مقدمة كتاب ( ضعف البشر في رؤية قرآنية )
مقدمة كتاب ( ضعف البشر في رؤية قرآنية )
1 ـ هذا الكتاب خلاصة لتجربة حياة ، استخلصت منها كيف يهزم الضعيف عوامل الاستضعاف والإحباط واليأس ، وأن يواجه ظروفه الاجتماعية التي جعلته ضعيفا بعزيمة قوية ، ثم لا يكتفى بذلك بل يواجه ضعف المجتمع والناس ويواجه أكابر المجرمين من المستبدين وشيوخ الأزهر ورجال الدين . هو فرد واحد ، وهم يملكون أدوات البطش والتنكيل ولا يدخرون وسعا في استعمالها ضده ، وقد استخدموها فعلا ضده ، وضد من انضم اليه ثم ضد عائلته وأسرتها . ولكن النتيجة إن هذا الفرد الوحيد ـ الذى يحسبه الجميع ضعيفا ـ تأكّد انه أقوى منهم جميعا مع ما يملكون من قوات مسلحة وقوات أمنية وقوات إعلامية وسيطرة على المجتمع والناس .
2 ـ أي فرد يولد في بيئة تحدى قد يرضى بظروفه ويستسلم لها فيكون مستضعفا ذليلا ، لأنه هكذا وجد نفسه . لم يحدث هذا لكاتب هذه السطور . وجد نفسه يتيما ، فقد مات أبوه الفقير الورع معلّم القرآن ، والذى كان ضعيفا ، إذ رضى أن يسلبه شقيقه الأكبر حقه في الميراث ، فلم يعترض ، وعاش حياة يعانى فيها المرض حتى مات في الخامسة والأربعين من عمره ، تاركا خمسة من الأطفال أيتاما ، كنت أكبرهم . ولكنه في حياته القصيرة معى علمنى القرآن الكريم ، فحفظته طفلا ، وكان يحكى من التاريخ ، فأصبحت مُحبا للقرآن والتاريخ . ربما كان يعتذر عن ضعفه بأن يجعلنى أقوى منه ، فتعلمت منه الحرص على الصلاة في موعدها . ثم حين قبلت تحدى الظروف كانت عُدّتى هي الصلاة ، أستمد بها قوة تسند ضعفى وتشدُّ أزرى ، فالله جل وعلا هو القوى العزيز ، وله جل وعلا العزّة ورسوله والمؤمنين ، أي لا بد أن أكون مؤمنا متقيا محسنا معتصما بالقرآن الكريم لأكون عزيزا .
2 ـ في فترة المراهقة جعلت لنفسى حكمة مأثورة هي : ( أن لا أحد أحسن منى ، ولكنى لست أحسن من أحد )، كانت تمثل تحديا لظروف الفقر والعوز التي عايشتها وقتها . ثم أهملت هذه الحكمة حين عايشت التفوق العلمى في داخلى ، وتفتّحت عندى مواهب الكتابة التاريخية والأدبية والتدبر القرآنى مبكرا ، فأصبحت الحكمة ( إننى أحسن من خصومى طالما كنت قادرا على إثبات هذا ). ولم أجد حرجا أن أعمل الى جانب دراستى في الثانوى الأزهرى ، وفى الجامعة ، ولأثبت أنى فعلا أحسن من الأخرين تفوقت ، مع انى لم أكن متفرغا للدراسة .
4 ـ كنت أذهب للكلية مرات قليلة في الدراسة أشترى بها الكتب ، وأقبض فيها مكافأة التفوق . ولم يكن يعرفنى أحد سوى ( الصرّاف ) الذى أقبض منه المكافأة وبعض الزملاء ، الذين يحجزون لى الكتب حتى آتى وأشتريها . في صيف عام 1973 تخرّجت في قسم التاريخ الإسلامى بكلية اللغة العربية ، وقد نجحت بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف ، وبعدى عدة من الزملاء كانوا أقل كثيرا في الدرجات وبتقدير جيد جدا فقط . أي كان التعيين لوظيفة معيد محسومة لى . جئت لصرّاف الكلية لقبض آخر دفعة من مكافأة التفوق فأخبرنى أن الأستاذ فلان له إبن زميل لنا في نفس الدفعة وحصل على تقدير جيد جدا ، وهو يضغط لتعيينه معيدا ، مع إن درجاته هي الأقل في الحاصلين على ( جيد جدا ). الدافع الأكبر لهذا الأستاذ ليس وظيفة ( معيد ) ولكن لكى لا يدخل ابنه الجيش مجندا ، ووقتها كانت حرب أكتوبر. غلا الدم في عروقى وصممت على أن أبطش بعميد الكلية لو تبين أنه وافق على هذا الظلم . دخلت عليه مكتبه وسألته عن الموضوع وقد تجهزت للبطش به ، فقال إنه رفض هذا الظلم ، وأن قائمة تعيين المعيد في الكلية ستصدر وفيها إسمى . ولا زلت أحتفظ بنسخة منها حتى اليوم تخليدا لهذا الموقف الذى انتصرت فيه على عوامل الضعف في نفسى ، وقررت مواجهة ما اشعر أنه ظلم .
5 ـ في عملى معيدا ثم مدرسا مساعدا كنت أتعجب من جهل الأساتذة وإصرارهم أن يكون تلامذتهم في الدراسات العليا أشد جهلا منهم . في اختيار بحث التخصص ( الماجيستير ) أردت أن أكتب في ( وحدة الدين المصرى في كل العصور من الفراعنة الى ما بعد الفتح ) ، وفزع الشيوخ . أجّلت هذا الموضوع ، ولكن جعلته فيما بعد كتابا قررته على الطلبة عام 1984 بعنوان ( شخصية مصر بعد الفتح الاسلامى ) ، وهو منشور هنا مقالات . لأن مدى علم الأستاذة في قسم التاريخ لا يتجاوز العصر الأموى والقليل من العصر العباسى فقد عملت بنصيحة بعضهم وإخترت موضوعا في العصر الأموى هو عن (تأثير العصبية القبلية في الدولة الأموية ) والذى يعنى تفسيرا لهذه الدولة من خلال تنافس وصراع القبائل العربية التي تعمل جنودا وقادة للأمويين ، وكان منهم أيضا الثائرون على الأمويين من الخوارج وغيرهم . استلزم الأمر معرفة أنساب القبائل وأنساب قادتها . إستغرب الشيوخ الموضوع ، ثم رضوا به أخيرا . وحصلت على الماجيستير بدرجة جيد جدا عام 1957 .
في إختيار بحث الدكتوراة صممت على موضوع ( اثر التصوف في العصر المملوكى ) وانتزعت منهم الموافقة عليه . بعد عام ونصف ( أكتوبر 1977 ) قدمت الرسالة للمشرف عليها للمناقشة ، قرأ الصفحات الأولى فهاج وماج معترضا على ما قرأ . طلبت منه أن يصحح وأن يتوثق من الاستشهادات والمصادر فعجز . ولكى يستر جهله أذاع بعض ما جاء في البحث فنجح في تأليب الشوخ ضدى ، وفى مقدمتهم وقتها شيخ الأزهر ( عبد الحليم محمود ) اشهر صوفى وأكثر شيوخ الأزهر سطوة وجاها في القرن العشرين . ودخلت أول معركة داخل جامعة الأزهر ، استمرت ثلاث سنوات ، ووصلنا الى حل وسط هو حذف ثلثى الرسالة ، ومناقشة ثلثها فقط . وحصلت على درجة ( العالمية / الدكتوراة ) في أكتوبر 1980 .
6 ـ بعدها تجدّد الصراع داخل الجامعة والأزهر كله ، وكنت الذى يبدا بالتحرّش بالشيوخ وأستفزّ جهلهم ، الى أن تركت الجامعة مستقيلا عام 1987 ، وأدخلونى السجن في نفس العام بعد حملة صحفية تدخل فيما يعرف بالاغتيال المعنوى الذى يدعو الآخرين الى قتلى . ذكرت هذا كثيرا من قبل . ولكن موضعه هنا في هذا الكتاب عن ( ضعف البشر ) . كيف يستطيع فرد واحد نشأ يتيما فقيرا أن يواجه ضعفه الداخلى أولا ثم يواجه أكابر المجرمين وحده .
7 ـ ليس في الأمر بطولة شخصية تستعصى على أي فرد . هي مجرد إرادة وعزم وتصميم ، يؤكدها الايمان بالله جل وعلا وحده إلاها ، هو الذى قدّر الحتميات من الميلاد والموت والرزق والمصائب . الموت بالذات كان هو العامل الأكبر . علّمت نفسى مبكرا أن أتمنى الموت وأن أستعد له وألا أخاف منه ، لماذا ؟ لأننى أواظب على الصلاة وأحاول ما استطعت أن أعمل الخير وأن لا أظلم أحدا ، سعيا لرضى الله جل وعلا . وفى النهاية سأموت في موعدى ، وطالما أرجو لقاء الله جل وعلا وطالما أنه جل وعلا وعد المجاهدين فى سبيله بالمغفرة والجنة فإن الموت بالنسبة لى خلاص من هذا الزمن الردىء ، ورفع للغبن والظلم الذى عانيته وعايشته ، فيوم القيامة هو يوم ( التغابن ) ، الذى يكون فيه الانتصاف للمظلوم وعقاب الظالم .
8 ـ ليست بينى وبين خصومى علاقات شخصية ولا مشاكل عائلية أو صراعات مالية ، بل أكاد لا أعرف الأغلبية الساحقة منهم . هو صراع ( موضوعي ) بين خصمين في الدين . نحن وهم خصوم ( في ربنا ) . نؤمن نحن بأنه ( لا إله إلا الله ) شهادة واحدة ، وهم يؤمنون بألهة شتى . نؤمن نحن بحديث واحد هو حديثه جل وعلا في القرآن الكريم وهم يؤمنون بأحاديث شيطانية ما أنزل الله جل وعلا بها من سُلطان . نؤمن نحن بالله جل وعلا وحده وليا مقصودا بالعبادة والتقدس ، وهم يؤمنون بتقديس البشر والحجر . نؤمن نحن بأن الإسلام دين الله جل وعلا مؤسّس على القيم العليا : السلام والرحمة والعدل والحرية المطلقة في الدين والإحسان ، وهم لهم أديانهم الدموية الظالمة التي تظلم رب الناس قبل أن تظلم الناس . نحن في ( الدين ) خصمان ، وسيحكم بيننا ( يوم الدين ) ( مالك يوم الدين ). لهذا أحبُ الموت .
7 ـ ولهذا كتبت ــ عن ضعف البشر ــ هذا الكتاب .. لعلّ وعسى ..!!
اجمالي القراءات
2892