رقم ( 4 ) : القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون
البــــاب الثانــــــي في أساس علم العمران وبدايته في العمران البدوي

عرض مقدمة ابن خلدون:الباب الثانى:(ف 1 : 13) : البدو والحضر والعصبية

 

كتاب ( مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية )

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

مقالات متعلقة :

                                     البــــاب الثانــــــي  في أساس علم العمران وبدايته في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل                                     الفصل الأول :  

في أن أجيال البدو والحضر طبيعية

النشاط الاقتصادي أساس الإختلاف بين الريف والحضر

     إختلاف الأجيال باختلاف طريقتهم في كسب المعاش ، لأن إجتماعهم يكون للتعاون على كسب المعاش الضروري قبل الكماليات ، ومنهم من يحترف الزراعة ، ومنهم من يحترف الرعى. والمزارعون والرعاة يحتاجون إلى البداوة والصحراء .

تحول القرية إلى مدينة وتحول الريف إلى حضر

     ثم إذا إزدهرت أحوال المزارعين والرعاة آثروا الدعة ومالوا إلى إدخار الزائد عن الحاجة وتوسعوا في البيوت وأقاموا المدن والحواضر . ثم إذا ازداد الترف بالغوا في التأنق في الطعام واللباس والمساكن والآلات التي تساعد على راحتهم في بيوتهم . وهؤلاء هم الحضر وتلك هي الحضارة ، وتعني ( الحاضرون من أهل البلاد والأمصار) ، وهنا تظهر حرفتا الصناعة والتجارة . وتكون مكاسبهما أكثر من مكاسب أهل الصحراء . وهكذا فأجيال البدو والحضر طبيعية ، والبدو مقصود بهم أيضا أهل القرى بالإضافة إلى أهل الصحراء ، حيث تشابه الفريقان في شمال أفريقيا في عهده ( أي إبن خلدون ).

                                             الفصل الثانــي

                                 في أن جيل العرب في الخلقة طبيعي

البدو والريف لا يحتاجون إلى الكماليات

     البدو يعيشون على المعاش الطبيعي  من الزراعة والرعي والضروري من الأقوات والملابس والمساكن دون إهتمام بالكماليات ، والمزارعون يقيمون في القرى  والجبال وهم عامة البربر والأعاجم .

نوعية الحيوان تحدد درجة التحضر لدى الرعاة ومدى تنقلهم

      والرعاة ينتقلون حسب الكلأ والمياه ، وإذا كانوا رعاة أغنام وبقر فلا ينتقلون كثيرا ، مثل البربر والترك والتركمان والصقالبة ، أما رعاة الإبل فهم أكثر وأبعد في التنقل ، فالإبل أصعب  الحيوانات ، فاضطر رعاتها إلى الإبتعاد بها ، فكانوا أشد الناس توحشا ، وذلك ينطبق على العرب ( الأعراب ) وقبائل زناته بالمغرب ، والأكراد والتركمان والترك بالمشرق . إلا أن العرب أكثر توغلا في الصحراء وأشد بأسا وذلك لأنهم تخصصوا في الإبل فقط ، وغيرهم يرعى الشاة والبقر مع الإبل . وهكذا فجيل العرب طبيعي ، لا بد منه في العمران .

                                             الفصل الثالث

                         البدو أقدم من الحضر ، والبادية أصل العمران

الأساس هو الحاجات الضرورية لدى البدو

    البدو يقتصرون على الحاجات الضرورية ، وأهل الحضر يعيشون على الترف والكماليات ، والضروريات أقدم من الكماليات ، فالضروريات أصل والكماليات فرع . فالبدو أصل المدن والحضر ، لأن الضروري أول مطالب الإنسان ، فإذا حصل عليه طلب الكماليات ، والبدو يهاجر إلى الحضر فإذا وصل إليه عاش في دعة ، أما الحضري فلا يذهب للصحراء إلا للضرورة . والدليل أن أول من يسكن مدينة ناشئة  هم البدو الأغنياء . وتتفاوت الأحوال داخل البدو وداخل الحضر ، فهناك قبيلة أعظم من قبيلة ومدينة أروع من مدينة .

                                           الفصل الرابع

                               البدو أقرب للخير من أهل الحضر

مقارنة بين البدو وأهل الحضر

     النفس إذا كانت على سجيتها تكون سريعة التأثر بالخير أو الشر ، واستدل  بحديث " كل مولود يولد على الفطرة ". وإذا تأثر بالشر أو بالخير فإنه يلتزم بأحدهما ويبتعد عن الآخر . أما أهل الحضر فقد تلونت نفوسهم بالملذات والترف فانهمكوا في الترف وتظاهروا بالفواحش. وأهل البداوة لا يعرفون الشهوات إلا في الضروري ، لذا كانوا أقل وقوعا في الشر من أهل الحضر ، وكانوا أسهل في علاجهم من أهل الحضر . ولأن الحضارة هي نهاية العمران وغاية الشر فالبدو أقرب للخير من أهل الحضر .

رأي إبن خلدون في أن الحياة في الصحراء ليست ارتدادا للخلف

     ورد إبن خلدون  على حديث  البخاري الذي يذكر أن النبي أذن لسلمة بن الأكوع في سكن البادية ، بأن ذلك خاص بسلمة ، وقد ورد في ذلك الحديث أن الحجاج بن يوسف إعترض على سلمة حياته في البادية وقال له : إرتددت على عقبيك .. ورأى إبن خلدون أن قول الحجاج إنما كان احتجاجا على سلمة أنه ترك السكنى في المدينة  فقط  ، وأن مشروعية الهجرة كانت لمناصرة النبي وليست لذم البدو .

                                                   الفصل الخامس

                                  البدو أقرب للشجاعة من أهل الحضر

    لأن أهل الحضر تعودوا الراحة والترف حيث يدافع عنهم الحاكم وجيشه ، فأصبحوا كالنساء والأطفال في اعتمادهم على الوالدين . أما البدو فقد توحشوا في القفار واحتاجوا للدفاع عن أنفسهم بأنفسهم فهم يحملون السلاح ويتوقعون الشر فصارت لهم الشجاعة خلقا . وأهل الحضر إذا صاحبوا البدو أصبحوا محتاجين لحمايتهم .

                                                الفصل السادس

 معاناة أهل الحضر للأحكام ( أي التحكم ) مفسدة للبأس فيهم ، ذاهبة بالمنعة  ( أي العزة ) فيهم

كلما إزداد قهر الحاكم لأهل الحضر إزدادت ذلة الرعية  

       لأن أهل الحضر خاضعون للحاكم وأعوانه ، فإذا كان الحاكم عادلا مترفقا أصبح الإعتزاز بالنفس طبيعة لهم . أما إن كان الحاكم قاسيا فإن ذلك يجعلهم مقهورين . وشدة عقاب الحاكم تجعلهم أذلاء ، أما إذا اقتصر على التأديب والتهذيب وبالتدريج تربوا على الخوف والإنقياد بدون الإذلال .

هذا لا ينطبق على البدو أو الصحابة وينطبق على الطلبة الذين يتعرضون للضرب

     ولهذا  فالبدو أشد بأسا من الخاضعين للحكم في المدن الذين يرتضون الظلم ولا يقاومونه ، وتجد ذلك في طلبة العلم الخاضعين لشيوخهم ، ولا ينطبق ذلك على الصحابة حيث لم يكن تعليمهم صناعيا وإنما كان بتأثرهم بتعاليم الدين في الترغيب والترهيب . فظلوا متنعمين بالبأس والشجاعة ، وقد قال عمر : من لم يؤدبه الشرع فلا أدبه الله ، أي لا يخشى المؤمن غير الله .

       ثم صار الشرع علما وصناعة مع تكوين المدن والأمصار فانتهت الشجاعة بتحكم السلاطين وتربية علماء الدين ، وأصبح الضرب وسيلة للتعليم والتأديب ، وقد نجا من ذلك البدو بينما عانى منه أهل الحضر ، ولذلك قال محمد بن يزيد أنه لا ينبغي للمؤدب أن يضرب الصبي أكثر من ثلاثة أسواط .

                                               الفصل السابع

                       في أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية

الحاكم في الحضر يمنع إعتداء الناس على بعضهم أو إعتداء الغير عليهم ، وشيخ القبيلة يفعل نفس الشئ معتمدا على عصبيته القبلية

     النفس البشرية مجبولة على الشر والخير معا ، والشر أقرب إليها من الخير إذا  لم يتمسك الإنسان بالدين ، والأكثرية تقع في الشر والعدوان . إلا أن أهل الحضر يمنعهم من الاعتداء والظلم على بعضهم البعض سطوة الحكم ، إلا إذا جاء الظلم من جانب الحاكم نفسه . وأما البدو فإن شيوخهم يمنعون عدوان بعضهم على بعض ، وفي الحضر يقوم الحاكم بحماية المجتمع من الخطر الخارجي ، وفي البدو يعتمدون على أنفسهم في صد الخطر عن القبيلة .

العصبية أساس حماية القبيلة وتماسكها ، لذا لا يسكن الصحراء إلا أصحاب النسب الواحد

    ومن هنا تتجلى أهمية العصبية والقرابة في الدفاع عن القبيلة لأنهم أهل نسب واحد فيتراحمون فيما بينهم ويتناصرون على عدوهم ، ولا يوجد ذلك لدى أصحاب الأنساب المختلفة ، ولذلك لا يسكن الصحراء إلا أصحاب النسب الواحد لأنهم أسرع في حماية بعضهم .

والعصبية أساس في سكنى القبيلة في الصحراء وفي حماية الدعوة الدينية أو السياسية

    وإذا كان ذلك مطلوبا في السكنى فإنه أيضا يحتاج إليه في كل أمر يتم فرضه على الناس من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة . إذ يتحتم هنا القتال لما في طبائع البشر من العناد ، ولا بد في القتال من وجود العصبية القائمة على القرابة والنسب .

                                                  الفصل الثامن

                          العصبية تكون من الإلتحام بالنسب أو ما في معناه

      صلة الرحم طبيعية في البشر ، وتجعل الإنسان يدافع عن أهله وقبيلته ، خصوصا إذا كان النسب قريبا ، والحلف والولاء قريب من النسب ، واستشهد إبن خلدون بحديث  " الولاء مثل لحمة النسب " ، وحديث : " تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم " ، وإذا كان النسب بعيدا تعرض للنسيان ولم يعد مؤثرا في التناصر .

                                                  الفصل التاسع

      النسب الصريح يوجد لدى العرب المتوحشين  في قفار الصحراء وأمثالهم من الناس

الســــبب

     لأنهم يعيشون في شظف ومشقة مع الإبل ، وينتقلون معها في بطون الصحراء بعيدا عن العمران ، فتباعد ما بينهم وبين غيرهم ، لذلك لا يختلطون بغيرهم وتظل أنسابهم نقية ومحفوظة وصريحة ، وكان ذلك في قبائل قريش وكنانة وثقيف وأسد وهذيل وخزاعة الذين إبتعدوا عن ريف العراق والشام .

     أما عرب التلال والوديان الخصبة من حمير وكهلان مثل قبائل لخم وجذام وغسان وطئ وقضاعة وأياد فاختلطت أنسابهم وتداخلت ، ولذا قال عمر : تعلموا النسب ولاتكونوا كنبط السواد إذا سئل أحدهم عن أصله قال من قرية كذا.

     وحدث الإنتماء إلى الموطن بعد الفتوحات فكان يقال جند قنسرين ، جند دمشق ، وانتقل ذلك إلى الأندلس ، ولا يعني ذلك أن العرب تركوا النسب ، ولكنهم صارت لهم علامة أخرى مميزة بالمكان إلى جانب النسب .

     ثم اختلط العرب بالعجم وضاعت الأنساب وتراخت العصبية وتلاشت القبائل

                                                    الفصل العاشر

                                              كيف يقع اختلاط الأنساب

     يقع الإختلاط في الأنساب عندما يتداخل نسب فرع من قبيلة داخل فرع آخر ، أو عن طريق الحلف بين قبيلة وأخرى . وتختلط الأنساب بسبب المجاورة والمخالطة أو يفر أحدهم إلى قبيلة فلا يلبث أن يحمل أبناؤه نسبها . وفي كل الأحوال ينسى الناس النسب الأول بطول الزمان ويذهب أهل العلم به فيخفى على الأكثر ، ومازالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم قوم بآخرين في الجاهلية والإسلام والعرب والعجم ، وانظر إختلاف الناس في نسب آل المنذر ، وانتساب عرفجة بن هرثمة إلى بجيلة وليس منهم . وقد رفضوا أن يوليه عمر عليهم وقالوا إنه لزيق .

                                             الفصل الحادي عشر

                الرياسة تنحصر في نصابها أو نسبها المخصوص من أهل العصبية

    في داخل كل حي أو بطن أو قبيلة توجد أنساب خاصة أشد تماسكا من النسب العام المشترك للقبيلة أو البطن أو الحي . مثل أهل البيت الواحد أو أبناء الأب الواحد . والرياسة تكون في نصاب واحد منهم ، ولأن الرياسة تكون بالقوة والتغلب وجب أن تكون عصبية هذا النسب الخاص أقوي من غيرها ، وتنتقل الرياسة داخل هذا العنصر الأقوى من هذا النسب الخاص وفروعه .

                                               الفصل الثاني عشر

                            الرياسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم

العصبيات تكون رئاستها داخل الفرع الأقوى الأصيل فيها

     الرياسة بالتغلب والقوة ، وهذا لا يكون إلا بالعصبية ، وفي داخل القبيلة الواحدة،  لا يمكن أن تدين العصبيات الأخرى لفروع القبيلة إلا لعصبية فرع أقوى تكون أصرح نسبا ، وهذا لا يتم لمن يلتصق بالقبيلة ، خصوصا وأن الرياسة تنتقل في بيت واحد يتوارثها الأبناء عن الأجداد.

إدعاء البعض الإنتساب لنسب شهير

    وكثير من الرؤساء للقبائل يصلون أنسابهم بالإدعاء إلى بعض القبائل والشعوب طلبا للشهرة ، وهم بذلك يطعنون في أنسابهم وفي رئاستهم ، من ذلك ما يدعيه أهل زناته أنهم من العرب ،وإدعاء أولاد رباب من زغبة أنهم من بني سليم ، وإدعاء بني عبدالقوي بن العباس بن توجين أنهم من ولد العباس بن عبدالمطلب ، وإدعاء أبناء زيان ملوك تلمسان أنهم من ولد القاسم بن إدريس الهاشمي , وقد أنكر يغمراسن  بن زيان هذا النسب ، وقال بلغته الزناتية أنه نال الدنيا والملك بسيفه وليس بهذا النسب ، وإدعاء بني سعد بن يزيد من زغبة أنهم من ولد أبي بكر الصديق ، وإدعاء شيوخ رباح أنهم من نسل البرامكة ، وأمثال ذلك كثير .

                                           الفصل الثالث عشر

    البيت والشرف والأصل في الحقيقة لأهل العصبية ، ويكون لغيرهم بالمجاز وليس بالحقيقة

الحسب في النسب والعصبية معا ، وفي مجتمع البدو

    البيت يعني أن يكون الرجل في نسبه من أشراف مذكورين ، ويحمل هذا الشرف  بانتسابه لهذا البيت وأولئك الآباء . والناس في نشأتهم وتناسلهم معادن ، والحسب راجع إلى هذا النسب إذا كان شريفا .

      وفائدة الأنساب في العصبية والمناصرة وحماية أهل النسب الواحد ، وهنا تزداد الفائدة بكثرة الأشراف في النسب ، وتزداد بذلك العصبية والمناصرة . وتقل العصبية بتفاوت البيوت في الشرف . والمفتقرون للنسب في الأمصار لا يكون لهم بيت إلا على المجاز ، وأن ادعوا ذلك فهو من قبيل الزخرف والمباهاة.       

الحسب والعصبية لا يجتمعان في الحضر

    والحسب في أهل الحضر أن يكون رب البيت قدوة في الأخلاق الحسنة وفي التعامل مع الناس ، مع إيثار السلامة ما استطاع . وهنا يختلف الأمر مع التعصب للقبيلة أو النسب ، إلا أنه يطلق مفهوم الحسب في أهل الحضر على المجاز وليس حسبا على الحقيقة حتى لو صح ذلك لغويا .

     وقد يكون للبيت شرف بالعصبية والأخلاق الحسنة ، ثم ينسلخون عنه بالإستقرار في الحضر والإختلاط بالأوباش ، فتضيع العصبية والقدوة ، ولكن يبقي في نفوسهم الفخر بذلك الحسب القديم ، ويحدث ذلك لمن أقام من العرب والعجم لأول مرة في الأمصار ، كما يحدث لمن إنقطع نسبهم بالحياة في الحضر . وبنو إسرائيل هو المثل الواضح لذلك الوسواس بالفخر بالنسب القديم مع حياتهم الذليلة بين الأمم وسطوة الدول والحكام . فقد كانت فيهم النبوة والملك والكتب السماوية مع العصبية والقوة ، ثم ضربت عليهم الذلة والمسكنة واستعبدتهم الأمم والدول . ومازالوا يقولون هذا هاروني ، هذا من نسل يوشع ، هذا من عقب كالب .

خطأ إبن رشد في حصره الحسب في النسب فقط

    ويرى إبن خلدون أن الفيلسوف إبن رشد قد أخطأ في كتابه " الخطابة " فيما ذكره عن الحسب وحصره في النسب فقط دون العصبية التي تحافظ على المهابة . ويعلل خطأ إبن رشد في أن إبن رشد عاش في جيل وموطن لم يعرف العصبية ولم يعرف صلتها بالحسب .

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون:الباب الثانى :( ف 14 : 29 ):العصبية والمُلك وهمجية العرب

 كتاب ( مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية  )

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

                                  تابع   البــــاب الثانــــــي    

 في أساس علم العمران وبدايته في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل                                     

                                           الفصل الرابع عشر

   البيت والشرف للموالي وأهل الاصطناع يكون بمواليهم الحكام وليس بأنسابهم

      الشرف بالأصالة والحقيقة لأهل العصبية ، فإذا اتخذ أهل العصبية أعوانا وموالى من الخارج بالإسترقاق أو بالحلف والتحموا بهم التحق أولئك بالعصبية ، كما جاء في الحديث " مولى القوم منهم " ويكون لهم شرف إلا أنه أقل من الشرف الأصلي للعصبية بالنسب . وهذا ما حدث للموالي في الدول مثل البرامكة والأتراك في دولة العباسيين ، فكان جعفر البرمكي أعظم الناس بيتا لانتسابه إلى ولاء الرشيد لا للفرس ، مع أن البرامكة كانوا ذوي نسب عظيم في الفرس ، إلا أن ذلك النسب الفارسي إضمحل وبرز مجدهم بالتحامهم بخدمة العباسيين بحكم كونهم موالى للخلفاء .

                                  الفصل الخامس عشر

                        نهاية الحسب في العقب الواحد " أربعة آباء "

الزوال هو قانون الوجود

     كل العالم المادي في جوهره وأحواله ينتهي دائما إلى الزوال ، ويسري ذلك على أحوال

" الإنسان من العلوم والصنائع والحسب والنسب " وكل حسب ونسب مصيره إلى الزوال إلا حسب النبي عليه السلام وشرفه .

لو دامت لغيرك ما وصلت إليك

     وقبل أن يحصل أحدهم على شرف فإن ذلك يعني خمول واندثار شرف سابق لآخرين ، ثم تأتي نهاية هذا الشرف الجديد في أربعة آباء .

       فالذي بني المجد عانى في البناء وحافظ عليه وعلى أخلاقياته ، ثم يأتي إبنه وقد عايش أباه وتأثر به إلا أنه لا يخلو من التقصير ، ثم يأتي الثالث ليقتصر على التقليد ، ويقلد الثاني ويقع في التقصير ، ثم يأتي الرابع  فيكون أكثر تقصيرا ويضيع الأخلاقيات التي قام عليها البناء ، بل يحتقرها ويتوهم أن ذلك البناء جاء سهلا كما ورثه سهلا ، وأنه أمر واجب لهم لمجرد النسب وبدون الحاجة إلى عصبية ومناصرة  وتأييد ، بسبب أنه نشأ وعاش بين ترحيب وإجلال بسبب نسبه وما ورثه ، ويجهل كيف حدث ذلك وما تكلفه جده من عناء في بنائه ، وهكذا يتربى على الغرور واحتقار من حوله معتقدا أنه واجب عليهم احتمال غروره واستكباره، فينفرون منه وينقلبون عليه ويسقط ملكه وبيته وشرفه . ويبدأ بيت جديد . يحدث هذا في الدول والقبائل والأمراء وأهل كل عصبية .

ملاحظة : ينطبق هذا على الأسرات العربية الحاكمة فى عصرنا ، من المحيط ( المغرب ) الى الخليج البترولى .

لماذا ينتهى الشرف بالجيل الرابع

     واشتراط الأربعة في الأحساب حسب الغالب ، وقد يتلاشى البيت دون الأربعة ، وقد يصمد إلى الخامس والسادس إلا أنه يستمر في الإنحطاط .

    واعتبار الأربعة ( الأول بان والثاني مباشر ، والثالث مقلد ، والرابع هادم ) هو أقل ما يمكن, وقد أخذ إبن خلدون ذلك من حديث " إنما الكريم إبن الكريم إبن الكريم إبن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم " وما جاء في التوراة من أن الله يأخذ الأبناء بذنوب الآباء على الثوالث والروابع وهذا يدل على أن الأربعة أعقاب غاية في الأنساب والأحساب .                                        

                                    الفصل السادس عشر

                  الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها 

     أهل البداوة أكثر شجاعة وأقدر على هزيمة أهل الحضر ، فإذا عاشوا في الحضر زال عنهم إستبسالهم وبداوتهم ، ويسرى ذلك على الحيوان الوحشي إذا تم ترويضه وتدجينه كالبقر الوحشي والحمار الوحشي والإنسان المتوحش .

     ومن كان أعرق في البداوة والتوحش كان أقرب للتغلب على من سواه . وذلك شأن قبائل مضر البدوية مع قبائل ربيعة التي استوطنت أرياف العراق .

                                الفصل السابع عشر

                       الملك هو غاية العصبية وهدفها

معنى العصبية ومعنى الملك

     العصبية تكون بها النصرة والحماية ، والبشر في إجتماعهم يحتاجون إلى من يقوم بنصرة الضعيف ، أي حاكم ، فلابد للحاكم من عصبية تعينه على هذه المهمة ويتغلب بها على الناس، وهذا التغلب هو الملك بين الرئاسة والملك

    والملك أمر زائد على الرئاسة . فالرئاسة سؤدد وشرف والرئيس له أتباع إلا أنه ليس له سطوة على أتباعه . أما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر . وصاحب العصبية والأتباع إذا وصل إلى منزلة طمع فيما فوقها ، فإذا وصل إلى الرئاسة تطلع إلى الملك ، ولا يستطيع ذلك إلا بعصبيته وقوته . وهكذا فالتغلب بالملك هو غاية العصبية وهدفها .

أثر العصبية في تكوين الملك والدولة

     وفي القبيلة الواحدة تتعدد العصبيات ، ويستلزم الأمر وجود عصبية أقوى تغلب الجميع وتلتحم بها كل العصبيات الأخرى ، وإلا وقع الإختلاف . فإذا اشتدت عصبية قبيلة تطلعت للسيطرة على قبيلة أخرى أو عصبية أخرى بعيدة فيحدث الإقتتال ، فإن غلبتها التحمت بها واتحدت ، وتضاعف طموحها وهكذا إلى أن تصل إلى قوة الدولة ، فإذا كان إلى جانبها دولة تجتاز مرحلة الشيخوخة إستولت عليها وأنشأت لها ملكا بهذه الدولة ، فإذا كانت الدولة قوية نجت من عدوان تلك القبيلة . أما إذا كانت الدولة في حالة متوسطة تحتاج إلى تلك القبيلة الفتية لتستعين بها في تدعيم أركانها تحولت تلك القبيلة وعصبيتها إلى نوع من الملك أقل من الملك المستبد ، كما حدث للترك مع الدولة العباسية، وصنهاجة وزناته مع ملك كتامة ، وبني حمدان مع العباسيين والفاطميين .

     وهكذا .. فالملك هو هدف العصبية وغايتها ، وإذا بلغت العصبية قوتها حازت الملك إما بالإستبداد أو بمناصرة الملك المستبد والعمل معه .

                                     الفصل الثامن عشر

                           الترف من عوائق الملك

      بقدر ما تتغلب العصبية يكون حصولها على النعمة ومشاركتها لأصحاب الثروة . وإذا كانت الدولة قوية واحتاجت لتلك العصبية والقبيلة في تدعيمها كانت مشاركة القبيلة وعصبتها في النعيم بقدر احتياج الدولة إلى تدعيم تلك القبيلة وعصبيتها . وصار إهتمام القبيلة وعصبيتها منصبا على التنعم والتشبه بأهل الملك  في الترف في الملبس والمأكل والمسكن والرياش . فلا تلبث أن تذهب خشونتهم وبسالتهم وتضعف عصبيتهم .ثم لا يلبث أبناؤهم أن ينشأوا على الترف وخدمة الآخرين لهم ، فتضمحل عصبيتهم وتذهب قوتهم وينتهون إلى الفناء ، فالترف من عوائق الملك .

                                     الفصل التاسع عشر

                من عوائق الملك حصول المذلة للقبيلة والإنقياد إلى سواهم

الذل عكس العصبية والقوة

     المذلة دليل على فقدان العصبية والقوة ، والعجز عن الدفاع عن النفس دليل على فقدان العصبية والقوة . كما حدث لبني إسرائيل حين عجزوا عن دخول الأرض المقدسة في عصر موسى . وذلك لأنهم تعودوا الخضوع الذليل للفراعنة . فعاقبهم الله بالتيه في الصحراء أربعين سنة حتى يفنى ذلك الجيل الذليل ويأتي جيل آخر لا يعرف الذل . مما يثبت أن الأربعين سنة أقل مدة يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر .

دفع الضرائب والزراعة من علامات الذل

      ومما يوجب المذلة للقبيلة دفعها للضرائب والمغارم ، لأن في دفعها مذلة لا تحتملها النفوس الأبية ، ومنها العمل في الزراعة والحرث ، واستشهد بحديث ما دخلت هذه – أي  المحراث والحرث – دار قوم إلا دخلهم الذل . ويصحب القهر أخلاق المكر والخديعة لدى المقهورين.

القبيلة التي تدفع الضرائب لا يمكن أن يكون لها ملك أو إستقلال بل تكون تابعة

     وإذا رأيت قبيلة مثقلة بالضرائب والمغارم والذل فلن يكون لها ملك . وعلى ذلك أنكر إبن خلدون أن تكون قبيلة زناته بالمغرب قد دفعت الضرائب من قبل للملوك ،لأنه لو وقع منهم ذلك، ما استتب لهم ملك ولا قامت لهم دولة ، واستدل برفض شهر براز ملك الباب الزناتي أن يدفع جزية لعبد الرحمن بن ربيعة .

                                 الفصل العشرون

              من علامات المُلك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس

الملك شئ طبيعي للمجتمع

      الإنسان من طبعه الإجتماع ، والاجتماع يستلزم المُلك ، فالملك شئ طبيعي للإنسان ، والإنسان أقرب إلى الخير بفطرته لأن الشر يأتيه من نوازعه الحيوانية ، لذا كان المُلك للإنسان أقرب لأن خلال الخير فيه هي التي تناسب الخير والسياسة والملك ، لأن الملك هو المناسب للإنسان وليس الحيوان.

حاجة الملك والعصبية للأخلاق

     والمجد له أصل وهو العصبية والعشيرة ،وله فرع يكتمل به وهو الأخلاق الحميدة ، وإذا كان المُلك هدفا للعصبية فالملك أيضا هدف للأخلاق الحميدة . والملك بدون أخلاق كشخص مقطوع الأعضاء ، والعصبية بدون أخلاق تعتبر نقصا في أهل البيوت والأحساب .

    والسياسة والمُلك هما كفالة للخلق وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم ،  وأحكام الله إنما هي خير ورعاية للمصالح ، بينما تقوم أحكام البشر على الجهل والشيطان ،ويرى ابن خلدون أن الله تعالى فاعل للخير والشر معا إذ لا فاعل سواه ، ومن حصلت له العصبية والقوة مع أخلاق الخير لتنفيذ أحكام الله فقد تهيأ للخلافة وكفالة الخلق ، وأخلاق الخير شاهدة بوجود الملك لمن تمتع بوجود العصبية معه .

صفات الخير في الملك والخلافة

     وأخلاق الخير هي الكرم والعفو والإحتمال من غير القادر والصبر على المكاره والوفاء بالعهد وصون الأعراض وتعظيم الشريعة وإجلال علمائها وتنفيذ تعليماتهم ، والإعتقاد في الأولياء ، والإنقياد للحق ، وانصاف المستضعفين ، والتواضع للمسكين واستماع شكوى المستغيثين ، والتدين بالشرائع والعبادات والقيام عليها ، والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد .

الملك يدوم بالأخلاق الحميدة

     ومن تمتع بهذه الصفات فقد تخلق بخلق السياسة وتأهب للرئاسة ، فإذا كانت له عصبية فالمُلك أنسب المراتب له ، وقد تأذن الله له بالمُلك وساقه إليه ، ومن كان معه المُلك وارتكب الرذائل فقد تأذن الله  بانقراض مُلكه . واستشهد إبن خلدون بقوله تعالى " {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً : الإسراء 16} ومن صفات الخير التي يتنافس فيها أصحاب العصبيات وتؤهلهم للمُلك ، إكرام العلماء والصالحين والأشراف وأهل الإحسان والتجار والغرباء ، ومن الطبيعي أن يكرم أهل الحسب نظراءهم من العصبيات الأخرى ليعلو شأنهم .

                                     الفصل الحادى والعشرون

                       إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع

    لأنهم أقدر على التغلب على غيرهم شأن الحيوان المفترس مع الحيونات الأليفة , ثم إنهم ليس لهم وطن يقيمون فيه , ولكن الأوطان لديهم سواء , فينتقلون من موطن لآخر وينتقلون إلى الأقاليم البعيدة ويتغلبون على الأمم النائية . ولذلك حث عمر العرب على فتح العراق فقال : إن الحجاز ليس لكم بدار .. وغزا التبابعة  وحمير من اليمن إلى المغرب وإلى العراق والهند وبذلك فعل الملثمون الذين انتقلوا من السودان إلى الأندلس من غير واسطة .

                                     الفصل الثاني والعشرون

              المُلك إذا ذهب عن بعض الشعوب ( العائلات ) من أمة فلابد

                   من عودته إلى شعب آخر منها ، ما دامت لهم العصبية

     إذا وصلت العصبية للمُلك قام به صاحب الملك  منشئ الدولة ، ثم لا يلبث آله أن ينغمسوا في الترف ويستعبدوا اخوانهم ، ويبقى الذين أبعدوهم عن المشاركة في الحكم في ظل عز الدولة التي يشاركونها بنسبهم  ، ولكن محتفظين بحيوتهم لابتعادهم عن الترف ، فإذا استهلك الترف القائمين على الملك كانت عصبية الآخرين لاتزال قوية  فيطمعون في الملك الذي أبعدوا عنه ، وهكذا يستولون على الأمر إلى أن يلحقهم الترف  ويرثهم غيرهم من نفس الأمة . حدث هذا مع عاد وثمود ، ثم مع حمير والتبابعة ، وفي داخل الفرس حتى انقراض آل ساسان وهكذا ، إلى أن يقع في العالم تبديل كبير مثل تحويل ملة أو ذهاب عمران فيقوم جيل بذلك التبديل ، كما وقع في البعثة المحمدية .

                                    

                               الفصل الثالث والعشرون

                        المغلوب مولع دائما بالإقتداء بالغالب في شعاره

                               وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده

     لأن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها ، إما بسبب تعظيم الغالب أو لإعتقاد الكمال فيه ، لذا تنتحل مذاهب الغالب وتقتدي به ، لأنها تتوهم أنه تغلب بتلك المذاهب والعادات . وكما يتشبه الأبناء بالآباء لاعتقادهم الكمال فيهم فكذلك يتشبه المغلوب بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه وسائر أحواله .

      وفي داخل كل قطر ترى الناس تقلد زي الحامية وجند السلطان لأنهم الغالبون لهم المسيطرون عليهم ، ولذلك يقال الناس على دين ملوكهم .

      وإذا جاورت أمة غيرها ، وكانت تلك الأمة الأخرى أقوى ترى الأمة الضعيفة تتشبه بالقوية ، كما حدث من الأندلس مع الجلالقه في عصر ضعف الأندلس حتى كانوا يرسمون التماثيل في البيوت والمصانع .                                               

                                 الفصل الرابع والعشرون

                الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء

     الأمة التي تخضع لغيرها تتربى على التكاسل فيقصر أملها ويضعف تناسلها ويتناقص عمرانها .

     والإنسان بطبيعته رئيس بمقتضى استخلافه في الأرض ، والرئيس إذا أصبح مغلوبا تكاسل حتى عن طعامه وشرابه ، وهكذا تظل الأمة تتناقص إلى أن تفنى .

    واستدل إبن خلدون على ذلك بأمة الفرس وكثرتها ، ثم أصابهم الفناء بعد أن قهرهم العرب، وليس ذلك لظلم العرب لهم وإنما هي طبيعة الإنسان .

     وتذعن السودان للرق لنقص الإنسانية فيهم وقربهم من الحيوان ، وبعضهم يرضى بالرق ليصير مملوكا ويصل إلى السلطة والحكم ، لأن العادة جرت باستخلاص الدولة لهم .

                               الفصل الخامس والعشرون

                            العرب لا يتغلبون إلا على البسائط 

      لأنهم أهل نهب لما يقدرون عليه بأقل قدر من الأخطار ، لذلك يستسهلون الإغارة على السهول ، ولا يتعرضون للقبائل المتحصنة بالجبال والهضاب . وإذا كانت المنطقة السهلة بدون حامية ترددوا عليها بالغارات إلى أن يستولوا عليها ، ثم  يتناوبون على حكمها إلى أن ينقرض عمرانها .

                                الفصل السادس والعشرون

                            العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب

      لأنهم أمة وحشية بالطبع ، وتعودوا عدم الخضوع لحاكم أو سياسة ، وهذا ينافي العمران، وقد اعتادوا الرحلة والغارة ، وذلك يناقض الإستقرار وهو أساس العمران .

       ولذلك يكون سهلا عليهم تخريب المباني واستخدام حجارتها للطبخ عليها ، واستخدام خشبها للخيام وللتدفئة . ثم أن طعامهم في انتهاب ما في أيدي الناس ورزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم حد في النهب ، وذلك يعني بطلان السياسة التي تقوم على حفظ الأموال والعمران ، ثم هم لا يرون قيمة لعمال الحرف والصناعة ويسخرونهم بلا أجر فيكف العمال والحرفيون عن العمل ،  وتتوقف حركة العمران . وربما يفرضون العقوبات المالية حرصا على تكثير الجباية وجمع الأموال بأي طريق فيكثر الفساد وتعم الفوضى .

     ثم هم متنافسون في الرئاسة وأسرع للإختلاف ، ويتعدد امراؤهم وتمتد أيديهم في إطار التنافس إلى نهب ما في أيدي الناس ، فيفسد العمران . وعلى أيدي العرب تخربت الأمصار من اليمن إلى العراق والشام . وحدث نفس الشئ لشمال أفريقيا عندما سيطر عليها بنو هلال وبنوسليم إذ أصبح خرابا بعد أن كان عمرانا فيما بين السودان والبحر المتوسط .   

                                           الفصل السابع والعشرون

                          العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية

                                  من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين

     بسبب توحشهم فهم أصعب انقيادا ، لما فيهم من الأنفة والمنافسة في الرياسة  فيما بينهم، فإذا كانت ثمة دعوة دينية أذهبت من نفوسهم أخلاق الكبر والمنافسة وإذا قام فيهم صاحب دعوة دينية ودعاهم بالدين وابتعد بهم عن الأخلاق الذميمة إستطاع تأليف كلمتهم وأرجعهم للفطرة الأولى .

                                            الفصل الثامن والعشرون

                                العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك

    لأنهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأكثرهم ضربا في عمق الصحراء وابتعادا عن الحضر ، فكان صعبا أن ينقاد بعضهم إلى بعض ، ويضطر رئيسهم إلى الإحسان إليهم ليتألف قلوبهم وحتى لا ينقلبوا عليه ، وهذا ينافي سياسة الملك التى تقوم على القهر . ثم أنهم يعيشون على النهب فإذا ملكوا أمة تسلطوا عليها بالنهب والمصادرات وتحويل العقوبات إلى غرامات مالية ، مما ينشر الفساد والفوضى والتخريب .

     ويتعرف العرب على السياسة إذا تبدلت طباعهم بالدعوة الدينية كما حدث منهم في تاريخ الإسلام . ثم إنهم بعد ذلك نبذوا الدين فنبذوا السياسة ورجعوا إلى الصحراء والتوحش  ، وقد يحدث أن يتغلبوا على بعض الدول المستضعفة فيخربونها .

ملاحظة : كلام ابن خلدون عن العرب يعنى ( الأعراب ) خصوصا من (نجد )، ومن ( نجد ) كانت معظم الحركات التخريبية مثل قبائل بنى هلال وبنى سليم  الذين جاءوا الى مصر فى العصر الفاطمى وخربوا الساحل الشمالى ومنه ذهبوا الى شمال افريقيا وواصلوا تخريبه . ومن اقليم ( نجد ) كانت تخرج غارات تخريب العراق والشام وقطع الطريق على الحجاج . وبعضها حمل راية دينية مثل حركة الردة بعد موت النبى عليه السلام ، ثم مشاركتهم فى ثورة الزنج والقرامطة فى العصر العباسى  . ثم الوهابيون السعوديون فى عصرنا .

 

 

                                    الفصل التاسع والعشرون

                البوادي من القبائل والعصائب مغلوبون لأهل الأمصار

     عمران البادية ناقص فليس فيها آليات الزاعة والصنائع والحرف بل والعملات المالية ، ويوجد عوضا عنها ما ينتجون من الألبان والصوف فيبيعونه لأهل الحواضر مقابل الدرهم والدينار ، فهم أكثر احتياجا إلى الأمصار ، وأهل الأمصار لا يحتاجون لهم كثيرا . وماداموا في البادية دون إستيلاء على الحواضر فهم محتاجون إليها وخاضعون لسلطة الدولة . والدولة إذا كانت أقل قوة أخضعتهم بالمال وإعطائهم الضروريات ، أو استعانت ببعضهم ضد الآخرين . وفي كل الأحوال فهم مغلوبون لأهل الأمصار طالما يعجزون عن حكمها.

كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
تم نشر هذا الكتاب فى القاهرة عام 1998 ، وهو تحليل أصولى تاريخى لمقدمة ابن خلدون وتاريخه وعقليته ، ونعيد نشره هنا مع بعض تعديل وإضافة فصل جديد .
more