رقم ( 3 )
الباب الثانى : القضاء فى تاريخ المسلمين

الباب الثانى : القضاء فى تاريخ المسلمين

 

الفصل الأول : القضاء السياسى فى ‏عهد‏ ‏الخلفاء يفسد العدل

 

 1 ـ المقصود بالقضاء السياسى أن يكون الحاكم (المستبد) خصما للمعارضة الواقعة تحت سلطانه، فيستخدم ضدهم سلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويكون هو الخصم والحكم بينما يكون الخصم مستضعفا مهضوم الحق.

مقالات متعلقة :

هذا القضاء السياسى فى دولة المستبد يبدو ـ ظاهريا ـ منقطع الصلة بالقضاء العادى بين الأفراد فى المشاحنات العادية البعيدة عن السياسة، ولكن الواقع أن الاستبداد الذى يصادر حقوق الناس السياسية هو الظلم الأكبر الذى لا بد أن يمتد ليصادر حقوق الناس الاقتصادية والمعيشية، ولا بد أن يخلق فسادا وأطماعا فى أموال وممتلكات وحقوق الناس العاديين، ويكون المستبد وأعوانه هم أبطال هذا الفساد، وبالتالى يكون المستبد هنا أيضا هو الخصم والحكم لأفراد الشعب العاديين خارج السياسة والمعارضة السياسية.

وفى موضوعنا عن القضاء فالمستبد هو المتحكم فى السلطة القضائية، وهو يسخرها لخدمته، ولا يستخدم  فيها إلا من يدين له بالولاء من أصحاب الثقة الذين هم على شاكلته من الاستبداد والجور. القضاة من هذا الصنف يمارسون الاستعلاء على الناس خارج المحكمة، والحكم ظلما  داخلها، لا يهمهم رضا الناس المقهورة المتطلعة للعدل ولكن رضا ولى النعم الحاكم المستبد. ومن الوارد وجود قضاة عدول فى هذا الجو الخانق، ولكنهم مجرد إستثناء فى دولة الاستبداد.

ونتتبع فى هذا المقال البدايات الأولى لنشأة هذا القضاء السياسى الظالم فى عصر الخلفاء (الراشدين) وننتهي الى تأثير هذا القضاء السياسى سلبيا على القضاء العادى فى نموذج تاريخى عن عصر المأمون العباسى المشهور بعقليته المتفتحة وحبه للعدل وشهرته بالحلم والصفح.

أولا: هذا التحول للاستبداد هل يعد فشلا للاسلام ودولته الاسلامية؟

1 ـ بداية التحول والخروج عن منهج الاسلام ودولته الديمقراطية المباشرة قد بدأ مباشرة بعد وفاة النبى محمد عليه السلام، بل قبيل دفنه، وقد يتساءل بعضهم عن مدى صلاحية الاسلام طالما قام على أكتاف الصحابة ثم بدأ أفوله على يد نفس الصحابة.

الواقع إنه إنتصار أكبر للاسلام أن خلق المستحيل فى الزمان والمكان، وهو إقامة دولة ديمقراطية يحكمها الناس فى عصر تتسيده ثقافة الاستبداد والاستعباد قبل وبعد وفاة خاتم المرسلين عليهم جميعا السلام. هذا هو المستحيل من حيث الزمن. ثم أن ينجح الاسلام فى إقامة دولة ديمقراطية فى بيئة صحراوية قبلية (نسبة للقبيلة) حيث يسود الولاء للقبيلة والنسب وليس للدين أو للدولة. أى أن إقامة دولة اسلامية ديمقراطية كان مستحيلا بحكم الزمان (العصور الوسطى) وحكم المكان (صحراء الجزيرة العربية).

ولم يكن هذا سهلا، فثقافة الاستبداد والجور كان لها أنصار كانوا يحاربون الاسلام ودولته من الداخل بالمكائد (المنافقون) ومن الخارج بالحرب المسلحة والسرية (الأمويون والأعراب).

وبعد موت مؤسس هذه الدولة ـ عليه السلام ـ  فالمنتظر أن يبدأ العد التنازلى فى انهيارهذه الدولة التى كانت تمثل جزيرة ديمقراطية وسط محيط هائج من الاستبداد يحاصرها يريد إغراقها.  

على أن هذا الانهيار لم يتم بسهولة بسبب التاثير الهائل الذى أحدثه القرآن الكريم مع قلة سنواته منذ بدء الوحى على خاتم المرسلين الى موته، (23) عاما فقط، مع قصر عمر الدولة الاسلامية الديمقراطية المدنية الحقوقية ذات السنوات العشر (1 : 10 هجرية) ـ (622 ـ 632 ميلادية).

لم يتمكن أنصار الاستباد و الفساد من القضاء علي دولة الاسلام إلا بالتدريج وبصعوبة، وعبر سنوات من النزاع و الحروب خلال دولة الخلفاء الراشدين (11-40هـ) (632-661م) أسفرت فى النهاية عن عودة القاعدة العامة وهى الاستبداد والاستعباد ممثلا فى الدولة الأموية: (41-132هـ) (661 -750م) حيث أقام الأمويون استبدادا عربيا قائما على التعصب القبلى (بين العرب) والتعصب العرقى ضد أصحاب البلاد الأصليين، مع محاولات ساذجة و بدائية فى تسويغه بمبررات دينية تقوم على مبدأ (الجبرية).

جاءت الدولة العباسية (132 ـ 658 هجرية) (750-1258م) بترسيخ وتأطير كل ملامح الدولة الدينية وكهنوتها السياسى، وعلى سنتها سارت الدولة المملوكية العسكرية (648 ـ 921) (1250 ـ 1517) حتى لقد انتقلت الخلافة العباسية للقاهرة حفاظا على هذا الكهنوت السياسى ولاعطاء الشرعية الدينية لدولة العسكر المملوكية. وبسقوط الدولة المملوكية حرص السلطان العثمانى سليم الأول على العودة الى عاصمته بآخر خليفة عباسى، وبعدها أصبح سليم العثمانى هو الخليفة، وانتقلت الخلافة الى العثمانيين لتسويغ دولتهم الدينية. وسقطت الخلافة العثمانية عام 1924 ويريد الوهابيون إحياء الخلافة السنية للسيطرة بها على العالم (المسلم) فى مواجهة العالم الغربى بمثل ما كان فى العصور الوسطى.

تلك هى الأرضية التاريخية التى ظهر وترسخ فيها القضاء السياسى فى تاريخ المسلمين وحاضرهم الراهن.

2 ـ فى كل هذا التاريخ المخزى للمسلمين فى استغلال إسم الاسلام فى تحقيق أطماعهم السياسية ضاعت الملامح الحقيقية للاسلام ودولته الديمقراطية، بينما إكتشفها الغرب وطبقها جزئيا فى الأغلب وطبقها كاملا فى بعض المناطق. هذا بينما يسعد المسلمون بالاستبداد والفساد تحت سيطرة دول عسكرية أو دينية، وكلهم يستغل اسم الاسلام العظيم بلا خجل.

الحضيض الذى يحياه المسلمون الان يتمثل فى التناقض بين الاسلام والمسلمين فى موضوع الدولة الديمقراطية، ففى أثناء تسيد الاستبداد العالم نجح الاسلام فى إقامة نموذج للديمقراطية المباشرة وليس فقط الديمقراطية التمثيلية النيابية، ونجح فى إقامتها فى صحراء لم تعرف من قبل بناء دولة اصلا. ونحن الآن نعيش عصر سيادة ثقافة الديمقراطية وعصر التقدم الهائل فى وسائل الاتصال والمواصلات وانعدام المسافات بما يجعل من تحقيق الديمقراطية المباشرة أكثر يسرا، ولهذا يحدث التحول الديمقراطى وتداول السلطة بالانتخابات فى العالم الثالث كله فى دول لم تكن موجودة من نصف قرن بينما تعود الوهابية بالمسلمين ـ أقدم شعوب العالم ـ الى الوراء، ويعتبر أئمة المسلمين السنيين الديمقراطية رجسا من عمل الشيطان.!

3 ـ ونعود الى القضية الأولى. فهذا التحول والفسوق والخروج على جوهر الرسالات السماوية هو الظاهرة المتواترة فى تاريخ البشر، قبل وبعد نزول القرآن الكريم، ولذلك تكررت الرسالات السماوية تقول نفس الشىء لأن العصيان لا يلبث أن يعود بعد وفاة كل رسول وكل نبي.

ولا بد لهذا العصيان أن يتكرر بعد وفاة خاتم الأنبياء والمرسلين، فالشيطان لم يقدّم استقالته، وسيظل  يمارس غوايته للبشر الى قيام الساعة (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف 14 : 17 ) .

4 ـ وقد تختلف ظروف وبواعث ذلك التحول والفسوق طبقا للظروف، ولكن تنتهى الى إقامة أديان أرضية على أشلاء الدين السماوى.

مثلا: جاء المسيح عليه السلام لبنى اسرائيل بنفس رسالة (لا اله إلا الله) التى قالها من قبله كل أنبياء بنى اسرائيل، وسرعان ما بدأ الانحراف العقيدى مباشرا على يد بولس الذى جعل المسيح إبنا لله جل وعلا.

وجاء محمد عليه السلام بنفس رسالة (لا إله إلا الله) التى أكّدتها ملة ابراهيم الحنيفية من قبل، ولكن الانحراف العقيدى بتأليه محمد (كما حدث مع المسيح) جاء تاليا لانحراف سياسى أو نزاع سياسى استعمل الكذب على النبى محمد عليه السلام بعد وفاته، وقام بذلك بعض الصحابة أشهرهم أبو هريرة خادم الأمويين. وبفتح باب الكذب على الرسول تأسست لدى المسلمين أديان أرضية، تشترك كلها فى تأليه النبى محمد وآخرين معه، وعلى أساسها قامت للمسلمين دول مستبدة، كان ـ ولا يزال ـ القضاء السياسى ملمحا أساسا فى تعامل المستبد مع خصومه.

المقصود أن الانحراف عن الدين الحق يأتى سريعا بعد موت الرسول المبعوث بالحق، ولكن تختلف ظروف الانحراف، فمثلا بدأ مبكرا فى البيئة الاسرائيلية بمحاولة قتل وصلب المسيح فلما رفعه الله جل وعلا اليه حدث تحول آخر يزعم أنه إبن الله، أوأنه الله ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وهذا التحول يتفق مع البيئة الثقافية لبنى اسرائيل ومن حولهم.

والانحراف السياسى العسكرى للعرب المسلمين جاء متفقا مع طبيعة الحربية للقبائل العربية الصحراوية التى تحترف الغارات والسلب والنهب طريقا للحياة.

5 ـ بدأ هذا التحول مبكرا جدا بمجرد وفاة خاتم المرسلين فى بيعة السقيفة، وتوزعت البطولة فى هذا الانحراف بين الأمويين من ناحية وقبائل منطقة نجد من الناحية الأخرى. والواقع أن منطقة نجد كانت ـ ولا تزال ـ مصدر الشرور للاسلام والمسلمين، منذ ظهور مسيلمة الكذاب فى وادى حنيفة فى نجد الى ظهور ابن عبد الوهاب والوهابية فى نفس وادى حنيفة فى نجد.

وفى بحثنا هذا عن وظيفة القضاء بين الاسلام والمسلمين نضطر للتلامس مع بعض الجذور السياسية لتفسر الانحراف الذى حدث لوظيفة القضاء من عهد الخلفاء الراشدين، تاثرا بالتقلبات السياسية التى تحولت بها دولة الاسلام المدنية ذات الديمقراطية المباشرة ـ وبالتدريج ـ الى دولة دينية، عبر فصول من الحروب الأهلية والمذابح، بما يتفق مع طبيعة العرب العسكرية وصراعهم المسلح فى سبيل النفوذ والنقود. 

6 ـ بموت النبى محمد اندلعت حركة الردة، وأقواها كان فى نجد حيث مسيلمة الكذاب مدعى النبوة، ووقعت المدينة تحت حصار حربى منظور من جيوش المرتدين، ووقع كبار الصحابة تحت حصار آخر غير منظور من النفوذ الأموى المتزعم للقرشيين الذين دخلوا الاسلام حديثا بعد تاريخ طويل من العداء والحروب، والمنافقين فى المدينة والذين فضح القرآن تآمرهم وقت نزول الوحى، ومن الطبيعى بعد انتهاء الوحى نزولا أن يشتد تآمرهم ويستقوى بالأمويين الذين دخلوا الاسلام بعد تاريخ طويل من العداء والحروب.

أدى هذا الوضع الاستثنائى الى بيعة أبى بكر قائدا حربيا وحاكما فى بيعة السقيفة، وهنا بداية الانحراف فى السياسة فى تعيين حاكم فى دولة تركها النبى محمد تحكم نفسها بنفسها طبقا للديمقراطية المباشرة. إقترن بتلك البداية فى الانحراف إغتيال زعيم الأنصار سعد بن عبادة الذى ظل معارضا لبيعة السقيفة رافضا الاعتراف بخلافة ابى بكر ثم عمر.

7 ـ تأكد الانحراف بعد القضاء على خطر حركات الردة المسلحة، ورجوع الأعراب المرتدين الى الاسلام، فالنفوذ الأموى تطلع الى إعادة السيطرة على طريق التجارة الشرقية بين الهند واوربا عبر رحلتى الشتاء والصيف بين اليمن والشام، وكانت الظروف فى صالح الأمويين، لأنه لا يمكن السيطرة على النزعة الحربية للقبائل النجدية إلا بتوجيه قوتها الحربية نحو الشمال صوب الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، فكانت الفتوحات التى تأكد بها الانحراف السلوكى بالعدوان على أمم وشعوب لم تعتد على المسلمين.

واكتمل الانحراف بنجاح الفتوحات فى عهد عمر بن الخطاب المنسوب اليه قوله (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) وهو الذى استرق شعوبا من الأحرار من ايران الى العراق والشام ومصر، وفتح الطريق للأمويين فيما بعد لمزيد من الفتوحات المحرمة اسلاميا.

هذه هى الخلفية السياسية التى بدأ بها الانحراف فى عهد عمر بن الخطاب فى وظيفة القضاء ثم استشرى وساد بعده. ونتتبعه فى هذا المقال وما بعده.

ثانيا: الخلفاء الراشدون وبداية ظهور القضاء السياسى الجائر

1 ـ القاضى لا بد أن يكون محايدا، ولا يمكن للقاضى أن يكون خصما للمتهم، فيكون الخصم والحكم فى نفس الوقت، ولكن هذا هو ما يحدث فى ظل الحكم الفردى وتعامله مع المعارضة فى الماضى والحاضر.

وبهذا يرتبط الانحراف السياسى عن الديمقراطية المباشرة بانحراف فى القضاء. فى دولة الاسلام الديمقراطية المباشرة لا يوجد حاكم، بل طوائف متعددة من أولى الأمر تخضع للمساءلة، وكانوا موجودين ومطاعين فى دولة المدينة فى عهد خاتم المرسلين نفسه، وفق ما جاء فى القرآن الكريم، وبالتالى فلا يمكن أن يوجد حاكم فرد يكون خصما لأحد.

2 ـ فى بيعة السقيفة أصبح أبو بكر أميرا للمؤمنين، وظهر هذا اللقب لأول مرة تعبيرا عن وجود حاكم فرد وفق ثقافة العصور الوسطى. وقف سعد بن عبادة يعارضه مطالبا بحق الأنصار فى المشاركة فى الحكم كما كان من قبل، فهم الذين (آووا ونصروا) وبهم وفى أرضهم قامت دولة الاسلام، وهم الذين استضافوا المهاجرين من قريش وغيرها. كانت معارضة سعد بن عبادة علنية وصريحة وتستند الى العدل والمنطق، وكانت الى جانب ذلك استمرارا لواقع عايشه المسلمون فى عهد النبى محمد من المشاركة فى الحكم والسلطة، بل كانت أيضا استمراراً وتأكيدا لمعرفة المسلمين بالاعتراف بالمعارضة التى قام بها ـ قبل ذلك بقليل ـ المنافقون فى عهد خاتم المرسلين، وقد تمتعوا بحرية القول والفعل والحركة فى ظل شريعة الاسلام حيث كان القرآن الكريم يأمر بالاعراض عنهم، وترك أمرهم لله جل وعلا. ومن المؤكد أن معارضة سعد بن عبادة العلنية الواضحة المقبولة كانت من حيث النوع والحجم مختلفة عن معارضة المنافقين لخاتم المرسلين، كما أن أبا بكر وعمر ليسا فى موضع مقارنة بخاتم المرسلين.

بعد موت أبى بكر الذى تجاهل معارضة سعد منشغلا عنه بمواجهة المرتدين ثم ببدء الفتوحات جاءت محنة سعد بن عبادة مع عمر. كان منتظرا أن يتعامل عمر مع خصمه سعد بن عبادة بالسّنة الحقيقية الالهية القرآنية، أى الاعراض والصفح الجميل، ولكن عمر بن الخطاب استخدم سلطته كحاكم فرد فى التضييق على سعد بن عبادة حتى اضطر سعد الى الرحيل الى حوران فى الشام، وسرعان ما تم إغتياله هناك سنة 15 هجرية، اى بعد عامين ونصف من خلافة عمر.  ووصل خبر إغتياله للمدينة على أن الجنّ قتلته، وأذاعت نبأ قتله شعرا (الطبقات الكبرى لابن سعد: 3 / 2/ 145).

عمر بن الخطاب هنا هو خصم وحكم، وهو مبتدع (القضاء السياسى) فى تاريخ المسلمين، أى حق الحاكم الفرد فى معاقبة خصومه دون مساءلة، ودون حق لهم فى الدفاع عن أنفسهم، بمعنى أن الأخ حسنى مبارك يستن بسّنة عمر بن الخطاب حين يستغل القضاء لصالحه بإنشاء محاكم أمن الدولة وإحالة المدنيين الى المحاكم العسكرية والحكم بقانون الطوارىء ليكون الخصم والحكم فى تعامله مع المعارضة.

3 ـ عمر كحاكم فرد بدأ أول خطوة فى طريق الاستبداد بأن جمع لنفسه السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية. ويظهر هذا ببساطة فى تجواله فى المدينة يحمل فى يده (الدرة) يضرب بها من يراه مستحقا للضرب. يقول الطبرى عن عمر(وهو أول من حمل الدرة، وضرب بها) (تاريخ الطبرى 4 / 209).

ومعظم النار من مستصغر الشرر فإن هذا السلوك من عمر مع بساطته فهو أول خطوة فى الاستبداد . فالحاكم هنا هو الذى يقوم بضبط المتهم، وهو الذى يسن التشريع بعقوبته، وهو الذى يحكم عليه بتلك العقوبة، وهو الذى يضربه منفذا العقوبة. وليس هذا الحاكم مساءلا أمام أحد، ولا يجرؤ أحد أن يسأله لماذا و كيف؟ وإذا كان هذا الحاكم يتصرف بهذا الشكل مع الناس العاديين فكيف يتصرف مع المعارضة؟

4 ـ واشتهر عمر بأنه كان يسير ليلا (يتفقد أحوال الرعية) ومعه درته المشهورة. أى إن عمر هو أول من حقق عمليا مقولة (الراعى والرعية)، وبمثل ما يفعل الراعى مع الأغنام والمواشى يسير بعصاه يتفقد أحوالهم كان عمر يفعل مع المسلمين من أهل المدينة.

فكرة (الراعى والرعية) هى أساس الاستبداد، إذ تشبه الحاكم المستبد بالراعى و تشبه الشعب بالرعية أو المواشى والأغنام التى يملكها ويتحكم فيها الراعى ، يذبح منها ما يشاء، ويستبقى و يستغل منها ما يشاء، وليس لأحد من الأغنام مناقشة الراعى أو سؤاله لماذا وكيف.! ومن هنا تم صقل عبارات مثل ان السلطان يملك الأرض ومن عليها، لا فارق بين بشر وبهائم وغنم. تلك كانت ثقافة العصور الوسطى التى عكستها الأديان الأرضية قبل القرآن الكريم، ثم عادت بقوة فى دول المسلمين الاستبدادية، وكان الذى بعثها من مرقدها هو عمر بن الخطاب.

جدير بالذكر أنه يحرم فى الاسلام مخاطبة الخالق جل وعلا بأنه الراعى، وجعل البشر رعية لرب العزة (البقرة 104 النساء 46) فكيف يكون واحد من الناس راعيا لبقية الناس مسيطرا عليهم مالكا لهم و متحكما فيهم؟

 5 ـ وجود المعارضة قوية وشديدة الحيوية دليل على ديمقراطية الدولة. بعد مأساة سعد بن عبادة ونفيه ومقتله تمت مصادرة حق الأنصار فى المشاركة السياسية ولم توجد معارضة سياسية لعمر بن الخطاب، ولكنه كان يترصد لها حتى قبل أن توجد، بل كان يترصد لها حتى وهو فى فراش الاحتضار، فقد عهد بأن يتشاور ستة من كبار المهاجرين لاختيار خليفة من بينهم (على، عثمان، الزبير، طلحة، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبى وقاص) مع وجود ابنه عبد الله معهم له حق التصويت دون الترشيح، وأمر بقتل المخالفين منهم إذا كانوا أقلية تعارض الأغلبية، أى أوجب أبتداءا أن يكون الاختيار بالاجماع دون معارضة، وإلا فالقتل. هذا التهديد بالقتل كان موجها لكبار الصحابة الستة، فقد أمر أبا طلحة بأن يقوم على رءوسهم بالسيف ومعه خمسون رجلا الى أن ينتهوا الى قرار بالاجماع باختيار واحد منهم. (تاريخ الطبرى 4 / 229)

التناقض هنا واضح بين عهد خاتم المرسلين فى المدينة وعهد عمر بعد موت النبى عليه السلام بعدة سنوات. فى عهد النبى محمد ـ الذى شهده عمر ـ كانت المدينة شعلة لا تهدأ من النشاط السياسى والحركة الحيوية، وتشارك فيها المعارضة من المنافقين، حيث ينشغل المنافقون والمنافقات فى موالاة لبعضهم البعض يسيرون فى شوارع المدينة يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقيمون مسجدا خاصا بهم ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين: (التوبة 67 ـ ، 71 ـ ، 107 ـ). لم يتعرض لهم أحد بالدرة.

في عهد عمر خمدت الأصوات ما عدا صوت عمر، ووصلت رهبته والخوف منه الى أطفال المدينة. كان هو الحاكم الوحيد والقاضى الحاكم بأمره، والباقون معظمهم خائفون من درته. كان معظم شباب المدينة ورجالها فى الفتوحات تركوا اطفالهم ونساءهم تحت رحمة درة عمر.

كان تركيز عمر على الاستبداد وحصر السلطة فى يد وممسكا الدرة بيده الأخرى، مع الحرص على استنزاف أموال البلاد المفتوحة بالجزية والخراج وتوزيعه على العرب بالعدل. وكى يحصر السلطة فى يده منع كبار الصحابة من الخروج من المدينة والسفر الى البلاد المفتوحة حتى لا تتكون بهم مراكز قوى تتجزأ بهم الدولة فيما بعد. وجعلهم مستشارين يأخذ برأيهم حسب ما يريد.

6 ـ جاء عثمان خليفة بسياسة جديدة بعد عمر، تجمع بين الفساد والاستبداد. سمح لكبار الصحابة بالانسياح فى البلاد المفتوحة، وسمح لهم بجمع الأموال فاكتنز معظمهم الذهب أكداسا ـ حسبما شرحنا فى مقالنا البحثى (المسكوت عنه من تاريخ عمر فى الفكر السّنى) وبذلك تخلص من عبء معارضتهم له، وأحلّ مستشارين له أقاربه الأمويين، الذين سيطروا على الدولة فى عهده، وأبرزهم معاوية فى الشام، بينما جعل مروان بن الحكم مستشاره المؤتمن، والذى سيطر على الخلافة. ولم يكتف بذلك بل منحهم الأموال بلا حساب. أى إن عثمان أسكت معظم الصحابة بالأموال فى مقابل أن جعل اسرته الأموية تستحوذ على السلطة و تمهد لنفسها الأمر، علاوة على ما تأخذه من أموال، تدخره للمستقبل.

لم يكن لهذا ان يمرّ دون معارضة. جاءت المعارضة من (على بن أبى طالب) الذى تمسك بالسنة الحقيقية لخاتم المرسلين، كما جاءت من بعض السابقين فى الاسلام مثل ابن مسعود وعمار بن ياسر وأبى الدرداء وأبي ذر الغفارى. لم يستطع عثمان أن يستعمل سلطته فى عقاب (على بن أبى طالب) فاستحكم بينهما الجفاء بعد أن ملّ عثمان من وعظ (على) له ونصيحته إياه. لم يطق عثمان صبرا على معارضة الاخرين من رفاقه من كبار الصحابة فاستعمل معهم سلطته بالضرب والنفى والتعذيب، ‏فتعرض‏ ‏عمار‏ ‏بن‏ ‏ياسر‏ ‏للضرب‏ ‏حتى ‏فتقت‏ ‏أمعاؤه‏، ‏وضربوا‏ ‏ابن‏ ‏مسعود‏ ‏حتى ‏كسروا‏ ‏أعضاءه‏ ‏ومنعوا‏ ‏عطاءه‏ ‏ونفوا‏ ‏أبا‏ ‏ذر‏ ‏إلى ‏الربذة‏، ‏وطردوا‏ ‏أبا‏ ‏الدرداء‏ ‏من‏ ‏الشام‏. ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏لانهم‏ ‏انتقدوا‏ ‏عثمان‏ ‏والأمويين‏ ‏من‏ ‏أقاربه‏ ‏الذين ‏تحكموا‏ ‏فى ‏خلافته‏.‏

أى إذا كان عمر قد إستحدث بضربه الناس بالدرة ـ نظام الحسبة والمطوعة، فإن عثمان بن عفان هو أول من بدأ عقوبة التعذيب لأقرانه من كبارالصحابة، وهو الذى إخترع عقوبة التشهير، وقد استعملها مع المحتجين على سياسته من الأعراب.

ونتوقف معهم لحظة: هؤلاء الأعراب ـ الذين هم أشد الناس كفرا ونفاقا ـ كان معظمهم من قبائل نجد. كانوا يفكرون بسيوفهم وليس بعقولهم، لذا تقلبت بهم الأحوال. أسلموا فى عهد النبى كيدا لقريش والأمويين، ثم ارتدوا بعد موته بسبب عودة النفوذ الأموى القرشى، ثم عادوا الى الاسلام بعد هزيمتهم، ثم صاروا عماد الفتوحات تحت قيادة قريش، ثم ثاروا على عثمان وتلقبوا بالثوار حين رأوا ثمار تعبهم يأكله مترفو بنى أمية، ثم أحتلوا المدينة وقتلوا عثمان، وأرغموا (عليا)  على تولى الخلافة، ثم صاروا شيعته وعماد جيشه فى موقعتى الجمل وصفين، فقاسى منهم (على) كل المصاعب بسبب حمقهم و تسلطهم عليه وسرعة تحولهم من النقيض الى النقيض. أرغموا عليا على قبول خدعة عمرو بن العاص حين رفع المصاحف على أسنّة الرماح طالبا تحكيم كتاب الله لينقذ جيش معاوية من الهزيمة. وبعد مهزلة التحكيم إنقلبوا على (على) يلومونه، ثم خرجوا عليه فاصبح لقبهم الخوارج ، وهم الذين قتلوا (عليا) فى النهاية. أى خلال جيل واحد فعل أعراب نجد كل هذا التقلب وكل تلك الحروب من حرب الردة الى الفتوحات الى قتل عثمان والفتنة الكبرى وقتل علي.

بدأ زعماؤهم فى الكوفة إنتقاد عثمان فاخترع لهم عثمان عقوبة (التسيير) عام 33، فسير جماعة من أهل الكوفة مقبوضا عليهم إلى معاوية، فلما ذهبوا إليه أرجعهم إلى الكوفة، فسيرهم واليها إلى حمص. وهذا التسيير يعنى التشهير بهم فيما بين العراق الى الشام وبالعكس (تاريخ الطبرى 4 / 317 ـ).

 وبهذا (التسيير) يكون عثمان هو أول من اخترع عقوبة (كعب داير) التى يتفنن فيها البوليس المصرى فى إذلال المصرى المشتبه فيه، بأن يدور به شرطي بالحديد على كل أقسام البوليس ليرى هل هو مطلوب فى قضية أم لا.

أدى هذا التسيير الى شيوع الانتقاد لعثمان فوصل الى الأعراب فى مصر وأنتهى الأمر باجتماع الثوار ومجيئهم المدينة وحصارها وقتلهم عثمان عام  35 .

كان بامكان عثمان تفادى القتل لو نفّذ نصائح (على) ولو استجاب للمطالبة بعزله واستقال، ولكنه تمسك بالحكم الى آخر لحظة قائلا (لم أكن لأخلع سربالا سربلنيه الله) (تاريخ الطبرى 4 / 371) أى إعتبر الحكم تفويضا الاهيا، وتلك هى عقيدة الدولة الدينية بدأ بها عثمان مبكرا قبيل قتله.

7 ـ وتولى (على) الخلافة فى ظروف معاكسة؛ فالعصر كله ضد رغبته فى الاصلاح. حكم (على) بمنهج القاضى العادل، وليس بمنهج السياسى الذى ينتهز الفرص ليحقق غرضه باى وسيلة (مثل معاوية) لم يعد منهج (علي) صالحا فى التعامل، فالراسمالية القرشية الجديدة التى بناها عثمان سريعا وقفت ضد منهج (على) القائم على الاصلاح والعدل، وتزعم هذه الرأسمالية من كبار الصحابة إثنان هما الزبير إبن العوام وطلحة بن عبيد الله، ومعهما السيدة عائشة لأسباب خاصة بها. هذا بالاضافة الى الأمويين يتزعمهم معاوية ومروان بن الحكم.

كان يمكن لعلى الانتصار عليهم، وقد انتصر فعلا فى موقعة الجمل، وكاد أن ينتصر فى صفين عام 37 لولا إن أشد أعدائه كانوا أعراب نجد، وهم عماد جيشه، وقد خرجوا عليه وكفّروه، واعتدوا بالقتل على الآمنين فاضطر (علي) لحربهم فى النهروان فى نفس العام. وشهد عام 40 خروج عبد الله ابن عباس وتخليه عن ابن عمه (علي) وقت شدته فسرق بيت المال فى البصرة وهرب الى مكة، (تاريخ الطبرى 5 / 141: 143) وبعدها قتل عبد الرحمن بن ملجم (عليا) فى نفس العام. ودخل الحسن والحسين فى الطاعة لمعاوية ومعهما معظم الشيعة، بينما ظل الخوارج يصارعون الدولة الأموية الى أن أنهكوها وأنهكتهم حتى سقطت عام 132.

اضطررنا للتوقف التاريخى لنؤكد على أن بدايات الاستبداد والفساد أدت الى الحروب الأهلية ، وتلك الحروب الأهلية أدت بدورها الى ارساء حق الحاكم أو الطامع فى الحكم فى شن الحروب، واستحلال قتل الخصوم من نفس الدين والملة. وهذا مناقض للاسلام ودولته وشريعته، ولكنه أصبح الشريعة التى سار عليها المسلمون من الحكام، ولا يزالون...

ثالثا: القضاء السياسى عند الخلفاء (غير الراشدين)..

ـــ ‏ثم‏ ‏استمر‏ ‏الظلم‏ ‏للمعارضة‏ ‏فى ‏خلافة‏ ‏معاوية‏ ‏مع‏ ‏ما‏ ‏اشتهر‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏حلم‏، ‏وقد‏ ‏أخذ‏ ‏معاوية‏ ‏خصومه‏ ‏الحربيين‏ ‏بالشدة‏، ‏ولا‏ ‏شيء‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏طالما‏ ‏كان‏ ‏الحوار‏ ‏بينهما‏ ‏يدور‏ ‏بالسلاح‏ ‏وعلى ‏أرض‏ ‏المعارك‏، ‏أما‏ ‏سياسته‏ ‏مع‏ ‏خصومه‏ ‏الداخلين‏ ‏فى ‏طاعته‏ ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏طابعها‏ ‏الأغلب‏ ‏هو‏ ‏السماح‏ ‏لهم‏ ‏بالانتقاد‏ ‏طبقا‏ ‏لمقولته‏ ‏المشهورة‏ "‏إنى ‏لا‏ ‏أحول‏ ‏بين‏ ‏الناس‏ ‏وألسنتهم‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏يحولوا‏ ‏بيننا‏ ‏وبين‏ ‏ملكنا‏" ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏معاوية‏ ‏خالف‏ ‏سياسته‏ ‏هذه‏ ‏حين‏ ‏أمر‏ ‏بقتل‏ ‏حجر‏ ‏بن‏ ‏عدى ‏الكندى ‏وأصحابه‏.

‏وكان‏ ‏حجر‏ ‏بن‏ ‏عدى ‏من‏ ‏كبار‏ ‏شيعة‏ ‏على، ‏وقد‏ ‏اضطر‏ ‏لبيعة‏ ‏معاوية‏ ‏مثل‏ ‏باقى ‏الشيعة‏، ‏ولكنه‏ ‏استمر‏ ‏على ‏عدائه‏ ‏لمعاوية‏ ‏مع‏ ‏نفر‏ ‏من‏ ‏أصحابه‏ ‏فى ‏الكوفة‏، ‏وكانوا‏ ‏يعقدون‏ ‏مجالس‏ ‏فيها‏ ‏يتذكرون‏ ‏مآثر‏ "‏علي‏" ‏ويلعنون‏ ‏معاوية‏، ‏وكان‏ ‏يعارض‏ ‏والي ‏الكوفة‏ ‏المغيرة‏ ‏بن‏ ‏شعبه‏ ‏حين‏ ‏يبدأ‏ ‏المغيرة‏ ‏فى ‏خطبة‏ ‏الجمعة‏ ‏فى ‏لعن‏ ‏على، ‏فولى ‏معاوية‏ ‏على ‏الكوفة‏ ‏زياد‏ ‏بن‏ ‏ابيه‏ ‏فاستمر‏ ‏حجر‏ ‏فى ‏معارضته‏ ‏لشتم‏ "‏علي‏" ‏فى ‏خطبة‏ ‏الجمعة‏، ‏فأمر‏ ‏زياد‏ ‏باعتقال‏ ‏حجر‏ ‏وأتباعه، ‏وهدد‏ ‏أهل‏ ‏الكوفة‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏ينحازوا‏ ‏لحجر‏ ‏وأصحابه‏، ‏وجيء‏ ‏بحجر‏ ‏إلى ‏زياد‏ ‏فقال‏ ‏له‏ ‏زياد‏ "‏حرب‏ ‏فى ‏أيام‏ ‏الحرب‏، ‏وحرب‏ ‏وقد‏ ‏سالم‏ ‏الناس‏" ‏فقال‏ ‏حجر‏ "‏ما‏ ‏خلعت‏ ‏طاعة‏ ‏ولا‏ ‏فارقت‏ ‏جماعة‏ ‏وإنى ‏لعلى ‏بيعتي‏". لم يرض زياد ابن ابيه بمقالة حجر، فاستشهد عليه جماعة من أهل الكوفة، منهم القاضى أبو بردة بن أبي موسى الأشعرى، وزعموا أنه خلع الطاعة ودعا إلى الفتنة‏.‏ ‏وأمر‏ ‏زياد‏ ‏بإرسال حجر مع أصحابه ‏معتقلين‏ ‏إلى ‏معاوية‏ ‏فى ‏دمشق‏ ‏مع‏ ‏شهادة‏ ‏سبعين‏ ‏رجلا‏ ‏بأنه‏ ‏شق‏ ‏الطاعة‏ ‏وأعلن‏ ‏الحرب‏ ‏وجمع‏ ‏الجنود‏، ‏وتلك‏ ‏تهمة‏ ‏تستحق‏ ‏القتل‏ ‏لدى ‏معاوية‏، ‏ولم‏ ‏يحقق‏ ‏معاوية‏ ‏فى ‏الأمر‏، ‏وأمر‏ ‏بقتل‏ ‏حجر‏ ‏وأصحابه‏، ‏(المنتظم 5 / 241 ـ عام 51)

ـــ و‏كانت‏ ‏تلك‏ ‏أول‏ ‏محاكمة‏ ‏سياسية‏ ‏ظالمة‏ ‏فى ‏تاريخ‏ ‏المسلمين‏ ‏لمعارضين‏ ‏لا‏ ‏يحملون‏ ‏السلاح، وبها إنفتح الباب على مصراعيه لقتل المعارضين السياسيين باستخدام القضاء السياسى، وحتى بدون محاكمة، أى بمجرد نطق الخليفة أو الوالى أو القائد بقتل فلان.

ونعطي أمثلة:

يذكر الطبرى فى أحداث عام 58 أن عبيد الله بن زياد بن أبيه والى الكوفة اشتد فى مطاردة الخوارج، (فقتل منهم صبرًا جماعة كثيرة) أى اعتقل من كان فى بيته منهم لم يحارب فألقاه فى السجن معذبا وبلا طعام ولا شراب ولا غطاء حتى يموت، وتلك كانت عقوبة مشهورة لدى الأمويين. ويحكى الطبرى كيف قتل ذلك الوالى الأموى إبن زياد زعيم الخوارج عروة بن أدية صبرا، فقد كان إبن زياد يتمتع بمشاهدة سباق لخيوله، فدخل عليه عروة بن أدية ووعظه مستشهدا بقوله جل وعلا:(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) ‏فأمر ابن زياد به فقطعت يداه ورجلاه، وألقاه فى السجن ليموت صبرا، ثم دعاه فقال‏:‏ كيف ترى؟ قال‏:‏ أرى أنك أفسدت دنياي وأفسدت آخرتك.! فقتله وأرسل إلى ابنيه فقتلهما‏). (تاريخ الطبرى 5 / 312 ـ )

‏ـــ تطور‏ ‏الظلم‏ ‏للمعارضة‏ ‏السياسية‏ ‏السلمية‏ ‏بعد‏ ‏معاوية‏، ‏خصوصا‏ ‏فى ‏خلافة‏ ‏عبد‏ ‏الملك‏ ‏بن‏ ‏مروان‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏خطب‏ ‏فى ‏المدينة‏ ‏عام‏ 75 ‏هـ‏ ‏فقال‏ ‏لأهلها‏ "‏أنى ‏لا‏ ‏أداوى ‏أدواء‏ ‏هذه‏ ‏الأمة‏ ‏إلا‏ ‏بالسيف‏ ‏حتى ‏تستقيم‏ ‏لى ‏قناتكم‏، ‏فلن‏ ‏تزدادوا‏ ‏إلا‏ ‏عقوبة‏ ‏حتى ‏يحكم‏ ‏السيف‏ ‏بيننا‏ ‏وبينكم‏، ‏والله‏ ‏لا‏ ‏يأمرنى ‏أحد‏ ‏بتقوى ‏الله‏ ‏بعد‏ ‏مقامى ‏هذا‏ ‏إلا‏ ‏ضربت‏ ‏عنقه‏". قال‏ ‏هذا‏ ‏وسط‏ ‏أناس‏ ‏خاضعين‏ ‏لسيطرته،‏ ‏وليسوا‏ ‏وقتها‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏حرب‏ ‏معه‏. ‏

وكان‏ ‏الحجاج‏ ‏بن‏ ‏يوسف‏ ‏أبرز‏ ‏ولاة‏ ‏عبد‏ ‏الملك‏ ‏بن‏ ‏مروان‏، ‏وقد‏ ‏حكم‏ ‏الحجاز‏ ‏فأذل‏ ‏الصحابة‏ ‏وقتل‏ ‏عبد‏ ‏الله‏ ا‏بن‏ ‏عمر‏ ‏بن‏ ‏الخطاب‏، ‏وتولى ‏العراق‏ ‏والمشرق‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏مات‏ ‏عام‏ 95 ‏هـ‏ ‏فى ‏خلافة‏ ‏الوليد‏ ‏بن‏ ‏عبد‏ ‏الملك‏، ‏وقد‏ ‏بلغ‏ ‏قتلاه‏ 120‏ألفا‏، ‏ومات‏ ‏فى ‏حبسه‏ 50 ‏ألف‏ ‏رجل‏ ‏و‏30 ‏ألف‏ ‏امرأة‏، ‏وبقى ‏فى ‏حبسه‏ ‏بعد‏ ‏موته‏ 33 ‏ألف‏ ‏إنسان‏، ‏بدون‏ ‏محاكمة‏ ‏وبدون‏ ‏تهمة‏، ‏ولكن‏ ‏لمجرد‏ ‏الاشتباه‏، ‏إذ‏ ‏كان‏ ‏يقتل‏ ‏بمجرد‏ ‏الظن ‏آلاف‏ ‏الأبرياء‏ ‏لم‏ ‏يرتكبوا جرما.‏

‏ـــ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الايقاع‏ ‏السريع‏ ‏للدولة‏ ‏الأموية‏ ‏وغلبة‏ ‏الطابع‏ ‏العسكرى ‏والقبلى ‏عليها‏ ‏لم‏ ‏يفسح‏ ‏المجال‏ ‏لتقعيد وتسويغ هذا الظلم‏. ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏تم‏ ‏فى ‏الخلافة‏ ‏العباسية‏ ‏التى ‏شهدت‏ ‏التدوين‏ ‏ضمن‏ ‏مظاهر‏ ‏حضارية‏ ‏أخرى، ‏وقامت‏ ‏دعاية‏ ‏الدولة‏ ‏حتى ‏قبل‏ ‏تأسيسها‏ ‏على ‏التمسح‏ ‏بالدين‏ ‏والإمام‏ ‏العادل‏ ‏الذى ‏يأتى ‏من‏ ‏آل‏ ‏البيت‏ "‏الرضى ‏من‏ ‏آل‏ ‏محمد‏". وبعد‏ ‏أن‏ ‏كان‏ ‏الخليفة‏ ‏الأموى ‏أقرب‏ ‏إلى ‏شيخ‏ ‏القبيلة‏ ‏المحارب‏ ‏أصبح‏ ‏فى ‏العصر‏ ‏العباسى ‏إماما‏ ‏مقدسا‏ ‏وحاكما‏ ‏دينيا‏ ‏متألها‏ ‏وفق‏ ‏ثقافة‏ ‏العصور‏ ‏الوسطى، ‏ومن‏ ‏الطبيعى ‏أن‏ ‏يستر‏ عورة‏ ‏الاستبداد‏ ‏بالتمسح‏ ‏بالدين‏ ‏والزعم بإقامة‏ ‏العدل‏ ‏بين‏ ‏الناس‏. ‏

ونعطى أيضا بعض الأمثلة:

* قبل قيام الدولة العباسية كان سليمان بن حبيب واليا على بعض مناطق فارس، وقد عمل لديه شاب هاشمى من بني العباس إسمه عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، وقد سرق هذا الشاب مالا، فما كان من الوالى الأموى سليمان بن حبيب إلا أن ضرب ذلك الشاب الهاشمي بالسياط وأغرمه المال الذى سرقه. ثم دارت الأيام وتولى هذا الشاب الخلافة العباسية تحت لقب وكنية أبى جعفر المنصور فانتقم من ذلك الوالى الأموى السابق بقتله بلا محاكمة. (المنتظم 8 / 15) 

* هذا (الحرامى السابق) الخليفة أبو جعفر المنصور كان يخطب فى مدينة الرقة ـ وكان بها وباء الطاعون فانقشع ـ فقال المنصور (احمدوا الله يا أهل الشام، فقد رفع عنكم بولايتنا الطاعون) فقال منصور بن جعونة (الله أكرم من أن يجمعكم علينا والطاعون) فأمر المنصور بقتله فى الحال (تاريخ الطبرى 7 / 504) (تاريخ المنتظم 8 / 29).

ـــ حق الخليفة فى قتل من يشاء انتقل من الخليفة الى الولاة والقادة. والقائد العباسى عجيف بن عنبسة ـ الذى قتله الخليفة المعتصم ـ كان فى سطوته قد إتهم كاتبه محمدا بن الفضل الجرجانى بالاختلاس، وأمر بقتله وكاد يتم التنفيذ لولا فى العمر بقية، ولنقرأ القصة ففيها عبرة، يقول بطل القصة الكاتب محمد بن الفضل الجرجاني الذى أصبح وزيرا فيما بعد فى خلافة المعتصم: (كنت أتولى ضياع عجيف.. فرفع عليّ (أى اتهموه) أنني أخربت الضياع، فأنفذ إلي (أى قبضوا عليه)  فأدخلت عليه.. فلما رآني شتمني وقال‏:‏ أخربت الضياع.. والله لأقتلنك. هاتوا السياف. فأحضرت ونحيت للضرب (أى للضرب بالسيف)، فلما رأيت ذلك ذهب عقلي وبلت على ساقي (أى تبوّل على ساقه) فنظر كاتبه إلي فقال (للأمير عجيف بن عنبسة):‏ "أعز الله الأمير أنت مشتغل القلب بهذا البناء، وضرب هذا أو قتله في أيدينا ليس يفوت، فتأمر بحبسه، وانظر في أمره، فإن كانت الرقعة صحيحة فليس يفوتك عقابه، وإن كانت باطلة لم تستعجل الإثم وتنقطع عما أنت بسبيله من المهم ". ‏فأمر بي إلى الحبس فمكثت أيامًا. وقتل المعتصم عجيفًا، فاتصل الخبر بكاتبه فأطلقني فخرجت، وما أهتدي إلى حبة فضة فما فوقها، (أى صار فقيرا لا يملك شيئا) فقصدت صاحب الديوان بسر من رأى (سامرا) فسر بإطلاقي وقلدني عملًا، فنزلت دارًا، فرأيت مستحمها (دورة المياه) غير نظيف، فإذا تل، فجلست أبول عليه، وخرج صاحب الدار فقال لي‏:‏ أتدري على أي شيء بلت؟ (أى تبولت) قلت‏:‏ على تل تراب‏. ‏فضحك وقال‏:‏ هذا رجل من قواد السلطان يعرف بعجيف سخط عليه وحمله مقيدًا فلما صار ها هنا قتل وطرح في هذا المكان تحت حائط، فلما انصرف العسكر طرحنا الحائط ليواريه من الكلاب، فهو والله تحت هذا التل التراب"، فعجبت من بولي خوفًا منه ومن بولى على قبره). ( المنتظم 11 / 85 )

رابعا : ضياع القضاء العادي فى دولة الاستبداد:

1 ـ الخليفة الرشيد كان متقلب المزاج سريع الانفعال، ولا يتورع فى انفعاله أن يامر بقتل أحب الناس اليه كما فعل بجعفر البرمكي أقرب أصدقائه وأخلصهم له. وتم القتل بالأمر المباشر ضمن أوامر أخرى بالسجن مدى الحياة لوالد جعفر (خالد البرمكي) وأخيه الفضل، ومصادرة الأموال فيما عرف بنكبة البرامكة، ولم يكتف الرشيد بذلك بل جعل الحديث عن هذا الموضوع من المحرمات، فكان من المحرمات طيلة حكمه.

هذا الخليفة الرشيد يروى عنه ـ فيما يخص موضوعنا ـ تلك الرواية عن أبى معاوية الضرير الذى كان جليسا للرشيد، يقول عنه (حدثته يوما بحديث "إحتج آدم وموسى.." وعنده رجل من وجوه قريش، فقال القرشى: "فأين لقيه؟" فغضب الرشيد وقال: "السيف والنطع.! زنديق يطعن فى حديث النبى (ص )، قال أبو معاوية: فما زلت أسكّنه.. حتى سكن) (تاريخ الخلفاء للسيوطى: 454)

الرجل القرشى سمع ذلك الحديث الكاذب الذى يتحدث عن حوار جرى بين آدم وموسى، فتساءل مستغربا متى وأين تم هذا اللقاء بينهما، وثار الخليفة الرشيد وأمر بإحضار السيف والنطع لقتل ذلك (الزنديق) الذى يطعن فى حديث النبى. ولولا تدخل الراوى ما بقى القرشى حيا. الرشيد هنا يأمر بقتل أحد زواره وجلسائه لمجرد سؤال استفهامى. ليس السائل من المعارضة، وهو حتى لا يسأل يقصد الطعن فى الحديث المروى فلا شك انه يعرف إن هذا من المحظورات، المسكين سبقه لسانه فتساءل ليتعلم، فكان قاب قوسين أو أدنى من القتل.

2 ـ خليفة مستبد مثله كيف كان التقاضي العادي فى عهده؟ الإجابة فى القصة التالية:

كان عبد الرحمن بن مسهر بن عمر المتوفى عام 197 قاضيا لمدينة ( جَبُّل)‏.‏ وقد كان من أتباع أبي يوسف (قاضي القضاة) فى عهد هارون الرشيد، وقد حكى ذلك القاضى عن نفسه فقال: (‏ولّاني أبو يوسف القاضي القضاء بجَبُّل، وبلغني أن الرشيد ينحدر إلى البصرة، فسألت أهل جبُّل أن يثنوا عليَّ فوعدوني أن يفعلوا ذلك إذا انحدر، فلما قرب منا سألتهم الحضورفلم يفعلوا وتفرقوا، فلما آيسوني من أنفسهم سرحت لحيتي أى (تنكّر) وخرجت له فوقفت، فوافى وأبو يوسف معه في الحراقة (السفينة) فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين نعم القاضي قاضي جبل قد عدل فينا وفعل وصنع، وجعلت أثني على نفسيِ، ورآني أبو يوسف فطأطأ رأسه وضحك، فمَال له الرشيد‏:‏ مم ضحكت فقال‏:‏ المُثني على القاضي هو القاضي. ‏فضحك هارون حتى فحص برجليه وقال‏:‏ هذا شيخ سخيف سفلة فاعزله، فعزلني‏.‏ فلما رجع جعلت أختلف إليه وأسأله أن يوليني قضاء ناحية أخرى فلم يفعل.‏ فحدثت الناس عن مجاهد عن الشعبي أن كنية الدجال‏:‏ أبو يوسف، وبلغه ذلك فقال‏:‏ هذه بتلك فحسبك وصر إلي حتى أوليك ناحية أخرى، ففعل وأمسكت عنه) (المنتظم 10 / 41 ـ)

قاضى القضاة أبو يوسف ولّى هذا القاضى قضاء مدينة (جبل) ولم يكن قاضيا عادلا، واحتاج الى أن يثنى عليه أهل البلد أثناء مرور الخليفة عليهم، فلم يسمع له أحد فاضطر لأن يتقمص شخصية واحد من المدينة وأخذ يثنى على قاضيها، وضحك قاضى القضاة الذى تعرف على القاضى المتنكر الكاذب، وعلم الرشيد بالأمر فضحك وأمر بعزله. وحاول القاضى المعزول الرجوع فرفض قاضى القضاة أبو يوسف إرجاعه، فصنع ذلك القاضى حديثا (نبويّا) يقول إن كنية المسيح الدجال أبو يوسف. وعلم قاضى القضاة أبو يوسف بالأمر فأسكته بأن ولاّه القضاء بمنطقة أخرى.

قاضي القضاة ابو يوسف (صاحب أبي حنيفة) كان أحد مشاهير القضاة فى العصر العباسى الأول، وكان ممن يثق فيهم الرشيد، مع إنه أحد المفسدين، وسنعرض له فيما بعد، ولكن المهم هنا أنه يولى القضاء من هم على شاكلته فى الكذب والفساد. ولا أدل على شيوع الفساد أن البطل هو الذى يحكى القصة بنفسه مباهيا بها دون أدنى خجل. فماذا لو تكلم ضحاياه؟

3 ـ وتفاقم‏ ‏ظلم‏ ‏القضاء‏ ‏فى ‏خلافة‏ ‏المأمون‏، ‏وقد‏ ‏ذكر‏ ‏ابن‏ ‏الجوزى ‏شكوى ‏‏المأمون‏ ‏من‏ ‏قضاة‏ ‏عصره‏، ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏كلا‏ ‏منهم‏ ‏كان‏ ‏يرتشى ويختلس‏ ‏الأموال‏ ‏مع‏ ‏كثرة‏ ‏مرتباتهم‏. هذا ما يرويه القاضى بشر ابن الوليد أحد المقربين للخليفة المأمون.

فى جلسة (فضفضة) شكى الخليفة المأمون لجليسه القاضى بشر بن الوليد حال القضاة، يقول له المأمون (ما شيء من الخلافة إلا وأنا أحسن أن أدبره وأبلغ منه حيث أريد وأقوى عليه إلا أمر أصحابك - يعني‏:‏ القضاة) ثم استرسل المأمون فى الشكوى من القضاة فقال: (ولينا رجلًا - أشرت به علينا - قضاء الأبلة وأجرينا عليه ألف درهم ولا له ضيعة ولا عقار ولا مال فرجع صاحب الخبر بالناحية أن نفقته في الشهر أربعة آلاف درهم، فمن أين هذه الثلاثة آلاف درهم‏!‏ وولينا رجلًا - أشار به محمد بن سماعة - دمشق وأجرينا عليه ألفي درهم في الشهر فأقام بها أربعة عشر شهرًا ووجهنا مَنْ يتتبع أمواله ويرجع إلينا بخبره فصح عنه أنه يملك قيمة ثلاثة عشر ألف دينار من دابة وبغل وخادم وجارية وغير ذلك‏.‏.. وولينا رجلًا - أشار به غيركما - نهاوند فأقام بعد عشرين شهرًا من دخول يده في العمل سبعين بحينا وعشرين بحينا، وفي منزله أربعة خدم خصيان قيمتهم ألف وخمسمائة في دينار..) وفى النهاية ينافق القاضى الخليفة قائلا (فقلت‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما لك في الخلفاء شبيه إلا عمر بن الخطاب فإنه كان يفحص عن عماله وعن دقيق أسرار حكامه فحصًا شافيا ) ورد عليه الخليفة مرائيا: (‏يا بشر إن أهمّ الأمور كلها إليً أمور الحكام (أى القضاة). ووددت أن يتأتى مائة قاض مرضيين وأني أجوع يومًا وأشبع يومًا) (المنتظم 10 / 61)

 وهذا‏ ‏المأمون‏ ‏الذى ‏قال‏ ‏فى ‏معرض‏ ‏شكواه‏ ‏من‏ ‏ظلم‏ ‏القضاة‏ ‏فى ‏دولته‏ "‏وددت‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏لى ‏مائة‏ ‏قاض‏ ‏عادل‏ ‏وأنى ‏اجوع‏ ‏يوما‏ ‏وأشبع‏ ‏يوما‏" ‏هو‏ ‏نفسه‏ ‏المأمون‏ ‏الذى ‏استبد‏ ‏بالأمر‏ ‏حتى ‏فى ‏قضية‏ ‏علمية‏ ‏وهى ‏خلق‏ ‏القرآن‏، ‏وألزم‏ ‏الفقهاء‏ ‏والدولة‏ ‏برأيه‏ ‏فى ‏القضية‏. ‏أى ‏لم‏ ‏يكتف‏ ‏بالاستبداد‏ ‏السياسى ‏وإنما‏ ‏أضاف‏ ‏له‏ ‏الاستبداد‏ ‏العلمى، ‏وبعد‏ ‏هذا‏ ‏يتباكى ‏على ‏ندرة‏ ‏القاضى ‏العادل‏ ‏فى ‏عصره‏.

ختاما:

‏وهكذا‏ ‏فالمستبد‏ ‏العادل‏ ‏مجرد‏ ‏أسطورة‏، ‏ولا يجتمع العدل فى القضاء العادى بين الناس مع وجود القضاء السياسى وتحكم المستبد فى المجتمع، ‏لأن‏ ‏السلطان‏ ‏الظالم‏ ‏لا‏ ‏يروج‏ ‏فى ‏دولته‏ ‏إلا‏ ‏قضاة‏ ‏الظلم‏ ‏مهما‏ ‏ادعى ‏أنه‏ ‏يتحرى ‏العدل‏. ‏ويظل العدول من القضاة عملة نادرة فى وجود حاكم مستبد.

وهذا ما سنبحثه فى المقالات القادمة بعون الله جل وعلا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 

الفصل الثانى : 

منصب القضاء ونزوات الخلفاء

 

 المقالات التالية من هذا البحث ستتناول بعض مظاهر الفساد فى القضاء العادي فى الدولتين العباسية والمملوكية، وحتى تكتمل الصورة فلا بد من التعرض لأقلية من القضاة العدول حاولوا الوقوف ضد تيار الظلم والجور. 

 وتبدأ هذه المقالة السادسة عن اسغلال وظيفة القضاء فى إشباع نزوات الخلفاء، من خلال تحليل قصة حياة أشهر قاضي فى الدولة العباسية، وهو أبو يوسف. ونحلل تاريخه من خلال المكتوب عنه فى (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادى (14 / 242: 262) وتاريخ المنتظم لابن الجوزى (9 / 71 وفيات 182)، وتاريخ ابن كثير: ‏(10/194‏)‏ وتاريخ الخلفاء للسيوطى (463).

 

أولا: أبو يوسف وشيخه أبو حنيفة:

 

بلا مبالغة نقول إن أبا حنيفة (ت 150) أعظم شخصية علمية وإنسانية فى العصر العباسى. جمع بين الفقه والفلسفة، وجمع مع العلم شجاعة الرأى وعفة العلماء وكرم النفس، وكان سابقا لعصره فى العلم والأخلاق. ومن أسف فلم يأت من تلاميذه من يسير على منهجه العلمي أو الأخلاقي. بل كان أقربهم اليه هو أبعدهم عنهم فى سلوكه وفى اتجاهه العلمى، ونقصد طالب العلم (يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حَبْتة الأنصاري) المشهور بابي يوسف.

 

كان أبو حنيفة رافضا لتولي القضاء ولكن كان تلميذه ابو يوسف أشهر وأول قاض للقضاء فى العصر العباسى . كان أبو حنيفة متعففا عن أموال السلطان يعمل بتجارة الحرير ليحافظ على استقلاله وكرامته بينما كان ابو يوسف متسولا لأموال الخليفة، بل وحاشية الخليفة، لا يتورع ولا يتعفف ولا يخجل من أخذ الأموال حتى من النساء. كان أبو حنيفة يرفض الاعتراف بالأكاذيب التى يشيعها الرواة ويرفض نسبتها للنبى محمد عليه السلام، بينما إتجه أبو يوسف ـ بعد موت شيخه أبى حنيفة ـ

الى شيوخ (الحديث) يأخذ عنهم تلك الأكاذيب المسماة بالحديث النبوى. فقيل عنه إنه (سمع أبا إسحاق الشيباني وسليمان التيمي ويحيى بن سعيد الأنصاري والأعمش وهشام بن عروة وابن إسحاق والليث في آخرين‏) ثم قام هو أيضا برواية تلك الأكاذيب أو الأحاديث الى آخرين، فقيل عنه (روى عنه‏:‏ محمد بن الحسن وعلي بن الجعد وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين).

 

باختصار كان أبو حنيفة يعيش متساميا فوق عصره بينما غاص أبو يوسف فى أوحال عصره، لذا اختلف بينهما الحال، تعرض ابوحنيفة للتعذيب والضرب فى الدولتين الأموية والعباسية، وصمد إلى أن مات مسموما قتيلا على يد الخليفة أبى جعفر المنصور ـ بينما نعم أبو يوسف بالجاه والمال لأنه باع دينه للخليفة الرشيد.

 

تبدأ القصة فى الكوفة قبل بناء بغداد، حيث نشأ الصبى (يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حَبْتة الأنصاري المشهور بابى يوسف) فقيرا، إكتشف أبو حنيفة ذكاءه فتعهده بالرعاية، ولكن الأم أو الأب ـ تختلف الروايات ـ  منعت الصبى من صحبة أبى حنيفة، وهذا مفهوم ووارد من الخوف من صحبة شيخ مغضوب عليه من الحكام. وتدخل أبو حنيفة فأعطاهم من ماله حتى رضوا بان يتفرغ الصبى للعلم لدى استاذه أبى حنيفة.

 

ثانيا: أبو يوسف وهارون الرشيد:

 

بعد موت أبى حنيفة ترك أبو يوسف الكوفة وجاء الى بغداد يبحث عن فرصة للشهرة والمال والجاه. كان ذلك ممكنا بالتفوق فى حلقات رواية الحديث فالتحق بها وصار تلميذا للأعمش أكبر وضّاع للحديث فى خدمة العباسيين. وكان العباسيون قبل وبعد إنشاء دولتهم يعتمدون على تاليف الأحاديث لتمكين سلطانهم، وتفوق لهم فى هذه المهمة الأعمش كما تفوق محمد بن اسحاق فى تاليف السيرة النبوية بما يخدم الدولة العباسية. وكلاهما (الأعمش وابن اسحاق) كانا وثيقى الصلة بالبلاط العباسي. ومن هنا نفهم كيف تمهد الطريق لأبى يوسف للوصول الى حاشية هارون الرشيد، ومما عزز ذلك قدرته الفائقة على الافتاء بما يعجب السلطان وجرأته الشديدة على التحايل الفقهى أو ما يعرف بفقه الحيل.

 

من الناحية الأخرى كان هارون الرشيد فى حاجة ماسة لفقيه من أمثال أبي يوسف.

 

لا يزال الخليفة هارون الرشيد البطل الأسطوري لقصص ألف ليلة وليلة عند الغرب، ولا تزال صورته وحوله الجواري الحسان وأكداس الذهب تلهب خيال الفرنجة، ويبقي هارون الرشيد متمتعا بهذه الرتوش حتي في أقاصيصنا الشعبية لأن ذلك يستند إلي أسس تاريخية أشارت لها كتب التراث المكتوب في العصر العباسي نفسه، ولا يزال هارون الرشيد المثل لكل راغب فى المتعة الجنسية لا يشبع منها، وهذا الصنف لا يعجبه من النساء إلا من كانت محرمة عليه، أو كان صعبا الحصول عليها، لأنه يملّ و يضجر من عشرات النساء اللاتى يتمنين رضاه. الخليفة هارون الرشيد كان متمتعا بزوجته الحسناء زبيدة، وإلى جانبها مئات الجواري الحسان، ولكنه ملّ كل هذا الحسن، وأعجبته جارية كانت من قبل لأبيه الخليفة المهدي، وراودها عن نفسها، ومع أنها جارية ومع أنه خليفة إلا أنها كانت صادقة معه، فأخبرته بأن هذا لا يجوز لأنه طالما نالها أبوه من قبله فلا يصح أن تكون له، والقرآن صريح في ذلك "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ماقد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا" 4/22. 

 

وزاد رفض الجارية رغبة الخليفة الرشيد فيها، وانشغل بكيفية استحلالها، وفي ذلك الوقت كان أبو يوسف هو القاضي، فاستدعاه وطلب منه الفتوى التي تشفي قلبه فأفتي له بجواز أن ينكح ما نكح أبوه تأسيسا علي أن هذه الجارية لا يؤخذ بشهادتها.

 

وحتى لا يتهمنا أحد بالافتراء فإننا ننقل القصة من كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطى ص463 يقول "أخرج السلفي الطيوريات بسنده عن ابن مبارك قال: لما أفضت الخلافة إلي الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي، فراودها عن نفسها فقالت: لا أصلح لك، إن أباك قد طاف بي!! فشغف بها، فأرسل لأبي يوسف فسأله: أعندك في هذا شيء فقال: يا أمير المؤمنين أو كلما ادعت أمة شيئا ينبغي أن تصدق؟ لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة. ويقول الراوي ابن المبارك متعجبا "فلم أدر ممن أعجب!! من هذا الذي وضع يده علي دماء المسلمين وأموالهم لا يتحرج عن حرمة أبيه، أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين، أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها الذي قال له: اهتك حرمة أبيك واقض شهوتك وصيره في رقبتي"!!)

من هذا النّص نتعرف على الخليفة الرشيد وقاضى القضاة أبى يوسف، وكيف كان يتم استعمال القضاء فى إشباع نزوات الخلفاء.

لقد كان العلم والتدوين في خدمة الدولة العباسية وسياستها ونزوات خلفائها، وكان الرشيد إذا اشتهي جارية ومنعه الشرع كان يرسل إلي القاضي أبي يوسف ليحل له ما يريد، ونحن نقرأ بعد الراوية السابقة رواية أخري تقول "قال الرشيد لأبي يوسف إني اشتريت جارية وأريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء" أي قبل أن تكمل عدتها ويستيقن من أنها ليست حاملا "فهل عندك حيلة؟ قال أبو يوسف: نعم تهبها لبعض ولدك ثم تتزوجها".

 

وهذه حيلة مفسدة للشرع. فالاستبراء هو باكمال العدة يستوى فيه إن كانت المرأة حرة أم جارية لأنها إمرأة وذلك شىء جسدى (بيولوجي) فكل النساء يتعرضن للحيض والولادة، والمرأة عدتها بالحيض ثلاث حيضات، إلا إن الفقه العباسى جعل فارقا بين عدة المرأة الحرة والمرأة المملوكة، ولا يزال ذلك فى الفقه السلفى حتى الآن، فيقول الشيخ أبو بكر الجزائرى إن استبراء المرأة المملوكة ملك اليمين يكون بحيضة واحدة (منهاج المسلم 462).

 

ونعود الى الرشيد وهو يستدعي أبا يوسف في الليل إذا صادفته مشكلة من هذا القبيل تقول الرواية التالية "دعا الرشيد أبا يوسف ليلا فأفتاه، فأمر له بأربعة مائة ألف درهم فقال إن رأي أمير المؤمنين أمر بتعجيلها قبل الصبح، فقال عجلوها، فقال بعض من عنده. إن الخازن في بيته والأبواب مغلقة، فقال أبو يوسف: فقد كانت الأبواب مغلقة حين دعاني ففتحت"!!

 

وبهذه الصفة وبسبب تلك المهمة تم تعيين ابى يوسف فى القضاء، وتمت ترقيته وتعاظم جاهه وتكاثرت ثروته.

 

ثالثا: كيف تولى القضاء..

 

تقول الرواية: (كان سبب اتصال أبى يوسف بالرشيد أنه قدم بغداد بعد موت أبي حنيفة، فحنث بعض القوَّاد في يمين، وطلب فقيها يستفتيه فيها، فجيء بأبي يوسف، فأفتاه أنه لم يحنث، فوهب له دنانير، وأخذ له دارا بالقرب منه، واتصل به).

أى بعد موت أبى حنيفة جاء أبو يوسف يبحث عن مستقبله فى بغداد فى عصر هارون الرشيد. وواتته الفرصة حين حلف احد القادة العباسيين يمينا وحنث فيه، ويريد فتوى فى الموضوع، وكان أبو يوسف قد أرسى لنفسه سمعة فى مجتمع الفقهاء فى مجال الفتوى، فجىء به لذلك القائد، فأفتى للقائد بما يريد، وفرح القائد واستبقاه لنفسه (فقيه ملاكي) أو بتعبير الرواية (فوهب له دنانير وأخذ له دارا بالقرب منه واتصل به).

 

نعود للرواية، وهى تقول (فدخل القائد يومًا إلى الرشيد فوجده مغمومًا، فسأله عن سبب غمه فقال‏:‏ شيء من أمر الدين قد أحزّنني فاطلب لي فقيهًا أستفتيه، فجاءه بأبي يوسف،  قال أبو يوسف‏:‏ فلما دخلت إِلى ممر بين الدور رأيت فتى حسنًا عليه أثر الملك وهو في حجرة محبوس، فأومأ إليَ بإصبعه مستغيثًا فلم أفهم عنه إرادته، فأدخلت إلى الرشيد، فلما مثلت بين يديه سلمت ووقفت فقال لي‏:‏ ما اسمك؟ قلت‏:‏ يعقوب أصلح الله أمير المؤمنين.‏ قال‏:‏ ما تقول في إمام شاهد رجلًا يزني، هل يحده؟ قلت‏:‏ لا يجب ذلك.‏ فحين قلتها سجد الرشيد، فوقع لي أنه قد رأى بعض أهله على ذلك وأن الذي أشار إلي بالإستغاثة هو الزاني).

 

هذا الجزء من الرواية يتحدث عن وصول ابى يوسف الى الخليفة الرشيد نفسه. فقد رأى الرشيد أحد أبنائه يزنى، فوقع فى حيرة بين إقامة عقوبة الزنا على ابنه أو الخروج بحيلة، ومن هو ذلك الفقيه الذى يفتى له بالحيلة الفقهية المريحة. دخل القائد إياه على الخليفة ورأى غم الخليفة وحزنه، فأتى بابى يوسف للرشيد، وفهم ابو يوسف القصة وعرف المطلوب منه، وسرعان ما أجاب للخليفة بما يريد: أنه لا عقوبة ولا حدّ لأن الشبهات تدرأ وتمنع إقامة الحدود، أى ألبس فتواه حديثا مصنوعا كالعادة. وسجد هارون الرشيد شكرا، ولكن عاوده الشك فعاد يسأل الفقيه.

 

 تقول الرواية (ثم قال الرشيد‏:‏ ومن أين قلت هذا؟ قلت‏:‏ من قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إدرأوا الحدود بالشبهات‏"‏ وهذه شبهة يسقط الحدّ معها.‏ فقال‏:‏ وأي شبهة مع المعاينة‏!‏ قلت‏:‏ ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى ، والحدود لا تكون بالعلم وليس لأحد أخذ حقه بعلمه.‏ فسجد مرة أخرى وأمر لي بمال جزيل وأن ألزم الدار، فما خرجت حتى جاءتني هدية الفتى وهدية أمه وأسبابه، فصار ذلك أصلًا للنعمة، ولزمت  الدار، فكان هذا الخادم يستفتيني وهذا يشاورني وصلاتهم تصل إلي، ثم استدعاني الرشيد واستفتاني في خواص أمره) أى بهذه الحادثة تم تعيين أبى يوسف فقيها (ملاكي) للقصر، ليس فقط للخليفة بل للخدم و النساء، كل منهم يفعل ما يشتهيه ويأخذ الفتوى من أبى يوسف، وأبو يوسف يجمع منهم الأموال ويغدق عليهم بالفتاوى الجاهزة الطازجة.

 

ثم أصبح من مستشارى الرشيد ومن أهم خواصه وحاشيته، ولأنه القاضى (الملاكى) للخليفة فقد جعله الخليفة القاضى الأكبر للأمة والدولة، تقول الرواية (وهو أول مَنْ دُعِيَ بقاضي القضاة في الإسلام). بل وصلت رعاية الرشيد للابن (يوسف) بعد أبيه (أبى يوسف ). كان أبو يوسف قد استخلف ابنه يوسف قاضيا بالنيابة عنه على الجانب الغربي من بغداد، فأقره الرشيد على عمله. وبعد موت الأب (أبي يوسف) قام الرشيد بتعيين الابن يوسف فى قضاء القضاة بعده..

 

رابعا : إجتهاده فى تلبية نزوات الخليفة الرشيد..

 

القاضى بشر بن الوليد ـ فى عصر المأمون ـ كان من تلامذة ابى يوسف، وكان مشغوفا بقص حكايات شيخه أبى يوسف للخليفة المأمون وغيره.

 

وقد حكى فقال‏:‏ كنت عند أبي يوسف القاضي وكنا في حديث ظريف فقلت له‏:‏ حدثني به قال‏:‏ قال لي يعقوب القاضي‏:‏ بينا أنا البارحة قد أويت إلى فراشي فإذا داق يدق الباب دقًا شديدًا ، فأخذت عليّ إزاري وخرجت عليه،  فقال‏:‏ أجب أمير المؤمنين‏.‏ فقلت‏:‏ يا أبا حاتم لي بك حرمة، وهذا وقت كما ترى، فإن أمكنك أن تدفع ذلك إلى الغد؟‏ قال‏:‏ ما لي إلى ذلك سبيل.‏ قلت‏:‏ وكيف كان السبب؟ قال‏:‏ خرج إلي مسرور الخادم فأمر أن آتي بك أمير المؤمنين‏.‏ فقلت‏:‏ فأذن لي أن أصب عليّ ماء وأتحنط، فإن كان أمر من الأمور كنت قد أحكمت شأني، وإن رزق الله العافية فلن يضر‏.‏ فأذن لي،  فدخلت، فلبست ثيابًا جددًا، وتطيبت بما أمكن من الطيب. ثم خرجنا فمضينا حتى أتينا إلى دار الرشيد)

 

هنا نتعرف على إرهاب نظام الحكم فى عهد الرشيد، استدعاء بالليل لواحد من مستشارى الخليفة، ولأن ذلك المستشار (أبو يوسف) يعلم أن حياته معلقة بكلمة ينطقها الرشيد ولأنه يعرف نزق الرشيد وتقلب عواطفه وغضبه السريع و بكاءه السريع وسرعة إقدامه على القتل فإن أبا يوسف تملكه الرعب من هذا الاستدعاء المفاجىء الذى جاء به (الحاجب) أبو حاتم. لذا كان لا بد من تلبية الأمر الذى يحتمل القتل لأبى يوسف، لذلك استعد للقتل بأن (تحنط) وارتدى ما أراد أن يموت وهو يرتديه من اللباس. ومضى مع (الحاجب) الى قصر الرشيد.

 

هناك وجد الرعب فى إنتظاره. وجد مسرور السياف الخاص بالرشيد و الذى يقطف رأس من ينطق الرشيد بقتله. وجود مسرور السياف ألقى الرعب فى قلب ابى يوسف ، وهذا ما نحسّه من قراءة الرواية، تقول: ( فإذا مسرور فقال له هرثمة‏:‏ قد جئت به‏.‏ فقلت لمسرور‏:‏ يا أبا هاشم خدمتي وحرمتي (أى بحق خدمتى لك وحرمتى عندك) وهذا وقت ضيق فتدري لِم طلبني أمير المؤمنين؟ قال‏:‏ لا.‏ قلت‏:‏ فمَنْ عنده؟ قال‏:‏ عيسى بن جعفر‏.‏ قلت‏:‏ ومَن ؟ قال‏:‏ ما عنده ثالث‏). وبلا شك فهذه الاجابات القصيرة من مسرور أرعبت القاضى أكثر و أكثر وأعلمته أن شرا مستطيرا ينتظره. تقول الرواية إن مسرور السياف قال لقاضى (‏مرّ، فإذا صرت في الصحن فإنه (أى الخليفة)  في الرواق فحرك رجلك في الأرض فإنه سيسألك فقل‏:‏ أنا‏.‏ فجئت ففعلت فقال‏:‏ مَنْ هذا قلت‏:‏ يعقوب قال‏:‏ ادخل.‏ فدخلت فإذا هو جالس وعن يمينه عيسى بن جعفر فسلَّمت فرد عليّ السلام وقال‏:‏ أظننا روعناك.‏ قلت‏:‏ أي والله وكذلك مَنْ خلفي‏.‏ (أى روعتنى وروعت أهلي من خلفي) قال‏:‏ اجلس، فجلست حتى سكن روعي).

 

 وبعد أن هدأ القاضى وذهب عنه الروع والرعب أعلمه الرشيد بالسبب الهائل فى استدعائه فى منتصف الليل: تقول الرواية (ثم التفت إليَ فقال‏:‏ يا يعقوب تدري لِم دعوتك؟‏‏ قلت‏:‏ لا.‏ قال‏:‏ دعوتك لأشهدك على هذا أن عنده جارية سألته أن يهبها لي فامتنع وسألته أن يبيعنيها فأبى. ووالله لئن لم يفعل لأقتلنّه). هذه هى القضية.

 

الرشيد رأى جارية يملكها ابن عمه عيسى بن جعفر، وأعجبته وأراد أن يتنازل له عنها ابن عمه فرفض ابن عمه، وأصبحت مشكلة عاتية، يمكن أن يقطع مسرور السياف رقبة ابن عم الخليفة من أجلها. ولهذا كان لا بد من استدعاء أبى يوسف فى الليل حتى يجد حلا للمشكلة.

 

بالطبع استراح أبو يوسف، وعرف أنه فى الأمان، وعليه أن يجد حلا يشبع رغبة الرشيد فى تلك الجارية. (قال‏:‏ فالتفتُ إلى عيسى فقلت له‏:‏ وما بلغ اللّه بجارية تمنعها أمير المؤمنين وتنزل نفسك هذه المنزلة؟) أى ما هو قدر هذه الجارية التى تتمسك بها الى درجة أن تعرض نفسك للقتل فى سبيلها؟ (فقال لي‏:‏ عجلت في القول قبل أن تعرف ما عندي‏.‏ قلت‏:‏ وما في هذا من الجواب قال‏:‏ إن علي يمينًا بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك أن لا أبيع هذه الجارية ولا أهبها).

 

هنا المعضلة الفقهية، وهنا يكون أبو يوسف هو (الحلّ). فالجارية إياها لا يمكن لصاحبها أن يبيعها بثمن ولا يمكن أن يهبها لأحد بلا ثمن. أى لا يمكن أن يتنازل عنها لأى أحد حتى لو كان الرشيد، ولو فعل فعليه كفارة وفدية والتزام إن حنث اليمين بأن يطلق نساءه ويعتق مماليكه و جواريه وأن يتصدق بكذا وكذا.. وهو لا يستطيع دفع تكلفة ذلك كله. فما المخرج؟، يقول أبو يوسف يحكى: ( فالتفت إلي الرشيد فقال‏:‏ هل له في ذلك من مخرج؟‏ قلت‏:‏ نعم.‏ قال‏:‏ وما هو؟ قلت‏:‏ يهب لك النصف ويبيعك النصف فيكون لم يبع ولم يهب.‏ قال‏:‏ ويجوز ذلك قلت‏:‏ نعم). تلك هى الحيلة العبقرية لأبى يوسف أستاذ علم الحيل الفقهية فى المذهب الحنفى. بهذه الحيلة لا يكون عيسى بن جعفر قد حنث فى يمينه ـ وتكون الجارية ملكا للرشيد بدون مشاكل، نصفها هبة و نصفها الاخر بالبيع. وسرعان ما استجاب عيسى بن جعفر فقال‏ للقاضى (فأشهدك أني قد وهبت له نصفها وبعت له نصفها الباقي بمائة ألف دينار) تاتى الخطوة التالية: (فقلت:‏ عليّ بالجارية، فأتي بالجارية وبالمال فقال خذها يا أمير المؤمنين بارك الله لك فيها).

 

هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟

 

لا. لأن الرشيد يريد أن ينام مع الجارية فى نفس الليلة، مع أن الشرع يستوجب إستبراءها قبل الدخول بها، لذا أسرع هارون الرشيد يسأل القاضى: (قال‏:‏ يا يعقوب بقيت واحدة.‏ قلت‏:‏ وما هي؟  قال‏:‏ هي مملوكة ولا بد أن تستبرأ، ووالله لئن لم أبت معها لِيلتي إني لأظن أن نفسي ستخرج) يعنى إن أمير المؤمنين سيموت إن لم ينم مع الجارية الآن، ولا بد للقاضى أن يجد له حكما فقهيا حتى لا يموت بحسرته على الجارية (قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ) وهذا حكم باطل وضالّ، لأن الاستبراء واجب قبل عقد الزواج باى إنثى ثيب حتى لا تكون حاملا من زوجها السابق. ولكن هذا الحل وجد قبولا من الخليفة الذى (أنعظ  ـ أى إشتدت شهوته وتغلبت عليه) فاقترح الخليفة أن يعتقها وأن يتزوجها على سنة ابى يوسف:(قال‏:‏ فإنى قد أعتقتها فمن يزوجنيها؟ قلت‏:‏ أنا). وتم عقد الزواج الباطل بسرعة، حضر الشهود، وتحول مسرور فى لحظة من سيّاف يبث الرعب الى شاهد وديع فى زواج باطل، تقول الرواية على لسان ابى يوسف (فدعا بمسرور وحسين فخطبت وحمدت الله ثم زوَّجته على عشرين ألف درهم ودعا بالمال فدفعه إليها ثم قال لي يا يعقوب انصرف) وانتهى الحفل الذى بدأ فيلما من أفلام الرعب ثم انتهى فيلما من أفلام عادل إمام أو حسن الامام، ولم يبق إلا مكافأة القاضى الذى جمع رأسين فى الحرام، يحكى القاضى فيقول عن الرشيد العريس (ورفع رأسه إلى مسرور وقال‏:‏ يا مسرور قال‏:‏ لبيك أمير المؤمنين‏.‏ قال‏:‏ احمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم وعشرين تختا ثيابًا.‏ فحمل ذلك معي) أى رجع الى بيته وأهله بجراب من المال وتخت من الثياب.

 

وبعد أن حكى أبو يوسف لتلميذه بشر بن الوليد تلك الحادثة سأله عن رأيه الشرعى: (فقال بشر بن الوليد‏:‏ فالتفت إلي يعقوب فقال‏:‏ هل رأيت بأسًا فيما فعلت؟ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ فخذ منها حقك‏.‏ قلت‏:‏ وما حقي‏؟ ‏ قال‏:‏ العشر.‏ قال‏:‏ فشكرته ودعوت له) أى لأن الراوى بشر بن الوليد وافق ابا يوسف على فعلته فقد منحه أبو يوسف مكافاة هى العشر من الجائزة . وربما يكون هذا نوعا من الاحساس بالذنب لدى أبى يوسف، وهو يعرف أنه استباح شرع الله بما فعل، ويريد أن يقنع نفسه بأنه ما فعل إثما وذلك بطلب شهادة تزكية من تلميذه، وليس هذا مألوفا من أستاذ يأخذ تزكية أو تبريرا من تلميذه، كما إنه لس مألوفا أيضا أن يتنازل أبو يوسف عن عشر الجائزة لهذا التلميذ وهو الذى تشيرالروايات الى بخله الشديد.

 

وتأتى المفاجأة الأخيرة فى القصة، فقد بعثت الجارية العروس الى ابى يوسف بنصف مهرها هدية له، يقول الراوى بشر بن الوليد بعد أن قبض نصيبه من الجائزة (وذهبت لأقوم فإذا بعجوز قد دخلتَ فقالت‏:‏ يا أبا يوسف ابنتك تقرئك السلام وتقول لك‏:‏ والله ما وصل إليَّ في ليلتي هذه من أمير المؤمنين إلا المهر الذي عرفته وقد ضفت إليك النصف منه وخلفت الباقي لما أحتاج إليه)

 

خامسا: أبو يوسف وأهل الحديث:

 

كان الحديث المصنوع هو الدين الواقعى للدولة العباسية، به قامت دولتهم، وبه استمرت بكهنوتها الدينى و السياسى، وبه استمتع خلفاؤها بما يشتهون، ووجدوا من الفقهاء والمحدثين من يصنع لهم من الحديث ما يشاءون فيصبح حديثا نبويا ووحيا من السماء تحت مصطلح (السّنة).

وقد ذهب أبو يوسف الى بغداد مسلحا بانفتاح عقلى تعلمه من شيخه أبى حنيفة، وأضاف انفتاحا آخر على قبول الحديث باعتباره شهادة القبول له للوصول الى البلاط العباسى. لذا اختلط باهل الحديث فى بغداد وصار منهم، فلما وصل ظلت أبوابه مفتوحة أمامهم يروى لهم بعض ما يحدث، ويصنع لهم ما يشاء من الأحاديث بزعم أنه سمع فلانا يروى عن فلان عن فلان..الخ ..

 

وكانت لأصحاب الحديث أسبابهم القوية فى الرد على تحية أبى يوسف باحسن منها، فقد ترك طريقة ابى حنيفة الرافضة لهم ولأحاديثهم وصار منهم، ثم إنه صاحب نفوذ وأموال وصلة قوية بالخليفة الرشيد، ثم هو أكبر رأس فقهية فى عصره باعتباره قاضى القضاة. ولذا صنع أبو يوسف بهم وبأتباعه من المحدثين المذهب الحنفى، وهو مذهب يحمل من أبى حنيفة الاسم فقط، بينما يمتلىء بكل سمات المذاهب الأخرى من أحاديث كاذبة وفتاوى باطلة، بل ويزيد على بقية المذاهب ما يعرف بفقه الحيل، او التحايل على الشرع بمثل ما كان أبو يوسف يفعل.

 

ونعطى بعض التفصيلات عن علاقته بفقهاء بغداد معززة بالروايات التاريخية.

 

حضورهم مجالسه:

 

ويقولون عن أبي يوسف وهو فى مجلسه وسلطته (وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم، حتى إن أحمد بن حنبل كان شاباً وكان يحضر مجلسه في أثناء الناس فيتناظرون ويتباحثون، وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضاً‏.‏)

 

رغبتهم فى الحصول على جزء من هداياه:

 

يروى يحيى بن معين قال‏:‏ (كنت عند أبي يوسف القاضي وعنده جماعة من أصحاب الحديث وغيرهم فوافته هدية من أم جعفر احتوت على تخوت دبيقي ومصمت وطيب وتماثيل ند وغير ذلك، فذاكرني رجل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏مَنْ أتته هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه فيها"‏ فسمعه أبو يوسف فقال‏:‏ أبي تعرض؟ ذلك إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والهدايا يومئذ الأقط والتمر والزبيب‏"‏ ولم تكن الهدايا ما ترون. يا غلام شل إلى الخزائن).

 

سال لعاب الفقيه عندما رآى الهدايا تنثال على أبي يوسف فطمع فى جزء منها، واستشهد بحديث صنعه فى التو واللحظة. لم يدخل أبو يوسف فى جدل معه حول صحة أو ضعف الحديث، وإنما بادر بتأويله على أنه لا يصح تطبيقه فى عصر الرشيد لاختلاف "rtl"> وظهرت مشكلة القول بخلق القرآن فى نهاية عصر المأمون قبيل موته أى عام 218، أى بعد موت ابى يوسف بستة وثلاثين عاما، ووقف فيها الفقهاء وأصحاب الحديث ضد المعتزلة، واستخدموا إسم الفقيه أبى يوسف بعد موته فى الدعاية ضد القائلين بخلق القرآن، فصنعوا إسنادا من رواة زعموا أنه يحرّم الكلام مع من يقول بخلق القرآن، ويوجب هجرهم، تلك الرواية تقول (أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن أبي طالب قال‏:‏ حدّثنا علي بن عمر بن محمد التمار قال‏:‏ حدَّثنا مكرم بن أحمد القاضي قال‏:‏ حدَّثنا أحمد بن عطية قال‏:‏ سمعت بشارًا الخفاف قال‏:‏ سمعت أبا يوسف يقول‏:‏ مَنْ قال القرآن مخلوق فحرام كلامه وفرض مباينته) وتقول رواية أخرى (وقال بشار الخفاف‏:‏ سمعت أبا يوسف، يقول‏:‏ من قال‏:‏ القرآن مخلوق، فحرام كلامه، وفرض مباينته، ولا يجوز السلام ولا رده عليه‏).

 

وفى العصر المملوكى اشتهرت (الكيمياء) او التحايل بها لتحويل المعادن الى ذهب. ولذا أضيف فى العصر المملوكى كلام آخر منسوب لأبى يوسف فى الهجوم على الكيمياء وعلى علم (الكلام) ـ أى الفلسفة (الاسلامية) والهجوم على من يتتبع الأحاديث المصنوعة الموضوعة، ولذا روى ابن كثير هذه الرواية قائلا (ومن كلامه الذي ينبغي كتابته بماء الذهب قوله‏:‏ من طلب المال بالكيما، أفلس، ومن تتبع غرائب الحديث كذب، ومن طلب العلم بالكلام تزندق‏). وهى رواية لم نعثر على اصل لها فى ترجمة ابى يوسف فى العصر العباسى. أى تم صنعها ـ ربما فى عهد ابن كثير المتوفى عام 774.

 

الكذب من أجل أبى يوسف

ولكن مشكلة ابى يوسف لدى الفقهاء السنيين هو حكمه الظالم وموالاته وخدمته لأهل الجور. ولذلك صنعوا روايات تجعله يحكم بالجور على الخليفة، منها رواية تجعله يحكم بالجور على الخليفة موسى الهادى لصالح خصم مجهول من العوام: (.. قال‏:‏ خوصم موسى أمير المؤمنين إلى أبي يوسف في بستانه، فكان الحكم في الظاهر لأمير المؤمنين، وكان الأمر على خلاف ذلك،  فقال أمير المؤمنين لأبي يوسف‏:‏ ما صنعت في الأمر الذي نتنازع إليك فيه قال‏:‏ خصم أمير المؤمنين يسألني أن أحلف أمير المؤمنين أن شهوده شهدوا على حق، فقال له موسى‏:‏ وترى ذلك قال‏:‏ قد كان ابن أبي ليلى يراه، قال فأردد البستان عليه. إنما احتال أبو يوسف). والراوى الكاذب لم يكن يعلم أن أبا يوسف لم يتول القضاء فى خلافة موسى الهادى شقيق هارون الرشيد والخليفة السابق له، بل تولى القضاء فى خلافة أخيه الرشيد. وما كانت شخصية موسى الهادى القوية الصارمة الباطشة تسمح لأحد أن يتصرف هكذا فى مجلسه.

 

ونفس الرواية السابقة مع بعض تفصيلات صنعوها وجعلوا فيها أبا يوسف هو القاضى الحاكم بأمره فى حضور الرشيد، وجعلوه يحكم على الرشيد لصالح واحد مجهول الاسم من الرعية فى نزاع حول بستان أيضا، وتبدأ الرواية بمقدمة يقول فيها ابو يوسف (وُلًيت هذا الحكم وانغمست فيه وليس في قلبي منه شيء، وأسأل الله أن لا يسألني عن جور ولا ميل مني إلى أحد إلا يوماً واحداً فإنه يقع في قلبي منه شيء) أى لم يظلم فى الحكم إلا فى يوم واحد (قالوا‏:‏ وما هو قال‏:‏ جاءني رجل فقال‏:‏ لي بستان قد اغتصبني إياه أمير المؤمنين‏.‏ فقلت‏:‏ فيِ يد مَنْ هو الآن فقال‏:‏ في يد أمير المؤمنين‏.‏ قلت‏:‏ ومن يقوم بعمارته ومصلحته قال‏:‏ أمير المؤمنين‏.‏ فأخذت قصته ودخلت قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن لك خصمًا بالباب قد ادعى كيت وكيت.‏ فقال‏:‏ هذا البستان لي اشتراه لي المهديِ‏.‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تدعو خصمك فأسمع منكما.‏ قال‏:‏ فدعي به فأدخل فادّعى فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ما تقول فيما ادعى قال‏:‏ البستان لي وفي يدي اشتراه لي المهدي‏.‏ قلت‏:‏ يا رجل قد سمعت فما تشاء ‏.‏ قال‏:‏ خذ لي يمينه ‏.‏ قلت‏:‏ أيحلف أمير المؤمنين قال‏:‏ لا.‏ قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أعرض عليك اليمين ثلاثًا فإن حلفت وإلا حكمت عليك‏.‏ فعرضت عليه اليمين ثلاثًا فأبى أن يحلف فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين قد حكمت عليك بهذا البستان فإن رأيت أن تأمر بتسليمه إليه.‏ قال‏:‏ لا أسلم.‏ قلت‏:‏ يا رجل تعود في مجلس غير هذا فقال‏:‏ افعل لي ما يجب أن تفعل.‏ قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين بالحبس يعرض ‏.‏ فأمر به فأخرج.‏ فقال الفضل بن الربيع‏:‏ والله ما رأيت مجلسًا قط إلا وهذا أحسن منه.‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن رأيت أن يتم حسن هذا المجلس بردٌ هذا البستان .‏ قيل له‏:‏ فأي شيء في قلبك قال‏:‏ جعلت أحتال في صرف الخصومة والقضية عن أمير المؤمنين ولم أسأله أن يقعد مع خصمه أو يأذن لخصمه أن يقعد معه على السرير).

 

هذه رواية باطلة ظاهرة التصنع لا تتفق مع طبيعة ابي يوسف أو طبيعة الرشيد وسطوته ورهبته و قد خلت من وجود مسرور السياف والرقاب التى كان تتساقط بمجرد إشارة من الرشيد، ومنها رقبة جعفر ابن خالد البرمكى نفسه. الرواية التى ذكرناها عن استدعاء أبى يوسف ليلا لملاقاة الرشيد ورعبه هى التى تتسق مع العصر وتتناغم مع الشخصيات الموجودة فيها.

 

يؤكد هذا ندم أبى يوسف عند موته، وقد تذكر أستاذه الفاضل ابا حنيفة بورعه وتقواه و شموخه فكان يقول (صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ثم انصبت علي الدنيا سبع عشرة سنة فما أظن أجلي إلا قد اقترب) يقول الراوى بشر بن غياث معلقا‏:‏ فما مضت شهور حتى مات). وعلى فراش الاحتضار كان يقول (يا ليتني مت على ما كنت عليه من الفقر وإني لم أدخل في القضاء...).

 

ختاما:

 

أبو يوسف هو أول من أفسد مذهب ابى حنيفة وطريقته، وهو أول من تولى منصب قاضى القضاة، وأول من جعل ابنه يتولى نفس المنصب بالواسطة، وهو أول من استخدم علمه الفقهى فى إشباع نزوات السلطان، (قبله رفض أبو حنيفة أن يحكم للخليفة المنصور بالتحلل من عقد عقده مع زوجته يمنعه من الزواج عليها).

 

وحين ينهمك قاضى القضاة فى تلبية نزوات الخليفة فلا تسأل عن أحوال العدل بين الناس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الفصل الثالث :

منصب القضاء ونزوات الفقهاء: (يحيى بن أكثم نموذجا)

 

 أولا:

 

المستبد هو منبع الفساد مهما بلغ صلاحه: (المأمون نموذجا)

 

1 ـ في مقال (القضاء السياسى فى عهد الخلفاء يفسد العدل) أشرنا الى حديث جرى بين المأمون والقاضى بشر بن الوليد. وقد جاء فى ثنايا كلام المأمون تحسّره على ظلم القضاة فى عصره، ومنه قوله عن بعضهم (ولينا رجلًا - أشرت به علينا - قضاء الأبلة وأجرينا عليه ألف درهم ولا له ضيعة ولا عقار ولا مال فرجع صاحب الخبر بالناحية أن نفقته في الشهر أربعة آلاف درهم فمن أين هذه الثلاثة آلاف درهم‏!‏ وولينا رجلًا - أشار به محمد بن سماعة - دمشق وأجرينا عليه ألفي درهم في الشهر فأقام بها أربعة عشر شهرًا ووجهنا مَنْ يتتبع أمواله ويرجع إلينا بخبره فصح عنه أنه يملك قيمة ثلاثة عشر ألف دينار من دابة وبغل وخادم وجارية وغير ذلك‏.‏ وولينا رجلًا - أشار به غيركما - نهاوند فأقام بعد عشرين شهرًا من دخول يده في العمل سبعين بحينا وعشرين بحينا وفي منزله أربعة خدم خصيان قيمتهم ألف وخمسمائة في دينار) وجاء فى ثنايا كلام المأمون إشارة لقاضى القضاة فى عهده وهو (يحيى بن أكثم) قوله عنه (أما يحيى بن أكثم فما ندري ما عيبه‏!‏ أما ظاهره فأعف خلق الله) ثم قال المأمون فى النهاية (ووددت أن يتأتى مائة قاض مرضيين وأني أجوع يومًا وأشبع يومًا). (المنتظم 10 / 61 : 62)

 

 ونعيد التاكيد على أن الاستبداد السياسى هو الأصل فى انحراف القضاة وانحلالهم، أى إن المستبد هو المسئول الأول عن ضياع العدل فى دولته، وطالما استبد بالأمر فإن هذا الظلم سيمتد الى أعوانه وفى مقدمتهم القضاة المنوط بهم تحقيق العدل بين الناس فى القضايا العادية.

 

والمأمون الذى يتباكى هنا على ضياع العدل ويحمّل المسئولية للقضاة هو ينافق ويكذب، إذ كان يحلو له أن يتحدث عن مناقبه الشخصية أمام جلسائه ليحكيها عنه جلساؤه يمدحونه بين رواة الأخبار والأحاديث لتتعطر سيرته فيما بعده. ولقد قال المأمون عن نفسه أمامهم فى إحدى جلساته (أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف أن لا أؤجر عليه، ولو عرف الناس مقدار محبتى للعفو لتقربوا لى بالذنوب) هذا المأمون هو نفسه الذى  قَتَل فى شهر ذى القعدة سنة 200  يحيى بن عامر بن اسماعيل لأن  يحيى اغلظ له فقال له‏:‏ امير الكافرين‏.‏ (المنتظم 10 / 65، 86).

 

والمأمون الذى كان يتباهى بسعة الأفق وبأن يتناظر مع خصومه بحرية هو الذى ألزم مثقفى دولته من الفقهاء والمحدثين والقضاة والكتّاب بالقول بأن القرآن مخلوق، بل ألزم ولى عهده المعتصم بذلك بعد موته. والمأمون الذى تستّر على قاضي القضاة يحيى بن أكثم أشهر (لوطي) فى العصر العباسى قائلا عنه (أما يحيى بن أكثم فما ندري ما عيبه‏!‏ أما ظاهره فأعف خلق الله). هو نفسه المأمون الذى غضب قبيل موته على القاضى يحيى بن أكثم ـ ليس لأن يحيى منحل وفاسد خلقيا ـ  ولكن لأن يحيى خالف المامون فى موضوع خلق القرآن. أى إن المأمون هو منبع الفساد، ليس فى شخصه، فربما كان من أفضل بنى العباس على المستوى الشخصى، لا يصل اليه ولا يقاربه سوى الخليفة المهتدى ـ ولكن منبع الفساد هو فى السلطة المطلقة التى ورثها ومارسها. وحقا، فإن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.

 

فى عام 218  كان المأمون فى الرقة، ومنها بعث رسالة الى اسحاق بن ابراهيم فى بغداد بإجبار القضاة والمحدثين والفقهاء على القول بخلق القرآن، متهما من يخالفه بالكفر والضلال، وأدركته الوفاة هناك، وعند الاحتضار أخذ يوصى أخاه ولى عهده المعتصم، ومنها قوله عن خلق القرآن (هذا ما أشهد عليه عبد الله بن هارون أمير المؤمنين بحضرة من حضر؛ أشهدهم جميعا على نفسه أنه يشهد ومن حضره أن الله عزوجل وحده لا شريك له فى ملكه، ولا مدبر لأمره غيره، وأنه خالق وما سواه مخلوق، ولا يخلو القرآن أن يكون شيئا له مثل؛ ولا شىء مثله تبارك وتعالى..) إلى أن يقول لأخيه: (يا أبا اسحاق أدن منى واتعظ، وخذ بسيرة أخيك فى القرآن)، وفى وصيته الأخيرة أوجب تقريب زعيم المعتزلة ابن أبى داود القائل بخلق القرآن، وطرد يحيى بن أكثم الذى لا يرى هذا القول، فقال فى وصيته الأخيرة لأخيه (وأبو عبد الله بن أبى داود فلا يفارقك، وأشركه فى المشورة فى كل أمرك، فإنه موضع لذلك منك، ولا تتخذن بعدى وزيرا تلقى اليه شيئا، فقد علمت ما نكبنى به يحيى بن أكثم فى معاملة الناس، وخبث سيرته حتى ابان الله ذلك منه فى صحة منى، فصرت الى مفارقته، قاليا له، غير راض بما صنع فى أموال الله وصدقاته، لا جزاه الله عن الاسلام خيرا) (تاريخ الطبرى 8 / 631 ـ ، 647: 649). هنا يزعم المامون قبيل موته أنه عرف بانحراف قاضى القضاة يحيى بن أكثم، ويوصى بعزله وإبعاده متهما إياه بالسرقة وخبث السيرة وسوء معاملة الناس.

 

والواضح أن المأمون ظل راضيا عن يحيى بن أكثم يغض الطرف عن إنحلاله وظلمه وفساده، فلما خالفه يحيى فى موضوع خلق القرآن غضب عليه المأمون وزعم إنه اكتشف ـ وهو على فراش الاحتضار ـ فساد يحيى وجوره.     

 

ومن أسف فإن فساد يحيى فى أداء وظيفته قاضيا للقضاة لم تتعرض له الروايات بالتفصيل، ولكن الذى تواتر فى سيرته هو اتهامه يالشذوذ الجنسى الايجابى، بحيث أن المصادر التاريخية المتأخرة أخذت تبالغ فى هذا الموضوع بما يجعلنا لا نأخذ بها مكتفين بالمصادر المكتوبة فى العصر العباسى، وأولها تاريخ بغداد ( 14 جزءا ) لأحمد بن على الخطيب البغدادى المتوفى عام 463، وهو الأقرب الى عصر يحيى بن الأكثم (160 ـ 243 )، ونقل ابن الجوزى المتوفى عام 597 روايات الخطيب البغدادى فى المنتظم ( 18 ) جزءا. وجاءت إشارات بين السطور فى تاريخ الطبرى ( 10 اجزاء)عن يحيى بن الأكثم (8 / 622، 625، 649، 652. 9 / 188، 190، 197، 233).

 

ونؤكد هنا أيضا أن هذا الفساد الخلقى كان عادة وقتها، فإذا كان المأمون يشكو من القضاة الآخرين المرتشين واستكثارهم للجوارى والغلمان فإن أولئك القضاة كانوا تحت مسئولية قاضى القضاة يحيى بن الأكثم، والفارق إنهم كانوا مستورين غير مشهورين بينما كان يحيى فى دائرة الضوء، وكانوا يمارسون الانحلال العادى ولكن يحيى (تخصص) فى الفسق بالصبيان فقط.

 

ثانيا:

 

الشذوذ الجنسي شريعة إجتماعية فى العصر العباسى، وليس يحيى بن أكثم فقط..

 

ونقرر حقيقة تاريخية هي أن الشذوذ الجنسي وانتشاره بين أئمة الفقهاء وعوامهم ذلك كان شيئا مألوفا وثقافة شائعة فى العصر العباسى لا تستلزم الكثير من الانكار أو الشعور بالعار، وهنا يأتى الفرق بين عصرنا وعصرهم، فهناك من أئمة الفقه السنى فى عصرنا من يدمن هذا الانحلال الشاذ خلسة متظاهرا أمام الناس بالورع، أما العصر العباسى فقد تميز بالصراحة.. والبجاحة.. ونعطى فى هذا المجال بعض حقائق التاريخ:

 

1 ـ لم تكن بالعرب معرفة بهذا الشذوذ حتى عهد الخليفة الوليد بن الملك ت 96، وهو القائل (لولا أن الله ذكر آل لوط فى القرآن ما ظننت أن أحدا يفعل هذا) (تاريخ الخلفاء للسيوطى 358).

 

2 ـ وكان الوقوع فى الانحلال ـ عامة ـ بتشجيع من الفقهاء التابعين لأسرة الأموية، فقد تخلص بنو امية من الخليفة عمر بن عبد العزيز وقتلوه بالسم بعد حكم قصير (سنتان وخمسة أشهر : 99 : 101) وجاء بعده ابن عمه يزيد بن عبد الملك معجبا بعمر بن عبد العزيز يريد السير على طريقته فلم يتركه أهله، واستعانوا عليه بالفقهاء العاملين لديهم يحرضونه على الفجور، تقول الرواية (لما تولى يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز قال: سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز، فأتى له أهله الأمويون بأربعين شيخا شهدوا له أن ما على الخلفاء حساب ولا عذاب) فقضى خلافته فى تهتك ومجون الى أن مات عام 105. (تاريخ الخلفاء للسيوطى 392: 393) أى كانت غواية ذلك الخليفة الشاب عن طريق الفقهاء.

 

وفيما بعد تولى الخلافة ابنه الوليد بن يزيد بن عبدالملك بعد موت عمه هشام بن عبدالملك عام 125، وكان الوليد قد تمرس على سنة ابيه فى الفسق، فوصفوه بأنه كان فاسقا شريبا للخمر منتهكا للحرمات، وأنه كان ينام مع زوجات أبيه امهات أخوته، وأنه أراد أن يحج ليشرب فوق ظهر الكعبة، فمقته الناس لفسقه وثارت عليه قبائل اليمن لقتله زعيمهم خالد القسرى، وانتهت الثورة بقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك عام 126، ورأى أخوه سليمان بن يزيد رأسه مقطوعا يطاف به على رمح فقال (أشهد إنه كان شروبا للخمر ماجنا فاسقا، ولقد راودنى عن نفسى) (تاريخ الطبرى 7 / 210 ـ ، 231 ـ ، 246 ـ 251 ـ) (المنتظم 7 / 236 ـ ، 249 ـ) (تاريخ الخلفاء للسيوطى: 399) المستفاد من هذا أن بداية المعرفة بالشذوذ الجنسي كانت فى خلافة الوليد بن يزيد حين راود اخاه عن نفسه.

 

3 ـ بمجىء العصر العباسى كان هذا المرض الفردى قد تحوّل الى وباء، وساعد عليه شهرة بعض الشعراء به مثل أبى نواس، وإدمان بعض الخلفاء العباسيين له، وأولهم محمد الأمين إبن الرشيد الذى كانت خلافته أربع سنين وثمانية اشهر وخمسة أيام (193 : 197)، ولأن الناس على دين ملوكهم فقد أصبحت للشذوذ الجنسى مشروعية إجتماعية فى العصر العباسى ساعد عليها كثرة الغلمان من العبيد، واستخدامهم فى هذه المهنة لقاء أجر فى الحوانيت والخانات بمثل البغاء بالنساء، وقد تردد ذلك فى كتابات الجاحظ.

 

أى قبيل ظهور يحيى بن أكثم كانت شهرة الخليفة محمد الأمين بن زبيدة فى الشذوذ قد بلغت الآفاق ، فاشتهر بأنه ابتاع الخصيان وغالى بهم وصيرهم لخلوته فى ليله ونهاره وقوام طعامه وشرابه وامره ونهيه ورفض النساء والجواري. واشتهر بغرامه بمملوكه كوثر، وقال بعض الشعراء عن عصره:

أضاع الخلافة غش الوزير وفسق الأمير وجهل المشير

لواط الخليفة أعجوبة          وأعجب منه خلاق الوزير

فهذا يدوس وهذا يداس       كذاك لعمري خلاف الأمور

(تاريخ الطبرى 8 / ـ 508 ـ ) (تاريخ الخلفاء للسيوطي – ص301)

 

وبمقتل الخليفة الأمين تولى الحكم بعده المأمون، وجاء تعيين يحيى بن الأكثم قاضيا للقضاة فانشغل الناس بلواط يحيى بعد موت الأمين.

 

4 ـ وبعد موت يحيى عام 243 اشتهر فقيه آخر بالعشق الشاذ وهو (محمد بن داود الظاهري) ت 297

 

أبوه داود بن علي فقيه العراق ومنشىء المذهب الظاهري الذي يقف عند ظاهر النصوص ويمنع تأويلها والاجتهاد فيها، وقد ظهرت عبقرية ابنه فى حياة أبيه، وبعد وفاة أبيه جلس ابنه محمد يفتى مكانه. ومع صغر سنه فقد تزعم أصحاب الحديث فى العراق وبغداد. والحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي صاحب الكتاب الضخم "تاريخ بغداد" كتب سيرة محمد بن داود ضمن تاريخه لأهل بغداد ( 5 / 256 رقم 2750 )، وكتابه "تاريخ بغداد" (14 جزءا)  هو المصدر الأساس للعصر العباسي ورجاله من بدايته الى القرن الخامس الهجرى، وعنه نقل اللاحقون ترجمة محمد بن داود مثل (المنتظم) لابن الجوزى و(تاريخ ابن كثير) و(الوافي بالوفيات) للصفدى و(العبر) للذهبي و(وفيات الأعيان) لابن خلكان و(شذرات الذهب) لابن العماد الحنبلي و(الفهرست) لابن النديم...

 

وذكر الخطيب البغدادي أن محمد بن داود كان يهوى فتى حدثا من أهل اصبهان يقال له محمد بن جامع ويقال له ابن زخرف.. وكان ابن جامع هو الذى ينفق على محمد بن داود، حتى قيل (لم ير معشوق ينفق على عاشق غيره). ودخل محمد بن جامع يوما الى الحمام وخرج فنظر فى المرآة فأعجبه حسنه فغطى وجهه بمنديل وجاء الى محمد بن داود وهو على تلك الحالة فقال: ما هذا؟ قال: نظرت فى المرآة فأعجبنى حسنى فما أحببت أن يراه أحد قبلك، فغشى على محمد بن داود من فرط العشق.

 

وفى مجلسه الذى يفتى فيه ويروى الأحاديث جاءه رجل برقعة يستفتيه، مكتوب فيها:

 

يا ابن داود يا فقيه العراق      أفتنا فى قواتل الأحداق

 

هل عليهن فى الجروح قصاص أم مباح لها دم العشاق

 

فكتب له

 

كيف يفتيكم قتيل صريع   بسهام الفراق والاشتياق

 

وقيل التلاق أحسن حالا  عند داود من قتيل الفراق

 

ولم يزل محمد بن داود فى حبه لابن جامع حتى قتله الحب، فقد دخل نفطويه النحوي على ابن داود وهو يحتضر فقال له: كيف نجدك؟ فقال: حب من تعلم اورثني ما ترى.. "يشير الى غرامه بابن جامع".

 

5 ـ كان هذا قبل وبعد يحيى بن الأكثم، فماذا كان حال الفقهاء المعاصرين له؟

 

كان على شاكلته الفقيه المحدث (محمد بن مناذر) المتوفى عام 198. قيل عنه (سمع محمدًا وشعبة وسفيان بن عيينة وغيرهم‏.‏ وكان محمد بن مناذر يتعبد ويتنسك ويلازم المسجد، ثم هوى عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فتهتك وعدل عن التنسك وأظهر الخلاعة. وكان عبد المجيد من أحسن الناس وجها وأدبا ولباسا، وكان يحب ابن مناذر أيضًا). (المنتظم 10 / 71). كان هذا فى العصر العباسي.

 

6 ـ جاء العصر المملوكى بسيطرة التصوف على الحياة الدينية والاجتماعية فتحول الشذوذ الجنسى من تشريع إجتماعى الى تشريع دينى، إذ إعتبره الصوفية طريقا للاتحاد بالله جل وعلا، وموعدنا مع الجزء الثالث من موسوعة التصوف المملوكى للتفصيل فى هذا الموضوع.

 

ثالثا:

 

يحيى بن أكثم ( ت  243 )  مثالا على استخدام القضاء فى نزوات الفقهاء.

 

التعريف به:

 

قيل عنه: (هو يحيى بن اكثم بن محمد بن قطن بن سمعان التميمي من ولد اكثم بن صيفي) (سمع عبد الله بن المبارك والفضل بن موسى الشيباني وجرير بن عبد الحميد وابن ادريس وابن عيينة والدراوردي وعيسى بن يونس ووكيع بن الجراح في اخرين) ( وروى عنه‏:‏ علي بن المديني والبخاري وغيرهما)

 

سطوته فى خلافة المأمون

 

وبسبب شهرته كانت حظوته عند الخليفة المامون، قالوا (وكان عالمًا بالفقه بصيرًا بالاحكام ذا فنون من العلوم) (فعرف المامون فضله فلم يتقدمه عنده احد فولاه القضاء ببغداد، وقلده قضاء القضاة وتدبير اهل مملكته، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئًا الا بعد مطالعة يحيى بن اكثم، ولا يعلم احد غلب على سلطانه في زمانه الا يحيى بن اكثم وابن ابي دؤاد).

 

فساد يحيى بن أكثم فى القضاء:

 

* قالوا( ان يحيى بن اكثم شكى القاضى بشر بن الوليد الى المامون وقال‏:‏ انه لا ينفذ قضائي، وكان يحيى قد غلب على المامون حتى كان اكثر من ولده ، فاقعده المامون معه على سريره، ودعا بشر بن الوليد فقال له‏:‏ ما ليحيى يشكوك ويقول انك لا تنفذ احكامه؟ فقال‏ بشر:‏ يا امير المؤمنين سالت عنه بخراسان فلم يحمد في بلده ولا في جواره، فصاح به المامون وقال‏:‏ اخرج فخرج بشر فقال يحيى‏:‏ يا امير المؤمنين قد سمعت فاصرفه فقال‏:‏ ويحك هذا لم يراقبني فكيف اصرفه ولم يفعل‏). أى إن القاضى بشر بن الوليد رفض أن يطيع أوامر رئيسه قاضى القضاة يحيى بن الأكثم لأن القاضى يعرف السمعة السيئة لإبن أكثم حتى فى بلده. وبسبب معرفة المأمون بالقاضى بشر بن الوليد فلم يجرؤ يحيى بن الأكثم على عزله، فاضطر يحيى لأن يشكوه للمأمون. واستدعى المأمون القاضى بشر بن الوليد وأجلس يحيى معه على سرير الخلافة وسأل بشر بن الوليد لماذا يرفض طاعة يحيى فأجاب القاضى، ولم تعجب الاجابة المامون فطرد القاضى من المجلس، ولكن رفض عزله.

 

* وهجا بعضهم يحيى بقصيدة يتهمه فيها باللواط وهجا فيها العباسيين ايضا ، وشاعت القصيدة ووصلت بعض أبياتها الى مسامع المأمون، فأراد أن يتلاعب بصديقه يحيى فقال له: من هو الشاعر الذي يقول‏:‏

 

قاض يرى الحد في الزنا ولا     يرى على من يلوط من باس

 

فرد يحيى ‏:‏ او ما يعرف امير المؤمنين من قاله؟ قال‏:‏ لا. قال‏:‏ يقوله الفاجر احمد بن ابي نعيم الذي يقول‏:‏

 

 اميرنا يرتشي وحاكمنا يلوط     والراس شر ما راس

 

لا احسب الجور ينقضي وعلى الامة وال من آل عباس

 

قال‏:‏ فافحم المأمون وسكت خجلا وقال‏:‏ ينبغي ان ينفى احمد بن ابي نعيم الى السند‏).

 

والقصيدة بأكملها ينسبها بعضهم لأبى صخرة الرياشى، وننقلها وهى لوحة تاريخية تصور الظلم فى عصر المأمون الذى يعتبر من أزهى عصور الخلافة العباسية. يقول الشاعر:

 

أنطقنى الدهر بعد إخراس            لنائبات أطلن وسواسى

 

يا بؤس الدهر لا يزال كما           يرفع من ناس يحط من ناس

 

لا أفلحت أمة ـ وحق لها                 بطول نكس وطول إتعاس

 

ـ ترضى بيحيى يكون سائسها               وليس يحيى بسواس

 

قاض يرى الحد فى الزناء        ولا  يرى على من يلوط من باس

 

يحكم للأمرد الغرير على                    مثل جرير ومثل عباس

 

فالحمد لله كيف قد ذهب                 العدل وقل الوفاء فى الناس

 

أميرنا يرتشى وحاكمنا                     يلوط والراس شر ما راس

 

لو صلح الدين واستقام                      قام على الناس كل مقياس

 

لا أحسب الجور ينقضى                   وعلى الأمة قاض من آل عباس

 

وهى قصيدة تعبر عن كل عصر فى عصور المسلمين ـ الاستبدادية، من آل عباس الى آل سعود .

 

تقلبه فى منصب القضاء بعد المأمون:

 

أوصى المأمون بطرد يحيى بن الأكثم بسبب مخالفة يحيى للمامون فى موضوع خلق القرآن، فظل يحيى فى خلافة المعتصم بعيدا عن سطور التاريخ، ثم عاد للأضواء فى خلافة المتوكل الذى أعاد سطوة أهل الحديث وأهل السّنة، فعزل المتوكل القاضى المعتزلى إبن أبى داود عن المظالم عام 237 وولى يحيى بن أكثم المظالم وقضاء القضاء (تاريخ الطبرى 9 / 188 : 189) ثم ظهر فساد يحيى فعزله المتوكل وصادر أمواله الظاهرة و المخبأة عام 240، وهى نفس السنة التى مات فيها ابن أبى داود. (تاريخ الطبرى 9 / 197).

 

شهرة يحيى بن أكثم باللواط

 

تقول الرواية (دخل على يحيى بن اكثم ابنا مسعدة - وكانا على نهاية من الجمال - فلما رآهما يمشيان في الصحن انشأ يقول‏:‏

 

يا زائرينا من الخيام     حياكما الله بالسلام

 

لم تاتياني وما بي نهوض الى حلال ولا حرام

 

يحزنني ان وقفتما بي وليس عندي سوى الكلام

 

ثم اجلسهما بين يديه وجعل يمازحهما حتى انصرفا).

 

وقتها كان يحيى فوق الثمانين من عمره حين زاره إبنا مسعدة فى مجلس الحكم، ومع هذا فلم يراع سنّه فقال ما قال وفعل ما لا يليق به، وبسبب ذلك عوقب بالعزل (قال ابو بكر بن الانباري‏:‏ وسمع غير واحد من شيوخنا يحكي ان يحيى عزل عن الحكم بسبب هذه الابيات التي انشدها لما دخل عليه ابنا مسعدة‏). وفى خلافة المأمون كان فى شبابه يفعل ما يشاء والمأمون راض عنه مهما فعل .

 

وقال ابن الجوزى معلقا (وقد كان يعرف بهذا الفن وشاع عنه ولعله قد كان يرى النظر فحسب وان وقد ذكر ذلك للامام احمد رضي الله فقال‏:‏ سبحان الله من يقول هذا‏!‏‏!‏ وانكره اشد انكار). وهنا نرى ابن الجوزى الحنبلى يحاول الدفاع عنه، ويأتي برأي لأحمد بن حنبل فى الدفاع عنه، والسبب هو فى أن يحيى أيد أحمد بن حنبل فى الوقوف ضد رأى المأمون والمعتصم والواثق فى موضع خلق القرآن.

 

وتقول رواية أخرى عن فساد يحيى وتعنته حتى مع المحتاجين من العميان (تولى يحيى بن اكثم ديوان الصدقات على الاضراء فلم يعطهم شيئًا فطالبوه وطالبوه فلم يعطهم فانصرفوا ثم اجتمعوا وطالبوه فلم يعطهم فلما انصرف من جامع الرصافة من مجلس القضاء سالوه وطالبوه فقال‏:‏ ليس لكم عندي ولا عند امير المؤمنين شيء فقالوا‏:‏ ان وقفنا معك الى غد الا تزيدنا على هذا القول قال‏:‏ لا‏.‏ فقالوا‏:‏ لا تفعل يا ابا سعيد‏!‏ فقال‏:‏ الحبس الحبس، فامر بهم فحبسوا جميعًا، فلما كان الليل ضجوا فقال المامون‏:‏ ما هذا؟ فقالوا‏:‏ الاضراء حبسهم يحيى بن اكثم.‏ فقال‏:‏ لم حبسهم؟ فقالوا‏:‏ كنوه فحبسهم، فدعاه فقال له‏:‏ الاضراء حبستهم على ان كنوك‏!‏ فقال‏:‏ يا امير المؤمنين لم احبسهم على ذلك انما حبستهم على التعريض قالوا لي‏:‏ يا ابا سعيد يعرضون بشيخ لائط في الخريبة). يحيى منع العميان من الحصول على حقوقهم، برغم إلحاحهم فى طلبها ، فلما أيسوا منه قالوا له (لا تفعل يا أبا سعيد) وفهم المعنى، لأن (أبا سعيد) هى كنية رجل مشهور باللواط فى منطقة الخريبة فى بغداد ـ أى زميل ليحيى ـ  لذا أمر يحيى بحبس العميان، فتصارخوا حتى وصل صراخهم للخليفة. أى هنا لمحة أخرى من لمحات الظلم ومنع الصدقات لمستحقيها واستخدام القاضى لسلطته ضدهم، وسكوت الخليفة المأمون عنه.

 

ومع الجور والظلم كان يحيى حسودا يخشى ظهور من ينافسه فى العلم حتى لا ينافسه الحظوة عند المأمون، تقول الرواية (كان يحيى بن اكثم يحسد حسدًا شديدًا، وكان مفتنًا، وكان اذا نظر الى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث،  واذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، واذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام ليقطعه ويخجله، فدخل اليه رجل من اهل خراسان ذكي حافظ، فناظره فراه مفتنًا فقال له‏:‏ نظرت في الحديث قال‏:‏ نعم‏!‏ قال‏:‏ فما تحفظ من الاصول قال‏:‏ احفظ عن شريك عن ابي اسحاق عن الحارث‏:‏ ان عليًا رضي الله عنه رجم لوطيا). فامسك يحيى ولم يكلمه.‏ مثل العميان قام الرجل الخراسانى هنا بتأليف رواية تزعم أن عليا رجم لوطيا، ولم يحدث هذا بالطبع، ولكنها كانت حيلة الخراساتى ليسكت يحيى. 

 

وفى مجلس حكمه فى الموصل جاءه شاب بارع الجمال يشكو إخوته فى مسألة ميراث، فنسى قاضى القضاة نفسه ومكانته، وأخذ يغازل الشاب علنا، وبسبب شهرة يحيى بالشذوذ واستعماله سلطته فى الفسق بمن يريد فقد خافت الأم على ابنها من قاضى القضاة فهربت به الى بغداد: تقول الرواية (استعدى ابن ابي عمار بن ابي الخطيب يحيى بن اكثم على ورثة ابيه، وكان بارع الجمال، فقال‏:‏ ايها القاضي اعدني عليهم قال‏:‏ فمن يعديني انا على عينيك قال‏:‏ فهربت به امه الى بغداد فقال لها وقد تقدمت اليه‏:‏ والله لا انفذت لكم حكمًا او ترديه فهو اولى بالمطالبة منك). أى تقدمت الم بالشكوى فرفض يحيى أن يحكم لها إلا إذا أرجعت له الولد الشاب.

 

ولنا أن نتخيل هذا القاضى فى سطوته وفى إنقياده لشهوته كيف كان يتصرف مع أولاد المسلمين، خصوصا من كان منهم فى إحتياج له. والتوضيح نجده  فى تلك الرواية (لما عزل اسماعيل بن حماد عن البصرة شيعوه فقالوا‏:‏ عففت عن أموالنا وعن دمائنا.‏ فقال‏:‏ وعن ابنائكم.!! يعرض بيحيى بن اكثم في اللواط). اسماعيل هذا توفى عام 212، وهو حفيد الامام أبى حنيفة، وكان فقيهًا حنفيا على مذهب جدّه، وتولى قضاء الرصافة سنة اربع وتسعين فاقام مدة ثم تولي قضاء البصرة سنة 210 بعد عزل  يحيى بن اكثم. والمستفاد من الرواية أن حفيد أبى حنيفة عندما ترك منصبه معزولا شيعه أهل البصرة يشكرونه على عدله وعلى عفته، وأنه (عفّ ) عن أموالهم ودمائهم فقال إنه عفّ أيضا عن أبنائهم، أى لم يفعل مثل ما كان يفعله يحيى بن الأكثم من الفحش بأبنائهم حين كان قاضيا على البصرة.

 

هذا ما كان يفعله يحيى بن أكثم مع أبناء الناس فى المناطق التى له فيها سيطرة. فماذا كان يفعل مع تلاميذه الذين يكتبون عنه ويسمعون منه الحديث وينتظرون منه المساعدة فى الحصول على الوظائف والصلة بالحكام؟ هل كان يمسك نفسه إذا وجد من بينهم تلميذا جميلا؟ لا نعتقد، خصوصا مع خلوته بهم أو ببعضهم. الرواية التالية تقول لنا ما الذى كان يفعله علنا مع بعض تلاميذه ومن يستملى منه ويكتب عنه، فقد أخذ يغازل تلميذا بيده و كلامه يراوده على نفسه فى حضور الناس مما أخجل الشاب، ولكن الشيخ القاضى الفاسق لم يخجل، تقول الرواية (كان زيدان الكاتب يكتب بين يدي يحيى بن اكثم القاضي وكان جميلا متناهي الجمال، فقرص القاضي خده فخجل واستحيى فطرح القلم من يده، فقال له يحيى‏:‏ اكتب ما املي عليك ثم قال‏:‏

 

ايا قمرًا جمشته فتغضبا         واصبح لي من تيهه متجنبا

 

لا تظهر الاصداغ للناس فتنة وتجعل منها فوق خديك عقربا

 

فتقتل مشتاقًا وتفتن ناسكًا        وتترك قاضي المسلمين معذبا). أى ألزم الشاب أن يكتب تغزله فيه..!!

 

هذا ما كان يفعله علنا مع تلامذته، لا يستطيع كبح جماح شهوته الشاذة، فكيف به معهم فى الخلوة والسّر؟ وبالمناسبة نتذكر أن من أهم تلاميذ يحيى بن أكثم شخصا أصبح فيما بعد من أئمة الحديث المقدسين حتى الان، هو البخارى.. فماذا كان يفعل يحيى بن أكثم بالبخاري فى شبابه؟ يا نهار اسود..!!

 

دفاع السنيين عن يحيى بن أكثم:

 

1 ـ بعضهم هاجمه بقسوة، ونقل ابن الجوزى آراءهم فيه فقال (وقد تكلم المحدثون في يحيى بن اكثم، فقال ابو عاصم ويحيى بن معين‏:‏ يحيى بن اكثم كذاب، وقال اسحاق بن راهويه‏:‏ هو دجال، وقال ابو علي صالح بن محمد البغدادي‏:‏ كان يحدث عن عبد الله بن ادريس احاديث لم نسمعها، وقال ابو الفتح الازدي‏:‏ روى عن الثقات عجائب لا يتابع عليها). ونلاحظ أن أحدهم لم يوجه نقدا ليحيى فى موضوع الشذوذ الجنسى لأنه لم يكن عندهم عيبا. ومبلغ علمى أن الشذوذ الجنسي ليس على لائحة الاتهامات التى تسقط عدالة الفقيه والمحدث، حيث كان الشذوذ ظاهرة إجتماعية معترفا بها تركت بصماتها على الأدب العباسى وفقهاء و خلفاء العصر العباسى الذى أنتج لنا آلهة الدين السنى والدين الشيعى والدين الصوفى. هذا فى الوقت الذى لم تعرفه أوربا على الاطلاق. أليس من حقكم أن تفتخروا بأسلافكم أيها السلفيون؟

 

2 ـ ولأن يحيى بن أكثم كان يقول (القرآن كلام الله، فمن قال مخلوق يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه) فقد كوفىء من الفقهاء الحنابلة على وقفته معهم بأن إفتروا له بعض أحاديث ترفع من شأنه بعد موته.

 

وننقل منها هذا الهراء: (اخبرنا القزاز قال‏:‏ اخبرنا احمد بن علي الحافظ قال‏:‏ اخبرنا محمد بن الحسين بن سليمان المعدل قال‏:‏ اخبرنا ابو الفضل الزهري قال‏:‏ حدثنا احمد بن محمد الزعفراني قال‏:‏ حدثنا ابو العباس بن واصل قال‏:‏ سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي قال‏:‏ راى جار لنا يحيى بن اكثم بعد موته في منامه فقال له‏:‏ ما فعل الله بك فقال‏:‏ وقفت بين يديه فقال لي سوءة لك يا شيخ فقلت‏:‏ يا رب ان رسولك صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏انك لتستحي من ابناء الثمانين ان تعذبهم"‏ وانا ابن ثمانين اسير الله في الارض فقال لي‏:‏ صدق رسولي قد عفوت عنك‏). بهذه الرؤيا المنامية يفترون على الله جل وعلا كذبا أنه غفر ليحيى لأنه جل وعلا يستحى أن يعذب رجلا مات بعد أن جاوز الثمانين. وطبقا للدين السّنى ووحيه الكاذب هذا فلا شك أن مستبدي عصرنا الذين تجاوزوا الثمانين سيفرحون بهذا الافتراء بعد أن ظلوا عشرات العوام يرتكبون الجرائم ويبغون فى الأرض، ثم تأتيهم المكافأة فى نهاية الخدمة.!!

 

وتأتى رواية أخرى بالمزيد من الهراء يرويها نفس الكذّاب الأشر المسمى بالقزاز (اخبرنا القزاز قال‏:‏ اخبرنا احمد بن علي الخطيب قال‏:‏ اخبرنا القاضي ابو العلاء الواسطي قال‏:‏ حدثنا ابو بكر محمد بن احمد المفيد قال‏:‏ حدثنا عمر بن سعد بن سنان قال‏:‏ حدثنا محمد بن سلم الخواص قال‏:‏ رايت يحيى بن اكثم القاضي في المنام فقلت له‏:‏ ما فعل الله بك فقال لي‏:‏ وقفني بين يديه وقال لي‏:‏ يا شيخ السوء لولا شيبتك لاحرقنك بالنار فاخذني ما ياخذ العبد بيد يدي مولاه فلما افقت قال لي‏:‏ يا شيخ السوء لولا شيبتك لاحرقنك بالنار فلما افقت قلت‏:‏ يا رب ما هكذا حدثت عنك فقال الله تعالى‏:‏ وما حدثت عني - وهو اعلم بذلك - قلت‏:‏ حدثني عبد الرزاق بن همام حدثنا معمر بن راشد عن ابن شهاب الزهري عن انس بن مالك عن نبيك صلى الله عليه وسلم عن جبريل عنك يا عظيم انك قلت‏:‏ ‏"‏ما شاب لي عبد في الاسلام شيبة الا استحييت منه ان اعذبه بالنار‏"‏‏.‏ فقال الله عز وجل‏:‏ صدق عبد الرزاق وصدق معمر وصدق الزهري وصدق انس وصدق نبي وصدق جبريل وانا قلت ذلك انطلقوا به الى الجنة‏). هل هناك إفتراء على الله جل وعلا أفظع من ذلك ؟ وهل هناك استخفاف برب العزة مثل ذلك؟ ومن قبحها وسفالتها نستحى من تحليلها..

 

أخيرا: حقائق تاريخية لمجرد الذكرى

 

1 ـ الخليفة المستبد (المأمون) هو المسئول عن فساد القاضي (يحيى بن الأكثم)

 

2 ـ اشتهر يحيى بن الأكثم باستغلال وظيفة القضاء فى إشباع نزواته الشاذة، وعلى سنته سار الكثيرون، ولا يزالون، من الحقبة العباسية الى الحقبة النفطية.

 

3 ـ الشذوذ الجنسى تسامح معه الدين السّنى فى العصر العباسى حيث كان تشريعا إجتماعيا مارسه بعض الخلفاء والفقهاء والعوام والدهماء، بل دافع عنه بعضهم بالوحى الكاذب، مما مهّد للصوفية فى العصر المملوكى بعدهم أن يجعلوا الشذوذ عبادة دينية على نحو ما سنتوقف معه ٍٍٍٍفيما بعد.

 

 آخر السطر

 

1 ـ اين الاسلام من كل هذا؟

 

2 ـ ألا لعنة الله على الظالمين.!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الفصل الرابع :  

جارية فاسدة جعلوها قاضياً للقضاة!!

 

                                                        

قصة الوصيفة "ثمل" التي أمرتها (شغب) ببحث مظالم الناس!!

جاء فى تاريخ المنتظم لابن الجوزى (وفي هذه السنة أمرت السيدة أم المقتدر فهرمانة لها تعرف بثمل أن تجلس بالتربة التي بنتها بالرصافة للمظالم، وتنظر في رقاع الناس في كل جمعة، فجلست لست وأحضرت القاضي أباالحسين بن الأشناني وخرجت التوقيعات على السداد‏.‏

أخبرنا ابن ناصر قال‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحميدي قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الحافظ قال‏:‏ قعدت ثمل القهرمانة في أيام المقتدرللمظالم وحضر مجلسها القضاة والفقهاء) (المنتظم 13  /180 عام 306)

هذا هو عنوان الخبر الذي تصدر أحداث سنة 306هـ في بغداد عاصمة الخلافة العباسية وموجز الخبر يقول" أمرت السيدة أم المقتدر قهرمانة لها تعرف بثمل هذا أن تجلس في الرصافة للمظالم وتنظر في رقاع الناس في كل جمعة، فجلست وأحضرت القاضي أبا الحسين بن الأشنائي، وخرجت التوقيعات على السداد "وشرح هذا الخبر يعنى أن السيدة (شغب) أم الخليفة العباسي "المقتدر بالله" قد أصدرت قراراً بتعيين (قهرمانتها) أي وصيفتها(ثمل) قاضياً للقضاة، فجلست الوصيفة في مجلس الحكم والقضاء وأخذت تنظر في الشكاوي ـ أو الرقاع ـ التي يكتبها الناس، وكان موعد جلوسها في الرصافة كل يوم جمعة، وكان يحضر معها القاضي أبو الحسين بن الأشنائي، وكانت توقيعات قاضي القضاة الجديد تخرج بسرعة للنفاذ والسداد.. وورد الخبر السابق في صورة موجزة يرويه ابن الجوزي في تاريخه يقول قعدت ثمل القهرمانة في أيام المقتدر للمظالم وحضر مجلسها القضاة والفقهاء.

وعن الخبر السابق يقول السيوطي في "تاريخ الخلفاء" وفيها صار الأمر والنهي لحرم الخليفة ولنسائه لركاكته، وآل الآمر إلى أن أمرت أم المقتدر بثمل القهرمانة أن تجلس للمظالم وتنظر في رقاع الناس كل جمعه، فكانت تجلس وتحضر القضاة والأعيان وتبرز التواقيع وعليها خطها.!!

والمستفاد من النصوص التاريخية السابقة أن الخلافة العباسية قد ارتضت أن تقوم جارية بمنصب قاضي القضاة، وأن فقهاء الشرع العباسي لم يروا في ذلك بأساً ، ولم يرتفع صوت أحدهم بالإنكار وهو يجلس تحت قيادة الجارية " ثمل" قاضي القضاة الجديد بكل ما فيها وما في اسمها ثمل من معان لا تتفق وجلال القضاء واحترامه...

ولكن كيف وصلت تلك الجارية إلى ذلك المنصب؟ وما الذي جعل السيدة "شغب" أم الخليفة المقتدر تصدر قرارها الغريب بتعيينها قاضياً لقضاة الشرع؟

إن تفاصيل هذا الخبر وجذوره تجعلنا ندخل في خفايا الخلافة العباسية ودهاليز قصورها التي وردت ثناياها بين سطور التاريخ، وهى في النهاية. تعطي صدمة للأبرار الحالمين بعودة الخلافة وأثارها الجانبية!!

شغب وثمل وفتنة

 

تبدأ القصة بالخليفة المعتضد والد الخليفة المقتدر الذي كان ذواقة للنساء والذي مات متأثراً بإفراطه في حياته الجنسية، وقد رأى ذلك الخليفة المعتضد جارية نحيفة ذهبية اللون فأحس بأنها مختلفة عن أطنان اللحم الأبيض في مئات الجواري اللائي يحتفظ بهن في قصره، وسأل عنها فقيل اسمها "ناعم" وإنها جارية تملكها أم القاسم بنت محمد، فاشتراها منها المعتضد وقضى معها ليلة، وبعد أن "عرفها " هجرها وانشغل عنها بباقي الحسناوات، وحملت "ناعم" وولدت للخليفة ولداً، وهو الذى تولى الخلافة فيما بعد وأصبح أسمه المقتدر".

على أن " ناعم" أم المقتدر لم تطق أن يهجرها سيدها الخليفة المعتضد فأثارت المشاكل وأقامت القصر العباسي وأقعدته في "شغب" مستمر، فأهانها الخليفة المعتضد وضربها وأطلق عليها اللقب الذي حملته إلى نهاية عمرها وهو لقب "شغب"، وألزمها بأن تعكف على رعاية ابنها الرضيع المقتدر، وخصص لها بيتاً في القصر جعله لها سجناً إجبارياً.

في ذلك السجن عرفت شغب صديقتها الجارية "ثمل" التي كانت تزورها وتنقل إليها الأخبار، ومنها عرفت أن الخليفة المعتضد قد انشغل بجارية جديدة أطلق عليها لقب "فتنة"، وبعد أن حملت "فتنة" ازداد لها حباً، ولم يهجرها كما فعل مع شغب، فازدادت شغب حقداً على "فتنة" ثم جاءتها "ثمل" بخبر آخر يفيد بأن "فتنة" قد ولدت للمعتضد ابناً آخر سماه محمداً (وهو الذي تولى الخلافة باسم "القاهر") وقد طار به المعتضد فرحاً، فازدادت شغب حقداً على المعتضد وجاريته الجديدة وابنها محمد، خصوصاً وأن المعتضد ثار ثورة عنيفة على ابنه "المقتدر" وهم بأن يقتله وهو صبي صغير إذ رآه يوزع على أترابه من لأطفال ـ أطفال الخدمة ـ أنفس الطعام الذي يأكل منه وبالتساوي، فأحس بأن أسلوب شغب في تربية ابنه قد يجعل من ذلك الطفل خطراً على الخلافة العباسية إذا تولاها وهو يحمل تلك المفاهيم " الاشتراكية "

واستعطفته " شغب" بكل ما تملك من دموع حتى عفا عنه وعنها.. وحين تستعرض شغب موقف المعتضد من ابنها ( المقتدر ) وابن غريمتها( القاهر) تزداد حقداً على حقد.. وفي غمرة الحقد تآمرت "شغب" وصديقتها "ثمل" على التخلص من "فتنة". وماتت فتنة ميتة مجهولة مريبة، وتركت ابنها الرضيع الذي تولى الخلافة فيما بعد وتسمى باسم ( القاهر)، ومرت الجريمة بهدوء وعهد الخليفة المعتضد بابنه الرضيع الذي فقد أمه إلى "شغب" لتربيه مع ابنها "المقتدر" فازدادت شغب حقداً على المعتضد وهى تراه لا يعتبرها إلا مجرد بقرة حلوب لإرضاع أولاده ورعايتهم..

 

فقط دريرة في البحيرة

 

ثم جاءت ثمل إلى صديقتها " شغب" بنبأ جديد زاد مواجعها، وهو أن الخليفة المعتضد انشغل بمحظية جديدة اسمها "دريرة" وأنه قد بني لها داخل القصر بستاناً وفيه حمام سباحة، واعتاد أن يجلس مع محبوبته "دريرة" في ذلك البستان الذي سماه "البحيرة" ومعها الجواري والمغنيات والعازفات..

وكانت أصوات الغناء والعزف تصل إلى "شغب" في إقامتها الإجبارية فيزداد لهيب غيرتها، فاتفقت مع صديقتها "ثمل" على أن تصل أنباء القصر إلى الشاعر ابن بسام المشهور بمجونه وطول لسانه وشهرته، وآتت تلك المكيدة ثمرتها، إذ سرعان ما تراقص أهالي بغداد على أشعار ابن بسام وهو يسخر من الخليفة المعتضد قائلاً:ـ

ترك الناس في حيرة          

وتخلى في البحيرة

قاعداً يضرب الطبل            

على (...) دريرة..

وعلم المعتضد بالشعر، وكان المعتضد مشهوراً بالقسوة والهيبة فهو الذي جدد ملك بني العباس، وكان مع إسرافه في المجون مع جواريه شديد التسلط على القادة والناس، ولذلك فإنه خشي أن ينال شعر ابن بسام من مهابته فأمر بهدم البستان وحمام السباحة، ونجحت "شغب" و"ثمل" وسكت الطبل والزمر..

إلا أن المعتضد ازداد التصاقاً بدريرة فأصبح لا يأنس إلا بها. وشعرت "شغب" أنها السبب في ذلك ورأت أنه لا وسيلة إلا بقتل "دريرة" بالسم حسبما كان سائداً في العصور العباسية، وماتت دريرة في نفس الظروف الغامضة التي ماتت فيها "فتنة" من قبل، ولكن كانت هناك دلائل تشير إلى تورط "شغب" في هذه الجريمة فضربها المعتضد وكان على وشك أن يقطع أنفها ويشوه وجهها، ولكنه رجع عن ذلك ربما لأن الدلائل لم تكن حاسمة وربما حرصاً على مشاعر ابنه المقتدر، وربما لأنها ترعى ابنيه المقتدر والقاهر وخاف أن تنتقم من ابنه القاهر..

وانكفأ المعتضد على أجساد جواريه يبحث فيهن عن حبيبته "دريرة" التي نطق من أجلها شعراً يرثيها فيه، ولكن الإفراط في الجنس في تلك الحالة السوداوية أدى به للمرض فالموت..

 

موت مفاجئ

ومات المعتضد بعد حبيبته دريرة بأشهر، أي سنة 289، وحين مات كان أكبر أولاده ( المكتفى) قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره فتولى الخلافة، وكان ابنه (المقتدر) ابن "شغب" في السادسة من عمره، بينما كان (القاهر) في عامه الثاني فقط..

وخرجت شغب من سجنها بعد موت غريمها المعتضد وازدادت صلتها توثقاً بصديقتها "ثمل" فجعلتها "شغب" قهرمانة خاصة بها، والقهرمانة تعني الوصيفة أو كبيرة الخدم، وفي خلافة (المكتفى) بن (المعتضد) أتيح لشغب أن تخطط للتخلص من (المكتفى) ليتولى ابنها (المقتدر) في الوقت المناسب (للمقتدر)..

وتسكت المصادر عن ذلك التخطيط ولكن نجاح "شغب" في تدبيرها يحتل عناوين التاريخ العباسي، فالخليفة الشاب (المكتفى بالله) يموت فجأة سنة295 بعد أن حكم أقل من ست سنوات، وحين مات كان (المقتدر) بن "شغب" هو المرشح لتولى الخلافة، وتذيع دوائر القصر العباسي أن "المقتدر" بلغ الحلم و"أحتلم" وأصبح رجلاً، رغم أنه كان في الثالثة عشرة من عمره ولكن ذلك التوقيت لم تصنعه الصدفة وإنما صنعته "شغب" مع صديقتها "ثمل" وبه أصبح المقتدر أول خليفة يتولى الحكم في هذه السن بعد الموت المفاجئ لأخيه الشاب..

وقد عاش المقتدر طفولته مع أمه في سجنها الإجباري فأصبح شديد الالتصاق بها وقد ظل ملتصقاً بها لا يتحرك إلا بإرادتها، ولذلك كانت هي التي تباشر السلطة بنفسها ومنذ تولى أبنها الخلافة أصبح محرماً أن يتلفظ أحد باسمها "شغب" بل صار لقبها الرسمي"السيدة" وبهذا اللقب حكمت الدولة العباسية خمسة وعشرين عاماً إلى مقتل ابنها المقتدر سنة320.

 

غريقة في الفرات

 

وحين أدارت شغب أمور الدولة العباسية في خلافة ابنها "المقتدر" فإنها لم تنس الانتقام من أعدائها في القصر فكثر عزل الوزراء وتوليهم ومصادرة أموالهم، وفي داخل القصر أمرت شغب سنة299 بعزل فاطمة قهرمانة القصر العباسي ومصادرة أموالها، ووجدوها غريقة في الفرات ولم يعرفوا الجاني ولا نحن نعرف بالطبع!! وفي المقابل فإن "ثمل" صديقة الأيام السوداء أصبح لها شأن عظيم، حتى لقد كانت تولى الوزراء وتعزلهم ويخشاها الجميع، لأن الطريق إلى "السيدة" يمر عبر "ثمل".

وجدير بالذكر أن "ثمل" أصبح لها لقب رسمي محترم هو أم موسى القهرمانة.. وحدث سنة 304 ما يعرف بنكبة الوزير ابن الجراح فقد خشي الوزير من تسلط القهرمانة ثمل فقدم استقالته، لم تشفع له إستقالته من غضب القهرمانة وسيدتها، فأصدرت السيدة قراراً بمصادرة أتباع الوزير، ولم ينج الوزير المسكين من مصادرة أمواله إلا بتمرغه على أقدام الخليفة المقتدر.. فأنقذ حياته وأمواله إلى حين!! (المنتظم 13  /166 عام 304)

ثم في تصعيد آخر لنفوذ القهرمانة ثمل أصدرت أم المقتدر قرارها بأن تتولى ثمل منصب قاضي القضاة رسمياً.. فكانت سابقة خطيرة في تاريخ الخلافة والخلفاء..

ولم تستمر ثمل أو أم موسى القهرمانة فى منصبها الرفيع إذ مالبث أن شب الخلاف بينها وبين سيدتها أم المقتدر، فكانت نكبتها، يقول ابن الجوزى فى أحداث عام 310 (وفيها‏:‏ سخط على أم موسى القهرمانة وقبض عليها وعلى أنسابها ومنكانت تعنى به فصح منها في بيت المال ألف ألف دينار‏) أى تم إعتقالها وإعتقال أصهارها وأتباعها، وصودر من أموالها مليون دينار.

ليست هذه النكبة لأن السيدة قاضية القضاة أو سيدة القضاء كانت فاسدة، واختلست مليون دينار، فالفساد هو النشاط العام والرسمى للخلافة وللقضاء فيها.

كان السبب مرتبطا بالطموح السياسى.

السيدة القهرمانة ـ فى مكنون قلبها ـ تعتبر نفسها مساوية لأم المقتدر (شغب)، فكلتاهما جىء بهما رقيقا الى بغداد، وكلتاهما وجدت سبيلها للقصر العباسى فى بغداد، والفارق أن (ناعم) أو (شغب) صادفت هوى من الخليفة المعتضد فحملت منه ، ولم يكن لصديقتها الجارية (ثمل) هذا الحظ. ولقد ساعدت (ثمل) صديقتها فى التخلص من أهم أعدائها إلى أن تولى ابنها (المقتدر) الخلافة. وبالتالى نتصور أن (ثمل) تريد أن تمكن لنفسها وأصهارها، وأن تجعل أحد أمراء بنى العباس صهرا لها لتجعل هامتها فى مقام رأس سيدتها (شغب).

هذا التصور العقلى يجد له سندا فى التاريخ، يقول ابن الجوزى عن سبب نكبة أم موسى القهرمانة (واختلف في السبب فقيل‏:‏ ان المقتدر اعتل فبعثت إلى بعض أهله ليقررعليه ولاية الأمر فانكشف ذلك) أى إن (ثمل) انتهزت فرصة مرض المقتدر فبعثت لبعض أصدقائها من البيت العباسى ليكون صاحب الكلمة فى القصر نيابة عن الخليفة المريض، وبالتالى ينتهى نفوذ أم الخليفة (شغب).

ويقول ابن الجوزى (وقيل‏:‏ بل زوجت بنت أخيها إلى أبي بكر بن أبي العباس محمد بن إسحاق بن المتوكل، فسعى بها أعداؤها، وثبتوا في نفس المقتدر والسيدة والدته أنها ما فعلت ذلك إلا لتنصب محمد ابن إسحاق في الخلافة، فتمت عليها النكبة) المنتظم 13  /209 عام 310

 

أى إنها جعلت إبن عم الخليفة يتزوج بنت أخيها لتؤهله للخلافة على حساب المقتدر وأم المقتدر. باختصار كان لها طموح سياسى غير مأذون به، فانتهى أمرها.

 وتبقى لنا بعض ملاحظات

1- أننا في حاجة لإعادة قراءة التاريخ الأموي والعباسي والفاطمي، ليعرف الناس الفجوة بين الشعارات والحقائق التاريخية.. إننا إذا أردنا أن نلخص التاريخ العباسي في سطر واحد فيمكن أن نقول أنه عصر تحكم فيه الجواري من محظيات الخلفاء وأمهاتهم منذ الخليفة المهدي العباسي، الذي تحكمت فيه جاريته الخيزران واستمرت تتحكم حتى عصر ابنها الرشيد، ثم توالت عصور الجواري، وعلى سبيل المثال نجد الجارية "قبيحة" تسيطر على الخليفة المتوكل ثم على ابنها الخليفة المعتز، وفي خلافة المستكفى كانت قهرمانة دارة واسمها علم الشيرازية هي التي سعت في توليته الخلافة فأطلق يدها في إدارة الأمور وحين احتج بعضهم عليه قال كلمته المأثورة: وجدتكم في الرخاء ووجدتها في الشدة..!!

فالتاريخ الحقيقي شيء آخر. والتاريخ المزيف بالشعارات شيء.

2-  إنه في العصور التي تحكمت فيها الجواري عاش الأئمة العظام للدين السّنى في الفقه والحديث والتفسير كالبخاري ومسلم وابن حنبل والشافعي والطبري وغيرهم.. ولم نعرف أن أحدهم كتب يستنكر أن تتحكم الجواري في مقاليد الخلافة "الإسلامية" أو أن يعيش الخلفاء (ظل الله في الأرض) في مجالس الخمر والشذوذ والجنون.. وقد آن الأوان لأن نتعامل مع أولئك ألأئمة على أساس أنهم بشر عاشوا في عصر عرف كل الموبقات وتأثروا بها، وكان أتقاهم هو من أنكر ما يحدث في قلبه فقط أما أغلبهم فكان من فقهاء السلطة يخترع لها الأحاديث والفتاوى ويأخذ منها الفتات..

3 ـ لسنا ضد أن تتولى المرأة القضاء أو حتى رئاسة الدولة، بل هذا ما نتمناه بشرط أن يكون فى ظل دولة ديمقراطية يملكها الناس، حيث يكون الاعتبار هو بالكفاءة، ويكون (المسئول) مسئولا أمام الناس الذين يملكون تعيينه وعزله وحسابه وعقابه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الفصل الخامس :

انهيار القضاء لدى المسلمين منذ العصرالعباسى الثانى

 

 

أولا: (المحسوبية) فى العصر العباسى الثانى:

 

1 ـ انهيار وظيفة القضاء نعنى بها أن تتحول مهمة القضاء من الحكم بالعدل الى تقرير الظلم.

إذ أسهمت عوامل جانبية فى الاسراع بانهيار القضاء بجانب العامل الرئيس وهو الاستبداد والفساد فى رأس الحكم.

 

2 ـ من تلك العوامل المحسوبية فى تعيين القضاة على حساب العلم والخبرة، وقد انتقلت هذه المحسوبية من رأس الدولة (الخليفة) الى من هم أقل منه شأنا، وسبق أن الخليفة الرشيد قام بتعيين ابن القاضى أبى يوسف قاضيا، وأن أبا يوسف نفسه قام بتعيين أحد الفاسدين قاضيا بسبب تهديد الأخير له. بمرور الزمن تجذرت المحسوبية لتصل الى الوزير الفاسد الذى يعين أتباعه فى منصب القضاء.

ونأخذ مثلاعلى ذلك بالوزير ابن الفرات فى خلافة المقتدر بالله الذى سيطرت والدته شغب على مقدرات الخلافة ودار الصراع على اشده على منصب الوزارة، وتقلب ابن الفرات بين السجن والاختفاء و العودة لمناصبه. وفى إحدى دورات ولايته للوزارة تقلد منصب القضاء شخص إسمه الأحوص بن المفضل المتوفى 300. وهو مشهور بكنيته (أبو أمية).

كان أبو أمية الأحوص بن المفضل فى الأصل تاجر حرير فى بغداد، ثم حدث أن استتر عنده الوزير ابن الفرات أثناء نكبته، ووعده إن انقشعت محنته وتولى الوزارة أن يقلده عملا من أعمال (السلطان)، وننقل الحوار الذى جرىبينهما حسبما اورده ابن الجوزى، يقول عن القاضى الأحوص أبى أمية: (وكان يتجر في البز ببغدادفاستتر ابن الفرات عنده وقال له‏:‏ إن وليت الوزارة فأي شيء تحب أن أصنع بك؟ فقال‏:‏تقلدني شيئًا من أعمال السلطان قال‏:‏ ويحك لا يجيء منك عامل ولا أمير ولا قائد ولاكاتب ولا صاحب شرطة، فأيش أقلدك؟ قال‏:‏ لا أدري قال‏:‏ أقلدك القضاء.!! قال‏:‏ قد رضيت). وسواء صحت هذه الرواية أو لم تصح فان كتابة هذا الحواريدل على ما وصلت اليه وظيفة القضاء وقتها، أى إن هذا الرجل العامى لا يصلح لأى منصب عسكرى أو أمنى أو كتابى ديوانى، فلا يبقى له إلا أن يصلح فى أدنى وظيفة وهى القضاء.!

 

ونرجع الى رواية ابن الجوزى وهو يقول بعدها (ثم خرج ابن الفرات وولي الوزارة وأحسن إلى أبي أمية وأفضل عليه وولاه قضاء البصرة وواسط والأهواز وانحدر أبو أمية إلى أعماله وأقام بالبصرة)

أى تولى ذلك التاجر العامى القضاء مع جهله بالفقه والشرع، يقول عنه ابن الجوزى (وكان قليل العلم يخطئ إلا أن عفته وتصونه غطيا على نقصه) أى كان عفيفا، وبهذه العفةالتى تميزبها عن بقية القضاة (المتعلمين) أكمل نقصه. وانتهىامرهذا القاضى بالسجن والموت فى سجنه بسبب الصراع بين ابن الفرات وابن كنداج، يقولابن الجوزى (ولا نعلم أن قاضيًا مات في السجن سواه.. ثم عاد ابن الفرات إلى الوزارة فحدث بذلك فاغتم وقال‏:‏ هل له ولد؟  فجيء بابن له فيه تغفيل فقال‏:‏ هذا لا يصلح، فوصله بمال.) . ‏

أى إن ابن الفرات عاد للوزارة فسأل عن القاضى أبى أمية فعرف بموته فى السجن فاراد أن يعين إبنه مكانه فى القضاء ، ولكن الابن كان معاقا في عقله، فلم يستطع ابن الفرات تعيينه قاضيا مكان أبيه ، واكتفى بإعطائه بعض المال. (المنتظم 13 /133ـ   وفيات 300).

3 ـ الواقع ان عصرالخليفة المقتدر العباسى شهد تحولا خطيرا ليس فقط فى القضاء ولكن فى نواح أخرى نالها الفساد بسبب سيطرة ام المقتدر شغب وفسادها، حتى إنها ضغطت على ابن البهلول(ت عام 318) لتأخذ منه وثائق وقف  لتزورها. (المنتظم 13  /292 ) وكانت سابقة خطيرة.

ثانيا: الرشوة وشراء المناصب فى العصر المملوكي:

1 ـ ثم ازداد الحال سوءا فيما بعد، حتى إذا وصلنا فى عصر المماليك البحرية كان من الأفضل لصاحب الحق أن يتنازل عن حقه ويسكت على الظلم بدلا من الذهاب الى القاضى.

ثم إزداد الانحراف والانحلال فى عصر المماليك البرجية الذى بدأ بالسلطان برقوق حيث شاعت رشوة السلطان أو شراء المناصب، ومنها منصب القضاء، وهذا يعتبر دافعا للقاضى ليحكم بالظلم لمن يدفع له أكثر كى بسترد ما دفعه من رشوة. أى أصبحت وظيفة القضاء رسميا لتكريس الظلم، بعد أن كانت فى العصر العباسى تكرس الظلم ضمنيا بالمحسوبية والفساد والاستبداد.

 

2 ـ وقد عاش المقريزي ذلك التحول الخطير الذي حدث مع بداية القرن التاسع الهجري، ذلك التحول الذى لم يقتصر على انتقال السلطة من المماليك البحرية إلى المماليك البرجية أو الشراكسة وكبيرهم برقوق وتلامذته من بعده، ولكن ما صاحب ذلك التحول من انهيار اقتصادي وأخلاقي وديني، وكان قلم المقريزي له بالمرصاد فوصفه وعلق عليه بين ثنايا تاريخه السلوك..

وكان حال المشايخ من أهم ما شغل به المقريزى نفسه حيث ينتمي إلى نفس الطائفة، وكان أحرص على تقويمهم، ولكن الناس على دين ملوكهم ، وحدث فى أيام الظاهر برقوق (تجاهر الناس بالبراطيل) على حد قول المقريزي فلا يكاد يتولى أحد الوظيفة إلا بعد أن يدفع الرشوة، وترتب على ذلك أن (وصل الأراذل للوظائف الجليلة ففسدت الأحوال) على حدّ قول المقريزى، وصارت بعد السلطان برقوق أمرا مألوفا أن تباع وظائف القضاء والتدريس فى المساجد والمدارس والخوانق، وكان الذي بيده وظائف متعددة يبيع بعضها فى مقابل المال وليس مهما أن يكون المشتري كفئا للمنصب أم لا.

 

3 ـ ويذكر المقريزي فى حوادث 27 رمضان سنه 825 فى سلطنة الأشرف برسباي أنه (نودي بأمر السلطان بألا ينزل أحد من الفقهاء عن وظيفته فى وقف من الأوقاف، وهدد من ينزل منهم عن وظيفته) يقول المقريزى معلقا على هذه الدعوة الاصلاحية (فأمتنعوا عن النزول ثم عادوا لما كانوا، ينزل هذا عن وظيفته فى الدروس أو التصوف فى الخوانق أو القراءة أو المباشرة فى مقابل المال فيلي الوظائف غير أهلها ويحرمها مستحقوها، فإن الوظائف المذكورة صارت بأيدى من هى بيده، ينزلها منزلة الأموال المملوكة فيبيعها إذا شاء ويسمى بيعها نزولا عنها ويرثها من بعده صغار ولده، وسرى ذلك حتى فى التداريس الجليلة والأنظار – أي النظارة مثل ناظر الوقف – المعتبرة وفى ولاية القضاء.. يليه الصغير بعد موت أبيه، وينوب عنه كما يستناب فى تدريس الفقه والحديث النبوي وفى نظر الجوامع ومشيخة التصوف) ثم يقول المقريزى متحسرا (..فيا نفس جدي إن دهرك هازل..)

فالمقريزي بعد أن أنكر تلك التجارة بالوظائف الدينية والعلمية والتعليمية تنهد متحسرا "يا نفس جِدٍّي إن دهرك هازل .."

 4 ـ وبعد المقريزى بنصف قرن تقريبا ساءت الأحوال أكثر وأكثر، بعد أن اعتاد أصحاب الوظائف توريث وظائفهم لصغارهم بلا مؤهل سوى النسب، وبالتالى وصل الى منصب القضاء من لا يستحق، فالأب الذى اشترى منصب القضاء اصبح مالكا له يورثه من بعده لابنه، فإذا كان الابن صغيرا فانهم يجعلون أحد الناس يلى الوظيفة نيابة عن الابن الى أن يكبر الابن. ويكبر الابن ولا حاجة له لأن يتعلم فالوظيفة محجوزة له سواء كان عالما أو جاهلا، بل اصبح العلم غير مرغوب وليس من مؤهلات القاضى لأنه يحكم كما يحلو له على أية حال، ويحكم طبقا للرشوة التى ياخذها من أحد الخصمين أو كليهما.

بعد نصف قرن جاء القاضى ابن الصيرفى يؤرخ لعصر السلطان قايتباى باليوم والشهر ويسجل أحداث العصر ومنها ما يخص فضائح القضاة و شيوخ العلم.

ومن خلال ما كتبه القاضي المؤرخ ابن الصيرفي عن قضاة العصر المملوكي وشيوخه في القرن التاسع الهجري نكتب هذه اللمحات التاريخية.

*ــ القاضي المالكي ابن سويد: كان وافر المال ومع ذلك كان "ساقط المرءوة مبهدلا في الدول" أي كانوا يضربونه بسبب بخله وجمعه للمال ويقول ابن الصيرفي "وقضيته كانت مع كسباي الداودار مشهورة في الضرب والحبس والبهدلة كل ذلك لشح كان فيه وبخل زائد وتقتير علي عياله مع اجتهاد كبير في تحصيل المال.." وقد توفي سنة 873 هـ.

*ــ القاضي ابن الهيصم، يقول عنه ابن الصيرفي "كان عريا من الإسلام كثير الميل إلي دين النصرانية مدمنا على السكر لا يكاد يوجد صاحيا لحظة، ولما ولي البباوي الوزر ـ أي لما تولي البباوي الوزارة ــ طلبه وضربه ثلاث علقات في مجلس واحد بسبب أنه لم يشهد صلاة الجمعة" وقد توفي هذا القاضي سنة 874 هـ.

* ــ القاضي ابن جنه مات سنة 876 وترك ثلاثة أخوة امرأة ورجلين وترك ابنتين، وحرم أخويه من حقهما من الميراث، وجعل الميراث لأخته وابنتيه. ويقول المؤرخ ابن الصيرفي معقبا، "والله تعالى يجمع بينهم ويحكم فيهم بعدله..".

* ــ ويذكر ابن الصيرفي في حوادث شهر جمادي سنة 876 أن شخصا من قضاة الريف يعرف بقاضي البرلس باع طفلا صغيرا حرا لبعض العربان، فعرفه أبواه وشكيا القاضي للسلطان قايتباي فضربه السلطان بالمقارع وأمر باعتقاله...

* ــ وكان بعض القضاة يجمع حوله أوباش الناس من أهل المنطقة التي يعيش فيها ويفرض سلطانه علي الحي ويصدر أحكامه بالحبس والضرب وهو فى بيته دون أن يذهب إلي المحكمة.

 وأشهر أولئك القضاة القاضي الحنفي محيي الدين الحلبي الذي أطلق عليه المصريون لقب "كبش العجم" وقد سكن في رحبة الأيدمري وفرض نفوذه عليها، يقول عنه ابن الصيرفي "فصار يصول ويطول ويعزر، وعمل له سوقا فصار نافقا، ولقبه أهل مصر بكبش العجم، حتى قال بعضهم هو ما تأدب بالخروف الذي تقدمه في دولة الظاهر خشقدم" ووصف ابن الصيرفي نفوذ هذا القاضي وعجز المسئولين عن الحد من سطوته ثم يقول "وصار ساكنا بالحارة المذكورة يضرب ويرتشي ويكشف الرءوس ويسجن.." وكان كشف الرءوس من وسائل الإهانة في ذلك الوقت.. وانتهي أمر هذا القاضي بتدخل السلطان قايتباي الذي أمر باعتقاله مع أعوانه وعزله..

وهنا نشهد بداية تحول غريب، هو أن السلطان المستبد الظالم (الأشرف قايتباى) كان أحرص على العدل من قضاته أنفسهم .

 وبسبب ما فعله السلطان قايتباى بذلك القاضى الحنفى (محيى الدين الحلبى) فقد أصدر قاضي القضاة الحنفي مرسوما للقضاة الأحناف  يتضمن "أنهم لا يحكمون إلا في مجالسهم ولا يعزرون أحدا إذا وجب عليه تعزير إلا بالباب العالي" أى لا يحكمون بالضرب إلا فى المحكمة. ويعلق ابن الصيرفي وكان قاضيا حنفيا في ذلك الوقت ــ فيقول "وكم يقع مثل هذا في الوجود ولا اعتبار له فيه.." أي استمر القضاة يحكمون بالهوى في بيوتهم ويضربون ويرتشون..!!

 

5ــ وشهدت سنة 875 هــ بعض السقطات الفظيعة للقضاة ..

 * ففي 16جمادي الأولي : ماتت إمرأة ثرية اسمها بنت الخازن وخلفت أموالا جمة ولها أوقاف كثيرة ، ويؤول النظر في الأوقاف بعدها إلي قاضي القضاة الحنفية ،وأراد القاضي الشافعي الوثوب والتكلم في الأوقاف ليستولى عليها من زميله قاضى القضاة الحنفى، ومعروف أن قاضى القضاة الشافعى هو الأعلى مكانة بين زملائه. والواقع إن حرص قاضى القضاة الشافعى كان على سرقة أموال تلك الأوقاف، وعرف السلطان بالموضوع فقال "أنا أحق من الاثنين ولكن أعمل فيهم بالشرط واحميهم عن الغاصبين" أي أن السلطان اعتبر قاض القضاة الحنفي وقاض القضاة الشافعي غاصبين ولا يستحقان القيام علي أوقاف المتوفاة بالأمانة..!!

 * وفي جمادي الآخرة اعتقل القاضي الشافعي صلاح الدين المكيني بتهمة استبدال الأوقاف، وقال له الأمير تنبك الداودار "قم في الترسيم ــ أي الاعتقال ــ حتى ترد الرزق، أي المال فقال له "قاضي الشافعية يفعل به كذا" فقال له الأمير "لا رحم الله الذي ولاك قاضيا.." ويعلق ابن الصيرفي متحسرا "فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..!!"

 * وفي 23شعبان.. قام قاضي القضاة محب الدين بن الشحنة الحنفي وابنه عبد البر وأتباعهما بزيارة الشيخ بدرالدين الاردبيلي وكان يحتضر، وكانت بيد الشيخ الأردبيلي وظائف جليلة بالمدارس الحنفية، وليس له ورثة، وتفاوضوا مع الشيخ الاردبيلي وهو يحتضر علي بيع وظائفه إلى عبدالبر ابن قاضي القضاة الحنفي، وبعد أن جعلوه يوقّع الأوراق وهو غائب عن الوعى يعالج سكرات الموت ـ مات  ذلك الاردبيلي. ووصل الخبر إلي السلطان قايتباي فاحتد وانزعج فاستدعاهم وشتمهم، يقول ابن الصيرفي "لما مثلوا بين يدي السلطان قسا عليهم وقال: تشهدوا علي شخص غايب الوجود ومصداق ذلك أنه مات من ليلته واخرتوه إلي يوم السبت" أى أجلوا دفنه الى يوم السبت خوف الفضيحة، فاعتذروا عن ذلك  للسلطان، فلم يقبل منهم "واعتقل السلطان الشهود علي العقد وشتم قاضي القضاة الحنفي.. وشفع فيهم كاتب السر"، ويعلق ابن الصيرفي على ما فعله شيخه قاضي القضاة الحنفي فيقول "وفي الواقع فقضاة الشرع لو عظموا أوامر الله وحقوقه لعظمهم، ولكنهم خافوا علي وظائفهم، فأهانوا أنفسهم والأمر إلي الله" ؟!!

 

ثالثا: السلطان قايتباى يعزل كل القضاة ويتولى بنفسه وظيفة القضاء عام 876.

 

 تلك الأحداث أدت بالسلطان قايتباى لأن يعزل القضاة كلهم عام 876 بعد أن فقد ثقته فيهم، وكان هذا إعترافا بانهيار النظام القضائى فى عصر قايتباى. وبالطبع لم يتحمل السلطان قايتباى أن يعمل قاضيا، فاضطر بعد مدة لإعادة القضاة الى وظائفهم ليستمروا فى ظلم الناس ومنع العدل.

ونعطى بعض التفصيل السابقة لهذا الحادث الجلل الذى يتم الكشف عنه لأول مرة:

 

1 ـ فى يوم الثلاثاء 21 من جمادى الأولى سنة 876هـ عقد السلطان قايتباي مجلساً لعلماء الشرع كي يفتوه في مشكلة تتعلق بأوقاف إحدى المدارس، وحضر القضاة والعلماء وكبار الفقهاء واحتدم الخلاف بينهم جميعاً أمام السلطان وشتم بعضهم بعضاً واتهم بعضهم بعضا بالكفر، وقال الشيخ الكافيجي أحد العلماء الكبار وقتها للسلطان قايتباي عن الشيخ قاسم الخفجي: هذا الرجل محجور عليه من الفتوى لأنه يأخذ عليها رشوة، وتطورت الاتهامات المتبادلة بين الفقهاء الكبار فتركهم السلطان بعد أن أمرهم أن يظلوا في الاجتماع إلى يصلوا إلى فتوى يتفقون عليها. وعاد لهم السلطان فوجدهم على حالهم من الصياح والخصام. وفي النهاية أفتى قاضي القضاة المالكي باللجوء إلى حكم السلطان ليعلن بذلك أن السلطان قايتباى العسكري أفقه من قضاة الشرع بأمور الشرع..

كان فساد القضاة قد أثار السلطان، ثم أظهرت له تلك الحادثة انهم ليسوا فقط فاسدين بل جهلة ورفاق متشاكسون.

 

2 ـ في يوم الأربعاء 28 جمادى الآخرة أمر السلطان قضاة القضاة أن يحضروا إليه بنوابهم بين يديه ليعرضهم ويمتحن أحوالهم بنفسه بعد أن ضاق صدره بانحلالهم ومشاكلهم مع بعضهم. فقد أمر بأن ينادي في المدينة أن أحداً من القضاة لا يحكم حتى يصعد إلى السلطان، وكان هذا الأمر عاراً على جميع القضاة وقتها، ومنهم يومئذ مؤرخنا ابن الصيرفي القاضى الحنفي،

ويعلق مؤرخنا القاضى ابن الصيرفى ملتاعا متحسرا فيقول (وبات قضاة القضاة ونوابهم من كل مذهب بكل شر وسوء، فإن هذا عار عظيم وبهدلة زائدة وكسر قلوب لعباد الله). وأخذ السلطان يستدعى قضاة القضاة ونوابهم واحدا واحدا ويحقق معهم بنفسه، وكان من بينهم القاضى المؤرخ ابن الصيرفى نفسه، وقد حكى التفاصيل الدالّة على وضاعة القضاة ورعبهم و من السلطان، وتوسلهم بكل طريق أن يعفو عنهم، مع تعامله معهم بكل إحتقار.

 

 3 ـ  وانتهر الناس الفرصة فهرعوا يستغيثون بعدل السلطان الذى نزل عليه فجأة، يقول مؤرخنا عن أحداث يوم الثلاثاء رابع شهررجب (كان الموكب السلطانى وكثرت الشكاوى على الأكابر والأصاغر).

وفي يوم السبت التالى ثامن رجب (كانت الخدمة بالاصطبل على العادة وشكى الاستادار وناظر الخاص وأمير آخور كبير وقاضي الشافعي وابن زوين كاشف الوجه الغربي)

وعاقب السلطان الظلمة من أعوانه بالشدة، وارتبطت هذه الشدة أحياناً بالعطف على الفقراء، يقول مؤرخنا "ووقف له جماعة من الفقراء بقصص- أى شكاوى- فرسم لغالبهم بدينار ورسم لشخص مقطوع الرجلين بثلاثة دنانير، وشكى له نصره الله نائب غزه فجهز له بريدياً، وشكوا له قضاة حماة فرسم بإحضارهم".

 

4 ـ  وفي يوم الاثنين 10 رجب كانت مشكلة وقف المدرسة السيفية، وتدخل فيها السلطان بنفسه بسبب عجز القضاة فتوجه للمدرسة بنفسه، وأرسل السلطان لقضاة القضاة (الشافعي، الحنفي، المالكي) فجاءوا بهم على وجه السرعة، ووقف العوام ينظرون إلى القضاة وهم يسرعون بهم للسلطان، يقول مؤرخنا ابن الصيرفى يصف ذلك المشهد: (ومروا بالقاهرة والخلق من العوام والأوباش ينظرون إليهم ويقولون فيهم ما شاءوا وصار بعضهم ينسبهم إلى خراب الأوقاف وبعضهم ينسبهم إلى بيعها) أى تجمع حول اولئك القضاة جماهير من الناس تسبهم وتلعنهم.

وفى مداولات القضية اتهم السلطان قضاة القضاة بالكذب والتدليس.

واكتسب السلطان مكانة عالية بين جمهور العوام بسبب موقفه من القضاة، وحدث يوم الاثنين 17 رجب أنه توجه إلى أبى زعبل ليفتتح سبيلاً أنشأه هناك وحل آذان المغرب فنزل وصلى إماماً بالناس بمدرسة ابن الجيعان ودخل من باب القنطرة من بين الصورين، (وأثناء مروره بالقاهرة اجتمع حوله الناس يدعون له بالبقاء والدوام).

 

5 ـ وأخيرا

في يوم السبت 22 رجب تصدى السلطان لمباشرة القضاء بنفسه فى الاسطبل السلطانى فى القلعة، حيث وقف الشاكون أصحاب الشكاوى ونودى في المدينة بأن من له دعوى يحضر بين يدى السلطان.

وترك الناس التحاكم بين القضاة بعد ما حدث، واتجهوا للسلطان في كل أمورهم الشرعية والسياسية الحكومية، وكانت محنة لكل أرباب المناصب، وكانت تتكرر هذه المحنة يومي السبت والثلاثاء حيث يعقد السلطان جلسته في المصطبة للحكم بين الناس، يقول مؤرخنا (وشكت امرأة على زوجها للسلطان أنه تزوج عليها ويضاجرها فردها رداً قبيحاً، فلا قوة إلى بالله، وكثرت الشكاة حتى أن بياع الفجل قال اشتكى السلطان).

 والملاحظ مما سبق أن السلطان كان يتلقى الشكاوى السياسية من ظلم أرباب الوظائف كما كان يتلقى الشكاوى الشرعية وقضايا الأحوال الشخصية كما حدث في الشكوى من تلك المرأة التى اشتكت زوجها الذى تزوج عليها ويضاجرها. والملاحظة الهامة أن كل الناس كان يقصد السلطان للشكوى في كل شيء حتى أن بياع الفجل يقول اشتكى السلطان.

 

6 ـ  وظل السلطان يقوم بوظيفة القضاة إلى يوم الثلاثاء 10 شعبان حين اشتكي له شخص من رأس نوبة نقيب الجيش واقتنع السلطان بصدق دعوى الشاكي فضرب المدعى عليه، وظهر كذب المدعى فضربه السلطان، ثم أمر الوالى أن ينادي في المدينة أن أحداً لا يشكو أحداً للسلطان حتى يقف على القضاة والحكام فإن أنصفوه وإلا يقف له، وبذلك أعاد السلطان القضاة مسئوليتهم وجعل نفسه الدرجة الأخيرة في التقاضى.

أى بلغ احتقار السلطان لأولئك القضاة مداه سنة 876 حين منعهم من الحكم وتولى بنفسه القضاء في سابقة خطيرة لم تحدث من قبل في تاريخ مصر بعد الفتح الإسلامي.

 

ختاما:

 

1 ـ تخلصت مصر من ذلك القضاء (السنى) حين بدأت إصلاحا تشريعيا وقضائيا منذ القرن التاسع عشر، دخلت به مرحلة الدولة الحديثة (والدولة الحديثة هى كيان قانونى قبل كل شىء)، وذلك الاصلاح التشريعى والقضائى فى مصر أنتج صياغة للقانون المدنى والجنائى، وأبقى جانب الأحوال الشخصية لما سمى بالقضاء الشرعى، ثم ألغى عبد الناصر المحاكم الشرعية و ألحقها بالقانون العادى و القضاء العادى. وبذلك تخلصت مصر من ذلك التشريع السنى الذى أسس الظلم باسم شرع الله جل وعلا.

ولكن الاستبداد العسكرى فى مصر أوجد ظلما من ناحية أخرى حيث تتم مصادرة العدل بوجود حكم مستبد. أى أصبحنا فى حاجة الى تأسيس إصلاح تشريعى تقوم عليه دولة ديمقراطية مدنية ترعى الحرية وتحافظ على العدل الاجتماعى وتحمى حقوق الانسان وكرامته، وتؤسس على الحكم المحلى (لا المركزى) والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وحتى يتحقق هذا الاصلاح المرتجى فلا زلنا نعيش مرحلة الانهيار القضائى بوجود الاستبداد والفساد.

 

2 ـ لم تكن صورة القضاء الشرعى السّنى بهذه القتامة فى العصرين العباسى والمملوكى. كانت القتامة هى القاعدة، ولكن كان لها إستثناء.

فقد ظهر قضاة تحروا العدل فى وجود السلطان المستبد الجائر، كما ظهر فقهاء أحرار رفضوا منصب القضاة ترفعا عن العمل لدى سلطان مستبد جائر.  

 

3 ـ هذا الاستثناء يستحق التنويه، لذا انتظرونا لنتوقف معه فى مقالات قادمة من هذه السلسلة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الفصل السادس :  

رفض منصب القضاء

 

 

يمكن تلخيص الاسلام فى ثلاث كلمات (الايمان باليوم الآخر)، ويمكن تلخيص تلك الكلمات الثلاث فى كلمة واحدة هى (التقوى). وشرح ذلك يطول. ولكن يمكن أيضا تلخيص الشرح فيما يخص موضوعنا هنا بأن الذى يتقى الله جل وعلا و يؤمن باليوم الاخر على حقيقته ـ أى إنه سيقف أمام الواحد القهّار جل وعلا يوم الحساب ليدافع عن نفسه وحيث تشهد عليه جوارحه وكتاب أعماله ـ لا بد أن يسير على الطريق المستقيم لا يظلم أحدا إبتغاء دنيا لن يعيش فيها طويلا، ويتعامل مع الناس عالما بأن مصيره الحتمى للموت ثم الحساب بين احتمال الخلود فى النعيم أواحتمال الخلود فى العذاب.

بايجاز، هناك من وجّه وجهه للدنيا أكب عليها، وهناك من اعتدلت قامته موليا وجهه نحو ربه يرجو لقاء ربه و يتحسب لليوم الاخر، والبشر بين هاتين الحالتين، ولا يستوى الفريقان، يقول رب العزة (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الملك 22).

وعليه فهنا سلطان استخدم كل الوسائل والأدوات ـ ومنها الدين و الكذب على الله جل وعلا ورسوله ـ كى يصل للسلطة و ينفرد بها، وحوله أمثاله ممن هم على شاكلته، كل منهم أكب بوجهه على الأرض يحاول أن يستخلص كل خيرها وكنوزها و متعها لنفسه، وفى المقابل هناك من ولى وجهه نحو ربه جل وعلا لا يعبد سواه ولا يخشى غيره، ويرى فى الدنيا وسيلة للعمل الصالح كى يفوز فى الاخرة، وهو فى حياته الدنيا يعمل الخير كى يتزود بزاد التقوى فى سفره الى يوم الحساب و لقاء الله جل وعلا.

الى هذا الصنف أنتمى فقهاء أفاضل رغبوا عن دنيا الحاكم المستبد الظالم، ورفضوا العمل معه، ودفعوا ثمن هذا الرفض، وكان أولهم وأفضلهم الامام أباحنيفة النعمان، الذى لم ير فى عصره مثل نفسه فى العظمة ولم يلحقه من شخصيات التاريخ من يطاوله فى قامته.

 

أبو حنيفة النعمان:

 

لقد عاش ابو حنيفة فى العصرين الأموى والعباسى، وكان فيهما إماما عالى الشأن والصيت، ولذا أراد الوالى الأموى على العراق وهو ابن هبيرة أن يولى أبا حنيفة القضاء على الكوفة، فرفض أبو حنيفة، وصمم على موقفه، فضربه ابن هبيرة مائة سوط وعشرة أسواط كل يوم عشرة فلما رآه لا يفعل تركه‏.‏ لم يكتف ابو حنيفة برفض العمل مع الدولة الأموية بل شارك فى الثورة ضدها، ولكى ينجو منهم فقد هرب الى مكة وغيرها حيث عاش متنكرا، ثم قامت الدولة العباسية لتحقق أمل العدل الذى كان يحلم به الفقهاء والمثقفون أمثال أبى حنيفة، وأحاط العباسيون أبا حنيفة بالتكريم، ولكن ما لبث أن أدرك أبو حنيفة أن الحكام الجدد على سنة الأمويين يسيرون، فكانت محنة أبى حنيفة الثانية وهو فى شيخوخته والتى انتهت بموته مسموما فى السبعين من عمره. وكان من أسباب محنته أنه رفض تولى القضاء. يقول ابن الجوزى فى تاريخه (ثم إن المنصور أراده على القضاء فأبى ، فحلف (الخليفة) ليفعلن فحلفأبو حنيفة أن لا يفعل) (المنتظم 8 / ـ 144 وفيات 150)

‏ومن بين الفقهاء التقليديين وعلماء الحديث نجد الحنابلة أكبر خصوم أبى حنيفة بعد موته، وقد تسيدوا الشارع العباسى منذ القرن الثالث الهجرى الى منتصف القرن السابع الهجرى تقريبا. وقام أولئك المحدثون بتشويه تاريخ أبى حنيفة. وأبرزهم المؤرخ ابن الجوزى الحنبلى.

رواة الحديث (خصوم أبى حنيفة) يقتنصون منقبته فى رفض القضاء

إبن الجوزى (الحنبلى) فى كتابه (المنتظم) أبرز من مزج التأريخ للحكام بالتأريخ للعلماء خصوصا علماء الحديث. ولقد تحامل فى تأريخه لأبى حنيفة ، وقام بالرد على أراء ابى حنيفة الفقهية بردود غير مقنعة تحمل الكثير من الاتهامات، أى إن ابن الجوزى خلع رداء المؤرخ المحايد حين قام بالتأريخ لأبى حنيفة و اراتدى لباس الخصم الفقهى فاخذ يرد فقهيا فى كتابه الذى هو فى التاريخ وليس فى الفقه أو الحديث.

وفى نفس الوقت تجاهل جهاد أبى حنيفة ضد الظلم، وأوجز فى سطور قليلة المعاناة التى عاشها أبو حنيفة بسبب مواقفه الشجاعة. وفى نفس الوقت (أيضا) نراه قد أسهب إبن الجوزى فى معاناة ابن حنبل فى قضية (خلق القرآن)، والتى لا شأن لها بالجهاد ضد الظلم أو الوقوف دفاعا عن العدل والقسط، وإقامة القسط هو الهدف الأسمى من ارسال الرسل وإنزال الكتب السماوية، (الحديد 25). وفى نفس الوقت (أيضا) نرى إبن الجوزى قد صنع روايات (نشكّ) فى صدقيتها عن علماء حديث رفضوا منصب القضاء، ليسرق الأضواء من أبى حنيفة.

وننقل عنه بعضها:

يقول فى ترجمةعبد الله بن إدريس (ت 192): (‏سمع الأعمش وأبا إسحاق الشيباني وابن جريج ومالك بن أنس وشعبةوسفيان الثوري‏.‏ وروى عنه‏:‏ ابن المبارك وأحمد بن حنبل ويحيى وغيرهم‏) بعدها يقول ابن الجوزى عنه (وأقدمه الرشيد إلى بغداد ليوليه قضاء الكوفة فامتنع وعاد إلى الكوفة وأقام بها إلى أن مات في هذه السنة. ‏وكان ثقة عالمًا زاهدًا ورعًا وكان أحمد بن حنبل يقول فيه‏:‏ نسيجوحده).

أى إن هارون الرشيد قد سمع به فاستقدمه من الكوفة ليوليه قضاء الكوفة، ولكنه أبى وامتنع ورجع للكوفة. وهذا الخبر يعنى أن عبد الله بن إدريس كان عالى الشأن مشهورا الى درجة أن يستقدمه الرشيد من بلده الكوفة ليعرض عليه تولى قضاء الكوفة، ويرفض الرجل فلا يغضب الرشيد بل يرده الى بلده.

ذلك الخبر يخالف المعهود عليه من نبض هذا العصر حيث الرهبة الكبرى من الخلفاء خصوصا الرشيد الذى كان مشهورا بنزقه وانفعاله، وحين كان يغضب كانت تطير الرقاب، وكان سيف مسرور السياف يرهب الجميع خصوصا الفقهاء. ثم لا يستقيم هذا الخبر مع المعطيات الأموية والعباسية فى أن يبعث الخليفة يستقدم فقيها من بلده ليعرض عليه تولى القضاء فى نفس بلده، كان ممكنا أن يبعث اليه من خلال الوالى كما حدث من قبل حين عرض والى الكوفة الأموى ابن هبيرة على أبى حنيفة أن يتولى قضاء الكوفة، ولم يحدث أن استقدم الخليفة الأموى أبا حنيفة الى دمشق ليعرض عليه قضاء الكوفة. لقد كان تعيين القضاء على الأقاليم مهمة ولاة الأقاليم فى الأغلب، ثم كان من اختصاص قاضى القضاة فى عصر الرشيد، حيث كان أبو يوسف أول قاض للقضاة. ومن هنا يتبين لنا أن تلك الرواية مشكوك فيها، وأن ابن الجوزى الفقيه الحنبلى هو مخترعها، خصوصا وأن ابن الجوزى كان حنبليا، وقد قرر أن يكافىء بهذه الرواية الفقيه المحدث عبد الله بن إدريس لأن احمد بن حنبل كان تلميذا لعبد الله بن إدريس، وأنه مدحه فقال عنه (نسيجوحده).

شهرة المؤرخ ابن الجوزى فى الحديث والفقه لا تعدلها إلا شهرته فى مجال القصص، حيث كان يجتمع الناس فى مسجده ليخطب ويحكى لهم القصص، وكان من السهل عليه أن يؤلف الروايات القصصية ويجعل لها إسنادا، ثم لا يتورع عن كتابتها فى تاريخه على انها تاريخ حقيقى. ولكى نثبت ما نقول، ننقل عنه تلك الرواية عن رفض عبد الله بن إدريس عرض الرشيد بتولى القضاء، يقول ابن الجوزى: (أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا أبوعلي محمد بن الحسين النهرواي حدثنا المعافى بن زكريا حدَّثنا ابن مخلد حدَّثنا حمادبن المؤمل الكلبي قال‏:‏ حدثني شيخ على باب بعض المحدثين قال‏:‏ سألت وكيعًا عنمقدمه هو وابن إدريس وحفص على الرشيد فقال لي‏:‏ ما سألني عن هذا أحد قبلك...). هنا سند الرواية وعنعنتها، وفيها نلاحظ أن ابن الجوزى المتوفى 597 يقول (أخبرنا عبد الرحمن بن محمد) ومهما يكن عبد الرحمن بن محمد هذا فقد كان معاصرا لآبن الجوزى عاش مثله فى القرن السادس الهجرى أى بعد 500 هجرية، وهو يحكى رواية مفترض أنها حدثت فى القرن الثانى من الهجرة أى بعد 100 هجرية.

وتتوالى سلسلة الرواة والعنعنات لتصل الى صفر كبير أي راو مجهول، يقول ابن الجوزى (أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا أبوعلي محمد بن الحسين النهرواي حدثنا المعافى بن زكريا حدَّثنا ابن مخلد حدَّثنا حمادبن المؤمل الكلبي قال‏:‏ حدثني شيخ على باب بعض المحدثين) انتهت الرواية الى صفر، فمصدرها ومنبعها (شيخ على باب بعض المحدثين). أى إن الراوى الأصلى هو شيخ مجهول كان يقف على باب أحد المحدثين المجهولين. بذلك تكون الرواية ساقطة بمنهج المحدثين أنفسهم طبقا لما يسمونه بعلم الجرح والتعديل. ولكن لأننا فى مجال التأريخ وليس الحديث ولأن الكاتب و الراوى والقاص هو ابن الجوزى بمكانته وشهرته فالعادة أن يتقبل الناس كل ما يقوله وكل ما يفتريه.

ثم هناك عامل آخر، هوأن إبن الجوزى محترف فى فنّ التاليف القصصى، وضليع فى الحبكة الدرامية و اسلوب التشويق شأن أئمة علماء الحديث والسّنة، وهم دائما يضعون (البهارات) الدرامية والجمل الشيقة والجذابة بين سطور رواياتهم واقاصيصهم. ونرى مثلا لذلك فى تلك الرواية لابن الجوزى، ونعود اليها، يقول (أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا أبوعلي محمد بن الحسين النهرواي حدثنا المعافى بن زكريا حدَّثنا ابن مخلد حدَّثنا حمادبن المؤمل الكلبي قال‏:‏ حدثني شيخ على باب بعض المحدثين قال‏:‏ سألت وكيعًا عنمقدمه هو وابن إدريس وحفص على الرشيد فقال لي‏:‏ ما سألني عن هذا أحد قبلك). جملة (ما سألني عن هذا أحد قبلك) كفيلة بأن تجعل المستمع يجلس مستمعا بكل جوارحه، خصوصا وأن القصة تتعرض لمقابلة بعض أئمة الحديث للخليفة هارون الرشيد، الذى كان ـ ولا يزال ـ أشهر خلفاء بنى العباس.

وبعد أن يستولى ابن الجوزى على الاهتمام يحكى القصة زاعما أن الذى رواها هو وكيع الذى كان أحد أبطالها: (قال‏:‏ حدثني شيخ على باب بعض المحدثين قال‏:‏ سألت وكيعًا عنمقدمه هو وابن إدريس وحفص على الرشيد فقال لي‏:‏ ما سألني عن هذا أحد قبلك)، ثم يسرد القصة: (قدمنا على هارون فأقعدنا بين السريرين فكان أول مَنْ دعا به أنا فقال‏:‏ أهل بلدك طلبوا مني قاضيًا وسمّوك لي فيمن سمّوا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وصالح ما أدخل فيه منأمر هذه الأمة فخذ عهدك أيها الرجل وامض.‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير وإحدى عيني ذاهبة والأخرى ضعيفة.‏ فقال هارون‏:‏ اللهم غفرًا خذ عهدك أيها الرجل وامض‏.‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين واللّه إن كنت صادقًا إنه لينبغي أن تقبل مني ولئن كنت كاذبًا فما ينبغي أن تولي القضاء كذابًا فقال‏:‏ اخرج. ‏فخرجت) ومطلوب منا ان نصدق أن وكيع يجرؤ أن يبادر الخليفة بقوله (والله إن كنت صادقًا إنه لينبغي أن تقبل مني...) وتستمر القصة وقد خرج وكيع، ولكنه يحكى عن الرجل الثانى كأنه كان حاضرا: (ودخل ابن إدريس، وكان هارون قد وسم له من ابن إدريس وسم - يعنيخشونة جانبه - فدخل فسمعنا صوت ركبتيه على الأرض حين برك وما سمعناه يسلم إلاسلامًا خفيًا فقال له هارون‏:‏ أتدري لِمَ دعوتك. ‏فقال له‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إن أهل بلدك طلبوا مني قاضيًا وإنهم سمّوك لي فيمن سمّوا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة فخذ عهدك وامض.‏ فقال له ابن إدريس‏:‏ ليس أصلح للقضاء) من الممكن أن يكون الراوي وكيع قد سمع هذا الحديث من وراء الحائط، ولكن هل يمكن أن يكون قد رأى من وراء الحائط وهو باعترافه قال من قبل (أنا شيخ كبير وإحدى عيني ذاهبة والأخرى ضعيفة) ولكن هذا الشيخ الكبير يحكى عما جرى فى الحجرة الأخرى كأنه يرى أصابع الرشيد من خلال الجدران، يقول (فنكت هارون بإصبعه وقال له‏:‏ وددت أني لم أكن رأيتك قال له ابن إدريس‏:‏ وأنا وددت أني لم أكن رأيتك). فهل يعقل أن يرد الفقيه ابن إدريس على الرشيد قائلا (وأنا وددت أني لم أكن رأيتك)؟ وأين مسرور السياف وقتها؟ وتمضى الأقصوصة تحكى (فخرج ثم دخل حفص بن غياث فقال له كما قال لنا، فقبل عهده وخرج). أي رضي الثالث وهو حفص بن غياث بتولي منصب القضاء بينما رفضه وكيع الراوى وابن إدريس.

وبقية الرواية مدح فى مناقب اهل الحديث: (فأتانا خادم معه ثلاثة أكياس في كل كيس خمسة آلاف.‏ فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين يقرئكم السلام ويقول لكم قد لزمتكم فيشخوصكم مؤونة فاستعينوا بهذه في سفركم‏. ‏قال وكيع‏:‏ فقلت له‏:‏ أقرىء المؤمنين السلام وقل له قد وقعت منيبحيث يحب أمير المؤمنين وأنا عنها مستغن وفي رعية أمير المؤمنين من هو أحوج إليهامني فإن رأى أمير المؤمنين بصرفها إلى من أحب.‏ وأما ابن إدريس فصاح به‏:‏ مر من هنا.‏ وقبلها حفص وخرجت الرقعة إلى ابن إدريس من بيننا‏:‏ عافانا الله وإياك سألناك أن تدخل في أعمالنا فلم تفعل ووصلناك من أموالنا فلم تقبل فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه إن شاء اللهّ. ‏فقال للرسول‏:‏ إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه إن شاء الله.‏ ثم مضينا فلما صرنا إلى الياسرية حضرت الصلاة فنزلنا نتوضأ للصلاة‏.‏ قال وكيع‏:‏ فنظرت إلى شرطي محموم نائم في الشمس عليه سواده فطرحت كسائي عليه وقلت‏:‏ تدفأ إلى أن نتوضأ‏.‏ فجاء ابن إدريس فاستلبه ثم قال لي‏:‏ رحمته لا رحمك اللّه في الدنياأحد يرحم مثل ذا ثم التفت إلى حفص فقال له‏:‏ يا حفص قد علمت حين دخلت إلى سوق أسدفخضبت لحيتك ودخلت الحمام أنك ستلي القضاء لا واللهّ لا كلمتك حتى تموت قال‏:‏ فما كلمه حتى مات.‏) (المنتظم 9 / 202 وفيات 192).

ولا ننسى أن هذا الفقيه المحدّث عبد الله بن إدريس ينتمى الى مدرسة الأعمش، فالأعمش هو شيخه وشيخ وكيع، ولا يمكن لمن تخرج فى مدرسة الأعمش ولازمه أن يكون خصما للدولة العباسية بنفس الطريقة التى تظهره بها تلك الرواية.

ومع عدم التسليم بالرواية إلا إن تأليفها يعكس عرفا سائدا بين الورعين من الفقهاءالزهاد فى الدنيا، وقد كانوا معروفين وقتها بالبكائين ـ وقد عرضنا لهم فى مقال بحثى ـ وكان من معتقداتهم رفض منصب القضاء ليتفرغوا للبكاء كراهية لأحوال الدنيا والظلم العباسى. وواضح أن أعمدة أهل الحديث أرادوا أن يأخذوا شيئا من الاحترام الذى لاقاه أولئك الناس، وبمقدرتهم الفائقة على صناعة الروايات كتبوا عن بعضهم روايات لا نملك إلا الشك فيها. والسبب أن أصحاب الحديث كانوا على نقيض البكائين المقاطعين للدولة العباسية، إذ عمل أهل الحديث فى خدم"rtl"> 

هو شريك عبد الله بن أبي شريك ، وجده هو الحارث بن أوس بن الحارث بن ذهل بن وهبيل بن سعد بن مالك بن النخع بن مذجح.. وكان جده الحارث بن أوس قد شهد موقعة القادسية مع سعد بن أبي وقاص.

في سنة 95 هـ ولد شريك في مدينة بخاري في خراسان ونشأ بها، ويبدو أن أباه مات وهو صغير فتعلم أن يكون عصاميا يعتمد علي نفسه ، وهو يحكي عن نفسه وعن بدايته يقول: "أدبتني نفسي والله، ولدت بخراسان ببخاري فحملني ابن عم لنا حتي طرحني عند بني عم لي بنهر صرصر، فكنت أجلس إلي معلم لهم فعلق بقلبي تعلم القرآن فجئت إلي شيخهم فقلت يا عماه أريد أن أتعلم بالكوفة، فأرسلني إليها فكنت في الكوفة اضرب اللبن وأبيعه واشتري دفاتر فأكتب فيها العلم ثم طلبت الفقه فبلغت ما ترى"وكان شريك يتحدث بذلك أمام المستنير النخعي أحد شيوخ قبيلة النخع وقد أجهده تعليم أولاده، فقال المستنير لأولاده: سمعتم قول ابن عمكم، وقد أكثرت عليكم في الأدب ولا أراكم تفلحون فيه، فليؤدب كل رجل منكم نفسه فمن أحسن فلها ومن أساء فعليها".

 

أساتذته وتلامذته

كانت مدرسة الكوفة في مطلع القرن الثاني للهجرة أحد المراكز الأساسية للعلم، وبها نشأ شريك النخعي يتلقى العلم بعصاميته وطموحه، فقد سمع العلم من أبي اسحق السبيعي ومنصور بن المعتمر

وعبد الملك بن عمير وسماك بن حرب وسلمة بن كهيل وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن الأقمر وزبيد اليامي وعاصم الأحول وعبد الله بن محمد بن عقيل ومخول بن راشد وهلال الوزان وأشعث بن سوار وشبيب بن غرقدة وحكيم بن جبير وجابر الجعفي وعلي بن بذيمة وعمار الدهني وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد.. وبعبارة أخري أخذ العلم عن كل شيوخ الكوفة.

ثم ما لبث أن تصدر للعلم والرواية والفتوى فأخذ عنه أعلام كبار أمثال عبد الله بن المبارك وعبد الله بن عون الخراز وعباد بن العوام ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وإسحاق الأزرق ويزيد بن هارون وأبي نعيم ويحيي بن الحماني وعلي بن الجعد ومحمد بن سليمان، ثم قدم إلي بغداد عدة مرات وصار له فيها تلاميذ.

 

بينه وبين علماء عصره

ولأنه احتل الصف الأول بين علماء عصره فقد كانوا يقارنون بينه وبين غيره من المشاهير، فكان عباد بن العوام يقول قدم علينا معمر وشريك، وكان شريك أرجح عندنا من معمر، وكان بعضهم يفضله علي أبي الأحوص، فقيل ليحيي بن معين: أيهما أحب إلي، وقد قدمه يحيي بن معين أيضا علي أبي إسحاق وإسرائيل وهما من كبار المحدثين.

بل إن شريك النخعي كان في موضع المقارنة بسفيان الثوري كبير الزهاد والفقهاء في زمنه، يقول أبو أحمد الزبيري "كنت إذا جلست إلي سفيان الثوري، رجعت وقد هممت أن أعمل عملا صالحا، وكنت إذا جلست إلي شريك بن عبد الله رجعت وقد استفدت أدبا حسنا".

 

إلا أن تولية القضاء جعل بعضهم ينفر منه إذ كانوا يعتبرون من الورع عدم التعامل مع أهل السلطان وألا يتولى أحدهم منصب القضاء. وقد تأثر بعضهم بذلك في حكمه عليه، فقال مثلا: أبو علي صالح بن محمد "شريك صدوق ولما ولي القضاء اضطرب حفظه" أي كانت العلاقات سيئة بينه وبينهم لذلك اتهمه بعضهم بالضعف وعدم الثقة وقلة الحفظ.

 

احتجاح أصحابه عليه لقبوله منصب القضاء

وشريك من أشهر القضاة في العصر العباسي الأول، بل هو أشهر من تولي القضاء في عصر المنصور وابنه المهدي، وقد رفض في البداية أن يتولى القضاء ثم رضي بالأمر، وكان يدافع عن نفسه أنهم قد أكرهوه علي ذلك المنصب ليمتص سخط رفاقه من العلماء والزهاد، ولكنهم كانوا يردون عليه هذه الحجة، مثلا يحكي أن شريك قال لبعض إخوانه أكرهت علي القضاء، قالوا له: أفأكرهوك علي اخذ الأجر؟

ويروي يحيي بن يمان أنهم أكرهوا شريك علي تولي القضاء حتي كانوا يحيطونه بالشرطة يحفظونه، ثم طاب له المنصب فصار يجلس للقضاء بدون شرطة تحفظه.

وبلغ سفيان الثوري إنه صار يجلس للمنصب باختياره، فجاء إليه، فقام إليه شريك وبالغ في تعظيمه وسأله عن حاجته، فقال له الثوري: ما تقول في امرأة جاءت فجلست علي باب رجل، ففتح الرجل الباب فاحتملها ففجر بها فعلي من تقيم الحدّ؟ فقال له شريك: علي الرجل أما هي فلا عليها لأنها مغصوبة، فقال له الثوري، فإذا جاءت المرأة من الغد فتزينت وتعطرت وجلست علي ذلك الباب ففتح الرجل الباب فرآها فاحتملها وفجر بها فعلي أيهما تقيم الحد؟ فقال شريك: عليهما جميعا لأنها جاءت من نفسها وقد عرفت الخبر من الأمس، فقال له سفيان الثوري: أنت كان لك عذرك حين كانت الشرطة تحفظك وتحيط بك، فاليوم أي عذر لك؟ ثم قام عنه مخاصما له..

وكان الثوري يقول عنه: أي رجل كان شريك لو لم يفسدوه.

وكان خصومه له بالمرصاد بعد توليه القضاء وقيامه بمستلزمات ذلك المنصب، فقد حدث أن اقترب ركب الخيزران زوجة الخليفة المهدي قادمة من الحج، فركب شريك ينتظر قدومها، وظل ثلاثة أيام حتي يبس الخبز الذي كان معه فصار يبلله بالماء ويأكله، فقال العلاء بن المنهال‏:‏

فإن كان الذى قد قلت حقا بأنْ قد أكرهوك على القضاء

فمالك موضعًا في كل يوم تلقَى من يحج من النساء

مقيم في قرى شاهي ثلاثآ بلا زاد سوى كسر وماء

 

ويروي ابن سعد في الطبقات الكبرى أن أبا جعفر المنصور استدعي شريك وقال له: إني أريد أن أوليك قضاء الكوفة فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، فقال: لست أعفيك ، قال: انصرف يومي هذا وأعود فيري أمير المؤمنين رأيه، فقال له المنصور: إنما تريد أن تخرج فتغيب عني، والله لئن فعلت لأقدمن علي خمسين من قومك بما تكره، فلما سمعه شريك يحلف يهدده بالانتقام من قومه عاد إليه ولم يتغيب، وتولي قضاء الكوفة .

وجدير بالذكر أن أبا جعفر المنصور عاقب أبا حنيفة حين رفض تولي القضاء ولم يكن ذلك الخليفة يتراجع في تهديد ، فقد سفك الكثير من دماء بنى عمه من العلويين، وأمر بضر ب الإمام مالك بن أنس، وكان شريك متهما عنده بحب العلويين وتلك تهمة تبيح دمه لدي الخليفة العباسي، لذا آثر شريك السلامة ورضي بمنصب القضاء، وسار فيه بالعدل حتي في مواجهة أتباع الدولة العباسية ورؤوسها.

وابن سعد في تاريخه الطبقات هو أقدم الكتب التاريخية وأقربها للصدق والتوثيق وقد ترجم لشريك ترجمة قصيرة ذكر فيها قصة توليه القضاء ، ولكن خصوم شريك ما لبثوا أن أشاعوا رواية أخري عن نفس الموضوع نقلها فيما بعد المؤرخ المملوكي خليل بن ايبك الصفدي فى موسوعته (الوافى بالوفيات) تقول إن شريك دخل علي الخليفة المهدي فقال له: لابد لك من احدي ثلاث، إما أن تلي القضاء أو تؤدب أولادي و تحدثهم أو تأكل عندي أكلة. فقال: الأكلة اخف عندي، فعمل له طباخ الخليفة ألوان الأطعمة ما لم يسمع به شريك من قبل، فأكل. فقال الطباخ: لا يفلح بعدها، وفعلا عمل لديه معلما وتولي القضاء .

وتلك الرواية تناقض ماهو معروف من سيرة شريك الذي تولي القضاء في عهد أبي جعفر المنصور واستمر قاضيا في عهد ابنه المهدي حتي عزله المهدي عن القضاء.

ثم إن تلك الرواية بعينها قد قيلت في تولية القاضي المشهور أبو يوسف والذي عرض عليه احدي ثلاث هو الخليفة الرشيد وذلك ما رددته كتب التاريخ.

وخليل بن ايبك الصفدي ينقل رواية أخري يبدو فيها الإصرار علي تشويه صورة شريك، يقول فيها إن الخليفة المهدي كتب ضيعة لشريكة وماطله في إعطائها، طالبه بها شريك، فقال له الخليفة: إنك لم تبع بها قماشا، فقال له شريك: بل والله بعت ديني.

وتلك الرواية لا تستقيم مع أخبار شريك في تحري العدل ووقوفه ضد الظلمة من العباسيين وأعوانهم. ولم يذكر خليل الصفدي شيئا من تلك الروايات التى ترفع هامة شريك فى تحرى العدل والوقوف ضد الظالمين من العباسيين، بينما ذكرتها كتب التاريخ المتقدمة مثل المنتظم لابن الجوزي وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي مما يدل على ان تلك الروايات التى انفرد بها المؤرخ المملوكى خليل بن أيبك الصفدى والتى تنال من مكانته قد تم وضعها وتاليفها فيما بعد.

ولقد ذكر ابن الجوزي والخطيب البغدادي وابن كثير أن شريك كان إذا افتتح مجلس القضاء أخرج ورقة وقرأها، وكان مكتوبا فيها "يا شريك بن عبد الله اذكر الصراط وحدته، يا شريك بن عبد الله اذكر الموقف بين يدي الله تعالي"، وقبل أن يجلس للقضاء كان يأتي المسجد ويصلي ركعتين، ثم بعد أن يقرأ تلك الورقة التي تذكره بمسئوليته أمام الله تعالي يدعو الخصوم للتقاضي.

 

عدله في القضاء

1 ـ علي أن القول الفصل في الحكم علي شخصية شريك يكمن في مدي تحقيقه العدل حين كان قاضيا، والروايات في ذلك الشأن يظهر منها أنه تحري العدل وواجه ظلم الجبابرة وكان يهددهم بالاستقالة من منصبه، وبهذا الموقف العملى ربما تترجح حجة شريك فى تولى منصب القضاء لكى يحقق بعض العدل لبعض الناس فى دولة قامت على الظلم. وربما كان شريك يرى أن الأجدى بالفقهاء الورعين أمثال سفيان الثوري أن يحذو حذوه في المواجهة لا أن يكتفي بالهرب والاعتزال بدعوى الزهد ومقاطعة الظلمة من الحكام. وكان الظلم مستفحلا فى بغداد وغيرها، ووصل الى الكوفة فى اثناء تولى شريك القضاء فيها. وكانت الحاجة ماسة الى رجال من نوعية شريك تنصف بعض المظاليم.

 

2 ـ يروي مجالد بن سعيد أنه كان عند شريك في بيته وقد تأخر عن الذهاب لمجلس القضاء بسبب أنه غسل ثيابه ولم تكن قد جفت بعد، وذلك يدل علي تقشفه العملي. ولكن القصة التى حدثت وقتها تبين نوعية شريك المختلفة عن أبي يوسف ومدرسته من قضاة الظلم.

كان شريك يجلس مع ابن سعيد وهو ـ شريك ـ ينتظر أن تجف ثيابه، وكانا يتناقشان في مسألة فقهية عن العبد الذي يتزوج بغير إذن سيده، وأثناء ذلك كانت الخيزران زوجة الخليفة المهدي وأم ولديه الهادى والرشيد وصاحبة النفوذ الأكبر فى الدولة العباسية قد أرسلت إلي الكوفة خادما من أتباعها ليرعى ضياعها، وأمرت والي الكوفة وهو موسي بن عيسي العباسي ألا يعصى له أمرا، فاستفحل نفوذ ذلك الخادم بالكوفة، وأثناء حديث ابن سعيد مع شريك في بيته كان ذلك الخادم يسير في موكب فخم في الشارع ورجل يسير بين يديه مكتوفا وهو يصرخ مستغيثا بالله وبعدل القاضي شريك وآثار السياط علي ظهره.

وأسرع شريك بالخروج من داره فرأي ذلك المنظر، وشكا المظلوم إلي شريك كيف أن ذلك الرجل خادم الخيزران قد استأجره بالسخرة منذ أربعة اشهر وحبسه حتي أضاع عياله، وعندما هرب منه استطاع أن يقبض عليه ويلهب ظهره بالسياط.

وسمع القاضي مقالة الأجير فقال لخادم الخيزران: قم فاجلس مع خصمك. فرفض الخادم، فقال له شريك: ما هذه الآثار التي بظهر الرجل، فقال الخادم: أصلح الله القاضي إنما ضربته أسواطا وهو يستحق أكثر من هذا، وطلب الخادم من القاضي شريك أن يدخله السجن تنفيذا لأوامر الخيزران صاحبة النفوذ، فما كان من شريك إلا أن ألقي كساءه الذي لم يجف ودخل داره وخرج ومعه سوط وانهال به ضربا علي خادم الخيزران، وتجمع أعوان الخادم ليخلصوه من يديه فنادي شريك في فتيان الحي فأتوا إليه وأمرهم بالقبض علي أعوان الخادم والخادم وأن يذهبوا بهم إلي الحبس.

وأخذ الخادم يبكي ويقول مهددا لشريك: ستعلم عاقبة فعلك، وأطلق شريك الأجير المظلوم ثم التفت إلي جليسه مجالد بن سعيد يقول له: يا أبا حفص ما تقول في العبد يتزوج بغير إذن سيده، ودخل في النقاش الفقهي الذي كان كأن شيئا لم يحدث، وقال له مجالد بن سعيد: والله لقد فعلت اليوم فعلة ستكون لها عاقبة مكروهة، فلم يزد شريك علي أن قال له: من أعز أمر الله أعزه الله، ودعاه إلي الاستمرار في المناقشة الفقهية.

وذهب خادم الخيزران إلي الوالي موسي بن عيسي العباسي يشكو إليه، وقد صار معه أعوان الوالي، إلا أن الوالي قال لهم: والله ما أتعرض لشريك ولا أقدر عليه، فأصاب الخادم خزي ولحق ببغداد وما جرؤ علي أن يعود للكوفة، واكتسب شريك بذلك عداوة الخيزران.!

 

3 ـ وكانت لوالي الكوفة موسي بن عيسي تجربة سابقة مع القاضي شريك هي التي جعلته يقف هذا الموقف ويتوقف عن معارضة شريك في موضوع خادم الخيزران.

يحكي عمر بن الهياج بن سعيد أن امرأة من نسل الصحابي جرير بن عبد الله البجلي جاءت إلي شريك تستغيث به من ظلم الوالي موسي بن عيسي، وتقول له: "كان لي بستان علي شاطيء الفرات لي فيه نخل ورثته عن آبائي وقاسمت أخوتي وبنيت بيني وبينهم حائطا، وجعلت فيه خادما يحفظ النخل، فاشتري الأمير موسي بن عيسي من أخوتي جميعا وساومني علي شراء نصيبي فلم أبعه، فبعث خمسمائة رجل فهدموا الحائط فأصبحت لا أعرف من نخلي شيئا واختلط بالنخل الذي كان ملكا لأخوتي واشتراه الأمير."

فنادى شريك غلاما كان عنده وأرسله برسالة إلي الأمير موسي بن عيسي يستدعيه إلي مجلس الحكم ليقف بجانب المرأة، وذهبت المرأة مع الرسول إلي باب الأمير، ودخل الحاجب علي الأمير يخبره بالأمر، فما كان من الأمير إلا أن استدعي رئيس الشرطة وقال له امض إلي القاضي شريك وقل له يا سبحان الله ما رأيت أعجب من أمرك، امرأة ادعت دعوة لم تصح، أتنصرها علي؟ فقال له رئيس الشرطة: أرجو أن يعفيني الأمير من حمل هذه الرسالة فأنا أعرف القاضي، فانتهره الأمير وأمره بحمل الرسالة إلي شريك، فرضخ صاحب الشرطة للأمر، وأمر أعوانه أن يجهزوا الحبس بكل ما يلزم من فراش وطعام لأنه يعرف مقدما أن القاضي شريك سيأمر بحبسه، وذهب للقاضي وأدي الرسالة فقال شريك للحاجب الواقف عنده: خذ بيده فضعه في الحبس فقال رئيس الشرطة: قد والله يا أبا عبد الله عرفت أنك تفعل بي هذا فجعلت في الحبس ما يعينني عليه.

ووصل الخبر إلي الأمير الوالى موسى بن عيسى فغضب وأرسل الحاجب إلي شريك يقول له: إن رئيس الشرطة كان رسولا إليك فلماذا حبسته؟ فأمر القاضي بحبس الحاجب أيضا.

وعلم الأمير بالخبر فأرسل إلي كبار أهل الكوفة وأصدقاء شريك وشكا لهم ما فعل شريك وأرسلهم إليه وقال لهم: "امضوا إليه وأبلغوه السلام واعلموه أنه قد استخف بي وأني لست كالعامة"، فجاءوا إلي شريك وهو جالس في المسجد بعد العصر فابلغوه الرسالة فلما انقضي كلامهم وتوسلاتهم قال لهم: مالي لا أراكم جئتم في غيره من الناس تكلمونني؟

ونادي علي فتيان الحي وقال لهم ليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من هؤلاء فيذهب به إلي الحبس، ولابد أن يقضي الليل فيه، فقالوا له: أتتكلم جادا، قال نعم، حتي لا تعودوا برسالة ظالم، فذهبوا بهم إلي الحبس، وأحاط الخزي بالوالي فدخل فى تحدى القاضى الى النهاية، فركب بالليل ومعه أعوانه إلي الحبس وفتح الباب وأخرج الجميع منه.

وفي الغد جلس شريك في المجلس كعادته، فجاءه السجان وأخبره بما حدث، فدعا شريك بأوراقه وختمها، وذهب إلي داره واحتمل متاعه، وتجهز لمغادرة الكوفة معتزلا القضاء وقال: والله ما طلبنا هذا الأمر منهم ولكن اكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه حين تقلدناه لهم.

وسار شريك خارجا من الكوفة فبلغ القنطرة في طريقه إلي بغداد، وعلم الوالي بما حدث فركب في موكبه فلحقه ، وجعل يناشده الله أن يرجع ويعتذر إليه، فقال له شريك: لا أرجع حتي ترد الجميع إلي الحبس وإلا مضيت إلي أمير المؤمنين استعفيه من القضاء، فأمر الوالي بأن يرد الجميع إلي الحبس. وظل شريك في مكانه حتي جاءه السجان وقال: لقد رجعوا إلي الحبس، فقال القاضي لأعوانه: خذوا بلجام الأمير وقودوه إلي مجلس الحكم، فأخذوه من أمام القاضي.

وفى مجلس القضاء جيء بالوالي أمام القاضي في مجلس الحكم، وطلب القاضي المرأة فجاءت، فقال لها هذا خصمك قد حضر إلي جانبك، فقال الأمير: أما وقد جلست أمام مجلس القضاء فأخرج أولئك الذين حبستهم قبل كل شيء، فقال له القاضي: أما الآن فنعم، وأمر بإخراجهم وقال للأمير: ما تقول فيما تدعيه هذه المرأة عليك؟ فقال الأمير: إنها صادقة، قال القاضي: إذن ترد جميع ما أخذته منها وتبني حائطا في وقت واحد سريعا كما هدمته، قال أفعل، فقال القاضي: وتقول المرأة انك أخذت متاع خادمها فى البستان فقال الأمير: وأرد ذلك أيضا، فالتفت شريك للمرأة وقال لها: هل بقي لك شيء تدعينه يا امرأة، فقالت المرأة: لا. وجزاك الله خيرا. وقال القاضي للمرأة: إذا قومي يرحمك الله. بعد انتهاء المجلس قام شريك من مكانه وأخذ بيد الأمير وأجلسه معه وقال له: السلام عليك أيها الأمير، أتأمر بشيء؟ فضحك الأمير قائلا هل أنا الذي آمر؟

 

عزل شــــريك

وكان من الطبيعي أن يستعدي شريك علي نفسه مراكز القوي في قصر الخلافة في عهد المهدي الذي كان بالخيزران وبقية الجواري فيه كل النفوذ. هذا بالإضافة إلي ما عرف عن شريك من حب لآل البيت العلوي ومن جرأة في خطاب الخليفة وغيره مما كان غير محتمل عند المهدي الذي تتبع خصومه بالقتل بتهمة الزندقة.

ويقال عن سبب عزله عن القضاء إن وكيلا لجارية فى القصر العباسى من ذوات النفوذ واسمها مؤنسة تخاصم مع رجل أمام شريك، وأخذ ذلك الوكيل يستطيل علي خصمه أمام القاضي يتيه بمكانته ومكانة سيدته، فزجره القاضي، فقال للقاضي: أتقول لي هذا وأنا وكيل مؤنسة؟ فأمر القاضي بصفعه عشر صفعات، فانصرف ودخل علي سيدته يبكي، فكتبت مؤنسة إلي الخليفة المهدي فعزله عن القضاء.

كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون، إذ ضاقت الخيزران بعدل شريك، وضاق الخليفة بجرأته، إذ حدث قبيل ذلك أن قال له الخليفة.. ما ينبغي لك أن تتقلد القضاء بين المسلمين، فقال له شريك: لماذا؟ قال لخلافك علي الجماعة وقولك بالإمامة "الشيعية" فقال له شريك: أما قولك بخلافك عن الجماعة فعن الجماعة أخذت ديني فكيف أخالفهم وهم اصلي في ديني، وأما قولك بالإمامة "الشيعية" فما أعرف إلا كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم، وأما قولك مثلك لا يتقلد القضاء فهذا شيء أنتم فعلتموه فإن كان خطأ فاستغفروا الله منه، وإن كان صوابا فأمسكوا عليه، فقال له المهدي: ما تقول في علي بن أبي طالب ؟ قال: ما قال فيه جدك العباس وعبد الله بن عباس، فقال: وما قالا فيه؟ قال: فأما العباس فمات وعلي عنده أفضل الصحابة، وأما عبد الله بن عباس فإنه كان يقاتل بين يديه بسيفين، وكان في حروبه معه قائدا فلو كانت إمامته علي جور كان أول من يقعد عنها جدك عبد الله بن عباس لعلمه بدين الله. فسكت المهدي وأطرق وعجز عن الإجابة، ولم يمض بعدها إلا قليل حتي عزله عن القضاء.

 

جرأته في الرد

ويبدو مما سبق أنه كان جريئا في الرد سريع الإجابة لا يهاب أحدا، ومن الطريف أن الوالي علي الكوفة موسي بن عيسي وجد فرصة في عزل شريك ليتشفى فيه فقال له: ما صنع أمير المؤمنين بأحد مثل ما صنع بك حين عزلك عن القضاء، فرد عليه شريك ردا موجعا، قال له: هم أمراء المؤمنين يعزلون القضاة ويخلعون ولاة العهود فلا يعاب عليهم ذلك، فغضب موسي منه وقال: ما رأيت مجنونا مثلك لا يبالي بما ينطق به.

والسبب في غضب موسي بن عيسي"> وتوفي شريك بالكوفة في يوم السبت مستهل ذي القعدة 177 هـ في خلافة الرشيد وصلي عليه الوالي موسي بن عيسي.

وكان هارون الرشيد في الحيرة فجاء إلي الكوفة خصيصا ليصلي عليه، فوجدهم قد دفنوه فانصرف ولم يدخل الكوفة.. رحم الله القاضي شريك بن عبد الله.

 

بين ابى حنيفة وشريك:

لقد‏ ‏كان‏ ‏أبو‏ ‏حنيفة‏ (80 - 150 ‏هـ‏) ‏معارضا‏ ‏فى ‏حياته‏ ‏للدولة‏ ‏الأموية‏ ‏أبان‏ ‏سطوتها‏ ‏مؤيدا‏ ‏لثورة‏ ‏زيد‏ ‏بن‏ ‏على ‏زين‏ ‏العابدين‏ ‏عام‏ 121 ‏هـ‏، ‏واشتهر‏ ‏بتعاطفه‏ ‏مع‏ ‏العلويين‏ ‏مما‏ ‏جعل‏ ‏الوالى ‏الأموى ‏على ‏العراق‏ ‏ابن‏ ‏هبيرة‏ ‏يختبر‏ ‏ولاءه‏ ‏للدولة‏ ‏بأن‏ ‏يشركه‏ ‏معه‏ ‏فى ‏السلطة‏ ‏ويتولى ‏القضاء‏ ‏زعيما‏ ‏للفقهاء‏، ‏ولكنه‏ ‏أبى ‏بينما‏ ‏وافق‏ ‏الفقهاء‏ ‏أمثال‏ ‏ابن‏ ‏أبى ‏ليلى ‏وابن‏ ‏شبرمه‏ ‏وابن‏ ‏أبى ‏هند‏. ‏فكان‏ ‏أن‏ ‏أمر‏ ‏ابن‏ ‏هبيرة‏ ‏بحبس‏ ‏أبى ‏حنيفة‏ ‏فى ‏السجن‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏أطلق‏ ‏سراحه‏، ‏فهرب‏ ‏إلى ‏مكة‏ ‏وظل‏ ‏بها‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏قامت‏ ‏الدولة‏ ‏العباسية‏ ‏فرجع‏ ‏إلى ‏الكوفة‏ ‏متمتعا‏ ‏بالحظوة‏ ‏لدى ‏العباسيين‏. ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الحظوة‏ ‏لم‏ ‏تطل‏ ‏إذ‏ ‏أن‏ ‏الخلاف‏ ‏ما‏ ‏لبث‏ ‏أن‏ ‏وقع‏ ‏بين‏ ‏أبى ‏حنيفة‏ ‏وأبى ‏جعفر‏ ‏المنصور‏، ‏وأساس‏ ‏الخلاف‏ ‏أن‏ ‏الدولة‏ ‏الجديدة‏ ‏تريد‏ ‏من‏ ‏العلماء‏ ‏أن‏ ‏يكونوا‏ ‏أداة‏ ‏لها‏ ‏فى ‏سياستها‏، ‏شأن‏ ‏ترزية‏ ‏القوانين‏ ‏فى ‏عصرنا‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏رفضه‏ ‏أبو‏ ‏حنيفة‏ ‏ورفض‏ ‏معه‏ ‏عطايا‏ ‏الدولة‏ ‏وإغراءاتها‏. ‏وتمسك‏ ‏بالفتيا‏ ‏بالحق‏ ‏مهما‏ ‏أغضب‏ ‏الخليفة‏. ‏وكانت‏ ‏تلك‏ ‏الفتاوى ‏سياسية‏ ‏أحيانا‏ ‏وعادية‏ ‏حينا‏، ‏وكلها‏ ‏كانت‏ ‏سببا‏ ‏فى ‏أن‏ ‏يلقى ‏أبو‏ ‏حنيفة‏ ‏مصرعه‏ ‏بالسم‏ ‏سنة‏ 150هـ‏.‏

ونعطى ‏أمثلة‏ ‏سريعة‏ ‏لبعض‏ ‏تلك‏ ‏الفتاوى، ‏فقد‏ ‏وقع‏ ‏خلاف‏ ‏بين‏ ‏أبى ‏جعفر‏ ‏المنصور‏ ‏وزوجته‏، ‏وكان‏ ‏قد‏ ‏اشترط‏ ‏لها‏ ‏ألا‏ ‏يتزوج‏ ‏عليها‏. ‏فلما‏ ‏جاءته‏ ‏الدنيا‏ ‏تسعى ‏فى ‏سلطانه‏ ‏أراد‏ ‏أن‏ ‏يتحلل‏ ‏من‏ ‏الشرط‏، ‏فاستعانت‏ ‏الزوجة‏ ‏بأبى ‏حنيفة‏، ‏وأفتى ‏أمامهما‏ ‏بأنه‏ ‏لا‏ ‏يجوز‏ ‏لأبى ‏جعفر‏ ‏أن‏ ‏يتزوج‏ ‏عليها‏. ‏كما‏ ‏ثار‏ ‏محمد‏ ‏النفس‏ ‏الزكية‏ ‏حفيد‏ ‏الحسن‏ ‏بن‏ ‏على، ‏وتحرج‏ ‏بعض‏ ‏القادة‏ ‏العباسيين‏ ‏من‏ ‏مواجهته‏، ‏اذ‏ ‏كان‏ ‏محمد‏ ‏النفس‏ ‏الزكية‏ ‏هو‏ ‏المستحق‏ ‏الحقيقى ‏للخلافة‏ ‏والدعوة‏، ‏وكان‏ ‏أبو‏ ‏جعفر‏ ‏المنصور‏ ‏نفسه‏ ‏قد‏ ‏بايعه‏ ‏من‏ ‏قبل‏، ‏كان‏ ‏أبو‏ ‏حنيفة‏ ‏يعتقد‏ ‏بأحقية‏ ‏النفس‏ ‏الزكية‏، ‏وعلم‏ ‏أبو‏ ‏جعفر‏ ‏المنصور‏ ‏بالأمر‏. ‏وأصبح‏ ‏الجواسيس‏ ‏يحيطون‏ ‏بأبى ‏حنيفة‏ ‏يحصون‏ ‏عليه‏ ‏أنفاسه‏ ‏ويتصيد‏ ‏المنصور‏ ‏أخطاءه‏ ‏ويتحين‏ ‏الفرصة‏ ‏للنيل‏ ‏منه‏، ‏ونجح‏ ‏أبو‏ ‏حنيفة‏ ‏بذكائه‏ ‏فى ‏الإفلات‏ ‏من‏ ‏تلك‏ ‏المكائد‏ ‏طالما‏ ‏لا‏ ‏تؤثر‏ ‏على ‏رأيه‏ ‏الفقهى، ‏إلى ‏أن‏ ‏حدثت‏ ‏ثورة‏ ‏الموصل‏ ‏سنة‏ 148، ‏وكانت‏ ‏بداية‏ ‏النهاية‏.

‏إذ‏ ‏جمع‏ ‏أبو‏ ‏جعفر‏ ‏المنصور‏ ‏الفقهاء‏ ‏وأخبرهم‏ ‏أن‏ ‏أهل‏ ‏الموصل‏ ‏بعد‏ ‏فشل‏ ‏ثورتهم‏ ‏الأولى ‏كان‏ ‏قد‏ ‏اشترط‏ ‏عليهم‏ ‏إذا‏ ‏ثاروا‏ ‏فإن‏ ‏دماءهم‏ ‏حلال‏ ‏وطالما‏ ‏قد‏ ‏خرجوا‏ ‏عليه‏ ‏فقد‏ ‏حلت‏ ‏دماوهم‏، ‏فأفتى ‏العلماء‏ ‏بالموافقة‏، ‏وقالوا‏ ‏للخليفة‏: ‏إن‏ ‏عفوت‏ ‏فأنت‏ ‏أهل‏ ‏للعفو‏ ‏وإن‏ ‏عاقبت‏ ‏فبما‏ ‏يستحقون‏، ‏وسكت‏ ‏أبو‏ ‏حنيفة‏، ‏فسأله‏ ‏الخليفة‏ ‏عن‏ ‏رأيه‏ ‏فقال‏: ‏إنهم‏ ‏أباحوا‏ ‏لك‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يملكون‏ ‏وقد‏ ‏اشترطت‏ ‏عليهم‏ ‏ما‏ ‏ليس‏ ‏لك‏، ‏لأنهم‏ ‏لا‏ ‏يملكون‏ ‏دماءهم‏، ‏أرأيت‏ ‏لو‏ ‏أن‏ ‏امرأة‏ ‏أباحت‏ ‏شرفها‏ ‏بغير‏ ‏زواج‏ ‏أكان‏ ‏ذلك‏ ‏يجوز‏ ‏لها؟‏ ‏فسكت‏ ‏الخليفة‏ ‏ونصح‏ ‏أبا‏ ‏حنيفة‏ ‏محذرا‏ ‏من‏ ‏أمثال‏ ‏هذه‏ ‏الفتوى، ‏ولكن‏ ‏أبا‏ ‏حنيفة‏ ‏لم‏ ‏يسكت‏ ‏إذ‏ ‏أصدر‏ ‏فتوى ‏أخرى ‏خطيرة‏ ‏مؤداها‏ ‏أن‏ ‏الخلافة‏ ‏تكون‏ ‏باجماع‏ ‏المؤمنين‏ ‏وليس‏ ‏بالقوة‏، ‏وهكذا‏ ‏حانت‏ ‏ساعة‏ ‏الصفر‏، ‏وانطلق‏ ‏علماء‏ ‏السلطة‏ ‏يتهمون‏ ‏أبا‏ ‏حنيفة‏ ‏بأنه‏ ‏يرى ‏وضع‏ ‏السيف‏ ‏فى ‏أمة‏ ‏محمد‏، ‏أى ‏يشجع‏ ‏على ‏الثورة‏، ‏وواكب‏ ‏ذلك‏ ‏عرض‏ ‏القضاء‏ ‏عليه‏، ‏وكان‏ ‏المنصور‏ ‏يتوقع‏ ‏منه‏ ‏أن‏ ‏يرفض‏ ‏القضاء‏، ‏وفى ‏هذا‏ ‏الجو‏ ‏أتيح‏ ‏للدولة‏ ‏العباسية‏ ‏أن‏ ‏تعتقل‏ ‏أبا‏ ‏حنيفة‏ ‏وأن‏ ‏تسقيه‏ ‏السم‏ ‏فى ‏السجن‏.

إن‏ ‏أبا‏ ‏جعفر‏ ‏المنصور‏ ‏لم‏ ‏يختلف‏ ‏فى ‏جبروته‏ ‏واستبداده‏ ‏عن‏ ‏عبد‏ ‏الملك‏ ‏بن‏ ‏مروان‏ (‏وقد‏ ‏كان‏ ‏معجبا‏ ‏به‏) ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏أضفى ‏على ‏استبداده‏ ‏مسحة‏ ‏التدين‏ ‏واستعان‏ ‏بأعوانه‏ ‏من‏ ‏الفقهاء‏ ‏ليسبغ‏ ‏مشروعية‏ ‏دينية‏ ‏على ‏طغيانه‏ ‏وظلمه‏ ‏بالأحاديث‏ ‏المصنوعه‏ ‏والفتاوى ‏السامة‏، ‏سواء‏ ‏كانت‏ ‏القضايا‏ ‏سياسية‏ ‏أم‏ ‏كانت‏ ‏عادية‏ ‏شخصية‏، ‏وقد‏ ‏رأينا‏ ‏طرفا‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏العرض‏ ‏السريع‏ ‏عن‏ ‏أبى ‏حنيفة‏ ‏وعلاقته‏ ‏بأبى ‏جعفر‏ ‏المنصور‏.

نلاحظ الاتفاق بين أبى حنيفة (80 ـ 150) وشريك (95 ـ 177) فى كونهما عاشا فى عصر واحد تقريبا، وأغلب حياتهما فى الكوفة، وأنهما عاصرا الدولتين الأموية و العباسية، وكلاهما كان (متهما) بالتشيع، الذى كان جريمة فى نظر العباسيين تستلزم أن يظهر كل منهما إخلاصه التام للدولة العباسية بالعمل لديها قاضيا. لذلك كان الالحاح عليهما بتولى القضاء.

وهناك إختلاف أكثر بين أبى حنيفة وشريك، ربما كان السبب فى اختلاف نهايتهما حيث انتهى أمر أبى حنيفة بالقتل، وانتهى أمر شريك بالعزل.

أبو حنيفة فارسي وليس عربيا مثل شريك، وكان أبوحنيفة رافضا للحديث وليس مثل شريك، كما أن ظروف اصطدام ابى حنيفة بالخلافة العباسية جاءت ملابسة لظروف حرجة ودقيقة، لذا انتهت حياته بالقتل.

الفرس قوم ابى حنيفة كانوا قوام الدعوة العباسية وقوام الجيش العباسى، وكان نفوذهم هو الغالب على العرب، وقد بدأت الدعوة السياسية السرية لصالح العلويين تحت شعار(الرضى من آل محمد) للتعمية على صاحب الدعوة بعد أن قتل الأمويون قادة العلويين من الحسين ومن بعده. وفى ظروف سرية انتقلت الدعوة من صاحبها الذى ينتمى الى ذرية محمد بن على بن ابى طالب (ابن الحنفية) الى رأس البيت العباسي، ولم يعلم الفرس المؤيدون للدعوة بهذا الانتقال إلا بعد الاعلان عنمه وتعيين السفاح أول خليفة عباسى. ومن الطبيعى أن تحدث انشقاقات وتذمر واجهته الدولة العباسية بالقوة، واستغل هذا الوضع قائد الجيش العباسي أبو مسلم الخراساني فى تقوية نفوذه باعتباره الذى يسيطر على الجيش ويتحكم فى ولاء الفرس، وضاق السفاح بنفوذه ومات تاركا مشكلته لولى عهده أخيه أبى جعفر المنصور الذى ما لبث أن قتل أبا مسلم بيده عام 137. وثارت معارك ضد العباسيين فى خراسان تزعمتها فاطمة بنت أبى مسلم ، وكان لأبى مسلم أتباع كثيرون داخل الجيش العباسى وفى البلاط العباسى، ولذا كان موقف أبى حنيفة الفارسى والزعيم الدينى للفرس حرجا، خصوصا وأن أبا حنيفة كانت لا تأخذه فى الحق لومة لائم. وزاد من حساسية الموقف للعباسيين أن أبا حنيفة كان يتشيع لآل على، وحدثت ثورة محمد النفس الزكية فى الحجاز، وثورة أخيه ابراهيم فى الشرق عام 145. هنا أصبح الموقف لا يحتمل معارضة أبى حنيفة، خصوصا وأن أبا حنيفة مع تشيعه فهو يرفض الأحاديث التى يذيعها وينشرها فقهاء الدولة العباسية والتى تنسب للنبى التبشير بملك بنى العباس. كلها عوامل أدت الى مقتل أبى حنيفة.

اختلف الوضع مع شريك.

شريك مع تشيعه فليست له عصبية عربية تجعله خطرا على الدولة العباسية، خصوصا مع أفول التأثير العربى فى الدولة العباسية الجديدة. وشريك مع تشيعه فهو من رجال الحديث، أى مع المنهج الذى تسير عليه الدولة العباسية.

الأهم من هذا، أنه بعد موت أبى حنيفة زادت حاجة الدولة العباسية ـ وهى فى فترة التوطيد فى عصر أبى جعفر المنصور ـ الى فقيه مثل أبى حنيفة يلى القضاء ليحكم بين الناس بالعدل لتكسب الدولة مصداقية، أى تحقق وعودها بنشر العدل بعد طغيان الظلم الأموى، ولكن لا بد لهذا الفقيه أن يكون مواليا للدولة العباسية، أوعلى الأقل ليست له الخطورة التى كانت لأبى حنيفة الذى عارض الدولة الأموية سياسيا وخرج عليها علنا، ولو حدث وفعل نفس الشىء مع الدولة العباسية فى بدايتها فإن خطرا محققا سيحيق بالدولة الوليدة حيث يتمتع ابو حنيفة بثقة القواد العسكريين وولاء قومه الفرس.

كان شريك يمثل الفقيه المطلوب بالضبط، فليس له طموح سياسى وليست منه خطورة، بل كان حريصا على تأكيد ولائه للدولة العباسية ليوازن بين مهمة العدل بين الناس ومهادنة النظام القائم على الظلم. أبو حنيفة كان ضد الظلم الأكبر وهو الاستبداد، رافضا التعاون معه حتى لو أدى الى إقرار العدل بين الناس بعيدا عن السياسة، ولكن شريك وضع نصب عينيه محاولة إقتناص بعض العدل لينصف بعض المظلومين.

فى النهاية أثبتت نهاية شريك أنه لا مكان للعدل فى دولة الاستبداد. إذ بعد استقرار الأمور للعباسيين وبعد أن قام أبو جعفر المنصور بتوطيد الدولة وتثبيت أركانها ورث إبنه المهدى ملكا هادئا مستقرا فانصرف الى المجون، وأصبح لجواريه نفوذ هائل، خصوصا جاريته الخيزران، وأصبح للجوارى ضياع وخدم وأتباع، أخذوا يستطيلون على الناس، أى إنه بحكم العادة وصل الظلم الأكبر (الاستبداد) الى عموم الناس، وبعد أن تحصّن الاستبداد بالقوة اللازمة لم يعد فى حاجة لأن يغطى عورته بفقهاء قضاة عدول مثل شريك.. فتم عزله.. وانتهى عصر شريك.. وجاء عصر أبى يوسف..

لكن لكل قاعدة استثناء..

فحتى فى عصر تحكم الاستبداد كان هناك بعض قضاة عدول خرجوا على القاعدة. لم يكونوا فى مستوى شريك... ولكن كانوا أعلى قدرا من المستوى الوضيع لآبى يوسف، وهو عورة القضاء فى كل عصور المسلمين.

ونتوقف مع بعضهم فى المقال القادم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 

 

الفصل الثامن : قضاة عادلون:  

حتى في أشد العصور ظلمة كان هناك قضاة يخشون الله تعالى ويراعون العدل، وكانت كلمة الحق تخرج من أفواههم تزلزل قلوب الطغاة. كان أولئك القضاة المتقون دليلاً حياً على وجود نور الخير في القلوب مهما تكاثفت الظلمة.. كانوا برهاناً على أن التقوى الإسلامية هي الحل لإصلاح المجتمع أي مجتمع.

هذه النوعية من القضاة ممكن وجودها فى كل عصر مهما بلغ ظلم العصر ومهما بلغ طغيان المستبد، وتلك النوعية تقبل بمنصب القضاء لتحاول ما استطاعت ان تنشر ضوء شمعة لتنير ظلمة الظلم والجور.

ونتجول فى تاريخنا الاسلامى نعطي أمثلة..

 

قضاة عدول وأذكياء

 

1 ـ إشتهر بعض القضاة قبل العصر العباسى بالعدل والذكاء مثل القاضى إياس بن معاوية ت 122 هجرية، وكان قد تولى قضاء البصرة فى خلافة عمر بن عبد العزيز، ولأن الخليفة عمر بن عبد العزيز ألزم القضاة وألزم نفسه بالعدل فلم يكن عدل القاضى إياس بن معاوية مستحقا للمدح. لذا ظهر أكثر فى ترجمة القاضى إياس بن معاوية ذكاؤه النادر وقوة بديهيته، حتى كان يضرب به المثل فى الذكاء كما يضرب المثل بمعاوية فى الحلم.

ويذكر ابن سعد فى الطبقات الكبرى فى ترجمته للقاضى ابن إياس أن الوالى الأموى على العراق يوسف إبن عمر قد عاقب القاضى ابن إياس بالضرب.

وهذا الوالى الجبار (يوسف بن عمر) سار على سنة الحجاج، وجاء تعيينه رد فعل لتعاظم نفوذ القبائل اليمنية القحطانية بزعامة خالد القسرى والى العراق وكل الولايات الشرقية، فتحول النفوذ ـ فى لعبة صراع مراكز القوى ـ لصالح القبائل المضرية القيسية ، فتم عزل خالد القسرى وسجنه وتعذيبه ومصادرة أمواله، وتم تعيين والى اليمن يوسف بن عمر مكانه، بل وتسلم يوسف بن عمر هذا خالد القسرى وتولى تعذيبه واستخلاص الأموال منه الى أن مات تحت العذاب.

المقصود أن فترة العدل القصيرة التى كانت فى خلافة عمر بن عبد العزيز ما لبث أن ولت سريعا بموته ومجىء خلفاء ظالمين، وكان منتظرا أن ينال قاض عادل مثل إياس بن معاوية منهم الضرب لأن عمره طال حتى أدرك خلافة هشام بن عبد الملك. ولم تمنع شيبة القاضى الوقور وعلو سنّه و مكانته من التعرض للضرب فى اواخر عمره.!!

2 ـ نجا من هذا المصير القاضى شريح بن الحارث بن قيس، وهو قاض مخضرم أدرك عصر الخلفاء الراشدين والأمويين، إختلفوا فى سنة موته، قيل عام 78 أو 87. ولكن اتفقوا على أنه عمّر كثيرا، وأنه تولى قضاء الكوفة فى عهد عمر بن الخطاب، واستمر فيه الى أن مات فى العصر الأموى، وحاز شهرة فى العدل و الذكاء أيضا. ونقتصر من أخباره على ما اورده ابن الجوزى فى المنتظم 6 / 185، وقد جمع هذه الأخبار ممن سبقه.

من نوادره إنه حكم على رجل باعترافه فقال‏ الرجل:‏ يا أبا أمية قضيت علي بغير بينة.! فقال‏:‏ "أخبرني ابن أخت خالتك‏".‏ يعنى أنت الذى أخبرتنى.

ومن تثبته فى الحكم تلك الرواية التى حكاها الشعبى قال: (‏شهدت شريحًا وجاءته امرأة تخاصم رجلًا فأرسلت عينيها فبكت فقلت‏:‏ أبا أمية ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة فقال‏:‏ يا شعبي إن أخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون‏)!!

ولكن محور اتصافه بالعدل يأتى فى هذه الرواية التى حكم فيها على إبنه لصالح خصوم إبنه. يروى أن ابنًا لشريح قال لأبيه‏:‏ إن بيني وبين قوم خصومة فانظر فإن كان الحق لي خاصمتهم وإن لم يكن لي الحق لم أخاصم‏.‏ فقص قصته عليه فقال له والده:‏ انطلق فخاصمهم‏.‏ فانطلق إليهم فتخاصموا إليه فقضى شريح على ابنه، فقال له لما رجع داره‏:‏ والله لو لم أتقدم إليك لم ألمك.. لقد فضحتني‏.‏ فقال القاضى‏:‏ يا بني والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم ولكن الله هو أعز علي منك.. خشيت أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فيذهب ببعض حقهم‏.‏

نقول عنها محور إتصافه بالعدل لأن القاضى شريحا قال لابنه: (‏يا بني والله لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم ولكن الله هو أعز علي منك). أى إنه يخاف الله جل وعلا ومقام الله جل وعلا لديه اكبر من محبته لابنه ، والقاضى المسلم العادل هو الذى يخشى الله جل وعلا ويتقيه ويتحسب للقائه قبل يوم الحساب ، ويتذكر هيبة العزيز الجبار وهو يصدر رأحكامه.

إنه الله جل وعلا أيها الظالم.!!

1 ـ وهنا نعقد مقارنة بين هذا القاضى شريح فى القرن الأول الهجرى وبين قاض عادل آخر جاء فى العصر العباسى الثانى وقت تحكم الظلم واستشراء نفوذ القادة الأتراك وتحكمهم فى الخلافة العباسية قتلا، ونحكى عن فترة كان المتحكم فيها فى الخلافة العباسية القائد التركى موسى بن بغا المشهور بعسفه وظلمه ، القاضى الذى حكم بالحق ولم يرهب موسى بن بغا الذى كان يرعب بنى العباس هو القاضى احمد بن بديل المتوفى عام 258 .

إذ كانت لموسى بن بغا ضيعة في منطقة الري ، وقد اشترى فيها ضيعة مجاورة، وبقى فى تلك الضيعة سهم ليتيم لا يمكن شراؤه إلا بموافقة القاضي وهو الولي عليه، وكان القاضي حينئذ أحمد بن بديل، فذهب كاتب موسى بن بغا إلى أحمد بن بديل وخاطبه في بيع حصة اليتيم ويأخذ له الثمن فامتنع ابن بديل وقال: ما باليتيم حاجة إلى البيع ولا آمن أن أبيع ماله وهو مستغن عنه فيحدث للمال شيء فيضيع عليه، فقال له الكاتب نعطيك في ثمن حصته ضعف قيمتها، فقال: ما هذا لي بعذر في البيع، فظل الكاتب يلح عليه وهو يمتنع، فضجر الكاتب في النهاية وقال للقاضي: أيها القاضي: إنه موسى بن بغا!! فقال له القاضي كلمته المأثورة: أعزك الله.. إنه الله تبارك وتعالى، فاستحيا الكاتب أن يراجعه بعدها.. ومضى إلى موسى بن بغا فقال له: ما عملت في الضيعة؟ فقص عليه القصة فلما سمع ابن بغا قول القاضي: "إنه الله تبارك وتعالى" بكى ومازال يكررها ثم قال: لا تعرض لهذه الضيعة: وانظر في أمر هذا الشيخ الصالح فإن كانت له حاجة فاقضها.

أى قال الكاتب للقاضى يخوّفه بالقائد الظالم ابن بغا (أيها القاضي: إنه موسى بن بغا) ورد عليه القاضى المؤمن يذكّره بالقاهر الجبار جل وعلا (أعزك الله.. إنه الله تبارك وتعالى). وحكى الكاتب للقائد المتجبر فلمع فى قلبه بقايا إيمان ورهبة من الله جل وعلا فبكى واستغفر.. ورجع عن ظلمه وقتها.. أى إن كلمة القاضى ابن بديل (إنه الله تبارك وتعالى) التى قالها بضمير المؤمن الورع أيقظت قلبا غافلا لقائد ظلوم غشوم فى لحظة ايمان صادق.

ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين

1 ـ ومن هنا كان القاضى المؤمن يستغل الترهيب فى مواجهة الظالمين من الحكام مستدلا بآيات القرآن الكريم وهو يعلم أن مهما بلغ ظلم المستبد ففى قاع قلبه لا تزال لمحة إيمان بالله جل وعلا و حفظ لبعض آيات القرآن الكريم، وذلك القاضى حين يستعين بالله جل وعلا ويستغيث به ويستشهد بآياته إنما يجعل ذلك المستبد الظالم الفاجر فى مواجهة مع الله، ويكون القاضى المؤمن العادل قد كسب مقدما الجولة وانتصر بايمانه على صولجان الظالم وحاشيته من العسكر و(رجال الدين) المؤيدين للظلم والاستبداد.

وذلك التمسك بالحق والاعتزاز بالله الواحد القهار العزيز المتعال يعطى القاضى المؤمن ثقة فى نفسه وعزة إيمانية تجعله لا يأبه لما حول المستبد من جند واتباع وكهنوت وزخارف ومواكب.

2 ـ وشاهدنا هنا أيضا هو القاضى أحمد بن بديل.

فقد بعث الخليفة المعتز العباسى إلى القاضي ابن بديل يستدعيه فأبطأ عليه، ثم جاء إلى دار الخليفة ودخل إلى الخليفة وهو يلبس نعليه ـ وهو خلاف البروتوكول في ذلك الوقت ـ وقال له الحاجب: يا شيخ نعليك. فلم يلتفت إليه، ودخل الباب الثاني فقال الحاجب التالي: نعليك يا أيها الشيخ. فلم يرد عليه واجتاز الباب الثالث فقال له الحاجب: نعليك. وكان قد وقف أمام الخليفة فألتفت إلى الحاجب وقال: أبالوادي المقدس فاخلع نعلي؟!! فدخل على الخليفة بهيئته فرفع الخليفة مجلسه واحتفى به وقال له: أتعبناك أبا جعفر؟ فقال له: أتعبتني وزعرتني، فقال: ما أردنا إلا الخير أردنا أن نسمع العلم. فقال له: وتسمع العلم أيضاً؟ ألا جئتني؟ فإن العلم يؤتى ولا يأتي، قال: يعتب علينا أبا جعفر فقال: خلبتني بحسن أدبك، أكتب ما شئت.. وأسمعه العلم. (المنتظم 12 /137 ـ وفيات 258).

لقد اعتز أحمد بن بديل بعلمه فعرف الخلفاء قدره.. وصدق الله العظيم "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين".

عزة القاضى العادل تغلب سطوة السلطان الجائر

1 ـ وذلك يذكرنا بقاضٍ اعتز بالله تعالى وبما أنعم الله عليه من العلم فوقف موقف صدق فرفع شأن العلم والعلماء في وقت اشتد فيه النفاق والتملق..

إنه قاضي قرطبة المنذر بن سعيد الذي كان يواجه الخليفة الناصر بما لا يمكن أن يتحمله من سواه. ويروى أن ذلك القاضي دخل على الخليفة الناصر في عظمته وهو يجلس فى قبة من ذهب وفضة وقد تجمع حوله المنافقون يحتفلون بافتتاح تلك القبة، فقام القاضي المنذر بن سعيد خطيباً، فقرأ قوله تعالى "ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون" وواصل كلامه في انتقاد الخليفة الناصر أعظم خلفاء بني أمية في الأندلس وأسكت المنافقين الحاضرين، واحتمل الخليفة انتقاد القاضي ولم يمسه بسوء لما له من مكانة علمية ومعنوية.

2 ـ ومن الأندلس نعود إلي مصر في سلطنة الملك الكامل الأيوبي حيث كان القاضي ابن عين الدولة في الإسكندرية ملء الأسماع لشجاعته ونبوغه، وحدث أن الملك الكامل شهد أمام ذلك القاضي في حادثة، ورأي القاضي ابن عين الدولة أن الملك الكامل لا يصلح للشهادة وليس عدلا ثقة تؤخذ شهادته.

وكان علي القاضى ابن عين الدولة أن يردّ ويرفض شهادة السلطان الكامل الأيوبى علنا في مجلس القضاة، ولم يتردد القاضي الشجاع في ذلك، فقال في لباقة للسلطان: (إن السلطان يأمر ولا يشهد)، وفهم الملك الكامل أن القاضي لا يقبل شهادته فواجهه مهددا: "أنا أشهد في القضية.. أتقبل شهادتي أم لا" ولم يتردد القاضي الشجاع في إعلان رأيه في السلطان بصراحة فقال له أمام الملأ: (لا أقبلك وكيف أقبلك والمغنية عجيبة تطلع عليك بموسيقاها كل ليلة وتنزل ثاني يوم وهي تتمايل سكري)، وأخذت السلطان العزة بالإثم فشتم القاضي بالفارسية، فقال القاضي للحاضرين اشهدوا أني عزلت نفسي عن القضاء، وترك المجلس وخرج غاضبا، وأوصي المستشارون السلطان الكامل بأن يعتذر للقاضي حيث لا يشيع الأمر وتصل أخبار السلطان مع المغنية عجيبة إلي بغداد وتكون فضيحة، واضطر السلطان للاعتذار للقاضي الشجاع حتى رضي أن يعود لمنصبه.

يتولى القضاء لانتزاع العدل من بين أنياب الظم

1 ـ ومنهم من كان يتولى القضاء لانتزاع العدل من بين أنياب الظم، ولا بد لهذه النوعية الراقية من القضاة أن تتصف بالعفة والزهد فى الدنيا ومناصبها لأن شغلها الشاغل هو فعل الخيرات والأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، وإقامة العدل ومنع الظلم أولى ملامح إقامة المر بالمعروف والنهى عن المنكر، كما أنها مهمة القاضى المنصف.

2 ـ وقد كان نصر بن زياد بن نهيك (ت236) أحد أولئك القضاة العظام.

تولى قضاء نيسابور بضع عشرة سنة، وكان محمود السيرة عند السلطان والرعية، وكانت الرسائل والمكاتبات متواترة بينه وبين الخليفة المأمون.

وكان شرط ذلك القاضي على ولي الأمر أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان لا يرضى من العمال حتى يؤدوا حقوق الناس إليهم، وكان يقوم الليل ويصوم الاثنين والخميس والجمعة، فدخل عليه أحمد بن حرب يوماً يعظه ونصحه بأن يستعفى من القضاء فقال له نصر: يا أبا عبد الله ما يحملني على ما أنا فيه إلا نصرة الملهوفين والقدرة على الانتصار للمظلومين من الظالمين، ولعل الله عز وجل قد عرف لي ذلك.

وكان بعضهم ـ تحرياً للورع ـ يرفض تولى القضاء لأنه يعتبر عمله قاضياً مشاركة للدولة في أعمالها التي لا يوافق عليها، ولكن نصر بن زياد جاء بمفهوم جديد أكثر إيجابية هو أن ينهض بوظيفة القضاء ليقيم من خلالها العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذلك يؤثر في مجتمعه بالخير ولا يكتفي بالعزلة والزهد.

وذكر المؤرخون أن رجلاً قدم شكوى إلى عبد الله بن طاهر القائد العباسى المشهور فى وقته، فقال له: من خصمك؟ فقال الرجل: أنت أيها الأمير أصلحك الله. فقال: ما الذي تدعي علىّ؟ وقال:ضيعة لي في هراة غصبها والد الأمير وهي اليوم في يده. قال: ألك بينة؟ قال: إنما تقام البينة أمام القاضي.

فاستدعى الأمير عبد الله بن طاهر القاضي نصر بن زياد إليه وقال الأمير للرجل: أدع: فأدعي الرجل حجته مرة بعد مرة، والقاضي لا يلتفت إليه ولم يسمع دعواه، ففهم الأمير أنه قد امتنع من نظر الدعوة حتى يجلس الأمير مع الرجل أمامه في مجلس الحكم متساويين، وقام الأمير من مجلسه وجلس بجانب الرجل، وعندئذ قال القاضي للرجل: أدعى، فقال: أيد الله القاضي أن ضيعة لي بهراة وذكرها بحدودها وحقوقها هي لي في يد الأمير، فقال له الأمير عبد الله بن طاهر: أيها الرجل قد غيرت الدعوى إنما دعيت أولاً على أبى، فقال له الرجل: لم أرد أن أفضح والد الأمير في مجلس الحكم أمام القاضي وأقول والد الأمير غصبني ضيعتي وإنها اليوم في يد الأمير. فسأل نصر بن زياد الأمير عن دعواه فأنكر فالتفت إلى الرجل وقال : ألك بينة؟ قال: لا.. قال فما الذي تريد؟ قال: يمين الأمير بالله الذي لا إله إلا هو، فقام الأمير إلى مكانه وأمر الكاتب ليكتب إلى هراة برد الضيعة عليه. (المنتظم 11 /246 ـ)

3 ـ ومثله جميل بن كريب المعافري (المنتظم 8 / 23 وفيات 139)

من أهل إفريقية‏.‏ وكان من أهل العلم والدين‏.‏ وسأله الأميرعبد الرحمن بن حبيب الفهري تولية القضاء فامتنع وتمارض وشرب ماء التبن حتى اصفر لونه فبعث إليه عبد الرحمن فقال له‏:‏ إنما أردت أن تكون عونًا على الأمر وأقلدك أمر المسلمين فتحكم علي وعلى من دوني بما تراه من الحق فاتق الله في الناس‏.‏ فقال له جميل‏:‏ آلله إنك لتفعل فقال‏:‏ آلله... فقبل.

فما مر إلا أيام حتى أتاه رجل يدعي على عبد الرحمن بن حبيب دعوى فمضى معه إلى باب دار الإمارة فقال للحاجب‏:‏ أعلم الأمير بمكاني وأن هذا يدعي عليه بدعوى‏.‏ فدخل فأعلمه‏.‏ وكان عبد الرحمن من أغنى من ولي إفريقية، ولكنه إحتراما للقاضى لبس رداء ونعلين وخرج إليه، فأقعده القاضى جميل مقعد الخصم مع صاحبه، ثم نظر بينهما فأنصفه عبد الرحمن‏.‏ وكان جميل يركب حمارًا ورسنه ليف وقعد فأراد أحدهما أن يمسك رأس الحمار فمنعه وأمسكه هو ثم ركب‏.‏

مشاكل القضاة مع الخلفاء المستبدين

1 ـ ومن الطبيعى أن يقع بعضهم مع الخلفاء المستبدين ، ‏كانوا‏ ‏يقعون‏ ‏فى ‏مشاكل‏ ‏مع‏ ‏الدولة‏ ‏العباسية‏ ‏وولاتها‏ ‏وخلفائها‏، ‏ترى ‏ذلك‏ ‏فى ‏سيرة‏ ‏القضاة‏: ‏وعبد‏ ‏الرحمن‏ ‏بن‏ ‏زياد‏ ‏ت‏ 156 ‏هـ‏ ‏وشريك‏ ‏النخعى ‏ت‏ 177، ‏وسلمة‏ ‏بن‏ ‏صالح‏ ‏ت‏ 180، ‏وعبد‏ ‏الله‏ ‏بن‏ ‏ظبيان‏ 19 ‏هـ‏، ‏وأسد‏ ‏بن‏ ‏عمرو‏ ‏ت‏ 190.

وقد عرضنا من قبل للقاضة شريك النخعى فى مقال مستقل . ونتوقف مع أمثلة أخرى . ‏

2 ـ كان ابن زياد (عبد الرحمن بن زياد بن أنعم أبو خالد الأفريقي‏) أول مولود ولد بإفريقية في الإسلام‏.‏ وكانت له صحبة بابى جعفر المنصور فى شبابهما قبل أن يصير الأمر للعباسيين. وكان ابن زياد قد ولي القضاء فى شمال أفريقيا لمروان بن محمد آخر خلفاء بنى أموية، ووفد إلى المنصور في بيعة أهل إفريقية (شمال افريقيا) وشكى إليه أن جور الولاة قد ‏ ظهر هناك.

تقول الرواية أنه لما قامت دولة بنى العباس تحيي الأمل فى العدل ظهر الجور مناقضا لذلك الحلم، ولذلك لما قدم أبن زياد بالبيعة عزم أن يكلم الخليفة الجديد ـ صديقه السابق ـ أبا جعفر المنصور ويشكو اليه عمال ببلده ، فأقام ببابه أشهرًا، ثم دخل عليه فقال‏:‏ ما أقدمك؟ قال‏:‏ ظهر الجور ببلدنا فجئت لأعلمك فإذا الجور يخرج من دارك. فغضب أبو جعفر، وهمّ به يعاقبه، ثم أمر بإخراجه‏.‏

وهناك رواية اخرى تقول عن بطل القصة: قال:‏ أرسل أبو جعفر إلي‏:‏ فقدمت عليه فدخلت والربيع (وزير الخليفة) قائم على رأسه، فاستدناني، ثم قال‏:‏ يا عبد الرحمن كيف ما مررت به من أعمالنا إلى أن وصلت إلينا؟ قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين رأيت أعمالًا سيئة وظلمًا فاشيًا ظننته أبعد البلاد منك فجعلت كلما دنوت منك كان أعظم للأمر.‏ فنكس رأسه طويلًا ثم رفعه إلي، فقال‏:‏ كيف لي بالرجال؟ قلت‏:‏ أفليس عمر بن عبد العزيز كان يقول‏:‏ الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها فإن كان برًا أتوه ببرهم وإن كان فاجرًا أتوه بفجورهم.. فأطرق طويلًا فقال‏:‏ لي الربيع وأومأ إلي أن أخرج، فخرجت، ولم أعد إليه‏.‏ (المنتظم 8 / 190 وفيات 156).

قضاة عدول ضد العصر عندما فسد وضاعت القيم

1 ـ وبعض القضاة شهد فساد الزمان وتغير أخلاق الناس فآثر الاعتزال لأنه أصبح غريبا عن العصر وانحطاطه، وركونه الى الظلم.

2 ـ وقد أدرك بعضهم مبكرا ذلك التغير فى اخلاق الناس فآثر مبكرا الاعتزال، وهو القاضى عافية بن يزيد بن قيس. كان عافية من رفاق ابي حنيفة متمتعا بثقة أبى حنيفة فى علمه.

ولاه المهدي القضاء ببغداد في الجانب الشرقي. وهناك رواية تقول إن القاضى عافية طلب من المهدى أن يعفيه من القضاء، وحكى السبب للخليفة فقال:‏ كان يتقدم إلي خصمان موسران وجيهان منذ شهرين في قضية معضلة مشكلة، وكل يدعى بينة وشهودًا ويدلي بحجج تحتاج إلى تأمل وتثبت، فرددت الخصوم رجاء أن يصطلحوا أو يتبين لي وجه فصل ما بينهما. فوقف أحدهما من خبري على أني أحب الرطب السكر فعمد في وقتنا وهو أول أوقات الرطب إلى أن جمع لي رطبًا سكرًا لا يتهيأ في وقتنا جمع مثله إلا لأمير المؤمنين وما رأيت أحسن منه، ورشا بوابي جملة دراهم على أن يدخل الطبق إلي ولا يبالىِ أن يرد، فلما دخل إلي أنكرت ذلك وطردت بوابي وأمرت برد الطبق، فلما كان اليوم تقدم إلي مع خصمه فما تساويا في قلبي ولا في عيني، وهذا يا أمير المؤمنين ولم أقبل، فكيف يكون حالي لو قبلت؟! ولا آمن أن تقع علي حيلة في ديني فأهلك وقد فسد الناس.‏ فأقلني أقالك الله وأعفني".

الشاهد هنا قوله (وقد فسد الناس).‏ فهذا القاضى العادل يفاجأ بأحد الخصمين يبعث له برشوة يسيرة وهو يعلم ان القاضى سيرفضها، وذلك الخصم يعلم أيضا أن تلك الهدية أو الرشوة التى يحبها القاضى (البلح الرطب) ستترك أثرها فى نفس القاضى حتى لو لم يأخذها، ولهذا بعث له بطبق الرطب السكرى، فأثمر مرأى الرطب (حلاوة) فى قلب القاضى، فأنكرها، ووجد نفسه تميل نحو صاحب الهدية المرفوضة، ولهذا السبب آثر القاضى الاعتزال. ليس فقط لأن الناس فسدت أخلاقها وبدأت ترشو القضاة ولكن أيضا لأن نفس القاضى بدأت تتأثر، ولأنه يخشى الله جل وعلا فقد آثر السلامة وطلب الاستعفاء.

على أن هناك رواية أخرى تجعل نفس الشخص (عافية بن يزيد بن قيس) قاضيا فى خلافة الرشيد. يحكى أحدهم قال‏:‏ كنت عند الرشيد يومًا فرفع إليه في قاض يقال له‏:‏ عافية، فكبر عليه فأمر بإحضاره فاحضر، وكان في المجلس جمع كبير فجعل أمير المؤمنين يخاطبه ويوقفه على ما رفع إليه وطال المجلس، ثم إن أمير المؤمنين عطس فشمته مَن كان بالحضرة ممن قرب منه سواه، فإنه لم يشمته، فقال له الرشيد‏:‏ ما بالك لم تشمتني كما فعل القوم فقال له عافية لأنك يا أمير المؤمنين لم تحمد الله فلذلك لم أشمتك.. فقال له الرشيد‏:‏ ارجع إلى عملك فأنت لم تسامح في عطسة تسامح في غيرها، وصرفه منصرفًا جميلًا، وزبر( أى أغلظ فى القول ) القوم الذين كانوا رفعوا عليه‏".‏ (المنتظم 9 / 51 ـ وفيات 180). هنا أيضا نجد الفساد فى الناس، إذ يتوسطون لعزل قاض عادل.

4 ـ وبعضهم إعتزل لأنه راى نفسه لم يعد يصلح للقضاء لسبب لا دخل له فيه، مثل صاحب ابى حنيفة وهو أسد بن عمرو بن عامر أبو المنذر البجلي الكوفي‏.‏ كان قد ولي القضاء ببغداد وبواسط، فأنكر من بصره شيئًا فرد القَمْطر واعتزل عن القضاء‏. ‏(المنتظم 9 / 184 ـ وفيات 190).

 

القاضى العادل والمستبد (العادل)

 

1 ـ هنا نرى موقفا محمودا لهارون الرشيد، حيث نصر القاضى العادل على الناس الذين فسدت ضمائرهم، فهل يعنى هذا أنه طالما يوجد قاض عادل فمن الممكن وجود مستبد عادل؟

2 ـ نرى الاجابة فى سيرة القاضى سلمة بن صالح (أبو إسحاق الجعفي الأحمر الكوفي)، وكان قد ولي القضاء بواسط في العراق زمن الرشيد ثم عزله الرشيد وقدم بغداد فأقام بها إلى أن مات.

وكان سبب عزله عن واسط‏ تبدل اخلاق الناس وسيادة النفوذ محل العدل، وكان الخليفة يميل مع مصلحته وليس مع العدل وذلك القاضى العادل. ذلك أن هشيما بن بشيرأحد كبار رجال العشائر فى العراق كان فى خصومة أمام ذلك القاضى، فكلّم الخصم هشيمًا بكلمة، فرفع هشيم يده فلطم الخصم أمام القاضى، فأمر القاضى سلمة بن صالح بهشيم بن بشير فضرب عشر درر وقال‏:‏ تتعدى على خصمك بحضرتي؟ فأغضب ذلك مشيخة واسط وهم عشيرة هشيم، فخرجوا إلى الرشيد فلقوه بمكة يطوف فكلموه في سلمة وقالوا‏:‏ لسنا نطعن عليه ولكن رجل موضع رجل، فأمر بعزله، وتقليد سواه‏.‏ (المنتظم 9 / 49 وفيات 180).

نحن هنا أمام أناس يسعون فى عزل قاض عادل تعصبا لقريب لهم ظالم.

وكان ممكنا أن يشترى القاضى سلمة سكوتهم ويتجنب نفوذهم بغض الطرف عما فعله كبيرهم هشيم، ولكن القاضى العادل لا يخشى إلاّ الله جل وعلا، ولهذا عزله الخليفة. فالخليفة حريص على إرضاء ذوى النفوذ ليستمر سلطانه القائم على الظلم . فالخليفة المستبد (العادل) ـ على فرض وجود هذا الصنف من البشر ـ يأخذ جانب العدل طالما لا يؤثر على سلطانه وتفرده بالملك والثروة و السلطة، ولو حدث مع العدل أى مساس بالسلطة و السلطان فليذهب العدل الى... وليذهب القاضى العادل الى بيته.

واختلف حال الرشيد فى موقف آخر، لأن بطل القصة هنا لا يمثل خطرا على سلطان الرشيد، وبالتالى لن يقف معه وهو ظالم، بل مصلحة الخليفة أن يؤيد القاضى العادل ضد ذلك الظالم حتى لو كان عمه.

هنا ندخل على سيرة القاضى عمر بن حبيب العدوى البصرى، وكان قد قدم بغداد وولي بها قضاء الشرقية وولي قضاء البصرة أيضًا .‏ تحكى الرواية أن عمر بن حبيب كان على قضاء الرصافة لهارون الرشيد (فاستعدى إليه رجل على عبد الصمد بن علي فأعداه عليه فأبى عبد الصمد أن يحضر مجلس الحكم) أى إن رجلا غير معروف الاسم شكى للقاضى من عبد الصمد بن على عم الخليفة الرشيد، فطلب القاضى حضور المشكو فى حقه فأبى الحضور لمجلس القضاء. (فختم عمر بن حبيب قمطره وقعد في بيته فرفع ذلك إلى هارون فأرسل إليه فقال‏:‏ ما منعك أن تجلس للقضاء فقال‏:‏ أعدي على رجل فلم يحضر مجلسي‏.‏ قال‏:‏ ومن هو قال‏:‏ عبد الصمد بن علي.‏ فقال هارون‏:‏ والله لا يأتي مجلسك إلا حافيًا) أى بلغ هارون الرشيد أن القاضى أقفل القمطر الذى يحوى ورق القضايا واعتزل مجلس الحكم، وحقق معه الخليفة فعرف أن السبب هو رفض عبد الصمد حضور المجلس، هنا أقسم هارون الرشيد أن يحضر عمه مجلس الحكم حافيا. (وكان عبد الصمد شيخًا كبيرًا..‏ فبسطت له اللبود من باب قصره إلى مسجد الرصافة فجعل يمشي ويقول‏:‏ أتعبني أمير المؤمنين أتعبني أمير المؤمنين.‏ فلما صار إلى مجلس عمر بن حبيب أراد أن يساويه في المجلس فصاح به عمر وقال‏:‏ اجلس مع خصمك‏.‏ قال‏:‏ فتوجه الحكم على عبد الصمد فحكم عليه وسجل به) أى رفض عم الخليفة أن يجلس بجانب خصمه فألزمه القاضى بالجلوس الى جانبه، وبعد أن حكم القاضى للخصم على عم الخليفة استهزأ عم الخليفة بالقاضى وحكمه وقال (لقد حكمت عليَّ بحكم لا يجاوز شحمة أذنك) فقال له عمر‏: ‏(أما إني قد طوقتك بطوق لا يفكه عنك الحدادون‏.‏ قم)‏.‏ (المنتظم 10 / 162 ـ وفيات 207)

وفى العصر المملوكى صار الفساد أفظع ولكن القضاة العدول لم ينقطع وجودهم:

1 ـ والمقريزي مؤرخ درس تاريخ السابقين وعرف تاريخ الفضلاء من أهل العلم وكيف حافظوا على كرامتهم أمام السلاطين ولا ريب أنه كان يتمثل ذلك التاريخ الناصع لهم ويقارنه بحال الأشياخ فى عصره فيأسف ويغضب على زمنه..

2 ـ وبعض الفضلاء من العلماء عاش حتى شهد أوائل ذلك التحول الخطير فكان يتبرم به ويحاول ما أمكنه الأنعزال عنه والنجاة بنفسه منه، ونعنى بذلك قاضى القضاة برهان الدين ابن جماعة.. ففي الوقت الذي بدأ فيه الشراكسة فى التحكم فى سلطنة ذرية بنى قلاوون استقال ابن جماعة من القضاء، يقول المقريزي في حوادث شعبان سنة 779: "عزل ابن جماعة نفسه عن القضاء وخرج إلى تربة كوكاي ليعود إلى القدس بعد أن أنجمع – أي اعتكف – عن أهل الدولة وترك حضور الخدمة السلطانية بالإيوان فى يومي الاثنين والخميس مع الأمراء – أي الشراكسة – تورعا وأحتياطا لدينه لما دهم الناس من تغير الأحوال وحدوث ما لم يعهد وتهاون القائمون بالدولة بالأمور الدينية".

وأعيد ابن جماعة للقضاء، وحدث فى مناسبة قراءة البخارى او (ميعاد البخارى) فى القلعة فى شهر رمضان 783هـ أن تطاول شخص اسمه ابن نهار على الشيخ ابن جماعة وأتهمه بالظلم في الحكم ، فرجع ابن جماعة إلى الأمير الكبير برقوق – قبل أن يتولى السلطنة – وترك ابن نهار يحكي القصة ويسبه أمام برقوق لينظر كيف يتصرف برقوق، وكان برقوق مشغول الفكر فلم ينتبه، فما كان من ابن جماعة إلا أن أعلن عزل نفسه عن القضاء وتوجه كعادته إلى تربة كوكاي ليسافر منها للقدس، وأفاق برقوق وأسرع فأحضر القضاة والفقهاء، فحكم الشيخ البلقينى بتعزيز ابن نهار فضربه والى القاهرة وجرسه فى الشوارع.

وبعث برقوق يسترضي ابن جماعة فلم يرض فراجعه ثانيا فلم يرض فبعث إليه الأمير قطلوبغا والأمير فخر الدين صرغتمش فلم يزالا به حتى أخذاه وجاءا به إلى الأمير الكبير برقوق فلما شاهده هب واقفا إلى لقاءه وأعتذر إليه فقال له ابن جماعة: أعدائي كثير وما آمنهم وما لي ولهذا الأمر؟ فقال له برقوق كل من تعرض لك ولو بكلمة سوء ضربته بالمقارع، ثم ألبسه التشريفة وكرّمه..

كان ابن جماعة يحس بأنه أصبح غريبا فى ذلك العصر، ولقد مات قبل أن يشهد التحول الكبير الذى أحدثه برقوق بعد أن تمكن من السلطة ونشر الرشوة والفواحش وقرب إليه الأسافل، وسار من جاء بعده على نفس طريقه.

وجدير بالذكر أن برقوق حين بدأ مؤامرته الكبرى ضد السلطان على بن الأشرف شعبان ليعزله عن السلطنة ويتولى مكانه فإنه خشي من ابن جماعة فأثاره ودفعه للأستقاله، وبذلك خلا الجو لبرقوق فتسلطن وتحكم..

والمقريزي وهو يشهد ما آل إليه حال الفقهاء فى عصره كان يحتفل بتاريخ القضاة الأفاضل حين يحكي عن مواقفهم فى العصور السابقة كأنما يعتب على أقرانه فى القرن التاسع ما فعلوه بأنفسهم وبالعلم الذي ينتمون إليه.

يذكر المقريزي فى تاريخه أن الأمير منكوتمر صاحب النفوذ فى سلطنة المنصور لاجين بعث سنه 697 يستفتي الشيخ ابن دقيق العيد فى تاجر مات ولم يترك إلا أخا وأراد الأمير أن يفتي ابن دقيق العيد بأستحقاق ذلك الأخ للتركة بمجرد أن يخبر الأمير أنه أخ لذلك التاجر ودون أن يتحرى القاضي الأمر. ولم يوافق القاضي إلا بعد أن يتحرى بنفسه، وأرسل إليه الأمير الرسل والقاضي يرفض، فشعر الأمير بالحرج وبعث إليه بالأمير كرت الحاجب، فلم يأبه له ابن دقيق العيد، وظل الأمير الحاجب يتلطف بالقاضي ليثبت أن ذلك الرجل أخ للتاجر المتوفى فقال له ابن دقيق: وما الذي يجعلني متأكدا من عدالة الأمير منكوتمر؟ فقال له الحاجب: أليس الأمير عندكم عدلا تأخذون بشهادته؟ فقال القاضي سبحان الله!، ثم أنشد:

يقولون هذا عندنا غير جائز

ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟

ثم قال: طالما لم تقم عندي بينه شرعية فلن احكم له بشىء باسم الله..

فقام الأمير كرت وهو يقول: والله هذا هو الإسلام!!.

وعاد إلى الأمير منكوتمر ونصحه بأن يجتمع بالقاضي بنفسه، وفى يوم الخدمة السلطانية حيث يجتمع القضاة فى القلعة جاء الأمراء إلى القاضي يقولون له: يا سيدى الأمير ولدك منكوتمر يريد الاجتماع بك لخدمتك ، فلم يلتفت إلى أحد منهم، فلما ألحوا عليه قال : قولوا له ما وجبت طاعتك على، فإني قد عزلت نفسى، وأشهد القضاة على ذلك وعاد إلى داره وبعث إلى نوابه ونقبائه يمنعهم من الحكم بين الناس.

فلما بلغ السلطان المنصور لاجين غضب على الأمير منكوتمر وبعث للقاضي يعتذر إليه ويستدعيه فأبى ورفض المجيء، فأرسل إليه اثنين من أصدقائه ظلا يرجوانه حتى حضر، واستقبله السلطان وأعتذر إليه ومازال يرجوه حتى عاد للقضاء!!

 

وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام والمسلمين:
فهرس هذا الكتاب
مقدمة:
الباب الأول : القضاء فى دين الاسلام

الفصل الأول : التناقض‏ ‏بين‏ ‏الدولة‏ ‏الإسلامي ‏ ‏فى ‏عصر‏ ‏النبى ، ‏والدولة‏ ‏الدينية‏ ‏فى ‏عصر‏ ‏الخلفاء


الفصل الثانى : ‏القضاء والسلطة السياسية فى الدولة الاسلامية الحقيقية.
لفصل الثالث : التشريع‏ الذى ‏يحكم‏ ‏به‏ ‏القاضي.
الفصل الرابع : ضمير ‏القاضي المسلم
الب اب الثانى : القضاء فى تاريخ المسلمين
الفصل الأول : القضاء السياسى فى ‏عهد‏ ‏الخلفاء يفسد العدل
الفص ل الثانى : منصب القضاء ونزوات الخلفاء
ال فصل الثالث : منصب القضاء ونزوات الفقهاء: (يحيى بن أكثم نموذجا)
ال صل الرابع : جارية فاسدة جعلوها
more

اخبار متعلقة