رقم ( 5 )
الباب الثانى :عن الاستضعاف والقوة

 

الفصل الأول 

الضعف النفسي  : قصص من الحياة ومن التاريخ 

أولا : 

مقالات متعلقة :

قصص من الحياة 

1 ـ هذه قصة مشهورة . بطلها ــ رحمه الله جل وعلا ــ كنت أعرفه جيدا . 

1 / 1 : كان إنسانا بسيطا وشهما وفقيرا . كان يعمل في زراعة أرض يملكها أحد الأثرياء أصحاب النفوذ . عمل هذا الفلاح بكل ما في وسعه في موسم زراعة القطن ، وطمع صاحب الأرض الثرى في أن يخرجه من الأرض بالقوة ، برغم الاتفاق المكتوب بينهما . أمره أن يترك الأرض بلا مشاكل ، فرفض . قال له : " ستخرج منها بالقوة ، وإياك أن تذهب الى هناك ". في اليوم التالى ذهب الى الأرض فوجد عشرة من الرجال الأشدّاء كل منهم معه بندقية يلوّح بها في الهواء تهديدا له . كان معه الفأس ، رفعه وجرى نحوهم عازما على أن يقاتلهم ، رأوه بحالته هذه ، فهربوا جميعا . 

1 / 2 : هذا شخص وحيد ، وأمامه عشرة رجال مسلحون . المنظر الخارجي يؤكد أنهم الأقوى . ولكن هذا الشخص ( الضعيف الوحيد ) أيقظ في نفسه قوة كامنة. ببساطة قرّر أن يموت دفاعا عن حقه وكرامته . الآخرون ليست لهم قضية تستحق أن يقاتلوا في سبيلها . هم راهنوا على ضعف الرجل متأكّدين أن مظاهرتهم المسلحة سترعبه وتُخيفه . لم يخف ، بل هجم عليهم بقوة فهربوا . 

2 ـ كتبت هذا المقال ونشرته جريدة الأحرار في يوم 28/ 9/ 1992 . وكان عنوانه ( فلسفة النجاح ) . أُعيد نشره هنا : 

( 1 ـ هذه قصة حقيقية حدثت في الستينات. بطلها فلاح مصري عادي, كان يمتلك بضعة أفدنة يقوم على زراعتها بنفسه لأن أولاده تخرجوا في الجامعات وتشعبت بهم السبل وتركوه وحيدا يزرع الأرض . وفي تلك الأيام كانت الجمعية الزراعية تسيطر على كل ما يخص الأرض والفلاح ، وكان مركز البوليس يعيش في فترة طوارئ في موسم زراعة القطن , وكان الفلاحون يساقون إلى مركز البوليس بالعشرات إذا اتهمتهم الجمعية الزراعية بالتهاون في مقاومة دودة القطن أو مخالفة الدورة الزراعية ، أو بأي تهمة تجول بخاطر السيد المسئول عن الجمعية الزراعية . وهناك في المركز كان المأمور وزبانيته يقومون بعملهم الروتيني ؛ يعلقون الفلاحين المساكين كالذبائح وينهالون عليهم ضربا . وبعد العلقة الساخنة يعود كل فلاح يلعق جراحه ويشكو الظلم لربه ويكتفي بذلك ، حيث اعتاد الفلاح هذا العذاب منذ أيام السخرة في عهد محمد علي باشا حتى ارتبطت شجرة القطن في ضمير الفلاح المصري بوصف ( شجرة العذاب ) . وشاء حظ صاحبنا الفلاح بطل هذه القصة أن يساق مع غيره إلى المركز بتهمة أنه لم يساهم بأنفار – أو صبيان - في المقاومة.  وكان عذره واضحا، لأن أولاده كبروا وتركوا البلد ،  واعتاد أن يستأجر بعض الصبيان حتى لا يعطي الفرصة لخصومه في الجمعية الزراعية ، ولكن حدث أن تخلف أحد الصبيان يوما فاستيقظ صاحبنا من نومه في اليوم التالي على استدعاء له بالذهاب لمركز الشرطة. وهنا ذاق ما ذاقه الآخرون من التعليق والضرب بالسوط والعصي والفلقة، وعاد وجروحه النفسية والجسدية أقصى من طاقته على الاحتمال. وظل طوال الليل لا تغفل له عين . وفي الصباح أستأجر رجالا قاموا بتقطيع كل أشجار القطن في أرضه ، واستأجر عربة نقل ضخمة. وفوجئ مأمور المركز في اليوم التالي بأكوام هائلة من أشجار القطن ملقاة أمام مبنى المركز. ودخل عليه صاحبنا الفلاح ،  وقال له بصرامة: ( هذا هو القطن الذي علقتني بسببه كالذبيحة وتورم جسدي في سبيله. خذه) ،  وقبل أن يفيق المأمور من دهشته تشجع صاحبنا الفلاح وبصق في وجه المأمور ،  وصرخ بأن لديه بندقية في بيته وإذا جاءه أحد من طرف المركز بعد الآن سيفرغها فيه ثم يقتل نفسه،  وانه لن يزرع قطنا بعد الآن ولن يستطيع مخلوق أن يرغمه على زراعة هذا القطن الملعون. وبعد ذلك خرج الفلاح من المركز مرفوع الرأس ، والمأمور قد توقف عقله عن التفكير من الذهول والمفاجأة والخوف،  وهو لا يعرف كيف يتصرف في أطنان الشجر الذي يسد الطريق أمام المركز،  وهو يخشى أن يصل الأمر إلى رؤسائه وأن يكون متهما في تدمير تلك الثروة.  وفي النهاية أمر قطيع الفلاحين الغلابة ــ الذين جئ بهم في ذلك اليوم لينالوا نصيبهم من العذاب – أمرهم بالتخلص من تلك المشكلة. وتعلم من يومها أن يحترم ذلك الفلاح الشجاع وألا يعترض طريقه.  وحافظ صاحبنا على كلمته فلم يزرع القطن في أرضه إلى أن مات عزيزا كريما. 

2 ـ عايشت هذه الحادثة حين كنت طالبا في الثانوي ، وعاش هذا الفلاح في عقلي نموذجا للمصري الأبيّ الذي يستيقظ فيه فجأة بركان الصبر على الظلم فيدمّر ما يقف في طريقه .!. وبركان الظلم في الضمير المصري يبلغ من العمر سبعين قرنا من الزمان ، احتمل فيها الفلاح المصري آلاف الظلمة من الأجانب ، ثم جاء على طريقهم الحكام المصريون بعد الثورة فألهبوا ظهور إخوانهم بالسياط في أقسام الشرطة والسجون والمعتقلات , ولا يزالون يفعلون .. ويحدث أحيانا أن يستيقظ البركان وتظهر فورة غضب مدمرة ولكن تستطيع الدولة القضاء عليها دون حل جذري للمشكلة ، مما يجهز المسرح المصري لفورات غضب أخري والله وحده هو الأعلم بعواقبها . 

3 ـ إن المصريين مثل رمال الصحراء ؛  قد يتحملون أقدام الظالمين ، ولكنهم في لحظة ما تثور رمال غضبهم في عيون الظالم وتجرفه الرمال المتحركة إلى غياهب المجهول . ولابد من علاج لهذا الحال حتى لا يتراكم الإحساس بالظلم وينفجر في بركان . 

4 ـ أيها المصري : لا تظلم أحدا ولا تدع أحدا يظلمك . لا تفرط في حقك ولا في كرامتك طالما أنت على الحق . وتذكر أن ربك وحده هو الذي بيده مفاتيح الرزق وبيده موعد الموت ، ولا تملك قوة في العالم أن تمنعك رزقا كتبه الله لك ، ولا أن تُميتك قبل الموعد الذي حدده الله تعالى لموتك . وطالما أن الرزق والعمر بيد الله تعالى وحده فلا تخش أحدا إلا الله ، وإذا اتقيت الله وحده فلن تخاف البشر .  إنك إذا تمسكت بحقك ورفضت الظلم أرغمت الظالم أن يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على ظلمك. أما إذا تمسكت بفلسفة النعاج وتحملت الظلم مرة ومرات فإنك تشجع كثيرا من الحيوانات الأليفة على افتراسك ، فحيث تتكاثر النعاج تتكاثر إلى جانبها الذئاب ، والشعب الواهن الذليل هو الذي يخلق الفرعون المستبد في كل مكان.  والشعب الخانع يفرز حكومة ظالمة تستأسد على الشعب الذي أنجبها وتتضاءل في نفس الوقت أمام حكومات العالم ، ولا تستطيع أن تنتصر إلا على الشعب الذي تسترقه ..

5 ـ إننا ينبغي أن نكون شعبا من الأحرار الأقوياء لتنبثق عنا حكومة قوية حرة. إن ذلك الفلاح المصري الذي بصق في وجه المأمور الظالم ينتمي إلى أسلاف عظام كان منهم السحرة الذين رفضوا إرهاب فرعون. ).

 انتهى المقال الذى كتبته عام 1992 ، قبل الثورة الشعبية المصرية عام 2011 .   

وأقول الآن ( 6 نوفمبر 2021 ) : 

1 ـ لو تجمع عدة مئات من كل قرية أو حىّ في كل مدينة ، وتوجهوا الى أقرب مقر للشرطة أو ( أمن الدولة ) وزحفوا نحوه بتصميم وعزم فان الجنود والحراس سيهربون ، وسيهرب الفرعون نفسه . 

2 ـ الفرعون يستمد قوته وجبروته من ضعف الشعب واستكانته وخضوعه وخنوعه ورضاه بالذلة والهوان . ولكن في داخل الفرعون خوفا ورُعبا يفوق المظالم التي يرتكبها والفساد الغارق فيه . هو الأضعف في نفسه ، ولكنه يستند على : 

2 /  1 : استكانة الناس ، وثقافة ( الأنا ماليه ) يعنى ( وأنا ما لى ) . 

2 / 2 : جنوده من نفس الشعب المأمورين بتعذيب وقهر أفراد الشعب . 

هؤلاء ليست لهم قضية تستحق أن يناضلوا في سبيلها ، وهم يعرفون أن ما يفعلونه ظلم وقهر ، ولا يرضى أحدهم أن يحدث لأهله ما يفعله بالأبرياء ، ولكنه مُرغم أن يكون ترسا في آلة القهر . لا يقتصر هذا على الجنود بل هو نفس الحال مع الضباط ، وهم الأكثر وعيا وثقافة . في النهاية حين يزأر آلاف من الناس وينهضون دفاعا عن حريتهم وكرامتهم وحقوقهم الإنسانية والسياسية والوطنية فلن تصمد أمامهم تروس آلة القهر .

ثانيا : 

من التاريخ المصرى 

 نحكى بعض ما جاء في تاريخ ابن الصيرفى ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) الذى يؤرّخ فيه لعصر السلطان المملوكى قايتباى .

1 ـ  قال عن بعض الحرفيين من طوائف العوام الذين رفضوا الظلم :  ( وأصبحت مصر وأهلها ( يقصد ما يعرف الآن تقريبا بالقاهرة الكبرى ) في ألم شديد من عدة وجوه : وهو أن أساكفة ( أي صُنّاع الأحذية ) رُمى عليهم من ديوان الدولة جلود ( أى ألزمتهم الدولة بشراء جلود ليصنعوا منها الأحذية ) وأخذوا منهم عدة زرابيل ، نحو كل زربول بستة أنصاف ( النّصف عُملة فضية )  تحت ستة آلاف زربول ، وأما الخياطون والجوخيون ( صنّاع الجوخ ) وأرباب الصنائع فهم مجتمعون في عمل احتياج عظيم الدنيا الدوادار الكبير لأجل سفره ( أى تم تسخيرهم فى إعداد الحملة الحربية المتوجهة لقتال شاه سوار بقيادة الداودار الكبير يشبك ) ومصروفه في كل يوم على ما بلغني يصل إلى ألف دينار، ولا يقطع لأحد منهم درهماً واحداً ( أى لا يعطيه ) ..، وأما التجار الذين بالحوانيت فإنهم من أول شهر رمضان (875) إلى نصف الشهر المذكور بطّالون ( أى عاطلون ) بسبب بيع تركة الكفيلى بردبك الفارسي.. وإلى الآن ما انتهى المبيع، واتفق أن الأمير شرف الدين موسي بن غريب المتكلم في الوزارة عوضاً عن قاسم ، رمى الجلود التى أخذها منه من المدابغ على الأساكفة الذين بين القصرين وعلى أهل الصليبه: الدرهم بمثله مرتين على ما بلغني ، ( أى باعه لهم قسرا بثمن مضاعف ) ، وغرموا لأعوانه وقربائه ما لا يطيقونه،( أى أرغموهم أيضا على دفع الرشوة )، فأما أساكفة بين الصورين   فإنهم اخذوا الجلود ووعدوهم ببعض الثمن ، وأما أساكفة أهل الصليبة فقد أصبحوا فوقفوا للسلطان فردهم خدام الحوش السلطانى ، فرجعوا وصعدوا إلى أعلى الجبل المقابل لحوش السلطانى الذى يجلس فيه للخدمة والأحكام واستغاثوا، فسأل السلطان عن أمرهم فأخبروهم بحالهم، فغضب السلطان- نصره الله ــ على ابن غريب وانتهى الأمر بإنصاف الأساكفة.). 

2 ــ وتكرر نفس الموقف من تجار الأخفاف أو الأحذية في 8 أو 9 جمادى الآخر 876 ، فقد وقفوا للسلطان يشتكون الوزير لأنه استجد عليهم ضرائب جديدة، فقد كان عليهم في كل شهر أربعمائة درهم فزادها عليهم إلى ثلاثة آلاف، فأمر السلطان الوزير ابن غريب أن يرفع عنهم الزيادة ، وذهبوا لابن غريب فجعل المبلغ ألفاً وخمسمائة درهم فعادوا يستغيثون بالسلطان للمرة الثالثة فيما يحكيه مؤرخنا، فما كان من السلطان إلا ألغى ضرائب الأخفاف مطلقاً . 

نقول : هؤلاء أساكفة حىّ الصليبية ( لا يزال حتى الآن في القاهرة ) لم يرضوا بالظلم وصمموا على الاحتجاج فأنصفهم السلطان.  ماذا لو فعل ذلك كل العمال الحرفيين والفلاحين والمثقفين ؟

ثالثا : من التاريخ الفرنسي 

1 ـ  قبل يوم 14 يولية عام 1789 ، كان لسجن الباستيل في باريس نفس الشهرة المتوارثة في القهر والتعذيب ، مع أن المساجين فيه تقلّص عددهم . ولكن تشجّع ( أقول : تشجّع ) بعض الباريسيين فهاجم موقعا للبوليس في ليزانفيلد وغنموا ما فيه من بنادق ، ولم تكن فيها ذخائر . كانت الذخائر مع معظم الأسلحة داخل سجن الباستيل المُرعب ، والذى يقوم على حراسته حوالى 600 شخص . إتّجه حوالى 1000 من المتظاهرين وأحاطوا بالباستيل غير خائفين ، وصرخوا في الحراس يطالبونهم بالاستسلام . ودارت مفاوضات ثم مناوشات وسقط قتلى ، بعدها سقط حصن أو سجن الباستيل . واصبح يوم 14 يولية 1789 عيد قوميا للحرية الفرنسية .  

رابعا : 

  قالها :

1 ـ أحمد شوقى : 

1 / 1 : وللحرية الحمراء باب   بكل يد مضرجة يُدقٌّ

1 / 2 :وما نيل المطالب بالتمنّى  ولكن تؤخذ الدنيا غلابا 

2 ـ أبو القاسم الشّابى : 

إذا الشعب يوما أراد الحياة   فلا بد أن يستجيب القدر 

ولا بد لليل أن ينجلى           ولا بد للقيد أن ينكسر 


أخيرا 

أحسن الحديث :

قال جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )(11) الرعد )


الفصل الثانى  

بين القوى والضعيف والمستضعف  

أولا : قوة الضعف وضعف القوة 

 المسلسل الدرامى الامريكى باسيفيك ( المحيط الهادى ) هو أكبر المسلسلات في العالم تكلفة . وقد دار حول الحروب التى خاضتها أمريكا في الحرب العالمية الثانية لاستخلاص الجزر النائية في المحيط ( الباسفيكى / الهادى) من السلطة اليابانية . كانت حربا ضارية ، برع المسلسل في تقديمها بما يقرب من التوثيق ،   وقدّم المسلسل من بقى حيا من الشخصيات الحقيقية للأحداث ، يروون ذكرياتهم . برغم وحشية القتال جاء فيه مشهد عن قتال ضار حول كهف يتحصّن فيه جنود يابانيون . نجح جندي أمريكى في اقتحام الكهف، بجانب القتلى اليابانيين وجد الجندى الأمريكي سيدة يابانية جريحة تحمل طفلها ، اقترب منها الجندى الأمريكى متوجّسا ، وضعت مسدس الجندى الأمريكى على صدغها تريده أن يقتلها وباليد الأخرى تعطيه طفلها ، وكان صراخه يملأ المشهد ويفتّت الأكباد . قتلها الجندى ، وحمل الطفل بكل حنان وخرج به من الكهف . هذا الطفل الصارخ كان الأقوى . إستمد هذه القوة الشديدة من ضعفه الشديد . الجندى الأمريكي المتمرس بالقتال ـ والذى كان يعبث بجثث اليابانيين القتلى ــ شعر بضعف شديد أمام الطفل الضعيف . 

قال جل وعلا : 

1 ـ : ( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (78) يوسف ) . هنا أخوة يوسف يخاطبون عزيز مصر ، ولا يعلمون إنه أخوهم يوسف .  كانوا يستعطفونه بأن يأخذ واحدا منهم بدلا من أخيهم المتهم بالسرقة . أساس الاستعطاف هنا أن له أبا شيخا كبيرا ضعيفا . 

2 ـ ( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (86) يوسف ). 

3 ـ  ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) القصص  )

4 ـ (  اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)  الروم )

المستفاد  من الآيات الكريمة أن :

1 ـ الانسان يصل بعد الشباب والقوة الى الشيخوخة والضعف. تذهب عنه القوة ، ولكن ضعفه يجعل الآخرين يشفقون عليه ، خصوصا إذا بكى . لا يستطيع انسان عاقل أن يتحمل شيخا عجوزا يبكى .  

2 ـ يعقوب في شيخوخته وحزنه على ابنه يوسف ابيضّت عيناه من الحزن . أثار هذا شفقة أبنائه ولم يكونا هكذا من قبل ، فكلموه في عطف ودون كذب يرجونه ألا يهلك نفسه من الحزن . 

3 ـ والمرأتان في قصة موسى قالتا إن أباهما شيخ كبير، أي عاجز على أن يأتي ليسقى أنعامه بنفسه فأرسل إبنتيه . أثار هذا شفقة موسى فسقى لهما ، ثم تولى الى ظل شجره يشكو لربه جل وعلا إنه فقير يرجو الخير . 

4 ـ هنا أيضا أخوة يوسف في شبابهم وقوتهم ، وموسى في عنفوان قوته ، وقد شعروا بضعف تجاه الأب الشيخ الكبير . هنا تجد في الضعف قوة ، وتجد في القوة ضعفا . 

ثانيا : قوة داخلها ضعف 

1 ـ موسى في شبابه وعنفوانه سقى للمرأتين ثم أوى الى الظل يشكو فقره وجوعه . الفقر والاحتياج ضعف . هناك الشباب القوى الفقير ، ولكنه يعانى الفقر والاحتياج . هذا الفقر والاحتياج نوع من الضعف . 

2 ـ قال جل وعلا في قصة معركة ذات العسرة : ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) التوبة ). هنا ثلاثة أصناف : 

2 / 1 : مؤمنون ضعفاء ومرضى في شبابهم لا يستطيعون سوى النصيحة ، وقد إعتبرهم رب العزة جل وعلا محسنين .

2 / 2 : مؤمنون محسنون أقوياء بالصحة والقدرة على القتال ولكنهم فقراء لا يجدون ما ينفقون ، وليست معهم راحلة يركبونها ، وقد طلبوا من النبى محمد عليه السلام أن يوفّر لهم ما يركبون . فلما قال لهم : لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حُزنا على فقرهم . 

2 / 3 : ثم هناك المنافقون القادرون على القتال والقاعدون عنه . 

3 ـ وقد قال عنهم رب العزة : 

 3 / 1 : ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) التوبة ) 

 3 / 2 :  ( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) التوبة ) 

 3 / 3 : ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) التوبة )

4 ـ هؤلاء المنافقون كانوا ضخاما الأجسام أقوياء . قال جل وعلا عنهم : (  وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ  ) (4)  المنافقون ) برغم ضخامة أجسادهم فهم في خوف دائم ، إذا سمعوا صيحة يحسبونها هجوما عليهم . 

5 ـ كانوا يحملون خوفا هائلا ، حملهم على الاعتذار. قال جل وعلا عنهم :  

5 / 1 : ( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) التوبة )

5 / 2 : ( وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) التوبة ) . في ( فرقهم / خوفهم ) يودون الهروب الى ملاجىء ومغارات .

5 / 3 : وفى موقعة الأحزاب أرادوا الفرار ووصل بهم الخوف الى ما يشبه الموت . قال عنهم جل وعلا :

5 / 3 / 1 :  ( وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً (13) الأحزاب )

5 / 3  / 2 : ( قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنْ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) الاحزاب  ) . 

المستفاد من هذا :

قد يكون الجسد قويا ، لكن الضعف يعتريه بالمرض ، أو بالحاجة والفقر ، أو بالجُبن المسيطر عليه . هنا قوة داخلها ضعف . 

رابعا : المستضعفون 

قال جل وعلا : 

1 ـ (  إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99)  النساء )

المستفاد هنا :

1 / 1 : هناك مستضعف قادر على الهجرة ، ولكن رضى بالبقاء خانعا للظلم . ثم  يزعم عند الاحتضار أنه كان مستضعفا في الأرض . يقدم عذره للملائكة عند الموت . وهو عذر كاذب ، لأنه كان باستطاعته أن يهاجر من هذه الأرض التي عاش فيها مُستضعفا . هذا الصنف ظالم لنفسه إذ رضى بالذل والهوان متعايشا مع الظلم خانعا له . وجود هذا الصنف يخلق المستبد ، فطالما يسير منحنيا فلا بد أن يقفز على ظهره من يركبه . أي هو ليس ظالما لنفسه فقط بل هو ظالم لوطنه ، يجعل وطنه ضيعة يملكها المستبد دون مقاومة . 

1 / 2 : هناك المستضعفون الكارهون للوضع ، ولكن ما بيدهم حيلة ، لا يجدون وسيلة للخروج والهجرة. أولئك (عسى) الله جل وعلا أن يعفو عنهم ، وأيضا : ( عسى ) ألّا يعفو عنهم .

2 ـ (  فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) النساء  )  

المستفاد هنا : 

1 ـ هناك مستضعفون يسعون للهجرة فلا يستطيعون ، فيدعون الله جل وعلا أن يُخرجهم من تلك القرية الظالم أهلها . هذه القرية الظالم أهلها فيها نوعان من الظالمين : الظالمون بأفعالهم ، والظالمون بسكوتهم .

2 ـ الله جل وعلا يجعل من مشروعية القتال في سبيله إنقاذ هؤلاء المستضعفين . 

3 ـ الذين عليهم نُصرة أولئك المستضعفين هم الذين يقاتلون في سبيل الله جل وعلا يبيعون الدنيا بالآخرة ، والله جل وعلا يعدهم بالأجر العظيم . 

قال جل وعلا :

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ ) (75)الانفال )

المستفاد هنا :

1ـ في وجود دولة إسلامية يجب علي المستضعفين ــ خارجها ــ الهجرة اليها ، ويكونون جميعا مواطنين يوالى بعضهم بعضا في مواجهة الكافرين المعتدين الظالمين الذين يوالى بعضهم بعضا .  

2ـ المستضعفون الرافضون للهجرة للدولة الإسلامية لا يجب على الدولة الإسلامية موالاتهم حتى يهاجروا . 

3 ـ على الدولة الإسلامية أن تنتصر لأولئك المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة اليها ، وتدافع عنهم ، إلّأ إذا كان هناك معاهدة .  


الفصل الثالث 

 المصريون والحتميات والاستضعاف  

1 ـ هناك حتميات أربع مقدرة سلفا ، وهى تخصُّ الميلاد والموت وما بينهما من رزق ومصائب لا دخل لمن تقع عليه في حدوثها . قال جل وعلا : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الحديد ) 

2 ـ الله جل وعلا لن يحاسب البشر على هذه الحتميات ولكن على حريتهم فيما يفعلون وفيما يؤمنون . البشر فيما بينهم يكونون سببا في هذه الحتميات ، مثل الزواج وما ينتج عنه من مواليد ، والحروب وما ينشأ عنها من سفك دماء ، وحتى المصائب السيئة قد تكون عقابا إلاهيا للظالمين ، يقول جل وعلا : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) الشورى  ) . الذى يرتكب القتل ويسفك الدماء يكون مسئولا عن إجرامه ، مع إن المقتول قد جاء أجله في موعده ومكانه المقدر سلفا . الأساس هنا إن الانسان لا يعلم الغيب ، وهو يتمتع بحريته في الفعل والقول والاعتقاد ، وبهذا يتحمل المسئولية يوم الدين. 

2 ـ  في هذه الحتميات قد يولد الطفل معوّقا ، فيكون ضعيفا حتى في شبابه ، و يكون الفرد ضعيفا في طفولته وشيخوخته وفى مرضه وفى فقره واحتياجه ، في ضعفه هذا يكتسب قوة من الآخرين . أتذكر أن شابا مصريا خفيف الظّل في غضون الثورة المصرية ( 25 يناير ) كان يصطنع التخلف العقلى ، ويضع على اليوتوب ما يقوله من تندّر على العسكر ، بطريقة بلهاء ، كنت رسالته تصل للناس وتحوز الاعجاب . ذكر في حديث جاد له أنه كان في ميكروباس ، ووقف بهم في نقطة تفتيش عليها جنود غلاظ ، فتكلم مع الضابط على أنه متخلّف عقليا . فترفّق به الضابط الغليظ القلب وتعامل معه بالتى هي أحسن ، ولم يصبه ما أصاب بقية الركّاب من أذى . 

3 ـ ويصل التعاطف حتى مع المجرمين في محنتهم ، مع إن ما يحدث لهم هو عقوبة ألاهية ، فالله جل وعلا يقول : ( لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) الرعد )، ويكون هذا العذاب الدنيوى جرس إنذار لهم لعلّهم يتوبون . قال جل وعلا : (  وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) السجدة ) . ولكن للمستضعفين المصريين موقفا آخر ، هو نسيان ما فعله الظالم الفاجر إذا فقد سُلطانه وجاهه ، وفى الأمثال الشعبية المصرية قولهم : ( إرحموا عزيز قوم ذلّ ) . هذا مع إنه قد يكون من أكابر المجرمين ولم لم يكن يرحم أحدا في سطوته . ونتذكر أن حسنى مبارك ــ الذى قام بتعذيب المصريين 30 عاما وسرق ثرواتهم ــ عندما تهدّد سلطانه بالثورة المصرية في 25 يناير ظهر يخطب يتودّد للناس يسترحمهم ، أي إستخدم قوة الضعف ليستعيد ما فقد من قوة . والعادة المصرية لدى المستضعفين المصريين قولهم عند موت أحد الظالمين ( أُذكروا محاسن موتاكم ). يشُذُّ عن هذا غُلاة السنيين السلفيين ، فهم يشمتون بمن يموت من خصومهم ، ويعتبرون الموت عقوبة خاصة بأولئك الخصوم . هم في بلاهتهم يعمهون ، لا يدركون أن الموت من الحتميات التي لا هروب منها ، وأنهم سيموتون كما مات من قبل الأنبياء صفوة الخلق ، وكما سيموت الجميع في هذا الكوكب . قال جل وعلا : ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27) الرحمن  ) (  إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) مريم ). 

4 ـ  نقول ، إنّه في إطار حرية البشر المطلقة في القول والفعل ، وفى عدم وجود أعذار قهرية من المرض والعوز وقلّة الحيلة فللفرد أن يكون قويا بنفسه ، أو العكس : أي أن يكون ( مُستضعفا ) وليس ضعيفا . هذا يتوقف على الإرادة النفسية البشرية . للمصريين المُستضعفين قول مأثور ، لا يعملون به ، وهو ( العُمر واحد والرّب واحد ). يقولون هذا بألسنتهم ويكذّبونه بأفعالهم . إذا كان العُمر محددا ، وإذا كان على حدّ قولهم ( ما ياخدش الروح الا خالقها ) فلماذا يرضون بالذُّل والهوان ؟!، ولماذا يختارون  بكل حريتهم الخضوع والخنوع والرضى بالذلة والهوان ؟!!. ليس مهمّا الشعارات ، ولكن المهم المواقف الحازمة من فرد يؤمن بأن ( الربّ واحد والعمر واحد ) وأنه ( ما ياخدش الروح إلا خالقها ) بالتالى فلا يستطيع بشر أن يُميته قبل موعد موته المحدّد سلفا ، ولا يستطيع بشر أن يدفع عنه الموت إذا جاء الأجل . بالتالى ـ أيضا ـ فلا يخاف ممّن يهدّده بالقتل أو بالتعذيب والسجن ( وهذه مصائب من الحتميات المقدّرة سلفا ولا نجاة منها ) بالتالى ـ أيضا ـ لا يرضى أن يظلم أحدا ، ولا يرضى أن يظلمه أحدُّ . هذا الفرد القوى بنفسه يستحيل أن يكون مستضعفا . لأن المستضعفين هم الذين شاءوا لأنفسهم الاستضعاف . هذا عن فرد واحد ، قرّر أن يعيش حُرّا أبيّا ، ويهون عند الموت كريما بدلا من العيش ذليلا . فماذا عن شعب إختار أن يعيش حُرّا أبيا ، يرفض أن يكون مملوكا لحكم فردى مستبدّ . 

5 ـ مستحيل أن تنتشر الحُرية والكرامة من فرد واحد ليقتنع بها شعب من الملايين . تبدو المشكلة صعبة جدا مع الشعب المصرى الذى تجاوز مائة مليون نسمة ، من بينهم عشرات الألوف ـ فقط ـ من المترفين الرّعاع الذين يخدمون الفرعون . ليست المشكلة فقط في الأغلبية الساحقة للمستضعفين ، ولكن أيضا في تاريخهم العريق في الخضوع والخنوع والرضى بظلم الحكام ، وقد إكتسب هذا الظلم  تشريعا دينيا في دينى التصوّف والسُّنّة ، وركّزه وجذّره أكابر المجرمين من رجال الين ، ثم في عمل الفرعون المستبد في ترهيبهم بالسجن والتعذيب والبطش والتنكيل والفصل من العمل والملاحقة الأمنية ليس للشخص فقط ولكن لأسرته وأعزّ الناس اليه .

6 ـ في هذا المناخ السوداوى المظلم لا تثمر الأمثال الشعبية المصرية التي تقول ( الرّب واحد والعمر واحد ) و ( ما ياخدش الروح إلا خالقها ) ، وتنتصر أمثال شعبية مصرية أخرى تعبّر عن الخنوع والنفاق والذُّل والصغار ، وهى كثيرة ومتوارثة ، منها :( علقة تفوت ولا حد يموت ) ،( الصبر حرق الدكان ) ، ( أُصبر على جار السوء لغاية ما يموت أو تاخده داهية ) ( ضرب الحاكم شرف ) ( إذا كان عندك الكلب حاجة قل له يا سيدى ) ( إذا دخلت بلد تعبد عجل حشّ واطعمه ) ( الناس أتباع لمن غلب ) ( الخضوع عند الحاجة رجولية ) ( علقة تفوت ولا حد يموت ) ( سلطان غشوم ولا فتنة تدوم ) ( طاطى لما تفوت ) ( ما حد يقول يا جندي غطى دقنك ) ، ( اللى ما تقدرش تواقعه نافقه ) ( در مع الأيام إذا دارت ) ( الإيد اللى ما تقدرش تقطعها بوسها ) ( اللى ما تقدر عليه فارقه أو بوس ايديه ) ( بوس الأيادى ضحك على الدقون ). ولا تزال الأم الريفية تدعو لابنها (الله يكفيك شر الحاكم الظالم). وترسب في الثقافة المصرية مفهوم ( الستر ) ووصف الرحمن جل وعلا بأنه ( الستّار ) وليس هذا من أسمائه جل وعلا الحسنى ، مع كثرة من يتسمى من المصريين باسم ( عبد الستار ) . (الستر ) تعبير مصري بليغ عن الخوف من المجهول ، والأغلب أن يأتي هذا الظلم المجهول من الفرعون ، فالمثل الشعبى يقول أيضا : ( سيف السلطنة طويل ) ، يعنى أن سيف الظلم سينال منه إن عاجلا أو آجلا ، لذا يقول المثل المصرى ( اللى سترها في الأول يسترها في التانى ) .  

7 ـ ثقافة الاستعباد والعبيد والاستضعاف ممكن أن تبدّدها التوعية المكثّفة ليتحرّر الناس من سُلطة المستبد ورجال الدين ، وهما معا أكابر المجرمين . وهذا يحتاج وقتا وجهدا وتعاونا. وهنا أيضا يظهر السبب في إضطهاد العسكر لنا أهل القرآن . وفى هذا الاضطهاد يتعاون مع العسكر خصومهم من الاخوان والسلفيين السنيين . يتصارعون ولكن يتفقون على كراهيتنا ومطاردتنا . الشيوخ بفتاوى حد الردة والعسكر بالسجن والتعذيب والاضطهاد ومحاولات قطع الأرزاق والتجويع . جريمتنا أننا نوقظ الناس من غفلتهم بدعوة إسلامية من داخل القرآن الكريم الذى يزعمون الايمان به ، وهم أكفر البشر به . قلت في مقال سبق أننى في مصر كنت أحمل مصريتى عارا فوق جبهتى . حين هاجرت لأمريكا شعرت بمدى الظلم الذى تحملته في مصر ومدى حقوقى المسلوبة . في أمريكا تمتعت بالحد الأقصى من حرية التعبير . حضرت مؤتمرات مفتوحة وجلسات مغلقة ، وهاجمت فيها غزو العراق ـ وقتها ـ وفي مجلس خاص عقده لى أشهر عضو في الكونجرس وقتها ( فرانك وولف ) وحضره سياسيون من ( الدولة العميقة ) ، وسألونى عن رأيي في صُنّاع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط فقلت : إنهم بلهاء .

8 ـ ولكن في مصر وشعبها الخانع المُستضعف بإرادته كنت لا أجد سوى الاضطهاد بسبب كتاباتى . في مرة من الاستدعاءات الأمنية الروتينية الى أمن الدولة ـ وكان القصد منها إرهابى حتى أسكت ـ قلت للضابط : " أنا كاتب مُسالم لا طموح لى في السياسة ولا أعمل بها ، عملى فقط في الإصلاح السّلمى ، وأنا مثلكم ضد الاخوان ، فلماذا هذه الاستدعاءات وهذا التهديد"  ، فقال : ( أنت أخطر علينا من الاخوان لأنك بتصحّى الناس ). هذا الضابط قال الحقيقة . العسكر والاخوان معا ضد توعية الشعب المصرى ، لأن توعية الشعب تعنى إنتهاء الاستضعاف ، وإذا أنتهى الاستضعاف فليس لهم مكان في مواجهة شعب قرّر أن يكون حُرّا كريما . 

9 ـ جهدنا خلال عدة عقود أثمر تحطيم الكثير من الأبقار المقدسة والعمائم الملوثة ، دخل في التوعية الدينية والسياسية كثيرون  ، ولكن لا يزال الطريق صعبا وطويلا ، فقد قام العسكر خلال سبعين عاما بتخريب مصر ماديا ومعنويا . وهذا العسكر الخائن الخائب قد وصل الى أحطّ الدرجات في خصومتنا ، الى درجة إتّخاذ أهالينا الأبرياء في مصر رهائن لاسكاتنا ، وهو يعرف أننا لا نسكت ولا نتراجع ولا نتوقف ، ولكنه الانتقام الرخيص .

 أخيرا 

 أحسن الحديث  (  إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )  (11)  الرعد ).

ودائما : صدق الله العظيم .!!


الفصل الرابع 

فقه الاستضعاف 

أولا : استضعف واستقوى  

1 ـ ال ( س ) و ( التاء ) إذا أتتا في بداية الفعل يكون معناه الطلب . ( خرج ) عندما تكون ( استخرج ) اى يطلب إخراج شيء ، قال جل وعلا في قصة يوسف : (  فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ)  ٌ (76)  يوسف ). (سقى ) تصبح طلب السقيا حين تقول : ( استسقى ) ، قال جل وعلا في قصة موسى : ( وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ )   ( 60) البقرة ). ( نكح ) أي عقد الزواج ، يختلف المعنى حين يُقال ( إستنكح ) أي طلب التزوج . قال جل وعلا : ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا  )(50) الأحزاب )،( رضع ) غير ( استرضع ) ، قال جل وعلا : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) ثم في نهاية الآية:( وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ )(233)  البقرة) . وهو الفارق بين ( ضعف) و ( إستضعف ). قال جل وعلا في قصة موسى : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ  ) (4 ) القصص)، أي إستعمل  وطلب من الوسائل التي تجعلهم ضعفاء . وفى مقابل ( استضعف ) يكون ( إستقوى ) أي طلب أن يكون قويا . هذا هو المعنى ( اللغوى ) للاستضعاف ، وأيضا ( الاستقواء ). 

2 ـ هذا يخصّ من ليس طفلا ولا طاعنا في السّن ولا صاحب عاهة ، ولا صاحب مرض . نتكلم عن إنسان عادى ، هو الذى يشاء أن يكون ضعيفا أو أن يكون قويا . إذا شاء أن يكون ضعيفا فقد أعطى الفرصة لمن يطلب ( إستضعافه ) ، وإذا شاء أن يكون قويا فهو في نفسه يطلب أسباب القوة فيستقوى بها . وهذا وذاك هو داخل النفس ، وهى التي تقرر ، وهى التي تسيطر على الجسد ، وتوجهه الى أن يرفع رأسه عزّة وكرامة ، أو أن يحنى ظهره راضيا بالإهانة . 

ثانيا : الحتميات 

1 ـ الحتميات التي أشرنا لها سابقا هي أساس الاختيار ، من الميلاد والموت والرزق والمصائب . ليس هذا محتاجا الى تدبر قرآنى ، أنّه مُدرك بالفطرة ، يعبّر عنها قول المصريين ( العُمر واحد والرب واحد ) , ( ما ياخدش الروح إلا خالقها ) ، وأيضا قول المثل الشعبى المصرى : ( يا فرعون إيش فرعنك ، قال ما لقيتش حد يوقفنى ).

2 ـ أهم الحتميات في موضوعنا هو ( الموت ) الذى لا فرار ولا مهرب منه . الذى يختار العزّة والكرامة لا يخشى الموت ، والذى يختار أن يكون مُستضعفا يؤثر الحياة مهما كانت ذليلة ، ولديه إستعداد مسبق لتحمل الذُّل في سبيل أن يبقى على قيد الحياة . 

3 ـ إذن لدينا هنا (طلب للقوة ) ( إستقواء ) داخل النفس، أو( طلب للضعف ) ( إستضعاف ) داخل النفس . طلب الاستضعاف هذا يمهد الطريق للظالم أن ( يطلب ) ضعف من قرر بنفسه أن يكون ضعيفا ، أي يأتي ( الاستضعاف ) من الظالمين بناء على استعداد مسبق من ( المُستضعفين ) . في المقابل فإن من يستقوى بنفسه ولا يرهب الموت لا يمكن أن يكون فريسة سهلة للظالمين ، بل هو الذى يكسب وينتصر ، لسبب بسيط هو ( الموت والحياة ) . الظالمون هم أيضا ( يطلبون الحياة ) و( القوى بنفسه ) في مواجهتهم ( يطلب الموت ). هم يحرصون على الحياة وهو يحرص على الموت ، فهو المُنتصر مقدما حتى لو قتلوه ، لسبب بسيط أيضا  إنه الذى طلب الموت / القتل مسبقا . هو ( يستميت ) أي يطلب الموت دفاعا عن حريته ، وهو ( يستقتل ) دفاعا عن كرامته . 

ثالثا : وسائل الاستضعاف : التعذيب والتشهير و( التجريس )

1 ـ فرعون موسى لم يستضعف طائفة فقط من المصريين ، بل باستضعافه هذه الطائفة أرعب بقية المصريين . لذا ترى المصريين يتم جمعهم وحشرهم كالأنعام في أي وقت، نفهم هذا من بعض آيات القرآن المجيد :

1 / 1 : ( قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) طه ) 

1 / 2  : ( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) الاعراف ) ( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) الشعراء )  

2 ـ مصر وقتها كانت مليئة ب ( المدائن ) ، بل لم يأت لفظ ( مدائن ) إلا في مصر. هذه المدائن كانت عامرة بالمصريين . قام فرعون بتعذيب بنى إسرائيل ليرهب بقية المصريين . لم يكن تجميع الأطفال وذبحهم سرّا ، بل كان علنا لارهاب جموع المصريين الباقين . وهنا يرتبط التعذيب بالتشهير أو ب ( التجريس ) . وهو أيضا ما فعله فرعون موسى حين أمر بصلب السحرة وتقطيع أرجلهم من خلاف : (  قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)  الشعراء )  

3 ـ فرعون وقومه صاروا أئمة للطغاة بعدهم . قال جل وعلا عنهم : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ )(41) القصص ) . وسار على ( سُنّته ) الطُغاة اللاحقون من الملوك والخلفاء والسلاطين .  مارسوا التعذيب والإرهاب والتجريس ، واصبح صلب جثة الضحايا  والطواف بالرؤوس المقطوعة عادة مرعية ، حافظ عليها الخلفاء ، بدءا من يزيد بن معاوية مع رأس الحسين . لم يعد هذا مستساغا في عصرنا ، فلجأ المستبدون الى وسيلة أخرى يرهبون بها الشعب ويستضعفونه ، وهى نشر أنباء التعذيب . 

رابعا : نعطى أمثلة لاستضعاف الشعب وارهابه :

1 ـ التشهير والتجريس فقط :عندما ظهر فساد الخليفة عثمان بن عفان واعترضوا عليه قام عثمان بتسيير معارضيه أى كان يُطاف بهم فى الشام والعراق . وهو ما صار يُعرف بعده بالتشهير والتجريس . 

2 ـ : الصّلب : في عام 231 هجرية قتل الخليفة الواثق العباسى ابن نصر الخزاعى بنفسه ، وأمر بصلب جسده فى مكان وتعليق راسه فى مكان آخر  ، وهذا لارهاب جماعته الذين أرادوا السيطرة على الناس باسم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وفقا لحديث صنعوه ، وهو ( من رأى منكم منكرا فليغيره ) . أراد إستضعافهم بهذا . ولكن تغير الحال فيما بعد بوصول المتوكل بعده للحكم ناقما على أخيه الواثق . ما فعله الواثق بجثة ابن نصر ورأسه كان التشهير ، والذى صار عادة بعدها ، يكون ضحاياها من الأحياء . 

3 ـ التشهير والسلخ والتسمير والقتل  

3 / 1 : اشتهر المماليك باختراع أنواع فظيعة من القتل ، منها التوسيط ( قطع الضحية نصفين ) والشىّ بالنار والسلخ للأحياء ، سلخ جلد الضحية وهو حىّ .!!. وقد يرتبط السلخ بالتشهير   أى يطاف بالمسلوخين المساكين في شوارع القاهرة ليتفرج عليهم الناس وينادى عليهم :( هذا جزاء من يفعل كذا)، وفي النهاية يتم صلبهم حتى يموتوا أمام أعين الناس. 

3 / 2 :  يذكر المؤرخ ابن الصيرفى في تاريخه : ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) عن عصر السلطان ( المتديّن)  قايتباى في أحداث يوم السبت 29 ذى الحجةعام  876 ، أنهم طافوا في شوارع القاهرة بثلاثة مسلوخين من أكابر أعراب بنى حرام ، كان قد قبض عليهم الأمير قنصوه، فسلخهم وجهزهم- على حد قول مؤرخنا- وبعد أن طيف بهم في القاهرة أرسلوا إلى خارجها ليصلبوا أياماً ( ويرتدع المفسدون من قطاع الطرق من الأعراب.). العبارة الأخيرة هي المهمة . وتفنن المماليك في جريمة السلخ، فأحيانا كانوا يسلخون الضحية المسكين ثم يحشدون جلده تبناً أو قطناً يطوفون به في الشوارع جنبا الى جنب مع الضحية المسلوخ . وحدث هذا فى أواخر جمادى الأول  875 . 

3 / 3 : ومنه التسمير والتوسيط  بأن يعرّى المحكوم عليه بالإعدام من الثياب ثم يثبتون أطرافه بالمسامير فى  خشبتين على شكل صليب ويطرح مصلوبا عليها ، ويوضع على ظهر جمل ، و يطاف به في الشوارع على هذا الحال وهذا هو التشهير . ثم يأتى السياف فيضرب المحكوم عليه بقوة تحت السرة فيقسم الجسم قسمين من وسطه فتنهار أمعاؤه إلى الأرض. وفي يوم السبت 13 ذى القعدة 875 أمر السلطان قايتباى بتسمير ستة أشخاص من قطاع الطرق وأن يتم توسيطهم بقليوب، فأشهروهم على الجمال ، يقول المؤرخ ابن الصيرفى : ( وعلقت جثثهم ليرتدع أمثالهم عن هذه الأفعال المنكرة . ) العبارة الأخيرة هي المهمة . لذا يختم مؤرخنا بقوله ( ..رب سلّم !!.). وفي اليوم التالى وهو 14 من ذى القعدة 876 أمر السلطان بتسمير أربعة من العربان والمفسدين على الجمال، اثنان بالجيزة واثنان من غيرها، وأشهروهم بالبلد، ووسّطوا منهم اثنين بباب النصر بالقاهرة لقربهم من أعراب بنى حرام ووسطوا اثنين بمصر لقربهم من الجيزة. وأمر السلطان ( المتديّن ) قايتباى بسلخ أربعة من الفلاحين عجزوا عن دفع الضرائب . قال ابن الصيرفى (  وأرسلوا إلى البلاد فاشهروا بها ..  ليرتدع بها أمثالهم ). العبارة الأخيرة هي المهمة .

خامسا : الفرعون يلجأ الى استضعاف الشعب وارهابه في بداية حكمه بالذات  ونعطى أمثلة 

1 ـ تمّ إعداد الضابط جمال عبد الناصر ليتولى حكم مصر بانقلاب عسكرى ، وتصنيعه زعيما شعبيا . لم يكن بزعامته الشعبية محتاجا لتعذيب أحد ، خصوصا من كان يعمل معهم في خلاياهم السرية من قبل كالإخوان والشيوعيين . ولكن كان لا بد من إستضعاف القوى الحيّة في مصر . أسرف عبد الناصر في تعذيبهم ، من بقى على قيد الحياة منهم وخرج من السجن  صار مُستضعفا يهتف للزعيم . !

2 ـ بعد الثورة الشعبية المصرية على العسكر ( 25 يناير 2011 ) انتهت الأمور الى رجوع العسكر للحكم ، بعد عدة مذابح لاستضعاف المصريين . ثم وصل عبد الفتاح السيسى للحكم بانقلاب عسكرى ، وجد تأييدا شعبيا كراهية في الاخوان المسلمين . كان يمكن للسيسى الاعتماد على هذه المشروعية الشعبية في مواجهة فلول الاخوان الذين إعتصموا في ميدان رابعة . وكان سهلا جدا فضّ هذا الاعتصام بخراطيم المياه . ولكن لاستضعاف المصريين ارتكب السيسى مذبحة رابعة في 14 أغسطس 2013 ، وبعدها إنفرد بالحكم باستبداد غير مسبوق . 

3 ـ كان الأمير محمد بن نايف وزير الداخلية هو الأقوى من أحفاد المؤسس عبد العزيز ، فأصبح وليا للعهد في ولاية الملك سلمان بن عبد العزيز . وسجد له ابن عمه محمد بن سلمان ، وبعدها كان عزل محمد بن نايف من جميع وظائفه في 21 يونية عام 2017 ، وتعيين ابن سلمان وليا للعهد ، ثم سجن ابن نايف  وتعذيبه وتعذيب الكثيرين من الأمراء . وبهذا إستضعف  محمد بن سلمان كبار الأمراء ، ومهّد لنفسه الحكم مستبدا.   

خامسا : المستضعف مُحبُّ للحياة وخائف من الموت 

1 ـ حُبّا في الحياة وحرصا عليها إستسلم سريعا أقوى رجل في السعودية ( محمد بن نايف ) ، وأعطى يديه للقيود بلا مقاومة . هذا مع إن الخوف من الموت لا يمنع الموت ، بل يجعل الخائف أشبه بالموتى. تدبّر قول الله جل وعلا عن خوف الصحابة المنافقين  ( فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ )(19)  الأحزاب ) (  ( فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ ) (20) محمد ). في حالة الخوف يكونون أقرب الى الموت حرصا منهم على الحياة ، ولكن لا مهرب من الموت . لو نزعوا خوف الموت من أنفسهم ما عاشوا في ذلّة ، ولماتوا أيضا في موعدهم المحدّد سلفا . 

2 ـ ونعطى مثلين من التاريخ المملوكى :

2 / 1 :   في شهر جمادى الأول 680هـ يروى المقريزى أنهم قبضوا على قاطع طريق مشهور اسمه الكريدى، فسمّروه على جمل ، وأقاموا عليه أياماً يطوفون به في أسواق مصر والقاهرة ، وتعاطف معه الحارس الموكل به فقطع عنه الطعام والشراب، فلما جاع وطلب الطعام : ( قال له الحارس : " إنما أردت أن أهون عليك لتموت سريعاً حتى تستريح مما أنت فيه،"  فقال له:  " لا تقل كذا فإن شر الحياة خير من الموت!!"  فناوله الطعام والشراب، فأتفق أنه شفعوا فيه ، فأطلقوه وسجنوه ، فعاش أياماً في السجن ثم مات . ).  حرصه على الحياة مع حالته تلك ــ يُطافُ به مسمّرا على جمل ــ لم يُنجه من الموت . مات في موعده . 

2 / 2 : كان المعتاد إجبار السجناء في عصر قايتباى على التسول لصالح السجّان ، وكانت على السجين أن يجمع من تسوله قدرا محددا ، وإلا تعرض للتعذيب . أحد السجناء لم يستطع جمع المطلوب فحاول الهرب خوفا من العذاب ، لحقه السجان ، ودارت بينهما معركة انتصر فيها السجين وقتل السجان. أمر السلطان قايتباى بتوسيط المسجون  في يوم الأحد 11 صفر 875 . إستراح المسجون ومات في موعده ، ولكنه إنتقم من السجان على أي حال .!

أخيرا 

قبل أن تستسلم وتعطى يديك للقيود هاجم هذا الذى يأتي ليقبض عليك ، ففي النهاية فلا مفرّ من الموت على أي حال .  وتذكر قوله جل وعلا : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ  )(78)  النساء ) ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ )(8) الجمعة  ).


الفصل الخامس 

الملأ ذو القوة وأتباعهم المستضعفون في القصص القرآنى : ( قوم عاد )

أولا : 

1 ـ نزل القصص القرآنى للعظة والاعتبار . قال جل وعلا : ( وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) هود )، وفى نهاية قصة يوسف قال جل وعلا : (  لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)  يوسف ). 

2 ـ وفيما يخصُّ موضوع القوة والضعف والاستضعاف فالظروف متشابهة في جميع الأمم والأجيال قبل نزول القرآن الكريم ووقت نزوله ، وبعده الى أن يرث الله جل وعلا الأرض ومن عليها . والدليل أنه يوم القيامة سيكون أصحاب النار بين طائفتين ، الذين استكبروا ، ومن أتبعهم من المستضعفين . قال جل وعلا :

2 / 1  ـ ( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) ابرهيم ) 

2 / 2ـ ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) سبأ )

2 / 3 ـ ( وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنْ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) سبأ ) 

2 / 4 ـ ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) الاحزاب ). 

3 ـ ذلك أنه في كل زمان ومكان فإن المستكبرين المترفين أصحاب السُّلطة والثروة المغترين بقوتهم دائما يرفضون الحق الالهى لأن حلفاءهم من أكابر رجال الدين يزينون لهم أنهم بمنجاة من عذاب الله جل وعلا يوم القيامة . قال جل وعلا :3 / 1 : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) سبأ ) 

3 / 2 : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) الانعام )

3 / 3 : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)  وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) الزخرف  )

4 ـ وحتى الآن فالثقافة السائدة دينيا هي عبادة الأسلاف وما وجدوا عليه آباءهم واسطورة ثوابت الأمة ، وتحالف المستبدين مع رجال الدين. كل هذا والقرآن الكريم معهم ، مما يؤهلهم الى عذاب الجحيم الخالد ، حيث قال جل وعلا عنهم جميعا : ( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)  الصافات ) ، وقبلها قال جل وعلا عن عذابهم : ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإٍلَى الْجَحِيمِ (68)الصافات ) ، وفى خضم هذا العذاب الخالد سيتجادل المستكبرون والمستضعفون بلا نهاية . 

5 ـ والله جل وعلا أخبر ببعض قصص بعض الأنبياء . قال جل وعلا :

5 / 1 :(  وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ )(78)غافر )

5 / 2 : ( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164)  النساء ). 

ثانيا : 

 الحق المطلق هو في القرآن الكريم فقط . ومن المعهود وجود الكثير من الشكوك والتشكيك فيما يسمّى بالعهد القديم ، ولقد تميز القرآن الكريم بقصص لم يرد في العهد القديم ، ومنه قصص قوم عاد ، وهم الجيل الذى جاء بعد قوم نوح . ونتوقف معه فيما يخصُّ القوة . وذلك لأن : 

  1 : هم الجيل التالى لقوم نوح ، وقد زادوا عليهم في القوة الجسمانية . قال لهم نبيهم هود عليه السلام : 

  1 / 1 : ( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ) (69) الأعراف )

  1 / 2 : تمتعوا بالقوة الثراء.  قال لهم هود عليه السلام : ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) هود )

  2 : وصل غرورهم بقوتهم أنهم نسوا الخالق جل وعلا ذا القوة المتين . قال جل وعلا عنهم : ( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فصلت )

  3 : إن آثارهم التي خلّفوها لم يحدث لها مثيل ، قال جل وعلا : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) الفجر ) 

  4 : في عصرهم السحيق كانوا ينشئون مصانع تجعلهم ـ في نظرهم ـ خالدين ، وكانت لهم جنات وعيون وانعام وتكاثف سكانى وقوة حربية باطشة . قال لهم نبيهم هود عليه السلام واعظا : ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) الشعراء ) 

ثالثا : 

المستفاد من القصص القرآنى عن قوم عاد :

1 : كما ندعو نحن المحمديين في عصرنا ، فقد دعا النبى هود قومه الى ( لا إله إلا الله ) 

1 / 1 : باعتبارهم القوم الذين أتوا بعد هلاك قوم نوح قال عنهم جل وعلا : ( ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) المؤمنون )

1 / 2 : ( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65)  الأعراف )

1 / 3 : ( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ )   

2 : لأنهم كانوا يعرفون الله جل وعلا فقد :

2 / 1 : وعظهم بالاستغفار : ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ )(52) هود ) 

2 / 2 : وعظهم بتقوى الله جل وعلا . قال لهم ( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) الشعراء ) 

2 / 3 : وفى المقابل زعموا أن هودا قد إفترى على الله جل وعلا كذبا ، قالوا : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) (38) المؤمنون ) 

3 : مثل كل الأنبياء ومثل دُعاة الحق قال لهم إنه لا يسألهم أجرا : 

3 / 1 : ( يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) هود ) 

3 / 2 :( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) الشعراء ). 

4 ـ مثل المحمديين في عصرنا كانوا يعبدون جل وعلا ولكن يعبدون معهم آلهة أخرى تمسكا بعبادة ما وجدوا عليه آباءهم ، رافضين أن يعبدوا الله جل وعلا  وحده ، قالوا له : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (70) الاعراف ) 

5 ـ مثل المحمديين في عصرنا عبدوا أسماء أصبحت تلك الأسماء ذات سطوة . قال لهم هود عليه السلام : ( قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) 71 ) الأعراف ) 

6 ـ بل اتهموا نبيهم هودا عليه السلام بأن آلهتهم بما لديها من معجزات وكرامات قد مسّته بسوء : ( إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) وردّ عليهم بقوة : ( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) هود ) 

7 ـ كان لهم ناصحا أمينا ، ولكن الملأ ( أكابر المجرمين ) إتّهموه بالسفاهة ، ورد عليهم بأنه ليس به سفاهة ولكنه رسول ناصح أمين : ( قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) الأعراف ) 

8 ـ كان أكابر المجرمين من ( الملأ ) هم في صدارة المعارضة للحق ، وتبعهم المستضعفون . ووصف الله جل وعلا الملأ بالترف وتكذيب اليوم البعث واليوم الآخر ، وقد تعجبوا أن تأتيهم الدعوة من بشر يعتبرونه أقل منهم مكانة :

8 / 1 :  ( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ (34) المؤمنون ) 

8 / 2 : وقال لهم : ( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ  )  (69) الأعراف )

9 ـ كانوا أكابر المجرمين العاديين ومعهم أكابر المجرمين من رجال الدين ، يفترون لهم الأحاديث . وبهذا جادلوه بالباطل دفاعا عن آلهتهم المصنوعة من أسماء توارثوا تسميتها والتخويف منها ، قال لهم : 

9 / 1 : ( قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنتَظِرِينَ (71)  الأعراف  ) 

9 / 2 : ( إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) هود ). وهذا يعنى أنهم وقعوا في الافتراء على الله جل وعلا كذبا ، فقال لهم : ( إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ). بهذا الافتراء تحالف في قوم عاد أكابر المجرمين من المستكبرين ورجال الدين . 

10 ـ الملأ وأتباعهم المستضعفون تمسكوا بثوابت دينهم الأرضى ، ومنها ثقتهم بعدم تعذيبهم  : ( قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) الشعراء )   

11 ـ وجاء وصف الملأ بالجبروت ، وبه جعلوا المستضعفين يتبعونهم ، قال جل وعلا :

11 / 1 : (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) هود ). 

11 / 2 : وقال هود عليه السلام لهذا الملأ المترف المستكبر : ( وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) الشعراء ). الملأ هم أصحاب الأمر وهم أصحاب البطش والجبروت ، والمستضعفون يخشون جبروتهم  . 

11 / 3 : وجاء وصفهم جميعا بالاجرام ،قال لهم هود عليه السلام : ( وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) هود )

12 : في النهاية هددهم هود بالله جل وعلا القوى العزيز . قال لهم : ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) هود )

13 ـ عن هلاكهم في إيجاز قال جل وعلا : 

3 / 1 :( فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) المؤمنون ) ، أصبحوا غثاءّ وهباءّ . 

13 / 2 : ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) هود ) . عذاب قوم عاد موصوف بأنه غليظ ، أعقبه موت بطىء .! 

13 / 3 : ( فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) الأعراف ). أبادهم الله جل وعلا دابرهم وأنجى المؤمنين .   

13 / 4 : ( فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)    الشعراء ) 

14 : وجاء في تفصيل إهلاكهم قوله جل وعلا : 

14 / 1 : ( قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) المؤمنون ). إى إن عذابهم سيستمر أياما وليالى ، وقتا طويلا يشعرون فيه بالندم . لم يموتوا فجأة ، بل على مهل . 

14 / 2 : ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) فصلت ). ردأ على غرورهم بقوتهم عذّبهم رب العزة جل وعلا بالهواء العاصف، بالريح .!! . وفى هذا العذاب خزى لهم ، حين تقتلعهم الرياح على مرأى من المؤمنين ، لكن عذاب الآخرة أخزى .!

14 / 3 : ( وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) الذاريات) . هي ريح عقيم تحول البشر الى رمم ، على مهل . يرون هذا يحدث فيهم .!

14 / 4 : ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) الحاقة ) عانوا من عذاب استمر سبع ليال وثمانية أيام حسوما متتابعات .

14 / 5 : ( كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) القمر ) كانت الريح تقتلعهم من الأرض ثم تقذف بهم الى الأرض كأنهم أعجاز نخل منقعر ، ومع استمرار ذلك أياما فهو بالنسبة لهم كان يوما واحدا من نحس مستمر . قال جل وعلا بعدها  ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) القمر) هل هناك من يتدبّر القرآن الكريم الذى يسّره الله جل وعلا للذكر والهداية .؟ !!

15 ـ عاشوا في صحراء رملية ، ولكن كان أساس قوتهم الريح التي تأتى لهم بالأمطار ومنها يزرعون ويتمتعون بأنعام وبنين وجنات وعيون وقصور . قال لهم هود عليه السلام  يعظهم :

15 / 1 ( وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) الشعراء )

15 / 2 : (  وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)  هود ) 

15 / 3 : جاءهم العذاب من نفس الريح التي كان هبوبها يعنى المطر والرخاء ، وهم يعيشون في الأحقاف أي الرمال . ثارت الريح فظنوها تحمل الخير والأمطار ، فكانت عذابا هائلا مُخزيا ، دمرتهم بعذاب أليم قضى عليهم في عدة أيام ، وفى النهاية لم يبق منهم سوى مساكنهم العالية الخالية . قال جل وعلا : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) الأحقاف ) 

15 / 4 ـ في الآيات التالية يأتي الخطاب لنا وللعصور التي تزعم الايمان بالقرآن الكريم ، يقول جل وعلا عن قوم عاد وعنّا : ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (26) الأحقاف ) . وبعدها التنبيه والتذكير باهلاك السابقين : ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) الأحقاف ) .  

أخيرا 

أنعم الله جل وعلا على المحمديين اليوم بنعمة القرآن وبنعمة البترول ، فبدلوا نعمة الله جل وعلا كفرا . ينطبق عليهم قوله جل وعلا :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) إبراهيم ). وهذا ما نراه الآن .!!

ودائما : صدق الله العظيم .!!


الفصل السادس

بين قوم عاد وقوم فرعون في الاستكبار والاستضعاف  

نعقد مقارنة بينهما :    

1 ـ كلاهما استكبر في ( الأرض )،  وكان الأقوى في ( الأرض ). 

1 / 1 : عن قوم عاد قال جل وعلا عنهم ( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً )   (15) فصلت ). في عصرهم لم تكن في الكوكب الأرضى قوة تدانيهم .

1 / 2 :  ونفس الحال مع فرعون وقومه برغم كثرة الأُمم في الأرض ، فقد تكرر في القرآن الكريم وصف مصر بالأرض في قصة يوسف وموسى ، ومنها قوله جل وعلا : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص ). 

  2 : كلاهما استمد قوته من المياه الوفيرة التي زرعوا بها الجنات والعيون . 

2 / 1 : قوم عاد قال لهم نبيهم ( هود ) يعظهم : ( أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) الشعراء) .

2 / 2 : وهو نفس ما جاء في نفس السورة عن الجنات والعيون في قصة فرعون وموسى : ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) الشعراء ).  

  3 : الاختلاف في مصدر المياه . 

3 / 1 : قوم عاد كانت تأتيهم من الرياح المحملة بالأمطار الغزيرة ، قال لهم هود عليه السلام :(  وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)  هود ).

3 / 2 : أما قوم فرعون فقد كانت من النيل وفروعه .

4 ـ كلاهما إغترّ بالنعمة وجعلها أساسا في الكفر .

4 / 1 : قوم عاد قال عنهم جل وعلا : ( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فصلت ).

4 / 2 : قال الأمير الفرعونى يعظ قومه : ( يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ) (29)  غافر ) وقد إغتر فرعون بنعمة المياه  في إعلان كفره ، فقال في مؤتمر لقومه ساخرا من موسى : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) الزخرف ). 

 4  / 3 : أي كفر كلاهما بالنعمة . وتحولت النعمة الى هلاك لكل منهما .

4 / 3 / 1  : هلك قوم عاد بالريح التي كانت من  قبل تحمل الماء فجاءتهم تحمل الهلاك . 

4 / 3 / 2  : وفرعون غرق في اليمّ ( البحر ). 

5 ـ كلاهما كان فيه ( الملأ ) المستكبر ،  مع فوارق بينهما :

5 / 1 : لم تكن (عاد ) دولة ، بل قبيلة ، ولكن كانت مصر دولة بنظام عسكرى يملك الأرض وما عليها ومن عليها  . 

5 / 2 : لذا ذكر رب العزة فرعون موسى حاكما مستبدا ، ولم يكن هناك قائد معروف بالاسم في قوم عاد . 

5 / 3 : كان أول ذكر للجنود عن قوم ثمود الذين أتوا بعد قوم عاد ، وجاء ذكر فرعون معهم مقدما عليهم مع تأخره زمنيا . قال جل وعلا : ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) البروج ). أي كان جيش قوم ثمود بدائيا بالنسبة لجيش الفرعون .

5 / 4 : كان فرعون جنديا عسكريا ذا رتبة عسكرية بين جنوده . قال جل وعلا عنهم : (   رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ (24) الدخان). أي كلهم جميعا جندُّ مغرقون . 

5 / 5 : قال جل وعلا ينسب لفرعون جنوده : 

5 / 5 / 1 :( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) الذاريات )  )

5 / 5 / 2 : (  فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً(90) يونس )

5 / 5 / 3 : ( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) طه )

5 / 5 : وجاءت نسبة الجنود لفرعون ( القائد الأعلى للقوات المسلحة ) ولهامان ( القائد العام ). قال جل وعلا :

5 / 5 / 1 : ( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص )

5 / 5 / 2 : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) القصص )

6 ـ  كانت لكل منهما منشئات معمارية : 

6 / 1 : قوم عاد في عصرهم السحيق كانت لهم منشئات هائلة ومصانع . قال لهم نبيهم هود عليه السلام واعظا : ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) الشعراء ) . 

6 / 2 : فرعون موسى موصوف بذي الأوتاد أي العمائر الراسخة . قال جل وعلا : 

6 / 2 / 1 : ( وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10)  الفجر ). 

6 / 2 / 2 : وقال جل وعلا يربط قوم عاد بقوم فرعون ذي الأوتاد ، برغم الزمن السحيق الفاصل بينهما: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ (12) ص  )

6 / 3 ولكن : 

6 / 3 / 1 ـ لم تأت كلمة ( مدائن  ) في قصص قوم عاد أو غيرهم . جاءت فقط في قصص فرعون موسى .

6 / 3 / 2 ـ مساكن ومنشئات قوم عاد بقيت بعدهم . قال جل وعلا عن الريح التي أهلكت قوم عاد : ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) الأحقاف ) . دمرهم الله جل وعلا ولكن آثارهم لا تزال تحت رمال الربع الخالى في شبه الجزيرة العربية تنتظر من يكتشفها . أما ما أقامه فرعون فقد تدمر ، قال جل وعلا :. ( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الأعراف ) . ولهذا لا توجد أثار لفرعون موسى . 

7 ـ اضطهاد قوم عاد للمستضعفين لم تأت فيه سوى إشارة الى بطشهم : ( وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)  الشعراء ). وهذا مختلف تماما عن تطرف فرعون وقومه في اضطهاد بنى إسرائيل. وقد كان أضطهاد دولة لطائفة من سكانها .

8 ـ  كان قوم عاد يعرفون الله جل وعلا ولكن يتمسكون بآلهتهم ، قالوا مستنكرين لهود عليه السلام : (  قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا )(70) الأعراف ) ، بينما تطرف فرعون في كفره الى درجة:

8 / 1 :  زعمه علنا الربوبية العليا : ( فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24)    النازعات ) .

8 / 2 ، وأنه لا اله غيره :

8 / 2 / 1 :( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) (38) القصص )

8 / 2 / 2 : (  وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً )(37)  غافر )

9 ـ لم يأت هود لقومه بآيات حسية ، ولكن أتى بها موسى . 

10 ـ طلب قوم عاد العذاب تحديا ، فأهلكهم الله جل وعلا بلا مقدمات ، قالوا لهود عليه السلام : (  فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (70) الأعراف ) فقال لهم ( فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنتَظِرِينَ (71) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)   الأعراف ). نزل بهم العذاب بريح حسبوها ممطرة فأمطرت عليه عذابا مصحوبا بصواعق وانفجارات ( فصلت 13)  قطعت دابرهم .

 أما قوم فرعون فنزلت أنواع من العذاب لعلهم يرسلون بنى إسرائيل مع موسى . ورفضوا فأغرقهم الله جل وعلا : ( وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) الأعراف )

11 ـ تجدد الاهلاك العام لأقوام كثيرين بعد قوم عاد ، ثم كان الاهلاك العام الأخير في العالم هو لفرعون وقومه . لذا نلاحظ :

11 / 1 : تأنى قصة فرعون بعد الحديث عن إهلاك الأمم السابقة ، حتى بدون تحديد أسماء بعضها ، مثل قوله جل وعلا : 

11 / 1 / 1 : ( تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) الأعراف )

11 / 1 / 2 : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) يونس )

11 / 1 / 3 : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ (46) المؤمنون ). 

11 / 1 / 4 : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ )  (43) القصص )

11 / 2 : صار فرعون وقومه المثل السىء لكل الكفرة الآتين بعده . قال جل وعلا : 

11 / 2 / 1 :( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) آل عمران )

11 / 2 / 2 : ( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)  الانفال )

11 / 2 / 3 : ( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) الانفال )

11 / 3 : صار فرعون وقومه أئمة للكفار بعدهم  والسلف السىء لكل اكابر المجرمين من المستبدين ورجال الدين . قال جل وعلا : 

11 / 3 / 1 : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (41) القصص )

11 / 3 / 2 : ( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ (56) الزخرف ) 



الفصل السابع 

 بنو اسرائيل بين الضعف والاستضعاف والقوة  

كتاب ( ضعف البشر في رؤية قرآنية )

 الباب الثانى : الضعف النفسى والاستضعاف والمستضعفون  

بنو اسرائيل والضعف والاستضعاف والقوة ( 1 من 2 )

يحتل قصص بنى إسرائيل جانبا ملحوظا في القرآن الكريم ، ويمكن أن نتعرف منه على تاريخهم بين الاستضعاف والضعف والقوة والتجبر . ونعطى بعض التفصيل : 

أولا : مرحلة الاستضعاف 

1 ـ في مصر إستضعفهم الفرعون الى حدّ الاستعباد . 

1 / 1 : قال موسى عليه السلام لفرعون : ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) الشعراء ) ( عبّدت بنى إسرائيل ) أي جعلتهم عبيدا ، بينما هم أحرار ..

1 / 2 : وقال جل وعلا : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنْ الْمُهْلَكِينَ (48)المؤمنون )، أي استكبروا الايمان برسالة موسى وهارون لأن قومهما عابدون لفرعون وقومه.  

2 ـ ولكى يُرهب فرعون بقية المصريين فقد تسلّط على بنى إسرائيل يقتّل أولادهم الذكور ويستبقى بناتهم للخدمة . كان جنوده يذهبون الى بيت من تلد من بنى إسرائيل فاذا كان ذكرا قتلوه ذبحا ، أمام أهله والناس . وكان هذا أفظع عذاب لبنى إسرائيل الإضافة الى تعذيبه لهم ويأتي في القرآن الكريم لفظ الذبح والقتل للأطفال ، وأن فرعون كان يذيقهم سوء العذاب ، والتعبير القرآنى : ( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) يعنى يعتبرهم أنعاما مملوكة له  . يقول جل وعلا : 

2 / 1 : ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) البقرة )

2 / 2 : ( وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) الأعراف )


2 / 3 : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) إبراهيم ). 

3 ـ وخافت أم موسى حين ولدته أن يذبحه فرعون فأوحى الله جل وعلا أن تلقيه في النيل ، وحمله النيل الى قصر فرعون ، وتربى هناك بحماية فرعون نفسه .

4 ـ وحين رجع موسى رسولا الى فرعون ليخرج ببنى إسرائيل من هذا الاستعباد والاستضعاف فإن فرعون أراد أن يذبح أطفال الذين آمنوا مع موسى ، وبل وأراد أن يقتل موسى . قال جل وعلا : ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26)غافر ). وقد اشتكى بنو اسرائيل لموسى من العذاب الذى وقع  بهم بعد عودته : ( قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴿١٢٩﴾ الاعراف) 

ثانيا : الله جل وعلا هو الذى أنهى هذه المرحلة من الاستضعاف 

1 ـ قال جل وعلا : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص ) . قال جل وعلا : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص ). ردّا على استضعافه لهم كان القرار الالهى بأن مملكة فرعون .  

2 ـ البداية أنهم رأوا بأعينهم فرعون وجنده يغرقون أمامهم . قال جل وعلا : ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (50) البقرة )

3 ـ كان منتظرا أن يعودوا لمصر بعد انهيار نظام حكمها وهلاك جندها وتدمير حصون فرعون وقومه وسائر عمائرهم ، قال جل وعلا : 

3 / 1 : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الأعراف ) . وهذا هو الوعد الأول لهم ، النجاة من فرعون ووراثة مُلكه بعد هلاكه . 

3 / 2 : ( فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنْ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً (104) الاسراء) . تحقق الوعد الأول بنجاتهم فسكن بنوا إسرائيل أرض مصر مشارقها ومغاربها الى أن يرجعوا الى الأرض الموعودة لهم ، ويتحقق الوعد الآخر . 

3 / 3 : ورث بنو إسرائيل ما في مصر من جنات وعيون وكنوز ومدائن ، قال جل وعلا :

3 / 3 / 1 : ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) الشعراء )

3 / 3 / 2 : ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) الدخان )

4 ـ  بهذه النعمة كان تفضيلهم على العالمين . قال جل وعلا لهم : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)( 122 ) البقرة ) (  وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)  الدخان ) 

5 ـ كانوا في مصر ملوكا بعد فرعون وآله . قال لهم موسى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ (20) المائدة ). 

6 ـ آتاهم رب العزة جل وعلا ما لم يعط أحدا من العالمين في عصرهم ، وبهذا كان تفضيلهم على العالمين في عصرهم . ومفهوم ( العالمين ) هنا لا يعنى جميع البشر في كل زمان ، بل هو هنا محدد بعصره ومكانه . فقد جاء في قصة لوط عليه السلام مفهوم ( العالمين ) بمن هم حوله من الناس . قال لوط لقومه :( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ (80) الأعراف )، وقال له قومه : ( أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ (70) الحجر ). 

7 ـ لم تكن هناك وقت فرعون موسى قوة تماثل قوته في العالمين حوله ، كما إنه تطرّف في تعذيب المستضعفين من بنى إسرائيل ، وبهذا كان إنقاذهم من جبروته تفضيلا لهم على العالمين . 

ثالثا : بداية التجبر والكفر في بنى إسرائيل بعد غرق النظام الفرعونى  

 كان معظمهم يحمل في داخله تأثرا هائلا بالديانة المصرية فقد عايشوها قرونا ، كما حملوا أيضا في نفوسهم ثقافة العبيد التي تعنى مع التجبر على من يستضعفونه والخوف ممن يفوقهم قوة . ونعطى أمثلة :

1 ـ بمجرد نجاتهم من فرعون رأوا معبدا مصريا وثنيا فطلبوا أن تكون لهم آلهة مثلها ورفض موسى وأنّبهم .قال جل وعلا : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)الأعراف ) 

2 ـ بمجرد أن تركهم موسى ذاهبا الى ميقات ربه جل وعلا فقد عبدوا العجل الذهبى الذى صنعه لهم السامرى على مثال عجل أبيس الفرعونى  ( طه 85 : 98  ) ( الأعراف  148). وفى غياب موسى ( إستضعفوا ) أخاه هارون وكادوا يقتلونه . قال جل وعلا : ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) الاعراف ).

3ـ تعودوا أن يؤتى لهم بكل شيء ، موسى يستسقى لهم فتتفجر عيون الماء ، لكل قبيلة عين ماء خاصة بهم ، وتهبط اليهم طيور يأكلونها وينبت لهم حلوى في الطريق ، والغمام يقيهم من حرارة الشمس ، ومع ذلك هم يعصون أوامر الله جل وعلا بل ويطلبون أن يروا الله جل وعلا جهرة . لذا تحول تفضيلهم الى إذلال لهم : ( البقرة 55 : 60 )( الأعراف 160 : 162 ) .  

4 ـ فرض الله جل وعلا عليهم القتال الدفاعى ، ونزل هذا في التوراة والانجيل والقرآن ، قال جل وعلا : (  إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ) (111) التوبة ). وكان أول تطبيق لهذا القتال الدفاعى في عهد موسى أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله جل وعلا لهم . فلم يطيعوا الأمر، لأن فيها قوما جبارين ، وهم لا يريدون قتالا . طلبوا من موسى أن يذهب هو وربه ليقاتلا ، وهم سيقعدون الى أن يخرج منها أولئك القوم الجبارون . حذّرهم موسى فرفضوا وصمموا على الرفض فكان عقابهم بأن يتيهوا أربعين سنة في الأرض ، حتى ينتهى هذا الجيل الخانع المثقل بثقافة الاستضعاف في مواجهة القوى ، والتجبّر على من يراه ضعيفا . ( المائدة 20 : 26 )   

5 ـ في فترة التيه هذه :

5 / 1 : تجولوا في شبه الجزيرة العربية وتركوا فيها آثارا ، ووصلوا ومعهم موسى وهارون الى مكة ، ودعا موسى وهارون أهلها الى ( لا إله إلا الله ) فرفضوا واتهموهما بالسحر . قال جل وعلا ردّا على قريش : (  فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)  القصص ). 

5 / 2 : استضعفوا موسى عليه السلام فتعرض لأذاهم . قال جل وعلا :

5 / 2 / 1 : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿٥﴾ الصف ) 

5 / 2 / 2 : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّـهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِندَ اللَّـهِ وَجِيهًا ﴿٦٩﴾ الاحزاب) .  

رابعا : من الاستضعاف الى القوة 

مات موسى وهذا الجيل من بنى إسرائيل ، ودخلوا بعدئذ في مرحلة جديدة من الاستضعاف .  وفيها تعرضوا لهجوم حربى من دولة قوية يتزعمها جالوت ، طردهم من المكان الذي يعيشون فيه . كان فيهم النبى ( يوشع بن نون ) بعد موسى ، وكان فيهم ( ملأ ) ، فطلب ( الملأ ) من هذا النبى أن يعين لهم ملكا يقودهم للقتال الدفاعى كما جاء في التوراة ، تخوّف النبى من تقاعدهم إذا تمّ فرض القتال عليهم لكنهم صمموا فقد أخرجهم المعتدى من ديارهم وأبنائهم . وعندما نزل الأمر بالقتال كان هذا ( الملأ ) ممّن قعد عن القتال . بوحى من الله جل وعلا للنبى ( يوشع بن نون ) وقع الاختيار على ( طالوت ) ليكون عليهم ملكا . رفضه ( الملأ ) لأنهم يعتبرون أنفسهم أحق بالملك منه ، ولأنهم الأكثر ثراء ، بينما لم يؤت هو سعة من المال . أخبرهم النبى إن الله جل وعلا هو الذى إختاره ملكا عليهم ، ووهبه قوة جسدية وعلما . ولكى يقتنع ( الملأ ) بطالوت ملكا معيّنا من الله جل وعلا فقد قال لهم النبى إن دليل اختيار ( طالوت ) ملكا أن تابوت العهد سيأتيهم تحمله الملائكة . رضوا ب ( طالوت ) ملكا وقائدا حربيا . خرج بهم لقتال ( جالوت ) ، وفى الطريق أراد أن يستوثق من عزيمتهم القتالية وكانوا في حالة عطش ، وفى الطريق نهر ، وذلك ابتلاء لهم واختبار ، إن شربوا منه كفايتهم فليسوا منه ، ومن اغترف منه بيده  قليلا فهم من الجيش .  سقط معظمهم في الاختبار ، وبقيت معه أقلية مؤمنة صابرة ترجو لقاء الله جل وعلا ، طردت الاستضعاف والخوف من قلوبها ، وحين لقيت ( جالوت ) بجيشه القوى الأكثر عددا استماتت في القتال وهم يدعون الله جل وعلا أن يفرغ عليهم صبرا وأن ينصرهم على القوم الكافرين المعتدين . وانتصروا ، وتحقق قوله جل وعلا : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) البقرة ) . وبرز بين المقاتلين ( داود ) الذى قتل ( جالوت ) الباغى . واختاره الله جل وعلا نبيا وملكا على قومه ( البقرة 246 : 252 ). وبه بدأت الدولة الإسرائيلية ، التي حكمها داوود ثم ابنه سليمان عليهما السلام . 

خامسا :  ( الملأ ) الإسرائيلي الذى خلط الكفر السلوكى بالكفر العقيدى 

1ـ وجود ( الملأ ) يعنى أقلية تحتكر الثروة والسلطة ، وتكون نذير شؤم على قومها ، ويتحالف معهم رجال الدين ، وهم معا أكابر المجرمين . الملأ الذى رفض في البداية تولى ( طالوت ) ملكا لأنهم ليس منهم ظلوا في مملكة داود عليه السلام ، والذى أمره ربه بالحكم بالعدل ، قال له ربه جل وعلا : (  يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) ص ) . لم يرض هذا ( الملأ ) المجرم الحكم بالعدل لأنه سيكون على حسابهم ، لذا لعنهم داود عليه السلام ، وفيما بعد لعنهم عيسى عليه السلام . قال جل وعلا : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) المائدة ).

2 ـ في لعن عيسى لهم نعرف من القرآن الكريم حقائق مجهولة عن عيسى عليه السلام وعلاقته بهذا ( الملأ ): 

2 / 1 : فهم كفروا برغم الآيات التي جاء بها . بعد أن ذكر الله جل وعلا أن من النعم التي أنعمها عليه قال لعيسى عليه السلام : ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) المائدة ). أي هاجموه فحماه الله جل وعلا من اعتدائهم .

2 / 2 :. نزل على عيسى عليه السلام في الانجيل الأمر بالقتال الدفاعى المذكور في الآية ( 111 ) من سورة التوبة . وهناك إشارة لمواجهة حربية انتصر فيها عيسى وجماعته على هذا الملأ الكافر الظالم . قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) الصف ) 

3 ـ من بنى إسرائيل هناك مؤمنون سابقون ومؤمنون مقتصدون ، فليسوا كل بنى إسرائيل سواء . منهم ظالمون معتدون ، سماهم رب العزة جل وعلا اليهود ، وتزعمهم الملأ بعد عيسى ، وسكت الأحبار والرهبان عن إنحرافاتهم الدينية والسلوكية ، إذ خلطوا الانحراف الدينى بالاعتداء وأكل أموال الناس بالباطل وتقديس البشر وتحريف الرسالات الإلهية . قال جل وعلا فيهم : 

3 / 1 ـ ( وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) المائدة ) 

3 / 2  ـ  ( وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) المائدة ) 

3 / 3 ـ ( وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) 

3 / 4 : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) (34) التوبة ) 

4 ـ وقال جل وعلا : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) البقرة ). أي إنهم حتى في عهد نزول القرآن الكريم ساروا على دين اسلافهم الذين نقضوا الميثاق الإلهي المأخوذ عليهم ، فكانوا يعتدون على المستضعفين ، يسفكون دماءهم ، ويخرجونهم من ديارهم بمثل ما كان يفعل ( جالوت ) بأسلافهم من قبل ، إلا إنهم افتروا تبريرات دينية جعلتهم يستبيحون هذا الاعتداء بالقتل والطرد للمستضعفين . فكانوا ــ مثل المحمديين ـ يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه . وهذا ما يفعله المحمديون حتى الآن ، وبكل إخلاص .!!

5 ـ أكثر من هذا إنهم أدمنوا قتل الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس فانتقم الله جل وعلا منهم بالذلة والمسكنة . قال جل وعلا : 

5 / 1 : ( لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) المائدة ) 

5 / 2 :( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) البقرة ) 

) (  ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) آل عمران )

5 / 3 :(  أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)  البقرة )

5 / 4 : (  وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) البقرة )

5 / 5 : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) آل عمران 

5 / 6 : ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) آل عمران ) 

5 / 7 : ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)  النساء ) ، أي حاولوا قتل المسيح عليه السلام . والآيات الكريمة توجز خطاياهم . 

 6 ـ في إشارة الى التاريخ الإسرائيلي  بعد انهيار دولة سليمان عليه السلام قال جل وعلا :  ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (8) الاسراء ) .  

7 ـ قام الخليفة عمر بن الخطاب باجلاء بنى إسرائيل من شبه الجزيرة العربية ، وتعرض أهل الكتاب في دول الخلافة الى اضطهاد ، وجاء عصر التدوين فأطلق على كل الاسرئيليين إسم اليهود ، وصنعوا أحاديث تبريرا لهذا الاضطهاد . وتناسوا ما قاله رب العزة عن الصالحين من بنى إسرائيل وإستمراره تيارا . قال جل وعلا :

7 / 1 : (  وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً ) (160)الأعراف ) 

7 / 2 : (  وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) الأعراف )

7 / 3 : (  وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) السجدة )

7 / 4 : (  لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)  آل عمران )

7 / 5 : ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) آل عمران )

7 / 6 : ( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)  الاسراء )


الفصل الثامن 

الضعف والاستضعاف والقوة في عهد النبى محمد عليه السلام 

مقدمة 

لسنا هنا في استعراض لسيرة النبى محمد عليه السلام وأصحابه ، فهذا يخالف عنوان الكتاب ، إنّما نعطى ملاحظات أو نماذج من الضعف والاستضعاف والقوة ، من خلال تاريخ معروف في القرآن الكريم . ولا شأن لنا بما كتبوه عن النبى محمد عليه السلام في العصر العباسى .  

أولا : العوامل المؤثرة 

1 ـ تتحكم في الانسان عوامل متداخلة من الزمان والمكان . المقصود بالزمان هو المناخ السائد المتحكم ، وهو بالعادة ناتج عن دين أرضى سائد ، وفى الأغلب يتحكم في المجتمع أكابر المجرمين من الحكام ورجال الدين ، أصحاب الجاه والسلطة والثروة . من يرضى بالضعف والاستضعاف حرصا على حياة ذليلة لا يجد مشكلة في قبول الواقع والصبر الذليل عليه ، ومحاولات تبريره وتشريعه بالأمثال والقصص ، ويساعده في ذلك أكابر المجرمين من رجال الدين الذين يملكون دينهم الأرضى ، يقولون فيه ما يشاءون ، ويجدون التصديق والايمان من المستضعفين . يوجد التحدى في حالة دعوة للعدل وإحقاق الحق . القائم بهذه الدعوة عليه أن يواجه المناخ الثقافي ( الزمن ) وظروف المكان الذى يعيش فيه ، وقد تضطره الظروف الى الهجرة من هذا المكان الذى يسيطر عليه أكابر المجرمين الى مكان آخر ، يتيح له الحرية ، ولكن لا مفر من مواجهة تحديات أخرى زمانية ومكانية أيضا . 

2 ـ هذا هو الذى واجهه خاتم النبيين عليه وعليهم السلام . ونتوقف معه ببعض تفاصيل فيما يخص الضعف والاستضعاف والقوة . 

ثانيا : تحدى ( الزمان ) المناخ السائد والمكان 

1 ـ في داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها توجد قريش بسطوتها وهيمنتها وتجارتها بالدين وثرائها برحلتى الشتاء والصيف ، وخضوع الأعراب لها وعلاقاتها بالقوى العربية المسيطرة على طريق القوافل بين اليمن والشام والعراق . كان من مصلحة قريش أن يظل العرب في تقاتل وغارات فيما بينهم طالما لا يتعرضون لقوافلها . خارج الجزيرة العربية توجد قوتان : الروم والفرس.  الإسلام بعقيدته وقيمه العليا ضد أكابر المجرمين.  

2 ـ وهنا ندخل على تحدى ( المكان ) ، ففي مكة بداية الوحى القرآنى كان العدو الأكبر قريش التي ترى في دعوة الإسلام تحديا لمكانتها وثرائها وتراثها . ثم بالهجرة الى المدينة تجدّد التحدى ، فقد أصبحت دولة الإسلام  جزيرة تحوطها قوى معادية تنتشر في الصحارى المحيطة بها . كانت هدفا ثابتا يتعرض لخطر الحصار ، وهو ما حدث فعلا في موقعة الأحزاب . ولم تكن لهم حصون عسكرية ، أو أسوار دفاعية . أي هدف حربى سهل المنال من الأعداء المحيطين الكارهين من قريش ومن الأعراب مدمنى الغارات والسلب والنهب . واستغلت قريش ذلك في غاراتها على المدينة في بداية استقرار النبى والمهاجرين في المدينة ، ثم وصل الأمر الى حصار كامل للمدينة في موقعة الأحزاب ، لذا كانت الطريقة المُثلى للحرب الدفاعية بعدها هي الخروج من المدينة لمواجهة الجيش المعتدى قبل أن يقتحم المدينة . وهذا معنى ( الخروج )   (انفروا ). ونستشهد بقوله جل وعلا : 

1 ـ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعاً (71) النساء ) 

2 ـ ( انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ) التوبة) 

3 ـ ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) التوبة )

4 ـ  ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) التوبة )

5 ـ ( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) التوبة ) . 

ثالثا : مدى إستجابة الصحابة المستضعفين  لتحدى الزمان والمكان 

1 ـ دعوة الإسلام للسلام والحرية والعدل جذبت المستضعفين في مكة إذ وجدوا في الإسلام فرصتهم من التحرر من استعباد قريش ، وفى نفس الوقت فإن حريتهم الدينية في تقديس الأنصاب مكفولة ، أي كل ما عليهم هو الدخول في الإسلام السلوكى الذى يعنى السلام . هاجروا بنفس تلك العقائد ، ورفضوا أن يضيفوا الى إيمانهم السلوكى ( الأمن والأمان ) الايمان القلبى العقيدى بالله جل وعلا وحده وكتبه ورسله ، وهذا ما قاله جل وعلا لهم في خطاب مباشر : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) النساء  ). نزل لهم الأمر باجتناب الرجس من الأوثان وقول الزور في الدين ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)  الحج ) فلم يستجيبوا ، وظلوا مستمسكين بهذا الرجس ، مع إنه نزل لهم خطاب مباشر أكثر تفصيلا في أواخر ما نزل من القرآن الكريم ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) المائدة ) قال جل وعلا ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ) ولم ينتهوا ، وفى الآية التالية تحميل لهم المسئولية فما على الرسول إلا البلاغ وفقط : (  وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) المائدة ) أعجبهم الإسلام السلوكى وبالحرية الدينية المطلقة في الإسلام . 

2 ـ ولكن لم يعجبهم فرض القتال عليهم دفاعا عن أنفسهم . 

بعد الهجرة قامت قريش بغارات على المدينة لإكراه المؤمنين على الردة ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا )(217) البقرة ). وقتها كان المؤمنون مأمورين بكفّ اليد وعدم المقاومة لمن يهاجمهم معتديا . فلما نزل فرض القتال الدفاعى تعددت مواقفهم :

2 / 1 : رفضوه حرصا على حياتهم . قال جل وعلا : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) وجاء الردُّ عليهم بحتمية الموت وأن متاع الدنيا قليل : ( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ  ) (78) النساء ) . 

2 / 2 : وفى الحرب كانوا يتخلف بعضهم عنها ، ثم يفرح بهزيمة المؤمنين ونجاته ، وإذا انتصر المؤمنون تمنى لو كان معهم ليشاركهم الفوز. قال جل وعلا : ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) النساء ) . 

2 / 3 : واستمر موقفهم هذا حتى أواخر ما نزل من القرآن قال جل وعلا في خطاب مباشر يؤنبهم فيه على تقاعسهم: (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) التوبة ) 

رابعا : علاج الاستضعاف 

1 ـ عمليا بالتدريب العسكرى والاستعداد بكل المستطاع لارهاب العدو وردعه حتى لا يعتدى . قال جل وعلا : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) الانفال   )

2 ـ إقناعهم بأنهم مع كراهيتهم للحرب الدفاعية فعسى أن يكرهوها  وهى خير لهم ، وعسى أن يحبوا القعود وهو شرُّ لهم ، لأنه يعنى استئصالهم من عدو شديد البأس . قال لهم جل وعلا في خطاب مباشر : 

2 / 1 : (  كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) البقرة ) 

2 / 2 : (  انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) التوبة )

3 ـ أمر النبى محمد عليه السلام أن يحرّضهم ويحمّسهم على خوض القتال الدفاعى والصبر فيه . قال جل وعلا :

3 / 1 : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) الانفال )   

3 / 2 : ( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً (84)  النساء  )

 4: إثارة حميتهم بإنقاذ إخوانهم المستضعفين . قال جل وعلا : (  وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)  النساء ) 

5 ـ عقد بيعة مع الله جل وعلا : أن يقاتلوا في سبيل الله جل وعلا قتالا دفاعيا ، ولهم عند الله جل وعلا الجنة :  ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)  التوبة ) 

6 ـ وأنهم لن يدخلوا الجنة إلا بطاعة الأمر بالقتال الدفاعى بما يستلزمه من الصبر ، قال جل وعلا : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) آل عمران ).

7 ـ أي جعلها رب العزة تجارة تنجيهم من عذاب أليم ، وهى الخير لهم ، هذا إذا كانوا أنصارا لله جل وعلا . قال جل وعلا  : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) الصف ) .

8 ـ ولهم الأجر العظيم مهما كانت نتيجة القتال طالما كانوا يقاتلون دفاعيا في سبيل الرحمن جل وعلا . قال جل وعلا :  ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)  النساء ) .

9 ـ ثم تهديدهم بالعقاب إذا :

9 / 1 : قعدوا عن القتال : ( إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ )   (39) التوبة ) 

9 / 2 : فرّوا هاربين وقت الحرب : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) الأنفال )

10 ـ علاج الخوف في قلوبهم بأن 

10 / 1 : الموت حتمى لا مهرب منه ، وسبق إيراد قوله جل وعلا ردّا على من قال بتأجيل فرض القتال : ( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ  ) (78) النساء ) . وهو نفس ما قال جل وعلا للمنافقين الهاربين من الدفاع عن المدينة في موقعة الأحزاب : ( قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16)   الأحزاب )

10 / 2 : تقوى الله جل وعلا تنجيهم من الخوف ، لأن الذى يخاف الله جل وعلا وحده لا يمكن أن يخاف من مخلوق ، أما الكافرون فإن وليهم الشيطان يخوفهم ، قال جل وعلا : ( إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)  آل عمران   . 

خامسا : التدخل الالهى ببثّ الرعب في قلوب المعتدين 

حدث هذا في :

1 ـ موقعة بدر التي تحتمت فيها المواجهة مع جيش قريش لتبديد الخوف منهم . فنزلت الملائكة تثبت قلوب المؤمنين ( الأنفال : 9 : 12 ، 17 ) ( آل عمران 124 : 126 )

2 ـ موقعة الأحزاب ، إذ سلّط الله جل وعلا عليهم الرياح وملائكة غير مرئية جعلتهم ينسحبون لم ينالوا خيرا ، وكفى الله جل وعلا المؤمنين القتال ( الأحزاب 9 ، 25) 

3 ـ في حرب أهل الكتاب الذين نقضوا العهد وتحالفوا مع الأحزاب ، فذهب النبى والمؤمنون لقتالهم ، وقد تحصنوا بحصونهم عند القتال فألقى الله جل وعلا في قلوبهم الرُّعب : ( الأحزاب : 26 : 27 )

4 ـ في حرب تالية مع أهل كتاب معتدين ، استقووا بحصونهم المنيعة وفى قرى محصّنة وتحيط بها الأسوار . ألقى الله جل وعلا في قلوبهم الرعب فبادروا الى الهرب قبل القتال ، وخرّبوا بيوتهم وتركوها ، لذا فإن الله جل وعلا هو الذى أخرجهم جزاء عدوانهم ( الحشر : 2 ، 14 )

 5 ـ في موقعة ( حنين ) هرب معظمهم فأنزل الله جل وعلا ملائكة تثبّت قلب النبى محمد والمخلصين من أصحابه . والنصر هنا منه جل وعلا القائل : (  لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)  التوبة ). 

سادسا : مواقف عملية ومتباينة 

  الوعد الالهى : 

1 ـ في أول إستقرارهم بالمدينة ومعاناتهم من الهجوم المتكرر نزل وعد الله جل وعلا للمؤمنين  المخلصين بالاستخلاف في الأرض وانتهاء عهد الخوف . قال جل وعلا : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55) النور ) 

2 ـ  وتحقق هذا بعد النصر في موقعة بدر . قال جل وعلا يذكّرهم بخوفهم السابق :  ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)  الانفال )

3 ـ في موقعة بدر نفسها وعدهم الله جل وعلا بالقافلة أو النصر ، وكانوا يتمنون القافلة ويخشون الدخول في تجربة القتال، قال جل وعلا : ( وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) الانفال ) 

العهد مع الله جل وعلا 

حين زحف جيش الأحزاب أخذ الله جل وعلا عهدا ووعدا بالنصر . وتباينت المواقف : 

1 ـ فالمنافقون وضعاف الايمان هربوا وسخروا من وعد الله جل وعلا وتناسوا عهدهم مع الله جل وعلا : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً (13) الأحزاب ) ( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً (15) الأحزاب )

2 ـ المؤمنون الحقيقيون صمدوا مع النبى مصدقين وعد الله جل وعلا وملتزمين بعهدهم مع الله جل وعلا . ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22) مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) الأحزاب )

في الموقف عند المواجهة الحربية

1 ـ في موقعة بدر همّت طائفتان من المؤمنين بالفشل ( آل عمران 122 ) وجادلوا النبى محمدا كراهية في القتال ، ثم إذا تحتم عليهم القتال واصبح لا مفرّ منه كانوا كأنما يُساقون الى الموت وهم ينظرون ( الأنفال 5 : 6 )

2 ـ في موقعة الأحزاب ومفاجأة الحصار يكفى وصف الله جل وعلا لحالهم : ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) الأحزاب )  

أخيرا : إنتهاء الاستضعاف 

1 ـ كانوا قبل إختبار موقعة بدر ( أذلّة ) بالوصف القرآنى ، وتغيّر الوضع بعدها فاكتسبوا ثقة في النفس ، واصبح مطلوبا منهم تقوى وشكره جل وعلا . قال جل وعلا ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) آل عمران ) . 

2 ـ جاءت مرحلة القوة ، وساعدت على نشر الإسلام السلوكى بمعنى السلام ، والذى يتعزّز بالحرية الدينية ، فدخلوا فيه أفواجا . قال جل وعلا : (  إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2)  النصر).



خاتمة كتاب ( ضعف البشر في رؤية قرآنية )

1 ـ لا شأن للإنسان بالحتميات الخاصة بجسده ، فهى تجرى فيه برغم أنفه ، من ضعف الطفولة الى قوة الشباب ثم ضعف المشيب والشيخوخة . الشأن في نفسه حين يبلغ الرشد ويصل الى مرحلة البلوغ ، ويكون قادرا على توجيه حياته . قد يتعرض فى مسيرة حياته الى تقلبات واختيارات ، وفيها هو يتمتع بحرية إتخاذه القرارات التي تؤثر في حياته وربما في حياة غيره .

2 ـ  فيما يخصُّ موضوعنا ، هل يرضى أن يكون مستضعفا ؟ هل يرضى بالخنوع والخضوع والتواكل ، وأن تحمله أمواج الحياة وفق ما يسيّرها أكابر المجرمين ؟ أم يعلو برأسه رافضا مغيرا ما بنفسه من خضوع واستعداد للذُّل الى كرامة وشجاعة وعزّة واستعداد للتضحية . سواء إختار الذّل أو العزّة فهو في النهاية سيقابل الحتميات المكتوبة سلفا من الرزق والمصائب ، ثم سيموت في موعده وفى المكان المحدد له سلفا أن تنتهى حياته فيه بالموت العادي أم بالقتل . لكن يظل الفارق واضحا بين من عاش كريما حُرا ومن عاش مستضعفا برغبته واختياره . 

3 ـ أكابر المجرمين في حقيقة الأمر ليسوا أقوياء . هم فقط يستمدون قوتهم من ضعف الآخرين وقبولهم مقدما للركوع والانحناء . أكابر المجرمين شاءوا أن يركبوا من تطامن لهم وركع وسجد أمامهم . قرارهم بالركوب يحتاج جهدا وتصميما ومكرا وتآمرا ، وفعلوا هذا . الخطر عليهم لم يأت من المستضعفين ، بل من أقرانهم أكابر المجرمين المتنافسين على ركوب المستضعفين . المستضعفون هم فقط أرضية الصراع وساحة الملعب . وفى حلبة هذا الصراع يفقد ملايين المستضعفين حياتهم وأرزاقهم لصالح المنتصر في الصراع . ويركب المنتصر ظهور المستضعفين ويصفقون له ويهللون . 

4 ـ أكابر المجرمين ينجحون في تجنيد ملايين المستضعفين ليكونوا لهم جُندا . يعطونهم الفُتات مقابل أن يضربوا بهم خصومهم ، وأن يقهروا بهم إخوانهم المستضعفين الآخرين . وعند النصر فهو منسوب لأكابر المجرمين ، أما جنوده المساكين ـ من لقى حتفه ومن ينتظر ـ فلا تقدير لهم ولا اهتمام بهم . 

5 ـ أكابر المجرمين في خداع المستضعفين يستخدمون شعارات مختلفة ؛ وطنية وقومية . أو يرفعون لواء العدل ومعاناة الفقراء والعُمّال . وعندما يصلون فوق جُثث الضحايا لا يتغير حال المستضعفين ، كل ما هنالك أن راكبا جديدا ركب ظهورهم بعد سقوط راكب قبله . وتتكرر المسيرة ، مسيرة الظلم والاستبداد ، وتتجذّر معها عبر القرون والأجيال ثقافة العبيد في ذهنية المستضعفين ، يعتبرون الذل والهوان دينا وطريق حياة . يعزّز هذا أكابر المجرمين من الكهنة ورجال الدين ، الذين يفتعلون ضوضاء حول التوافه من الأمور لشغل الناس عن حقوقهم ، ويمتنعون تماما عن التعرض لموضوعات العدل ورفض الظلم وضرورة قول الحق في وجه سلطان جائر . تتواتر أخبار التعذيب والقهر والسجن والسرقة وظلم الأبرياء ، وهم يناصرون الظالم ويحرّضونه على الأحرار ، ويحثونه على سجنهم بتهمة الخروج على ( ولى الأمر ) أو ( الخروج على ثوابت الدين ) أو ( إنكار المعلوم من الدين بالضرورة ) أو ( ازدراء الدين )  ..الخ . والفرعون لا يتوانى عن قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ، ويكون من رحمته ألّا يقتلهم مكتفيا بسجنهم وتعذيبهم . 

6 ـ إن الله جل وعلا لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم . إذا قاموا بتغيير ما بأنفسهم من ثقافة العبيد واستبدلوها بثقافة الحرية والعزة والكرامة رفضا للظلم فان إرادة الرحمن بالتغيير تأتى تالية لما اختاروه ومؤيدة له. ولهذا فان رب العزة يعترف بالفرعون الذى خضع له المستضعفون ، طالما خنع له المستضعفون . 

والدول الكبرى في علاقاتها وإدارة مصالحها لا شأن لها بالمستضعفين في كوكب المحمديين ، مصالحها مع الفرعون المتحكم فيهم . قد تدمع عيونها قليلا حُزنا على الأحرار في سجون الفرعون ، ولكن أولئك الأحرار في السجون وخارجه لا حول لهم ولا قوة ولا مكانة لهم بين الأغلبية من المستضعفين ، لأن الفرعون قد قام بتشويه أولئك الأحرار واغتيالهم معنويا .  بل إن المستبد يلعب في ذهنية المستضعفين يوهمهم بأن الغرب يتآمر على دينهم وعلى وطنهم . والمستضعفون في جهالتهم يصدقون ويصفقون ، هم لا يعلمون أن الفرعون يستقوى بالغرب عليهم ، وبينما يصول ويجول فوق أجسادهم يزأر ويزمجر يكون كلبا أليفا يتمسح بالغرب ويركع له حرصا على بقائه في السُّلطة وبقاء ما نهبه وقام بتهريبه وأودعه في بنوك الغرب وتحت سلطانه . 

7 ـ هناك نوعان من العبيد : نوع تم استعباده بالسبى والخطف وتم بيعه ليكون عبدا لسيد يملكه . وهناك شخص حُرُّ ارتضى أن يكون عبدا . هذا الذى ارتضى بمشيئته ( الحُرّة ) ان يكون عبدا مستضعفا هو شرُّ أنواع العبيد . العبيد من النوع قد يهربون و ( يأبقون ) ، أما العبيد من النوع الثانى الذين ارتضوا العبودية والاستضعاف فهم بها قانعون . وبعضهم يضع حذاء الفرعون أو ( بيادة العسكر ) فوق راسه .  

8 ـ كان هناك (عبيد ) من الأفارقة في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر . نشط البعض في تهريب العبيد من الولايات الجنوبية الى الشمال . وكان من بينهم سيدة من الأفارقة الأمريكيين . لاقت مصاعب جمّة في تهريب أبناء جلدتها . سألوها عن أشد الصعوبات التي لاقتها فقالت : إقناع العبد إنه ليس عبدا . ومع ذلك نجحت في ( إقناع ) كثيرين بأنهم ليسوا عبيدا . نحن حتى الآن لم نستطع إقناع المستضعفين بأنهم ليسوا عبيدا..!

9 ـ لا بدّ من تغيير ذهنية ملايين المستضعفين لتتحول من ثقافة العبودية الى قوة تقف ضد أكابر المجرمين تدافع عن حقوقها . وهذا لا يكون إلا بالتوعية . وأهم التوعية ما يكون بالهدم والبناء . بناء ثقافة حرة من القرآن الكريم ، وهدم لثقافة الاستبداد والاستعباد من أصولها التراثية في أديانها الأرضية . 

10 ـ وهذا ما نقوم به نحن ( أهل القرآن ) .

11 ـ والله جل وعلا هو المستعان .

ضعف البشر في رؤية قرآنية
هذا الكتاب خلاصة لتجربة حياة ، استخلصت منها كيف يهزم الضعيف عوامل الاستضعاف والإحباط واليأس ، وأن يواجه ظروفه الاجتماعية التي جعلته ضعيفا بعزيمة قوية ، ثم لا يكتفى بذلك بل يواجه ضعف المجتمع والناس ويواجه أكابر المجرمين من المستبدين وشيوخ الأزهر ورجال الدين .
more




مقالات من الارشيف
more