلى وظيفة دينية هي تفلية الفقراء، وكالعادة اصطنعوا لها حديثاً يرويه القشيري " قيل أوحى الله تعالىإلى موسى أتريد أن تكون لك يوم القيامة مثل حسنات الناس أجمعين ؟ قال نعم ، قال : عُد المريض وكن لثياب الفقراء فالياً، فجعل موسى على نفسه في كل شهر سبعة أيام يطوف على الفقراء يفلي ثيابهم " [85].

 

        وفقراء المطاوعة في العصر المملوكى جعلوا من وظيفة البدوات تفلية ثياب الفقراء – كما سبق بيانه في موضعه – ويقول الشعرانى أن من آداب العبودية" أن يجالس الفقراء أصحاب القمل ويفلي ثيابهم " .[86]

      وقبل العصر المملوكى كان السهروردى المقتول " دنئ الهمة زرى الخلقة ، دنس الثياب ، وسخ البدن لا يغسل له ثوباً ولا جسماً ولا يداً، ولا يقص ظفراً ولا شعراً، وكان القمل يتناثر على وجهه ويسعى على ثيابه ، وكان من رآه يهرب منه [87].

       أما القمل المملوكى الصوفى فقد كان له شأن. فالبدوى الذي كان يحتفظ بملابسه إلى أن تذوب على جسده كان من أهم مخلفاته التى لا تزال موجودة حتى الآن" المهراش" الذى يتعامل به مع القمل .

      ويقول العينى في حوادث سنة 792 "وتسلط على الفقراء ـ أى الصوفية ـ قمل عظيم [88] . والصوفي يحاول أن يوظف القمل السارح على جسده في أساطير الكرامات فالشيخ شمس الدين الحنفي دعا الله في مرض موته أن يبتليه الله بالقمل – كما لو كان محروماً منه قبل ذلك – ويقول الشعرانى معلقاً " وحصل له ذلك قبل موته فتزايد عليه القمل حتى صار يمشى على فراشه" ويعلل الشعرانى هذه الأمنية المزعومة " وإنما يتمنى ذلك ليكون له أسوة حسنة بالأنبياء الذين ماتوا بالجوع والقمل " [89]. أى أنه افترى على أنبياء الله بهذه التهمة القذرة .

       ولأن القمل يعايش الصوفية إلى هذا الحد الذى جعلهم يلصقونه بالأنبياء ظلماً وافتراءاً فإن بعضهم وجد فيه مجالاً للتخصص في الكرامات ، فالشيخ ابن عنان" كان إذا غضب على أحد قال للقمل رح إليه، فيمتلئ قملاً ويعجز عن تنقيته ولا يكاد ينام ، فيمضى إليه ويقول : ما رأيت إلا تعمل شيخ القمل ، فيأخذه بيده ويرميه في الهواء " [90] .فينقشع القمل عنه .

     وظل القمل عادة سيئة مصرية تعبر عن القذارة الصوفية التى انتشرت في المجتمع حتى بعد العصر المملوكى وما أروع قول كلوت بك " وبالرغم من أن الدين الإسلامى قد فرض النظافة فإن الأغنياء كالفقراء كثيراً ما تحوى ثيابهم القمل ولا يخجلهم وجوده ولا يعنون بإبادته وتطهير أجسامهم منه، بل يقتصرون بما جبلوا عليه من الدعة والخمول على إمساكه بأطراف الأنامل وطرحه على الأرض بعيداً عنهم ، ولدى أرباب اليسار أداة خاصة من الخشب في شكل المغرفة يحكون بها ظهورهم ليخففوا عن أنفسهم آلام وخزها ولسعها "[91].

     وهكذا أتى إنصاف الإسلام من هذه القذارة على يد مؤرخ أجنبي هو كلوت بك ، وأوضح دون أن يدرى دور التصوف في نشر هذه القذارة بين الأغنياء والفقراء الذين استكانوا للقمل في كسل وخمول ، وكل ما هنالك أن بعض الأغنياء كان يحتفظ بالمهراش الشعار الرسمى للبدوى أشهر الأولياء الصوفية .

 

معايشة القاذورات :

    وطالما عايش الصوفية القاذورات على أجسامهم دون تحرج – كما رأينا في القمل – فإن من السهل عليهم التعود على معايشة القاذورات إلى جانبهم في الشوارع والمساكن ، ولا تزال الموالد حتى الآن المناسبات المتجددة في الجمع بين الجماهير وقاذوراتها في مكان واحد.

     والمجاذيب الصوفية كان لهم دور الريادة في معايشة القاذورات والنجاسات ، والتف الناس حولهم منبهرين بشهرتهم وولايتهم ، ومنذ القرن الثامن بدأ تواجد المجاذيب بجانب القاذورات والتفاف الناس حولهم ، فالشيخ سليمان التركمانى ت 713 " كان شخصاً صالحاً مولّهاً أى مجذوب – وللناس فيه اعتقاد حسن زائد، وكان يجلس عند باب البريد وعليه عباءة نجسة ووسخ بين يده ، وهو ساكن قليل الكلام، وكان يأكل في شهر رمضان ولا يصوم ولايصلى " [92].

     ويذكر ابن كثير قصة الشيخ ابراهيم المولَه ت 725 الذى كان يخالط القاذورات ويجمع الرجال والنساء عنده حولها [93] . والشيخ عبد الله أيبك ت 729 "كان لا يتقى النجاسات ولا يستر عورته " [94].

      وفي القرن التاسع انتشرت هذه الظاهرة وسمى الموله بالمجذوب واتسعت شهرة المجاذيب وسعى الناس لرؤيتهم ، والمؤرخ الارستقراطى أبو المحاسن كان يسعى لزيارة الشيخ المجذوب محمد المغربى ت 859 ، ولكن يبقى بعيداً عنه خوفاً مما كان حوله من النجاسات [95] .

       ثم أصبح أغلب الصوفية مجاذيب في القرن العاشر ، فاتسعت دائرة القاذورات وتفننوا في الإلتصاق بها فالشيخ أبو الخير الكليباتى ت 912 " كان يجلس بالكلاب في جامع الأزهر وكان يجلس في الخلاء في ميضأة جامع الحاكم الأيام المتتابعة لا يرفع رأسه " أى يظل ناظراً إلى الفضلات البشرية في الميضأة ، ويقول العيدروس عنه" وقد تغوط في طبق وقدمه لأصحابه على أنه عسل نحل " [96].

     والشيخ بركات المصرى المجذوب ت 915 وصفوه بأنه كان يحب الإقامة في الأخلية ، وكان أكثر إقامته بميضأة الكاملية بمصر أو بميضأة الحجازية" [97].أى كان معبده هناك لذا وصف بوصف تشريف صوفى هو "الشيخ المستفرق في محل إقامته في بيوت الأخلية " [98]، والشيخ حسن المجذوب " كان يقعد بجانب قعاوى الكلاب" [99] .

     وبعضهم التزم بدكانه وعز عليه أن يحرم نفسه من الإقامة في بيوت الأخلية وقعاوى الكلاب فأتى بالقاذورات إلى دكانه مثل الشيخ بركات الخياط ، يقول عنه الشعرانى" وكان رضى الله عنه يقول لمن يخيط له هات معك فوطة وإلا يتسخ قماشك من ثيابى وكان دكانه منتناً قذراً لأن كل كلب وجده ميتاً أو قطاً أو خروفاً يأتى به فيضعه داخل الدكان فكان لا يستطيع أحد أن يجلس عنده " [100] .

     وبركات الشيخ بركات لا تزال موجودة فيه ، والشارع المصري الذى يحتفظ بجثث الحيوانات النافقة التى تظل مكانها حتى تندثر وتنتهى وتنشر المرض والروائح الكريهة ولا تجد من يتطوع بدفنها إلا بإلقائها في النيل لتزيد من تلوثه ..

 

قذارة البيوت والشوارع:

         إذا تقذر البشر تقذرت بالتالى بيوتهم وشوارعهم. وقد قال من دخل بيت الشيخ طاهر المدلجى ت 685 "رأينا بيتاً لم يكنس قط وتحته حصير رثة سوداء "[101]. والشيخ المنوفى لم يره أحد يكنس بيته أو ينفضه ، وكان لا يأبه بنظافة ما يأكله، وكان ذلك بعض ما جاء في مناقبه [102].

     وكانت الشوارع في أسوأ حالات القذارة، وحاولت السلطات دفع الناس لتنظيفها دون جدوى ، ففي المحرم سنة 846   يذكر السخاوى أن السلطان جقمق أمر بإصلاح الطرق وتنظيفها وبيوتها ، يقول السخاوي معلقاً "فأساءو التصرف في ذلك فإنه ألزم كل من له حانوت أو بيت بإصلاح ما أمامه وأوجع كثيراً منهم بالضرب المؤلم وتهدد من لم يفعل ، فبادر إلى ذلك من ضرب أو حضر الضرب أو سمع الوعيد وتأخر عنه من غاب .. فلزم من ذلك أن الطرقات كلها صارت موعرة لقطع بعضها دون بعض ، وقاسى الناس من ذلك شدة شديدة خصوصاً من يمشى بالليل وهو ضعيف البصر ، ثم بطل ذلك في اليوم التالى ،وبقى الضرر يسببه إلى أن تساوت الأرض"[103].

     أى كعادة المصريين هوجة تحدث ثم ينسى الأمر وكل شيئ فيها ينسى بعد حين . ويقول الصيرفى أن والى القاهرة أمر السوقة وأهل الطرقات بكنس الشوارع وتنظيفها ورشها بالماء وعاقبه على ذلك فامتثلوا ثم عاد الأمر بعد حين لما كان عليه[104]. لأن الخطأ في البشر وليس في الشوارع ..

      وحتى الآن فإن آثار القذارة لا تظهر في الشوارع صارخة إلا وقت الأمطار ، ومع قلة الأمطار كمية وأياماً فإنها توقع المصريين في حيرة ، وليس ذلك وليد اليوم وإنما كان في عصرنا المملوكى ففي حوادث سنة 874 "أمطرت القاهرة مطراً غزيراً جعل أزقتها مثل الخلجان واستمر الناس في آثار ذلك أياماً دون أن ينزحوا المياه أو أن يسووا الطرقات"[105].

 

الأزهر:

 والعصر المملوكى تعبير حضارى لا يرتبط بفترة زمنية ،ففي العصر المملوكى تسيد التصوف بكل تلك  المؤثرات لتصبح  علماً عليه ، وبقاؤها بقاء للعصر حتى مع إنهيار السلطة المملوكية بالفتح العثمانى سنة921.

     ومن آثار العصر المملوكى القذرة ما ألمحنا إليه في سلوك الناس وتصرفاتهم وعقائدهم ، وإذا كان للعصر المملوكى سمة معينة من السلوك والعقائد فإن بعض المناطق في عصرنا – يتفاوت حظها من سلوكيات العصر المملوكى وعقائده .

     والأزهر بما اتسم به من محافظة على التقاليد وبعادة الأسلاف احتفظ – ولا يزال – بمؤثرات العصر المملوكى في عقيدته وسلوكياته ، ويكفى أن مناهجه التقليدية مؤلفة في العصر العثمانى ربيب العصر المملوكى والأكثر منه تخلفاً وجموداً.

     لذا كان حظ الأزهر والأزهريين من القذارة وافراً، ويقول أحمد أمين عنه في بداية القرن الحالى "المجاورون في الأزهر قل أن يتعهدوا بيوتهم بالتنظيف ، ومن الأمثال التى كانت منتشرة بين الأزهريين قولهم " العلم زبال" يعنون به أن العلم لا يلائم المظاهر وإنما يذهب إلى القذرين الذين يشبهون في قذارتهم الزبالين، وشاع بين القاهريين أن من الأزهر ينتشر الجرب"  ومعناه أن الأزهر حافظ على القذارة الصوفية المملوكية ضمن ما حافظ عليه من جمود وتصوف وسلوكيات، وبينما بدأت القاهرة في الصحوة الحديثة تنظف وجهها ظل الأزهر قابعاً قذارته فأشاعوا أنه سبب نشر الجرب ، وتكرر ذلك في موضع آخر من كتاب أحمد أمين يقول "وقد كان شائعاً عند القاهريين أن منشأ مرض الجرب هو الجامع الأزهر لكثرة ما فيه من الأتربة والقمل والبق[106]".

     وكان الأزهرى التقليدي معروفاً بمظهره الذي لا يتفق مع النظام والنظافة، والتصوف هو المسئول على ذلك، لذلك ارتبطت محاولات تطوير الأزهر وإيقاظه بالهجوم على التصوف والصوفية في داخله ‘ وظل التصوف مسيطراً على مستعمرات أخرى غير الأزهر ومنها المساجد التى كان معظمها في أوائل القرن الحالى يضم ضريحا أو أكثر، والضريح هو المثل المعبر عن قذارة العقيدة ويكفى أن القرآن الكريم جعل من الأضرحة والأنصاب " رجس من عمل الشيطان" " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون.. المائدة 90" "فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور..الحج 30"، وجعل من المشركين نجساً بفتح الجيم أى عين النجاسة" يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا .. التوبة 28"

        وارتبط رجس العقيدة ونجسها بنجاسة المؤسسات الصوفية وظل ذلك موجودا حتى أوائل القرن الحالى، يقول أحمد أمين فى قصة حياته وهو طفل " وحدثت مرة أن أخذنى والدى إلى المسجد بجوار بيتنا ليصلى ولم يكن بالمسجد غيرنا، وذهب إلى الميضأة ليتوضأ، والميضأةحوض ماء نحو ثلاثة فى ثلاثة ، يملأ  بالماء من حين لآخر وفى العادة يملأ من بئر بجانبه، كبت عليه بكرة وعلق فيها حبل فى طرفيه دلوان ينزل أحدهما فارغا ويصعد الآخر ملآن. ومن أراد أن يتوضأ من الميضأة جمع الماء بين كفيه وغسل وجهه ويديه إلخ. ثم يعود الماء إلى الميضأة بعد الغسل كما أخذ، وكانت هذه الميضأة مصدر بلاء كبير فقد يتوضأ المريض بمرض معد كالرمد ونحوه فيتلوث الماء ويعدى الصحيح، هذا إلى قذارته ، فالمتوضىء يغسل وجهه بعد أن غسل من قبله رجليه ، ولكن الإعتقاد الدينى يغطى كل هذه العيوب والأخطار ، فلما دخل القاهرة نظام جرى الماء فى الأنابيب والحنفيات لم تعد حاجة إلى الميضأة، ولذلك كان مما أخذ على الشيخ محمد عبده وعيب عليه أن أبطل ميضأة الأزهر وأحل محلها الحنفيات ، وهكذا يألف الناس القديم الضار ويكرهون الجديد النافع ويدخلون فى الدين ماليس فى الدين"[107].

        إذا كان من أسباب ثورة الأزهريين على الشيخ محمد عبده أنه حرمهم من الميضأة التى اكتسبت بقذارتها مظهرا دينيا ويقول أحمد أمين عن النظافة عند المصريين " ومما يؤسف له أن النظافة لم تنل من المصريين العناية الكاملة.. وقد رتبت الأمم الشرقية فى النظافة فكان الأتراك أولا ثم اللبنانيون والسوريون ثم المصريون ثم الإيرانيون ثم الهنود"[108]. وهذا الترتيب يتناسب مع انتشار التصوف وتأثر تلك الدول به.

 

 

"البـــذاءة"

 

       1 ـ الإسلام دين الإحسان فى القول والعمل " وقولوا للناس حسنا.. البقرة 83" والمسلم لايكتفى بالإعراض عن البذاءة بل يعرض عن أصحابها " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.. الفرقان63" " وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لانبتغى الجاهلين .. القصص 55".

 

بين التصوف والبذاءة :

       أما التصوف فقد بدأ بالبذاءة مع الله تعالى فيما عرف بالشطح أو إعلان الصوفى عقيدته فى الله افتراء على الله وجرأة عليه ، وبغض النظر عن الشطح وهو من لوازم التصوف فإن أهون مظاهر التصوف فيها إساءة لله تعالى، من ذلك ادعاؤهم أن الله تعالى اختارهم وحدهم من دون البشر جميعا لولايته وحكَمهم فى ملكه وفضلهم على ذاته بدون أى مبرر فكأنهم وصفوا الله تعالى بالظلم والضعف والجهل، تعالى الله عما يصفون، وأى صوفى معاصر إذا دافع عن افتراءات الصوفية فقد أوقع نفسه فى اتهام الله تعالى وسبه، ولذلك أمر القرآن بعدم جدال المشركين لأنهم فى دفاعهم عن عقيدتهم الضالة يقعون فى سب الله تعالى دون أن يدروا، يقول تعالى" ولاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم..الأنعام108".

        2 ـ وبعد سب الله تعالى بالشطح أجترأ الصوفية على البذاءة فى حق الناس، بدأوا بالدين والعقيدة وانتهوا بالسلوك ، والشيخ نصر المجذوب ت922 " كان يشتم السلطان  فمن دونه ويحتمله الناس"[109]. ويشتم من كلَمه ويستر حاله"[110].

         بل كانت الجرأة على السلطان دليلا على الولاية حتى لو كان صاحبها غير مستحق  لها فى عرف الناس، والجرأة هنا مقصود بها البذاءة، أو الشطح فى حق السلطات وفى حوادث سنة 854" اشتهر عبد أسود بالولاية، وذلك لأنه عارض الإستادار وأفحش فى خطابه ، ولم يستطع الإستادار مسكه فتحاكى العوام عنه مايدل عندهم على الصلاح على أنحاء مختلفة ، وفشا أمره جدا"[111].

        3 ـ وبدأت البذاءة ببداية التصوف تحت اسم عدم الاحتشام وترك التكلف يقول الجنيد"صحبت أربع طبقات كل طبقة ثلاثون رجلا.. فما تآخى اثنان فىالله واحتشم أحدهما من صاحبه " وجعل الغزالى من حق الصحبة " التخفيف وترك التكلف والتكليف" ويقول" وتمام التخفيف طى بساط التكليف حتى لايستحى منه فيما لايستحى من نفسه ، وقال بعض الصوفية لاتعاشر من الناس إلا من لاتزيد عنه ببر ولاتنقص عنه بإثم يكون ذلك لك وعليك وأنت عنده سواء، وقال بعضهم: كن مع أبناء الدنيا بالأدب ومع أبناء الآخرة بالعلم ، ومع العارفين كيف شئت"[112].

        4 ـ والصوفية كانوا فى بداية الأمر من أصحاب الحرف وأبناء الطبقات الشعبية التى يختلط لديها مفهوم الصراحة بالبذاءة، وأغلبيتهم كانوا أميين لم يلتزموا بفلسفة الغزالى التى تخفف من مفهوم البذاءة، لذا كان لأوباش الصوفية منذ بدأ التصوف فلاسفتهم الذين توسعوا فى مفهوم البذاءة ضمن ماتوسعوا فيه فى كل ما تهواه نفوسهم.

        وكان من الطبيعى أن ينقم مثقفو الصوفية على أولئك الأوباش صراحتهم واستعمالهم مصطلحات شأن الكبار والتوسع فيها ، يقول الواسطى فيهم " نقضوا أركان التصوف وهدموا سبيلها وغيروا معانيها بأسامى أحدثوها، سموا الطمع زيادة وسوء الأدب أخلاصا " أى أصبحت البذاءة أخلاصا، يقول الواسطى " جعلوا سوء أدبهم إخلاصا وشره نفوسهم انبساطا"[113].

 

البذاءة فى رسوم التصوف ومؤسساته الدينية:

         وحين انتشر التصوف فى العصر المملوكى وتكاثرت طوائفهم كان من بينها طائفة القلندرية وكان من رسومهم مايعبر عن البذاءة وهى " طرح التقيد بآداب المجالسات والمخاطبات "[114].

        وحين أقيمت لهم فى العصر المملوكى المؤسسات الصوفية أصبح من طقوسهم الدينية استقبال الضيف ـ لا بالإكرام ـ ولكن بالشتم والسب والإهانة ، وبعد موشح الإساءة للضيف يأمرونه عند إرادة دخول الرباط ـ على حسب قول ابن الحاج ـ أن يقف على الباب ثم يخرج إليه من فى الرباط فيوذونه بالشتم، ويقلون الأدب عليه ويخرقون حرمته ويكسرون الإبريق الذى معه ويفعلون ذلك به مرة بعد أخرى حتى يأسون من غضبه، ويعللون ذلك بأن يقفوا على حسن خلقه وحمله للأذى، ثم يخرج إليه الخادم فيأخذ السجادة عن كتفه وهو ساكت لايسلم أحدهما على الآخر ويدخل الخادم والوارد يتبعه".

       وداخل المؤسسة الصوفية كانوا يتشاتمون وانتقل ذلك منهم للناس، يقول ابن الحاج " وقد جاوزوا الحد فى ذلك، يشتم بعضهم بعضا دون أجنبى بينهم يكفهم ، ولو نبههم أحد على مافيه من شدة القبح المجمع على منعه فمنهم من يسخر منه ويقول إن هذا بسط لا حقيقة ، وكل هذا سببه السريان من الخاصة إلى العامة". ويقول عن عادة شتمهم الضيف إن ذلك سرى إلى عامة المسلمين لتعلقهم بالمتصوفة واعتقاهم فيهم فاقتدوا بهم " فنجد كثيرا من الناس فى هذا الزمان يقعد الرجل والأولاد كل واحد منهم يشتم صاحبه ويشتمون الأباء والأجداد ويلعنون أنفسهم والوالدان ينظران إليهم"[115]

       ومن الطبيعى بعدها أن تكون المؤسسات الصوفية معاهد للبذاءة ونشرها بين الناس، يقول السخاوى فى ترجمة أحد صوفية الخانقاه البرسيه " كان مسرفا على نفسه مجاهرا بالمعاصى شاهدته مرة وهو غائب العقل يسىء الأدب على شيخنا بحضرته مرة بعد أخرى فما وسعه إلا أن قام من المجلس وتركه"[116].

          وبعض مؤسسى الخوانق حاول أن يسمو بمستوى خانقاته فجمال الدين الاستادار جعل من شروط السكنى فى خانقاته ألا يكون الصوفى معروفا بالسلاطة والإفتراء على الناس "[117]. ومن الصعب العثورعلى هذا الصنف من الصوفية طالما أن دينهم قائم على ارضاء هوى الأنفس فى كل ماتريد.

        5 ـ وبعض الصوفية تعرض للمساءلة بسبب بذاءته ، مثل أبى الخير  الذى استقبل أحد الأشراف بقوله: أهلا بالكلب ابن الكلب وكرر ذلك ثلاثا " وكونه شريفا حسب تقاليد العصر فقد ادعىالشريف عليه[118].  ونفى الشيخ ابن العطار أحد أعيان الصوفية فى الشيخوتية بسبب بذاءته فى حق الأشياخ[119].

          وحتى فى الوعظ كان بعض الصوفية لايستطيع التحكم فى لسانه مثل الشيخ الجعبرى الذى كان " يشتم فى الوعظ"[120].

         وفى خصومة الصوفية مع الفقهاء كان السب أهم أسلحتهم فى الجدال ، يقول ابن تيمية عنهم " انقلبوا فينا بالسب القبيح والشتم"[121]. ويقول البقاعى " فعُلم من تركهم الكتابة على شدة الخصومة والمشاورة والانتقال إلى الفحش أن المراد أن يغلبوا بالباطل"[122].

        وفى المجادلات فيما بينهم كان اللسان ينزع دائما للبذاءة حتى أن الشعرانى عد من المنن إقامته" العذر باطنا للإخوان إذا أخرجوا أخلاقهم الرديئة على بعضهم ، فكان لا يبادر  لعتاب أحد منهم " إذا خرج فى سوء  الخلق عن الحد "[123].

        ويذكر أبو المحاسن أن الولىالصوفى محمد السنارى ت 855 " أفحش فى الجواب للوالى حين أراد أخذ بعض أتباعه بسبب تهمة" [124].

 

القضاة والبذاءة :

          وامتد وباء البذاءة للقضاة وهم صوفية بالدين وأعداء الفقهاء المنكرين على الصوفية، والسخاوى يذكر فى ترجمة الشيخ عبدالباسط بن النقرى أنه كان يصرح بالإنكار على بذاءة الفقهاء ولكن يحكى عنه السخاوى حكايتين تمتلئان  بالسب القبيح ، أما القاضى عبدالبر بن الشحنة وهو شيخ الحديث والتصوف فى الشيخونية فقال عنه السخاوى" لم يضبط لسانه من الوقيعة فى الأكابر ولم يسلم من آذاه أحد"[125].

         ويقول أبوالمحاسن فىترجمة " الإمام المحقق الفقه " المحلى الشافعىت 864 وكان فى طباعه حدة مع عدم التكلف، بحيث أن كان من لايعرفه يظنه من جملة العوام[126].

       وقاضى القضاة السفطى ت 854 كان نموذجا حيا لتأثر القضاة بالتصوف يقول عنه أبوالمحاسن " كان ذا أوراد هائلة وصلاه وخشوع وصوم وعبادة مع بذاءة لسان وفحش فى لفظه" فذلك القاضى الصوفى لم ير تعارضا بين أوراده وصلاته وبين بذاءته وفحشه . وفى موضع آخر يتحدث عنه أبو المحاسن فيقول معبرا عن ذلك التناقض فى شخصيةقاضى القضاة السفطى "أظهرفى ولايته من شراسة الخلق وحدة المزاج والبطش وبذاءة اللسان أمور يستقبح ذكرها، هذا مع التعبد والاجتهاد فى العبادة ليلا ونهارا من تلاوة القرآن وقيام الليل والتعفف عن المنكرات والفروج حتى أنه كان فى شهر رمضان يختتم القرآن الكريم كل ليلة فى ركعتين، أما سجوده وتضرعه فكان إليه المنتهى، وكانت له أوراد هائلة دوما فكان بمجرد فراغه من ورده يعود إلى تسليطه على خلق الله وعباده[127]. فذلك القاضى صريع التصوف جعل من أوراده وعبادته طريقا للغلو فى الظلم والبذاءة على الخلق.

     وفي خصومات القضاة ومناقشاتهم كان الأمر يتطور سريعا إلى الفحش والسب العنيف حتى لو كان في حضرة السلطان.. ويذكر المقريزي في حوادث سنة 821 أنه حدث تنافس بين القاضيين الهروى والديري أمام السلطان" وخرجا عن الحد حتى تسابا سبابا قبيحاً بحضرة السلطان " وقد اجتمع من طوائف الناس خلق كثير يقول المقريزي " فكان هذا مما لايليق" وفي مجلس آخر بحضرة السلطان أيضا تسابا وعدد الديري مساوئ الهروى وأنه كان من أتباع تيمور لنك وحجر عليه وعلى الفتوى، ونفذ القاضيان الآخران حكمه في الهروى يقول المقريزي " فكان مجلسا غاية في القبح"[128].

     ويذكر الصيرفي في حوادث سنة 821 أيضاً ما وقع من الاستادار وناظر الخاص من كلام فاحش أمام السلطان المؤيد شيخ ، يقول الصيرفي " وانفتح القاضي – ناظر الخاص – على فخر الدين – الاستادار- ورماه بأمور عظيمة ولم يلتفت السلطان إلى ذلك وأصلح بينهما " وفي حوادث 822  تشاجر الوزير والاستادار "وافحشا الكلام وآخر ذا أخلع عليهما السلطان وألزمهما بحمل مائة ألف دينار"[129].

     ويذكر العينى في حوادث 822 ( أفحش كل من الهروى وابن المغلى في حق بعضهما" "أفحش الديري في حق الهروى "[130] . وفي قراءة سريعة لبعض صفحات من إنباء الغمر لابن حجر نرى الآتى" وفيه تشاجر الوزير والاستادار وتفاحشا" " وتقاول القاضيان الشافعى والحنفى حتى تسابا وأفحش الديري في أمر الهروى" "وتحامى كثير من النواب الركوب مع الهروى خوفا من البلقينى ومما يقاسونه من السب الصريح من أتباعه" " وحضر السلطان في خاصته في الجامع بباب زويلة واجتمع عنده القضاة فتنافس كل من القاضيين الهروى والديري وخرج عن الحد في السباب والفحش في القول ثم سكن السلطان ما بينهما فسكنا " " وعظم الشر بين فخر الدين الاستادار وبدر الدين بن نصر الله وتفاحشا بحضرة السلطان" "وفي مجلس السلطان واجه الشيخ ابن المغربي صدر الدين العجمى بأنه يتمنى ورث السلطان ويدعو عليه ، وتفاحشا في القول " " وعقد مجلس بسبب زيادة الجوامك لمدرسي المنصورية وقام في ذلك القمنى وحصل بينه وبين المحتسب كلام سيئ وتساقطا ً فقام السلطان [131]وتركهم ".

     وفي تاريخ ابن إياس يكثر قوله " أفحش فلان " كما لو كان الكلام المتداول بين خواص الناس كله فحشاً، ويقول في حوادث سنة 912 أنه وقع تشاجر بين قاضى القضاة الشافعى ابن النقيب والحنفى عبد البر بن أبى الشحنة " حتى خرجوا في ذلك عن الحد" وأمر هذه الواقعة اشتهر بين الناس" وعندما ذهب لتهنئة السلطان بالشهر "ربيع أول" أصلح بينهما [132].

     وفي حوادث 922 "وقع بين القاضيين الشهاب الرملى والقارئ بسبب إمامة الجامع الأموى كلمات قبيحة لاتصدر من مثلهما ولا من أقل منهما يؤدى أمرها إلى شئ عظيم حتى بقى جماعات من الترك وغيرهم يستهزئون بأهل الشرع فلما كثر ذلك عزلهما موليهما"[133]. هذا ما يذكره ابن طولون عن قضاة دمشق.

 

المماليك :

     ومن الطبيعي أن يمتد الأمر للمماليك وقد امتاز برسباى عن غيره من السلاطين بعفة لسانه، يقول فيه أبو المحاسن"كان برسباى يعيب على المؤيد – شيخ – سفه لسانه أما الأشرف – برسباى – فإنه كان لايسفه على أحد من مماليك ولاخدمه..فكان أعظم ما شتم به أحداً أن يقول له حمار،وكان ذلك في الغالب مزحاً ولقد داومت خدمته من أوائل سلطنته إلى أن مات فما سمعته أفحش في سب واحد بعينه كائن من كان". وفي نفس الوقت يصف أبو المحاسن الكثيرين من الأمراء المماليك بالفحش والبذاءة ومنهم الأمير تمر باى ت 853 الذى وصفه بحدة الخلق وبذاءة اللسان، وذكر أن ابن العطار ت853 خدم عند الزيني عبد الباسط ناظر الجيش "فملأه سباً وتوبيخاً عند مباشرته إلى أن ملَ ذلك وترك التوقيع" أما الأمير سيف الدين ايتمش فقد وصفه أبو المحاسن بكثرة الكلام فيما لا يعنيه ومخاطبة الرجل بما يكره وتوبيخ الشخص بما فيه من المعايب بلا عداوة بينمها مع البادرة والجرأة والإفحاش في اللفظ"[134] .

     وامتدت البذاءة إلى نساء المماليك ويذكر المقديسي أنه لما مات السعيد ناصر الدين بركة ت678 "خرجت الخواندات حاسرات واسمعن المنصور قلاوون الكلام القبيح من سب وغيره وهو لا يتكلم"[135].

 

العوام :

     وتوارث المصريون حتى الآن من التصوف بذاءته ، فالعوام يحتفظون بالآثار السيئة ويحافظون عليها، وفي إحدى موجات الغلاء في القرن التاسع اجتمع جمهور من العامة"من داخل باب زويلة إلى تحت القلعة وأكثروا من الاستغاثة والصياح والشنعة مع السب واللعن والتهديد والتصريح بالعيب الذي له من مزيد من غير إفصاح بمراد ولا إيضاح شيئ مستقر في الفؤاد،لكثرة غوغائهم ولغطهم ودعائهم إلى أن اجتاز بهم المحتسب .. فأخذوه بتلك الألسنة وأوسعوه من الإساءة المعلنة ولم يتحاشوا عن القذف بالتصريح والإيماء..إلى أن طلع القلعة بعد أن ملأ من السوء سمعه"[136].

     والمثل الشعبي يشير إلى الأصل الصوفي الذي تعتمد عليه البذاءة عند المصريين وهو "البساط أحمدى" يضرب في طرح التكليف والإحتشام بين الحاضرين"[137].

     وفي العصر العثمانى يصور كلوت بك ذلك الملمح  في الحياة الإجتماعية المصرية يقول" تثور المنازعات بأسباب تافهة ، وتتبادل فيها ألفاظ السب والشتم واللعنات ويتراشق الفريقان بالمخازى والمعاير فيتبادر للذهن أن الشجار لسوف يفضي إلى أوخم العواقب ، إلا أنه قلما ينقلب الشجار بين المصريين من التنابذ بالقول إلى التضارب بالأيدي، بل أنه سرعان ما تهدأ النفوس وتسكن ثورة الغضب فيها بعد تنازل أحد الخصمين عن حقه بقوله للآخر: الحق علىّ .. وقد يتعانقان  تعانق الوئام والوداد" أى أن الشجار في معظمه سباب وبذاءة لا حد لها دون تضارب.

     ويقول كلوت بك عن معجم السباب عند المصريين "ومعجم الشتائم عندهم غني بكثرة الألفاظ ومنها ما يندى الجبين خجلاً.. وهم يتظاهرون أحيانا بالبصق على الذين يشتمونهم لأن البصق في نظرهم أبلغ فى الإهانة والتحقير"[138]. وفي العصر الحديث يقول أحمد أمين " معجم المصريين في السباب معجم وافٍ ذو ألفاظ متعددة وكلما مضى زمن زيدت هذه الألفاظ ، وكثيراً ما يستعملون في السباب أسماء  بعض الحيوانات كالخنزير والكلب والحمار،وربما كان أشنع السباب عندهم السباب بالدين كابن النصرانى وابن اليهودى ويا كافر"[139].

     وأقول أن "سب الدين" انتشر حتى لم يعد عيباً ،ومع سب الدين انتشر سب الأم في كرامتها وشرفها بألفاظ واضحة مكشوفة والمفجع في الأمر أن سب الدين أو سب الأم لا يستعمل دائماً عند الغضب بل تعدى إلى مناسبات الفرح والمداعبة بل والإعجاب ..وهذا يذكرنا بمدح الشعرانى لأشياخه بأنهم أصحاب شطح عظيم.. وهكذا عندما يسود الفساد لا يصبح عيباً..بل قد يكون مسوغاً للمدح والإعجاب ..

 

" الغيبة والنميمة"

        1ـ حدد القرآن الكريم أسلوب التعامل بين المسلمين في القول " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنَ خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تنابزوا بالألقاب ، بئس الإسم الفسوقُ بعد الإيمان، ومن لم يتُبْ فأولئك هم الظالمون، يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنِ ، إن بعضَ الظن إثم ، ولا تجسسوا ، ولايغْتب بعضكم بعضاً ، أيحب أحدكم أنْ يأكل لحم أخيه ميْتاً؟ فكرهْتموهْ .واتقوا الله ، إن الله توَابٌ رحيمٌ .. الحجرات 11، 12".

 

بين التصوف والغيبة والنميمة:

      2 ـ  والصوفية لم يكن في حياتهم ما يشغلها بخطير الأمور وإنما عاشوا في فراغ عالة على الناس وفي تنافس مستمر فيما بينهم على المريدين والنذور مما جعل عملهم وتسليتهم الأساسية في الغيبة والنميمة.

    منذ بدأ التصوف بدأت معه دولة الغيبة والنميمة حتى نصح بعض الأشياخ بشغل الصوفية عن الغيبة بمغنى يقول أبوالقاسم النصراباذى" أنا أقول إذا اجتمع القوم فيكون معهم قوَال يقول، خيرا لهم من أن

 يغتابوا "[140]. وانتشر التصوف فتعاظمت دولة الغيبة والنميمة حتى يقول الدلجى إن من آفات الفلاكة ـ أى الفقر والتصوف ـ " الغيبة والطعن فى أعراض الناس والغض منهم"[141]. ويقول السيوطى عنهم " ومنهم من تراه يتتبع عيوب الخلق فيذكرها"[142].

المؤسسات الصوفية :

        وكانت مؤسساتهم مراكز أساسية لهذا النشاط حتى يقول الشعرانى " وقبيح على شيخ الزاوية مثلا أن يجلس فى مجالس الغيبة والنميمة أو يقر أحدا على ذلك ، فإنه يصير فاسقا، وهذا أمر قد استهان به الناس ، مع أنه أقبح من بيع الحشيش، ومع ذلك فلا يكاد أحد أن يستقبحه كل القبح"[143]. أى صار عادة شائعة لاتستوجب إنكارا. بل كانوا يمارسون الغيبة والنميمة أثناء قراءة القرآن، يقول السبكى" القراء قد يتحدثون مع بعضهم البعض أثناء قراءة الجزء من الربعة، فلا هم يقرأون القرآن ولاهم يسكتون من اللغو فى الكلام، فإن انضم إلى ذلك أن قراءة الجزء شرط الواقف وأن حديثهم فى النميمة فقد جمعوا حراما"[144]. ذلك أن من أقام للصوفية الخوانق والربط والزاوية كان يشترط فى حجج الوقف أن يقرأوا القرآن ، وماكان يدرى أنها ستتحول إلى دروس للغيبة والنميمة.

      واشتهر كثيرون من الأشياخ الصوفية فى مجال الغيبة والنميمة، مثل الفخر الصوفى ت622" كان بذىء اللسان كثير الوقيعة فى الناس"[145]. على حد قول الصفدى الذى يمدح صوفيا آخر هو ابن الفخر ت731 بأنه " كان متعبدا ممتنعا من الغيبة وسماعها"[146]. أى أن الغيبة والنميمة من عادات الصوفية ، ومن نجا منهما مدحوه بذلك والقضاة شاركوا فى الميدان فقاضى قضاة حلب " شهاب الدين بن أبى الرضات791 كان مولعا بسلب أعراض الناس مستهزئا بأقوال الأكابر من العلماء والصالحين مواظبا على النفاق وإساءة الأدب والإساءة لمن أحسن إليه[147]. والشيخ تقى الدين المصرى ت834 تفقه وتكسب بالشهادة واشتهر بمعرفة الملح" وسلب أعراض الناس خصوصا الأكابر فكان بعض الأكابر يقربه لذلك"[148].

         وفى القرن العاشر سادت دولة الغيبة والنميمة إلى حد أكلت أعراض الأشياخ الصوفية أنفسهم، وإلى حد شارك فيها المريدون فى الوقيعة بين الأشياخ الذين تكاثروا عددا، وتعاظم التنافس والحقد بينهم ولم يعد لهم من عمل إلا أكل لحوم بعضهم البعض.

       والشعرانى أبرز الأشياخ فى عصره افتخر بحفظه لمقام أصحابه ومن أكل معه عيشا وملحا مع أن هذا خلق غريب فى أيامه ، يقول" ومما أنعم الله تبارك وتعالى به على حفظى لمقام صاحبى ومن أكلت معه لقمة ملح فى ووقت من الأوقات ولا أخونه بالغيب لأجل تلك اللقمة"، أى تهاوت كل الروابط ماعدا رباط اللقمة والعيش والملح،ثم يقول"وهذا  الخلق قد صار فى هذا الزمان أعز من الكبريت الأحمر ، فربما أكل الشخص مع صاحبه نحو عشرة أرادب من الخبز فلا يحفظ له مقاما، بل يجعل فيه العجر والبجر إذا وقع بينه وبينه نفس"[149].

 

والأشياخ الصوفية كانوا أشياخ الغيبة والنميمة :

        وقد سأل الشعرانى فقيرا يوما " لم لم تأخذ عن فلان " وذكر له واحدا من الأشياخ فأبى وقال: لأن شرط المسلم أن يسلم المسلمون من لسانه ويده وهذا لم يسلم أولاد شيخه من لسانه ويده فكيف بغيرهم"[150]. ويقول الشعرانى " وقد رأيت شخصا عاد مريضا فلما مرض هو لم يأت إليه فمزق عرضه فى الآفاق، وقد مرض شخص من مشايخ العصر فطلب من سيدى على المرصفى أن يعوده فلم يجبه إلى ذلك وقال إنما يطلب عيادتى طلبا للشهرة عند الأمراء الذين يعتقدونه ويقول الناس أن المرصفى زار سيدى الشيخ اليوم، ثم أن ذلك الشيخ صار ينقض عرض الشيخ المرصفى".

       ويحكى الشعرانى عن مجالس الغيبة والنميمة فيقول عن الأشياخ" بل رأيت بعض المشايخ يستجلب كلام اللغو من الداخلين عليه، يقول لهم إيش أخبار الناس اليوم ؟ فينفتح الزائر كأنه جسر وانقطع ، ويحكى له ماجمعه فى تلك الغيبة كلها من غيبة ونميمة وقذف عرض وذكر نقائص الناس من سائر أصناف الخلائق ثم يقول للزائر: والله ماأنت إلا حكيت لى، إيش بقى معك أيضا؟ كأنه ماكفاه ماوقع فيه من الإثم حيث لم ينكر عليه شيئا مما قاله فى الناس من الغيبة لاسيما غيبة العلماء والمشايخ، وكيف ينكر عليه وهو الذى استجلب منه ذلك".

         وأولئك الأشياخ تربى عليهم جيل من المريدين يرتزق بالوقيعة بين الأشياخ بنقل الأخبار أو يصنعها، والشعرانى كان يتخوف من هذا الصنف من المريدين ولايثق فيهم لأنهم عرفوا طبيعة الأشياخ فىالأمُارة بالسوء والباحثة عن مطاعن الناس، وإذا تلاعبوا بالأشياخ فمن الطبيعى ألا يعتقدوا فيهم الصلاح، والشعرانى فهم فيهم ذلك لذا كان يحذرهم وينافقهم يقول أن من المنن " حسن سياستى للمقاريض الذين يقرضون فى أعراض الناس بغير حق، فأقدم لأحدهم الطعام إذا ورد على وأبش له فى وجهه وأباسطه وكثيرا ماأعطيه ردائىوقميص أو شيئا من الدنيا ونحو ذلك مما يحببه فىَ" ولاريب أن براعة الشعرانى فى اكتشاف طبيعة هذا الصنف كانت تجعله أثناء مباسطته معه يأخذ منه الأخبار دون أن يعطيه من أخباره شيئا، ثم يقول الشعرانى عن سياسته تلك مع المقاريض " وهذا الخلق قل من يفعله من الناس فإنهم إماينكروا على ذلك المقراض ويعبسوا فى وجهه فيخرج مقراضا فيهم كذلك وإما أنهم يشاركونه فى الغيبة فى الناس وإما أن يسكتوا على تلك الغيبة".

          ويحذر الشعرانى الأشياخ من هذا الصنف من المريدين " فإياك ياأخى أن تذكر أحدا ممن يبايعك على النصح بسوء تنقصه به فى المجالس فإنه ربما عاملك بنظير ذلك وصار يقطع فى عرضك وينقصك فى أعين الناس كما نقصته، وكثيرا مايبلغ الشيخ الكبير القدر أن فلانا يقطع  فى عرضك فيتكدر لذلك" وغالب مريدى هذا الزمان غير صادقين مع أشياخهم " ومعناه أن أغلبية المريدين تحولوا فى عصر الشعرانى إلى مقاريض فى  أعراض الأشياخ باعتراف الشعرانى." فربما عاهد أحدهم شيخه على أنه ينصحه سرا وجهرا أى من ورائه لمن يبلغه ومواجهته وهو كاذب، فليحذر الشيخ من التهور فى ذلك وعدم التفتيش ، فربما ظن أن مريده مقيم على العهد ولا غير ولا بدل والحال أنه غير وبدل فيفجر على الشيخ، كما وقع لى ذلك كثيرا مع أصحابى وصار بعضهم يمزق فى عرضى فى أى مكان حل فيه، وبعضهم يصرخ فى وجهى أنه ليس من جماعتى ثم أنه إذا احتاج إلى حاجة عند الولاة يكبر فى غاية التكبر ويجعل نفسه من جملة المريدين حتى تقضى حاجته، ويبلغنى عنه ذلك وأقره عليه غصبا على،فتارة يجعلنى متفعلا ـ أى منتحلا مدعيا ـ وتارة يجعلنى قطبا"[151].

         وتجربة الشعرانى فى التعامل مع أساطين الغيبة والنميمة يمكن أن تكون درسا لمصلحى الصوفية فى عصرنا إذ لاتزال رحى الغيبة والنميمة فى مجالس التصوف .. فالصوفية أداروا رحاها فما لبث أن طحنت أعراضهم.

 

 


[1] ـ الرسالة القشيرية 49،54.

[2] ـ الرسالة القشيرية 54، 49

[3] ـ. ـالاحياء جـ4/347، 350.

[4] ـ المدخل جـ2/201: 202

[5] ـ المدخل ج2/201: 202.

[6] ـالطبقات الكبرى للشعرانى ج1/138، 177.

[7] ـ لطائف المنن 173، 351 ط عالم الفكر.

[8]- لطائف المنن 173 ، 351 ط عالم الفكر .  

[9] - أبو المحاسن : حوادث الدهور ج3 / 591 .

[10] - التبر المسبوك 203 ، 204 .

[11] - حوادث الدهور ج3 / 594 .

[12] - إنباء الغمر ج3 / 21 .

[13] - الضوء اللامع ج4 / 19 .

[14] - العيدروس : أخبار القرن العاشر 74 .

[15] - الضوء اللامع ج3 / 135 .

[16] - المناوى . الطيقات الكبرى 255 ، مخطوط .

[17] - الشعرانى . تنبيه المغترين 108 .

[18] - الطالع السعيد 428 .

[19] - الوافي يالوفيات جـ1 / 164 .

[20] - إنباء الغمر جـ2 / 285 .

[21] - إنباء الهصر 82 .

[22] - أخبار القرن العاشر 29 .

[23] - عقد الجمان 387 .

[24] - إنباء الهصر 248 .

[25] - ذيل ابن العراقى 158 .

[26] - النجوم الزاهرة جـ 16 / 207 .

[27] -  التبر المسبوك 287 .

[28] - إنباء الغمر ج2 / 368 .

[29] - تاريخ الخلفاء 135 .

[30] - تأييد الحقيقة العلية47 .

[31] - وثيقة وقف جمال الدين الاستادار .

[32] - التبر المسبوك 48 .

[33] - حوادث الدهور جـ 3 / 519

[34] تاريخ البقاعى 53 ، 59 .

[35] ـ تاريخ البقاعى 53 ، 59

[36] - الرسالة 297 .

[37] - الاحياء جـ3 / 257 ، 344 .

[38] - الاحياء ج4 / 194 ، 350 .

[39] - الرسالة القشيرية 189 .

[40] - إحياء ج4 / 200 ،292 .

[41] - الجواهر السنية ، 32 ، 33 ، 34 .

[42] - المناوى . الطبقات الصغرى 89 .

[43] - الكوهن . طبقات الشاذلية 115 : 116 .

[44] - الرسالة القشيرية 237 : 238 .

[45] - الجواهر والدرر 112 .

[46] - الطبقات الكبرى للشعراني ج2 / 115 .

[47] - الرسالة القشيرية 119 .

[48] - العبر فى خبر من غبر ج5/ 240 .عقد الجمان للعين 54 /422.

[49] - عبد الصمد الأحمدى 38 الجواهر السنية .العلوى النصيحة العلوية 300 .

[50] ـ المنهل الصافى. مخطوط جـ15/191.

[51] ـ عقد الجمان وفيات 797.

[52] ـالطبقات الكبرى جـ2/129 ،130 ،93 .

[53] ـ الطبقات الكبرى جـ2/129 ،130 ،93.

[54] ـ الطبقات الكبرى جـ2/   129 ، 130 ،93 .

[55] ـ الشعرانى. آداب العبودية 31.

[56] ـ النجوم الزاهرة جـ15/328: 329.

[57] ـ طيف الخيال161. تحقيق ابراهيم حمادة.

[58] ـالطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/168،167.

[59] ـ الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/167، 168.

[60] ـ الغزى. الكوكب السائرة جـ1/311.

[61] ـ تاريخ ابن الوردى جـ2/291.

[62] ـ المدخل جـ2/202.

[63] ـ الكواكب السائرة جـ1/213.

[64] ـ الشعرانى. الطبقات الكبرى ج2ـ/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[65] ـ الشعرانى  الطبقات الكبرى جـ2/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[66] ـ الشعرانى . الطبقات الكبرىجـ2/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[67] ـ الشعرانى. الطبقات الكبرىجـ2/ 157 ، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[68] ـ الشعرانى . الطبقات الكبرىجـ2/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[69] ـ الشعرانى. الطبقات الكبرى جـ2/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[70] ـ الشعرانى. الطبقات الكبرى جـ2/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[71] ـ الشعرانى. الطبقات الكبرىجـ2/157، 132، 130، 134، 169، 157، 167.

[72] - الكواكب السائرة جـ1 / 283 .

[73] - البدر الطالع جـ2 /149 .

[74] - النجوم الزاهرة جـ15 / 525 .

[75] - الطبقات الكبرى جـ2/ 130 ، 129 .

[76] - لمحة عامة إلى مصر جـ2 / 82 .

[77] - عبدالصمد. الجواهر 12 .

[78] - مناقب المنوفى 16 .

[79] - الطيقات الكبرى للشعرانى جـ2 / 135 . ، 169 ،168 .

[80] - الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2 / 135 ، 169، 168 .

[81] - الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2 / 135 ، 169 ، 168 .

[82] - الرسالة القشيرية 119.

[83] - الإحياء جـ4 / 296 .

[84] - الإحياء جـ4 / 192.

[85] - الرسالة القشيرية 211 ، 212 .

[86] - آداب العبودية 34.

[87] - الوافي بالوفيات .جـ2 / 320 ، 321 .

[88] - عقد الجمان حوادث سنة 792 .لوحة 410 .

[89] - الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2 / 92 .

[90] - العيدروس : أخبار القرن العاشر 177 .

[91] - كلوت بك . لمحة عامة إلى مصر جـ1 / 581 .

[92] - أبو المحاسن: المنهل الصافي ج3ـ / 249 .

[93] - تاريخ ابن كثير جـ14 / 119 .

[94] - تاريخ الجذرى. مخطوط 369 .

[95] - النجوم الزاهرة جـ16 / 178 .

[96] - العيدروس. أخبار القرن العاشر 101 .

[97] - الغزى . الكواكب السائرة جـ1 / 167 .

[98] - المناوى . الطبقات الكبرى 384 أ ، 386 ب .

[99] - المناوى . الطبقات الكبرى 384 أ، 386 ب .

[100] - الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2 / 130.

[101] - تاريخ الذهبى 31. ،47 .

[102] - مناقب المنوفى 16، 17 .

[103] - التبر المسبوك 36 .

[104] - نزهة النفوس . مخطوط 835 .

[105] - تاريخ البقاعى : 7 .

[106] - أحمد أمين. قاموس العادات والتقاليد 32، 135 .

[107] ـ أحمد أمين . حياتى : 31، 32، مكتبة النهضة المصرية .

[108] ـ قاموس العادات 397: 398.

[109] ـ الغزى . الكواكب ج1/311.

[110] ـ أخبار القرن العاشر 185.

[111] ـالتبر المسبوك،30.

[112] ـاحياء ج2/166.

[113] ـ الرسالة القشيرية 50، 41.

[114] ـ خطط المقريزى 3، 430، 431.

[115] ـ المدخل ج2/198.

[116] ـ التبر المسبوك 227.

[117] ـ وثيقة وقف خانقاه ، جمال الاستادار.

[118] ـ التبر المسبوك 315، 316، 90.

[119] ـ الطبقات الكبرى للمناوى 258، 259.

[120] ـالطبقات الكبرى للمناوى 258، 259.

[121] ـ تكسير الأحجار : 155.

[122] ـ تاريخ البقاعى 9ب .

[123] ـ لطائف المنن 348.

[124] ـ النجوم الزاهرة جـ16/5.

[125] ـ الضوء اللامع جـ14/31: 32، 34.

[126] ـ النجوم الزاهرة جـ16/5،209

[127] ـ حوادث الدهور جـ1/ 157، النجوم الزاهرة ج15/557.

[128] - السوك جـ4 / 1 / 471 ، 479 : 480 .

[129] - نزهة النفوس جـ2/ 428 : 429 ، 446 .

[130] -  عقد الجمان حوادث 821 ، 822 لوحة 469 ، 480 .

[131] - إنباء الغمر جـ3 / 165 ، 190 ، 192 ، 174 ، 214 ، 217 .

[132] - تاريخ ابن اياس ج4 / 95 ، 96 .

[133] - تاريخ ابن طولون ج2/ 10: 11 .

[134] - النجوم الزاهرة ج15/ 109 ،543 ،545 ، 499 .

[135] - تاريخ المقدسي 40 .

[136] - السخاوى. التبر المسبوك 260 .

[137] -  تيمور .الأمثال الشعبية 140 ،141 .

[138] - لمحة عامة إلى مصر : ج1 /556 ،597 : 598 .

[139] - قاموس العادات والتقاليد 227 .

[140] ـ احياء ج2/266.

[141] ـ الدلجى. الفلاكة والمفلوكون16

[142] ـ تأييد الحققةالعلية 47.

[143] ـ تنبيه المغتربين 215.

[144] ـ السبكى . معيد النعم 144: 145.

[145] ـ الوافى بالوفيات ج2/9، ج3/139.

[146] ـ الوافى بالوفيات ج2/9، ج3/139.

[147] ـ العينى . عقد الجمان لوحة 378.وفيات 791.

[148] ـ إنباء الغمر ج3/465: 466.

[149] ـ لطائف المنن ط. دار الفكر: 378، 407: 408، 313، 361، 256، 310.

[150] ـ لطائف المنن ط. دار الفكر : 378، 407: 408، 313، 361، 256، 310.

[151] ـ لطائف المننط. دار الفكر: 378، 407: 408، 313، 361، 256، 310.

أثر التصوف فى الانحلال الخلقى فى المجتمع المصرى المملوكى

أثر التصوف فى الانحلال الخلقى فى المجتمع المصرى المملوكى

648 ــ 921 هجرية
1250 ــ 1517 م


المؤلف /
د./ أحمد صبحى منصور
الفصل الأول : جذور الإنحلال الخلقى الجسدى وتشريعه فى عقيدة
التصوف وتاريخ الصوفية
• الفصل الثانى : مفردات الانحلال الخلقى الجسدى عند الصوفية
• الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف
• الفصل الرابع : انعكاسات الانحلال الخلقى الجسدى فى المجتمع المملوكى
• الفصل الخامس: أكل أموال الناس بالباطل
• الفصل السادس: فى المساوىء الاجتماعية
• الخاتمة
• المصادر والمراجع
more




مقالات من الارشيف
more