رقم ( 4 )
الخاتمة

الخاتمة

أولا:

انتظروا مصير وظيفة القضاء حين يسيطر السلفيون الوهابيون على الحكم فى مصر ..المحروسة ..

ليس لديهم برنامج سياسى للحكم أو قانون محدد يحكم به القاضى ، كلها مجرد شعارات تستخدم اسم الاسلام وتنادى بتطبيق الشريعة دون تحديد لماهية الشريعة ، او فهم لمعنى قوله جل وعلا ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ).

 

ثانيا : ـ

وقد نشرت الأحرار لنا هذا المقال بتاريخ 5 / 7 / 1993 فى سلسلة (قال الراوى ) تحت عنوان   ( الحكم بغير ماأنزل الله )  قلنا فيه :

1ـ  التيار الدينى السياسى يتهم الدولة بأنها تحكم بغير ماأنزل الله . والمتطرفون يحكمون بكفــر الدولة لأنها تحكم بغير ماأنزل الله . والجميع يرفعون شعارات تنتهى بقوله تعالى  ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون )  ( ومن لــــــم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ).

  وكتاب الفريضة الغائبة الذى كتبه عبدالسلام فرج أحد المتهمين بقتل السادات دارحول فريضة

الجهاد ضد الدولة التى تحكم بغيرما أنزل الله .

2 ـ وقد تجرأ أحد الشيوخ وكتب ردا على كتاب الفريضة الغائبة مؤداه أن آيات ومن لم يحكم بما أنزل الله .. مقصود بها أهل الكتاب . وقد نزل ذلك الرد على أهل الدولة بردا وسلاما فأنعموا على الشيخ بالمناصب يتدرج فيها .

3 ـ مع أن رده خاطىء . فقوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) جاء عاما لكل أمة ، فكل من لم يحكم بما أنزل الله فى التوراة أو الانجيل أو القرآن يحكم الله عليه بالكفر والظلم والفسوق ، وذلك هو حكم الله عليه يوم القيامة ، وذلك شأن يخص الله وحده ، والله تعالى هو الذى يحاسب عليه .

فالله تعالى أنزل الدين كتابا سماوي سواء كان التوراة أوالانجيل أو القرآن ولم ينزل مع الكتاب السماوى سيفا أو مدفعا . وإنما أنزل في الكتاب تقرير الحرية للبشر فى أن يؤمنوا أو يكفروا. وفى مقابل تلك الحرية الدينية هناك يوم للدين اسمه يوم الدين أو يوم الحساب حيث الثواب والعقاب . والله تعالى هو مالك يوم الدين ولايشرك فى حكمه أحدا.. فلا مجال لأحد لأن يتقمص ذات الله ويتحدث باسم الله فيتهم من يشاء بالكفر ويلقى بمن يشاء فى الجحيم اذا اختلف معه سياسيا أو دينيا ..

4 ـ وبعيدا عن سياسة التكفير فى العقائد ـ التى نرفضها والتى نترك الحكم فيها لرب العزة جل وعلا يوم القيامة فيما نحن فيه مختلفون ـ   فإننا نقرر أن الحكم بغير ماأنزل الله منهج سارعليه سلف هذه الأمة منذ أن تأسس فيها الحكم العضوض القائم على القهروالاستبداد فى الخلافة الأموية والعباسية والفاطمية وغيرها ، وفى ذلك المناخ تمت صياغة نوع من التدين يخدم الحاكم المستبد ويجعل بيده قتل من يشاء باسم الشرع .. وورثنا ذلك الافك على أنه شريعة

 الله .. ودين الله برىء من تلك الأحكام التى ماأنزل الله بها من سلطان .

5 ـ ومن أسف فان التيار الدينى الذى انشغل بالسياسة ليس لديه من الثقافة الدينية مايمكنه من تمحيص ذلك التراث ليعرف الحق منه ، والنتيجة انهم يطالبون بحكم لم ينزل الله تعالى به سلطانا ،  فحد الردة حكم بغير ماأنزل الله ، وحد الرجم حكم بغير ماأنزل الله ، وحد شرب الخمر حكم بغير ما أنزل الله، وحكم تارك الصلاة حكم بغير ما أنزل الله . وفيما عدا حكم شرب الخمر فان القتل هو عقوبة لكل تلك الجرائم عندهم مع أن الله تعالى جعل عقوبة القتل فى القصاص فقط ونهى عن قتل النفس التى حرم الله الا بالحق القرآنى وحده فقال فى سورتى (الأنعام والاسراء) (ولاتقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق). وجعل جريمة الافتاء بقتل نفس خارج القصاص مثل جريمة قتل الناس جميعا ، وجعل فضيلة من يعارض تلك الفتوى مثل الذى يحيى الناس جميعا ، يقول تعالى ( من أجل ذلك كتبنا على بنى اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) (المائدة 32 ).                                                                                               

وفى القتال فى سبيل الله نرى ملامح القصاص أيضا، فليس فى الحرب فى تشريع القرآ ن أى نوع من الاعتداء. بل هو رد للإعتداء بمثله . أى قصاص،  يقول تعالى : (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولاتعتدوا ان الله لايحب المعتدين )  والحرمات قصاص : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل مااعتدى عليكم ) (البقرة 190  194 )

وفيما عدا ذلك أوضح القرآن أن عقوبة الزنا هى الجلد ، وليس الرجم، وحدد عقوبات السرقة والقذف وقطع الطريق والشذوذ الجنسى. وهى أمور تخص حقوق العباد وتعمل على ضبط التعامل بين البشر.

أما حقوق الله تعالى صلاة وحج وايمان وعبادات فليس لبشر أن يتدخل فيها بالثواب أو العقاب وإنما هى لله تعالى وحده يجزى عليها فى الدنيا والأخرة..

وذلك هو حكم الله تعالى فى القرآن .

 إلا أن الحكم الكهنوتى الذى عرفه المسلمون بالمخالفة للاسلام جعل الحاكم متألها ينشىء أحكاما يشارك بها الله تعالى فى شرعه ودينه .

6 ـ وحين ظهر التيار الدينى السياسى أخذ ينادى بالعودة الى العصور الوسطى ويتهم الدولة بأنها تحكم بغير ماأنزل الله ، مع أنه يطالب بتطبيق شريعة معظمها أحكام بشرية لفقهاء مختلفين متشاكسين ، وأحكامهم ماأنزل الله بها من سلطان .

واذا حاورتهم بالقرآن عجزوا عن الرد واكتفوا باتهامك فى شخصك وتأليب الدولة عليك ، والدولة فى ضعفها تحاول استرضاءهم لأن مستشاريها من الأشياخ  يؤمنون بنفس الأكاذيب التى يؤمن بها التيار المتطرف ..

ثالثا :

ذلك التيار المتطرف الذى ينادى بتطبيق الشريعة يعرف أو لا يعرف أنها كانت مطبقة قبل ذلك حتى أواخر العصر العثمانى ، وأنها كانت أداة لتأكيد الظلم باسم الشرع الاسلامى وحربا على الله تعالى ورسوله .

والأمثلة السابقة تحوى بعض الأدلة التاريخية ، ونظام القضاء البدائى فى دولة طالبان الأفغانية والسعودية أبرز ما يعبر عن التطبيق الفعلى والعملى لتلك الشريعة السنية الوهابية فى عصرنا الراهن ، وتحفل تقاريرمنظمات حقوق الانسان الغربية بشجب أحكامها ، ويرى فيها خصوم الاسلام أعظم سلاح للطعن فى الاسلام .

رابعا :

على أننا نختم كتابنا هذا بمقال سبق نشره يرسم لوحة تاريخية لدور النظام القضائى وتطبيق الشريعة السنية فى تأكيد الظلم فى العصر المملوكى ، ويعتمد المقال على أعظم مؤرخ فى العصر المملوكى وهو المقريزى الذى كان شاهدا على عصره، رفع صوته محتجا على الظلم وسجله فى تاريخه ( السلوك ) ليكون عبرة لمن أراد أن يعتبر .

تحت عنوان : ( صفحة من مظالم الدولة المملوكية :  المقريزي شاهد على العصرالبغيض) وفى جريدة العالم اليوم وبتاريخ 

28 / 2 / 1992 وفى صفحة ( تراث  ) كتبت :

السلطان المؤيد شيخ " متوفى 824 هـ " كان من أبرز السلاطين البرجية الذين حكموا الفترة الثانية من الدولة المملوكية ، وكانت الأحوال فيها سيئة بوجه عام لأن الظاهر برقوق الذي أسس تلك الفترة البرجية المملوكية استحدث مظالم جديدة أصبحت سياسة عامة للدولة من بعده وكان من معالم تلك السياسة الشراهة في جمع المال من الناس بأي كيفية وبيع الوظائف لمن يستحق ومن لا يستحق وبذلك أصبحت الرشوة أو " البرطلة " سنة شرعية للدولة المملوكية فمن يرد وظيفة رسمية عليه أن يدفع رشوة للسلطان وحاشيته ثم بعد ذلك يتقاضى من الناس أضعاف ما دفعه ويسرق وينهب ما شاء وإذ تضاعفت أمواله وأشتد ظلمه صادر السلطان أمواله واعتقله وربما أوكل به الزبانية فعذبوه حتى يستخلصوا منه أمواله المخبأة .

كان ذلك من الملامح الأساسية التي سارت عليها الدولة المملوكية البرجية بعد عهد الظاهر برقوق والتي سار عليها خلفاؤه من بعده وكان من منهم صاحبنا السلطان المؤيد شيخ الذي حكم مصر والشام والحجاز ثماني سنوات وخمسة أشهر وثمانية أيام ومات يوم الاثنين 9 محرم 824 هـ .

 

وكان هذا السلطان مزيجا من الخير والشر ، وربما كان أقل السلاطين نصيبا من حنق المقريزي ، فالمقريزي أعظم مؤرخي مصر في العصور الوسطى – عاش في عهد جملة من السلاطين وصب عليهم جام غضبه وهو يؤرخ لهم ، وكان نصيب المؤيد شيخ من ذلك اقل من كثيرين ، إذ عدد المقريزي محاسنه ومساوئه فقال عنه " وكان شجاعا مقداما يحب أهل العلم ويجالسهم ويجل الشرع النبوي ويذعن له ولا ينكر على من طلبه منه إذا تحاكم إليه أن يمضي من بين يديه إلى قضاة الشرع " يعني إذا كان الحكم يتعلق بالسياسة ومرجعة إلى السلطان وطلبوا من السلطان أن يتنازل عن حقه في إصدار الحكم وأن يرجع ذلك إلى قضاء الشرع وافق على ذلك وكانت العادة أن يتدخل السلاطين حتى في أحكام الشرع بل أن يتدخل حاجب الحجاب في مصادرة حق القضاة في أحكامهم الشرعية وكثيرا ما كان المقريزي ينقم على هذا الظلم ، ولكنه هنا يعد من محاسن المؤيد شيخ أنه كان يتنازل عن سلطاته السياسية في القضاء ويخولها لقضاة الشرع إذا طلبوا منه ذلك وأكثر من ذلك يقول المقريزي " بل يعجبه ذلك وينكر على أمرائه معارضة القضاة في أحكامهم ، وكان غير مائل إلى شيء من البدع وله قيام في الليل إلى التهجد أحيانا " أي لم يكن يحب البدع ، وكان يقوم الليل متهجدا وتلك نادرة من نوادر السلاطين المماليك البرجية لا نجدها إلا عند السلطان قايتباى في أواخر القرن التاسع وبعد هذه المناقب والمحاسن استدار المقريزي يعدد المساوىء القبائح التي كانت شيئا عاديا في السلاطين وقتها فقال عنه " إلا أنه كان بخيلا مسيكا  يشح حتى بالأكل لجوجا غضوبا نكدا حسودا معيانا – أي شديد الإصابة بالعين – يتظاهر بأنواع المنكرات فحاشا سبابا " ثم عدد المقريزي بعض المظالم التي أحدثها أثناء صراعاته مع خصومه المماليك حين كان أمير على الشام وحتى بعد أن تولى السلطنة " لكثرة ما كان يثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق ، ثم ما أفسده في أيام ملكة من المظالم ونهب البلاد ، وتسليط أتباعه على الناس يسومونهم الذلة ويأخذون ما قدروا عليه .. "

 

كان المؤيد شيخ مزيجا من الشر و الخير إلا أنه كان يمتاز على أعوانه بأنه كان أكثرهم خيرا والمقريزي يعترف بذلك حين يقول أنه كان ينكر على أمرائه معارضتهم للقضاة في أحكامهم وذكر المقريزي بعض مآثره في حكم الشام من التصدق ورفع بعض المظالم ولكن المؤيد شيخ في نهاية الأمر لا يستطيع إلا أن يكون سلطانا مملوكيا أي قاسيا جائرا مهابا بين أصحابه وألا التهموه .

 

وفي سنة 820 كان المؤيد شيخ غائبا عن مصر يقوم بجولة في الشام واتيح لإتباع السلطان في القاهرة ومصر أن يمارسوا ما شاءوا من الظلم وبذلك ظهر أن السلطان كان أقلهم في ظلم الرعية وأن وجوده بينهم كان يمنعهم من ذلك الظلم الفظيع ومن الطبيعي أن السلطان شيخ يتحمل الوزر في اختيار هؤلاء الظلمة في تلك المناصب ولكنها كانت سياسية مملوكية ثابتة أن يحصل على المناصب من يستطيع شراءها ثم يكون من حقه أن ينال أضعاف مادفع من جيوب الناس بالظلم ..

 

موجز أنباء الظلم

 

والمقريزي بعد أن تحدث عن غيبة السلطان المؤيد شيخ في الشام وعن وصول مبعوث منه ينبيء  دخول السلطان إلى حلب أخذ يصف معاناة الناس من ظلم كبار الموظفين الذين ينطبق عليهم المثل الشعبي " غاب القط العب يا فار .. "

 

يقول المقريزي في أحداث شهر ربيع الأخر 820 " فيه قدم قاصد السلطان – أي مبعوث السلطان – يبشر بقدومه حلب .. وأهل هذا الشهر – أي جاء هلال هذا الشهر وبدأ وفي جميع أرض مصر .. من أنواع الظلم ما لا يمكن وصفه بقلم ولا حكايته بقول من كثرته وشناعته " ثم بدأ في تفصيل الأنباء بعد ذلك الموجز البشع ..

 

يقول عن المحتسب الذي يشرف على الأسواق فالمحتسب بالقاهرة والمحتسب بمصر كل ما يكسبه الباعة مما تغش به البضائع وما تغبن فيه الناس يجبى منهم بضرائب مقررة لمحتسبي القاهرة ومصر وأعوانهما ، فيصرفون ما يصير إليهم من هذا السحت في ملاذهم المنهي عنها ، ويؤديان منه ما استدانوه من المال الذي دفع رشوة عند ولايتهم . ويؤخرون منه بقية لمهاداة أتباع السلطان ليكونوا عونا لهم في بقائهم " . فالباعة يغشون البضائع ويظلمون الناس في البيع وبدلا من أن يقوم المحتسب بوظيفته الشرعية في الضرب على أيديهم فإنه يأخذ منهم الرشاوى ويكون شريكا لهم فيما يأكلونه من أموال الناس بالباطل ، وتلك الرشاوى التي أخذت اسم الضرائب كان المحتسب ينفقها في ثلاثة وجوه ، في المعاصي ، وفي تسديد الديون التي أخذها ليدفعها من قبل رشوة كي يحصل على ذلك المنصب ، ثم في تقديم رشاوى . أخرى لحاشية السلطان كي يظل في هذا المنصب .

 

ظلم القضاة

 

ويأتي المقريزي للقضاة ، وكان في الدولة المملوكية أربعة من قضاة القضاة يمثلون المذاهب الأربعة ولكل منهم نائب أي قاض في كل منطقة بالقاهرة وبالمقاطعات .. ويبلغ عدد أولئك القضاة المحليين – أو النواب – نحو المائتين ،  يقول المقريزي عنهم " وأما القضاة فإن نوابهم يبلغ عددهم نحو المائتين ، ما منهم إلا من لا يحتشم من أخذ الرشوة على الحكم مع ما يأتون – هم وكتابهم وأعوانهم – من المنكرات ولا يغرم أحد الرشوة بمثله فيما سلف ، وينفقون ما يجمعونه من ذلك فيما تهوى أنفسهم ولا يغرم أحد منهم شيئا للسلطنة ، بل يتوافر عليهم فلا يتخولون في مال الله تعالى بغير حق – " أي لا يحسنون القيام بالحق على مال الله " – ويحسبون أنهم على شيء ، بل يصرحون بأنهم أهل الله تعالى وخاصته افتراء على الله سبحانه " .

 

وهذه شهادة المقريزي على رفاقه الذين تولوا منصب القاضي ، وصفهم بأخذ الرشوة – وبالتالي بالظلم في إصدار الحكم ، ثم ينفقون ذلك المال الحرام في المعاصي التي لم تكن معهودة من قبل ، ثم يعتبرون أنفسهم أولياء الله وأحباءه ..!!

 

فساد الشرطة

 

- والوالي في ذلك العصر كان يعني مدير الأمن فإذا فسد قضاة الشرع فكيف كان رجل البوليس ؟ يقول المقريزي : " وأما والي القاهرة ووالي مصر وغيرهما من سائر ولاة النواحي فإن جميع ما يسرق من الناس يأخذونه من السارق إذا ظفروا به ، فلا يأتون بسارق معه سرقة إلا أخذوها منه ، فإن لم تكن معه السرقة ألزموه مالا وتركوه لسبيله ، وقد تيقن أنه متي عثر صانع عن نفسه – أي دفع رشوة – وتخلص " . إذن هو مفهوم جديدا في محاربة الجريمة ، أن يعاقب السارق بأن يسرق البوليس منه المسروقات ويطلق سراحه ، وفي ذلك العصر كان تطبيق عقوبة السرقة وهي قطع اليد، فكيف كان يحدث ذلك؟ حدثنا يا شيخنا المقريزي ، يقول " وصار كل من يقطع من السراق يده إنما يقطع لأحد أمرين : إما لقوة جاه المسروق منه ، أو عجز السارق عن القيام للولاة بالمال " أي ينفذ قطع يد السارق في حالتين إذا سرق من شخص ذي نفوذ أو إذا لم يكن معه مال يقدمه رشوة ..!!

 

أما حالة الولاة في الأقاليم والأرياف فكانت أسوأ .. كانوا قطاع طرق بصريح العبارة ولكن يرتدون الزى الرسمي للدولة وينهبون باسمها ، يقول عنهم المقريزي " ويزيد ولاة البر على والى مصر والقاهرة بأخذ من وجدوا معه غنما أو أبلا أو رقيقا من الفلاحين أو العربان وغيرهم ، فإذا صار أحد ممن ذكرنا في أيديهم قتلوه واستهلكوا ماله .. " أي لا يكتفي الوالي في الإقاليم  والريف بنهب المال وإنما يقتل صاحب المال حتى لا يشكوه !!

 

وأعوان الوالي أكثر فسادا وإجراما منه ، يقول عنهم شيخنا " ومع هذا فلأعوان الولاة في أخذ مال الناس أخبار لم يسمع قط بمثل قبحها وشناعتها حتى إنه إذا أخذ شارب خمر غرم المال الكثير ، وكذلك من ساقه سوء القضاء إليهم من المتخاصمين فيغرم الشاكي والمشكو المال الكثير بقدر جرمه بحيث تبلغ الغرامة ألافا كثيرة " .

وأين تذهب هذه الأموال المنهوبة ، يقول شيخنا " وجميع ما تجمعه الولاة كلهم من هذه الوجوه لا يصرف إلا في أحد وجهين : إما للسلطنة مصانعة – أي رشوة – عن أقامتهم في ولاياتهم أو فيما تهواه أنفسهم من الكبائر والموبقات ، وينعم أعوانهم بما يجمعونه من ذلك ويتلفونه إسرافا وبدارا في سبيل الفساد ، ويتعرض الولاة لمقدميهم ويأخذون منهم المال حينا بعد حين " !!

 

فساد القضاء السياسي

 

وكانت قضايا أمن الدولة في يد من يسمي وقتها بحاجب الحجاب وأعوانه من الحجاب . والويل لمن يكون مطلوبا عنده .. أو أن يأتي به حظه السيئ إلى ديوانه يقول المقريزي " وأما الحجاب فإنهم وأعوانهم قد انتصبوا لأخذ الأموال بغير حق من كل من يشكو إليهم وكل مشكو عليه ، فما من أحد من الحجاب إلا وفي بابه رجل يقال له رأس نوبة يضمن له في كل يوم قدرا معلوما من المال يقوم له به " أي أن الحاجب يفرض على رئيس مكتبه – بتعبير عصرنا – مقدار معينا من المال وعليه أن يدفعه له ، ويقسم رأس النوبة أو رئيس المكتب ذلك المبلغ على أعوانه – وهم النقباء ، وأولئك النقباء يأخذون تلك الأموال من الناس ، ويطلق على تلك الأموال لقب " الإطلاق " ومن يأتي به حظه التعس إلى أبوابهم يقع فريسة في أيديهم يستصفون أمواله بتلك الغرامات المالية وإلا كان الهلاك نصيبه ظالما كان أم مظلوم .

ونائب الغيبة – أو الذي يقوم عن السلطان أثناء غيابه – يفعل مثلما يفعل حاجب الحجاب .. ويسير نفس طريقته ..

 

ظلم الاستادار

 

والاستادار كان يعني ذلك الموظف الذي يقوم على الشئون المالية للقصور السلطانية وما يدور فيها من إيرادات ومصروفات ولوازم للطعام وغيره ، وتحت تصرفه جيش من الموظفين .. وكانت سلطات  الاستادار تضيق وتتسع حسب رضي السلطان عنه ، وحين سافر السلطان المؤيد في رحلته للشام أتيح للاستادار أن يمارس الظلم كما يحلو له .. يقول شيخنا عنه " وأما الاستادار فإنه أمدهم باعا وأقواهم في الظلم ذراعا ، وأنقذهم في ضرر الناس أمرا ، وأشنعهم في الفساد ذكرا ، وذلك أنه خرج إلى الوجه البحري ففرض على جميع القرى فرائض ذهب ، قررها بحيث أن الجباية شملت أهل النواحي عن أخرهم ، ولم يعف عن أحد البتة .

 

فما وصلت إليه مائه دينار إلا وأخذ أعوانه مائه دينار أخري ، ثم تتبع أرباب الأموال فصادرهم ، وأخذ لنفسه ولأعوانه مالا كثيرا ، ثم طرح على جميع النواحي بعد ذلك الجواميس التي نهبها – " أي الزمهم بشرائها " – فقامت كل واحدة من الجواميس على الناس باثني عشر ألف درهم – " أي فرضها عليهم بسعر باهظ " – وأكثر ما تبلغ الجيدة منها إلى ألفي درهم !! فجبي من الوجه البحري على اسم الجاموس مالا جما ، ثم أنه الزم الصيارفة ألا تأخذ الدرهام المؤيدى – أي العملة المعدنية التي أصدرها السلطان المؤيد شيخ – إلا من حساب سبعة دراهم ونصف وهو محسوب على الناس بثمانية دراهم " أي تلاعب بسعر العملة " والزمهم أيضا ألا يأخذوا الفلوس إلا من حساب خمسمائة وخمسين درهما القنطار وهو على الناس بستمائة درهم .. والزمهم أيضا ألا يقبضوا الذهب الافرنتى – أي الدينار الإفرنجي – إلا من حساب مائتين وثلاثين الدينار وهو معدود على الناس بمائتين وستين ، وإذا صرف لأحد ذهبا يحسبه عليه بمائتين وستين " أي تحكم في سعر العملة في الشراء والبيع كما يحلو له " ثم أنه كل قليل يلزم صيارفته ومقدميه ومباشريها وولاتها بمال يقرره عليهم في نظير ما يعلم أنهم أخذوه من الناس وكان كل مرة يصادر أموالهم وكان أولئك الأعوان على طريقته في سرقة الناس ، ومع كثرة مصادرته لهم كانوا يعيشون في ترف وينفقون الأموال في المعاصي كما يحكي المقريزي .

 

وسافر ذلك الاستادار في حملة نهب على قبيلة لهانة في الصعيد وعاد ومعه الأغنام والبقر والجمال والخيل والزم أهل الوجه البحري بشرائها بالسعر الغالي الذي يحدده ، ويقول المقريزي " وهو الآن يفرض على جميع بلاد الصعيد الذهب كما فرضه على نواحي الوجه البحري " . واستمر ذلك الاستاراد في عمله ينهب الريف ويفرض ما ينهبه على الناس بأغلى الأسعار وشمل ذلك كافة البضائع من السكر والعسل والصابون والقمح ، ولا يكسب درهما إلا اكتسب أعوانه درهما أخر . ثم شرع في نوع أخر من الظلم هو أقامة بناء منطقة بين السورين فأخذ مواد البناء من التجار بلا ثمن وسخر الناس في العمل بلا اجر . وجميع ما يكسبه ينفقه في الشهوات وفي الرشوة لأعوان السلطان .

 

وفي النهاية يقول شيخنا " وقد اختل إقليم مصر في هذه السنة خللا شنيعا يظهر أثره في القابلة – أي في السنوات القادمة – ومع ذلك ففي أرض مصر من عبث العربان ونهبهم وتخريبهم وقطعهم الطرقات على المسافرين وغيرهم شيء عظيم قبحه شنيع وصفه والسلطان بعساكره في البلاد الشامية يجول وقد قال الله سبحانه وتعالى : " أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " . ويضاف إلى ما تقدم ذكره أن الطاعون فاش " أي منتشر " بدمياط والغربية والإسكندرية والإرجاف – أي الشائعات – بالإفرنج متزايد ، وأهل الإسكندرية على تخوف من هجومهم ، وقد استعدوا لذلك ولله عاقبة الأمور " .

 

وبعد .. فقد كانت العادة أن يذوب المؤرخ نفاقا في السلطان يمدحه بالباطل ويدافع عن مساوئه بكل ما أستطاع ولا يلتفت إلى أحوال الناس في عهده ، كان على ذلك أكثرية المؤرخين قبل المقريزي وبعده ، وكان شيخنا المقريزي فلتة في هذا العصر يستحق أن نفخر به وأن نفاخر به مؤرخي الغرب في العصور الوسطي .. وبقي أن نذكر أسماء الموظفين الظلمة الذين تحدث المقريزي عن مساوئهم ..

 

المحتسب في القاهرة هو شمس الدين محمد بن يعقوب الشامي ، والاستادار هو الأمير فخر الدين بن أبي الفرج ، وصاحب الحجاب الأمير سودن قراصقل ولاداعى لذكر القضاة !!    

 

أخيرا

هل تريدون عودة عصر السلف ؟

لا مرحبا  ولا أهلا ولا سهلا .. هلا أ                                      

                                      

أحمد صبحى منصور

فيرجينيا ـ اكتوبر 2010

 

وظيفة القضاء‏ ‏بين الاسلام والمسلمين:
فهرس هذا الكتاب
مقدمة:
الباب الأول : القضاء فى دين الاسلام

الفصل الأول : التناقض‏ ‏بين‏ ‏الدولة‏ ‏الإسلامي ‏ ‏فى ‏عصر‏ ‏النبى ، ‏والدولة‏ ‏الدينية‏ ‏فى ‏عصر‏ ‏الخلفاء


الفصل الثانى : ‏القضاء والسلطة السياسية فى الدولة الاسلامية الحقيقية.
لفصل الثالث : التشريع‏ الذى ‏يحكم‏ ‏به‏ ‏القاضي.
الفصل الرابع : ضمير ‏القاضي المسلم
الب اب الثانى : القضاء فى تاريخ المسلمين
الفصل الأول : القضاء السياسى فى ‏عهد‏ ‏الخلفاء يفسد العدل
الفص ل الثانى : منصب القضاء ونزوات الخلفاء
ال فصل الثالث : منصب القضاء ونزوات الفقهاء: (يحيى بن أكثم نموذجا)
ال صل الرابع : جارية فاسدة جعلوها
more

اخبار متعلقة