رقم ( 11 ) : القسم الثانى : قراءة فى مقدمة ابن خلدون
الفصل الثالث : اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا

           

  ( ق2 ف3 )  أخطاء خلدونية منهجية

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون

مقالات متعلقة :

 الفصل الثالث : اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا 

 

أخطاء خلدونية منهجية

     

  فيما عدا  التصوف السنى والثيوقراطية ، فإن عقل إبن خلدون إجتهد في علم العمران أوالإجتماع ، يضع القواعد والقوانين مستلهما أحداث التاريخ وتطور الحركة التاريخية ، ويربط بين الإنسان والمكان ، بين الجغرافيا والتاريخ ، وأحيانا يضيف لهذا الربط العنصر الثالث وهو الزمان ، وفي كل الأحوال فإن إجتهاده في علم العمران قد خرج به على مستوى العصر المملوكي بكل تأكيد ، بل أحيانا يقترب من نوابغ الحضارة ( العربية الإسلامية ) الذين كانوا إستثناء من قاعدة المنهج العقلي الأرسطي ، مثل البيروني والخليل بن أحمد  والرازى الطبيب .

بين العقل الخلدونى والعقل ( الخليلى ) : الخليل بن أحمد الفراهيدى

1 ــ  بل أنه في إختراعه لعلم جديد يجعله أكثر إقترابا من العبقرية العربية الفريدة الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي إخترع علم العروض ووضع أسس علم اللغة ( الصرف ) وقواعد النحو وبدايات علم الأصوات،  ولم يأت بعده من يتطاول إلى قامته في تنوع المواهب والإختراعات مع عزة النفس والتواضع والإبتعاد عن صحبة الأمراء والأغنياء مكتفيا بالفقر والتفرغ للعلم ، وكان عصره لم يعرف بعدُ تأسس الديانات الأرضية وتسلطها من سنّة وتشيع وتصوف ، حيث توفى في منتصف القرن الثاني ( بين 160هـ ، 170هـ) ، شهد عصره جدلا فقهيا وعقيديا ، ولكنه كان في تفرغه للبحث فيما ينفع الناس بعيدا عن الجدل الفقهي والعقيدي العقيم الذي أبعد العقل عن القرآن وأدخله في متاهات عقيمة .

2 ـ  ولا ندري ماذا كان مصير العقل الخلدوني إذا عاش منطلقا في عصر الخليل بن أحمد .!

 ذلك أنه – بعد دراسة متأنية للعقلين الخليلي والخلدوني – وجدنا الكثير من المشترك بينهما ، مع إختلاف الصفات الشخصية والظروف الإجتماعية ، واختلاف العصر والثقافات . ولكن يبدو أحيانا أن كلا منهما قد أراد أن يكون ما كان بمحض إختياره ، فالخليل إختار بمحض إرادته الفقر والتفرغ للعلم والبحث والإبتعاد عن عصره وعن الأغنياء والأمراء ليعطي أكبر مساحة من الحرية لعقله العبقري ، بينما إختار إبن خلدون أن ينغمس في السياسة ويخدم الحكام ويخضع لثوابت عصره ، ويستخدم عقله العبقري في تسويغها وفى تبريرها . ومن هنا إنطلق الخليل بن أحمد فأتى بما لم يسبقه إليه أحد في اللغة والعروض وفي شذرات من الكيمياء والموسيقى ، على قلة إمكاناته وفقره الشديد وعلى بساطة المُتاح له من العلم والمعارف فى عصره ، حيث لاتدوين ولا ترجمة .  بينما عاش ابن خلدون فى وقت إكتمل فيه تدوين الفكر ولم يعد إلا الاجتهاد فى الابتكار ، فإنطلق عقل إبن خلدون فوق مستوى عصره البائس علميا وفي مجال محدد بعيد عن المشاكل وهو علم العمران .

3 ــ وكان من الممكن أن ينطلق عقل إبن خلدون  أبعد من علم العمران ليشتبك مع الثوابت الدينية الصوفية والسنية لعصره ناقدا مُصلحا ، ولكنه أراد التصالح مع العصر وأن يستخدم عقله في ذلك التصالح . ومن هنا كانت جنايته على عبقريته ، خدم عصره وظلم عقله . وبعد أن ظلمه الزمان وهو العصر – ظلمه أيضا المكان ، وهو موطنه الأصلي .

4 ــ  وبين المكان والزمان تناثرت بعض الأخطاء . أهمها الخطأ المنهجى بإستغراقه فى موطنه الأصلى وتعميم أحكامه على العمران النهرى .

أهم أخطاء إبن خلدون في المقدمة : إستغراقه في ظروف موطنه  

1 ـ وقد عرضنا لتأثر إبن خلدون بعصره في المنهج والموضوعات الأساسية . وهذا الأثر في حد ذاته هو النقيض الأساسي لإمكانات إبن خلدون العقلية ، ولم يكتف بتقييد العقلية الخلدونية ، بل أوقع صاحبها في أخطاء تناثرت بين سطور المقدمة .

2 ــ وأسهم ( المكان ) بوقوع ابن خلدون فى خطأ منهجى ، مبعثه إستغراقه في ظروف موطنه الذي كان يحيط به مكانيا وزمانيا ووجدانيا وماديا . ونعطي لذلك أمثلة عامة ، فهو يتجاهل دور المرأة السياسي ، مع أن شجرة الدر لم تكن بعيدة عنه زمنيا ، ومع أن خبرته كمؤرخ تجعل جعبته مليئة بشواهد على تأثير المرأة السياسي المباشر والخفي في العصرين العباسي والمملوكي . إلا أن البيئة البدوية التي تأثر بها إبن خلدون تصادر وجود المرأة إجتماعيا و إقتصاديا قبل أن تسمح بالحديث عن دورها السياسي .  ولذلك كانت المرأة وهي نصف المجتمع أو نصف العمران غائبة عن حديث إبن خلدون في علم العمران . ولا ننسى أيضا تأثره بالدين السُّنى ونظرته المتدنية للمرأة ، ولا ننسى تمجيده للصحابة والفتوحات، ولعل هذا كان السبب فى خلو ( المقدمة ) من أى إشارة لأعظم زعيمة للبربر، تلك البطلة الأمازيغية التى وقفت ضد الفتح العربى.

3 ــ     وفي المقابل إستغرق إبن خلدون في حديثه عن العصبية ودورها في إقامة السلطة والدعوة والأمة ، ولفظ العصبية بالذات يعطي الدلالة على المجتمع البدوي الصحراوي حيث يكون الإنتماء للقبيلة والنسب الواحد ، وحيث تكون القبيلة دولة متحركة ، داخلها جيشها الخاص وقوانينها الخاصة ورئاستها الخاصة ، وحيث يقع العبء على الرجل في الدفاع والقتال وتحصيل المعاش ، وتتحول المرأة إلى سلعة مقتناة يمكن أن تضيع بالسلب والنهب وتصبح من ممتلكات الآخرين في أي إغارة محتملة . وهكذا فالمجتمع القبلي هو مجتمع الرجل أو المجتمع الأبوي المطلق . ومن هنا كان تأثر إبن خلدون بهذا المصطلح ومدلوله ، وقد خضع له بحكم البيئة والمكان ، بل إنه إحتفى بمصطلح العصبية وخرج به  من نطاق بيئته المحلية في الصحراء إلى آفاق أرحب ، فأصبحت العصبية في حديث إبن خلدون عن البيئات الأخرى النهرية تعني القوة المسلحة – مهما كانت طبيعتها – طالما يكون ولاؤها في شخص معين ، حاكما كان أو داعية للدين أو السياسة .

4 ـ  ومن هنا تكررت أخطاؤه الفرعية كقوله أنه لابد في القتال من وجود العصبية القائمة على القرابة والنسب [1] ويتناسى أن الفتوحات العربية ، وقبلها المعارك في عهد النبي لم تقم كلها على القرابة والنسب ، بل إن الدفاع عن الوطن في البيئات النهرية لا شأن له إلا بالإنتماء للأرض ، أرض الوطن وتجعل جميع المواطنين على إختلاف النسب والأعراق والملل والنحل يتضامنون معا في رد الإعتداء عن الوطن الواحد ، كما حدث فى ثورات المصريين ( الأقباط ) ضد عمرو بن العاص والأمويين والعباسيين ، وثورات البربر ضد الغزو العربى .

 ولا يقال هنا أن فكرة المواطنة وليدة الثقافة المعاصرة وكانت غائبة عن عصر إبن خلدون ، لأن إبن خلدون هنا يتحدث عن قواعد عامة لعلم العمران ، والمفروض أن تسري في كل زمان ومكان ، ثم إن شواهد إبن خلدون التاريخية كمؤرخ تحوي الكثير عن تضامن أبناء الوطن الواحد ضد الغزاة ، خصوصا في الحملات الصليبية التي لم تكن بعيدة عن عصره .

 5 ــ     ومن ذلك قوله " إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع " ، " الأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها "[2] وإختيار كلمة " وحشية " ينطبق تماما على الطبيعة الصحراوية الجبلية أكثر من إنطباقه على البيئات النهرية المُسالمة .   وإذ كانت الوحشية هي المقياس، وفي الوحشية يتنافس المتنافسون ، فإن القوة الآن – وقبل الآن – ليست في الوحشية ، ولكن للأقوى في العدد والعتاد والذكاء . ينطبق ذلك على العصور القديمة قبل عصرنا ، فالإسكندر الأكبر في فتوحاته وإنتصاراته كان أبعد ما يكون عن الوحشية بالمفهوم الخلدوني ، بل إن بعض  الفتوحات العربية -- مع رفضنا لها قرآنيا وإسلاميا – كانت فى بعض الحالات أبعد ما تكون عن الوحشية بمفهوم إبن خلدون . وقد تنطبق رؤية إبن خلدون على أعراب القرامطة وعلى  المغول والتتار خارج موطنه ، وقد ينطبق على الوهابية فى عصرنا ، ولكن لا يصح التعميمم أو أن يكون ذلك قاعدة إجتماعية في علم العمران .

 6 ــ     ومن تأثر إبن خلدون ببيئته البدوية الصحراوية نظرته المتدنية للتجار والخدم ، فحيث يكون الإحترام لمن يحمل السلاح أساسا ثم لمن يحمل القلم في الدول الصحراوية ، فإنه لا يتبقى من الإحترام شئ للتاجر الذي يكون فريسة للمسلحين اثناء تنقله في تجارته ، والذي لا يلبث أن يعوض خسائره من البدو عن طريق التحايل والكذب والمساومة ، ومن هنا يؤكد إبن خلدون مرتين على أن أخلاق التجار " نازلة عن خلق الرؤساء والأشراف وبعيدة عن المروءة "[3].

    والخدم في هذا المجتمع البدوي أقرب للرقيق إن لم يكونوا من الرقيق ، ومن الطبيعي أن الأحرار الذين تضطرهم الظروف للعمل في الخدمة لا يتمتعون بأي إحترام في  تلك المجتمعات. ومن هنا يؤكد إبن خلدون على أن الخدمة ليست من المعاش الطبيعي ، وإن شأن الرجل ألا يحتاج لمن يخدمه ، وأن الخادم الكفء الثقة لا يوجد [4] ويتناسى حديث القرآن الكريم عن { التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ : النور 31}  وقول بنت   الرجل الصالح لأبيها عن موسى { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ :القصص 26}.

غياب مصر عن العقلية الخلدونية

1 ــ    وبسبب تأثره ببيئته المحلية قرر أن موالى الدولة التي تصل إلى الشيخوخة يكونون عيالا على هذه الدولة ، ولا يستطيعون الإستقلال بأنفسهم وتأسيس دولة خاصة بهم[5]. وقد ينطبق هذا على الممالك السريعة التي قامت وانهارت في شمال أفريقيا حيث القبائل وعصبياتها ومواليها التابعون لها وهم من الدرجة الثانية ، وبالتالي فإن هذه التبعية تحدد مكانتهم ودورهم وتصادر أحلامهم في إقامة دول مستقلة على حساب الأسياد أصحاب الأنساب .

2 ــ ولكن ذلك لا ينطبق على البيئات النهرية في مصر والشام . فالمماليك كانوا جندا مملوكين للدولة الأيوبية ، ولكن ما لبثوا أن أقاموا الدولة المملوكية وتزعمتهم امرأة هي شجرة الدر . ثم تعرضت هذه الدولة الوليدة إلى أقوى محنتين وانتصرت فيهما وأنقذت العالم العربي الإسلامي منهما ، وهما المغول والحملة الصليبية التي قادها لويس التاسع (658هـ ، 648هـ) وبعدهما أصبح من تبقى من أمراء وسلاطين البيت الأيوبي تابعا لهذه الدولة المملوكية إلى أن انقرضوا ، وظلت الدولة المملوكية تحكم من سنه 648 هـ . إلى أن جاءها إبن خلدون لاجئا سنة 784 وبقيت بعده حتى سقطت سنه 921هـ . أي أنه عاش في كنف الدولة المملوكية ، التي كانت بعيدة عن بؤرة شعوره ، وليس ذلك بغريب ، إذ أنه كتب المقدمة في منتصف سنة 779 قبل أن يأتي إلى مصر بخمس سنوات ، ثم هذبها ونقحها في مصر دون أن يستفيد من ظروف الموطن الجديد السياسية والعمرانية ، لأن أصداء الشمال الأفريقي كانت تسكن عقله ويكفي أنه في مصر ظل محافظا على لباسه المغربي إلى أن مات.

3 ــ    إن البيئة النهرية – ومصر أبرز مثل لها – تخالف البيئة الصحراوية ، والجزيرة العربية والشمال الأفريقي أبرز مثلين لها ، أي كان بمقدور إبن خلدون وقد عاش الشطر الأول من حياته في الشمال الأفريقي (732- 784) ثم عاش  الشطر الأخير في مصر ( 784- 808هـ) أن يتحدث في المقدمة عن ذلك التفاعل المستمر والفروق بين بيئتين مختلفتين  مجاورتين ، بيئة الصحراء وبيئة النهر . خصوصا وأن الدواعي لذلك كثيرة فيمن يتصدى لتأسيس علم جديد ، إذ يظل تأسيسه ناقصا طالما اقتصر وانحصر في بيئته ، ثم من خلالها ينظر للعالم والعمران ويضع له القواعد ، وبالتالي كان ذلك تقصيرا هائلا من إبن خلدون .

4 ــ  ونعرف حجم هذا التقصير حين ننظر أفقيا إلى تاريخ حياته ، إذ أنه في الشمال الأفريقي قضى الشطر العملي من حياته متعبا في تقلبات سياسية بين تونس وتلمسان والمغرب والأندلس ، حوالي ربع قرن من الزمان . ونجح خلال هذا الإنشغال أن يقتنص هُدنة يكتب فيها المقدمة والتاريخ ، وكان يتوق إلى التفرغ للبحث والتأليف ، ثم جاءته الفرصة في مصر كي يودع الطموح السياسي ، ويتفرغ للعلم خلال ما تبقى له من عمر، وحيث كان الرزق وفيرا ،ويعيش فى أمن من المطاردة كما كان العهد به سابقا ، وحيث كان العمل بالقضاء لا يعوق التأليف ، فقد كان القضاة من العلماء أصحاب التأليف ، و حيث كان منصب القضاء لإبن خلدون فترات محدودة ، وبعدها عاش في فراغ وكان بإمكانه أن يشغل هذا الفراغ في تنقيح المقدمة في ضوء المناخ الجديد والمعلومات الجديدة والنضج العقلي وخبرة السنين والمصادر العلمية المتوافرة والحياة العلمية الهادئة ، ولكنه لم يفعل. لذلك ظلت مصر بخصوصيتها ومناخها السياسي والإجتماعي غائبة عن مقدمة إبن خلدون ، لا ترى في المقدمة إلا حديثا عما يصل إلى إبن خلدون وهو بشمال أفريقيا عن ثراء مصر وتقدمها في العلوم والصنائع في عصره وهو عنها بعيد ، بالإضافة إلى بعض إستنتاجات تاريخية هزيلة . ثم إذا جاء إلى مصر واستقر بها لم يحاول التنقيح الحقيقي والإضافة طيلة أربعة وعشرين عاما قضاها في مصر .

5 ــ     والمحصلة النهائية أن حياة إبن خلدون العملية هى حوالي نصف قرن من الزمان ، أضاع ربع قرن في حياة سياسية فاشلة في المغرب يتوق إلى لحظات تفرغ للعلم ، وفيها أنتج المقدمة والتاريخ ، ثم جاءه الإستقرار في الربع قرن الأخير من حياته فتكاسل عن التنقيح الحقيقي والتعديل والإضافة ، وضاعت منه الخبرة المصرية خلال إستقراره الطويل في مصر ، ضاعت من مقدمته ، وهذه المقدمة هي أروع ما كتبه إبن خلدون ، وأروع ما كتب في العصر  المملوكي (648-921هـ) . ومن أروع ما أنتجته الحضارة العربية ( الاسلامية ).!

ونعطي بعض الشواهد

1 ـ     يقول عن مصر وكان في شمال إفريقيا " ويبلغنا لهذا العهد عن أحوال القاهرة ومصر من الترف والغنى في عوائدهم ما يقتضي منه العجب ، حتى أن كثيرا من الفقراء بالمغرب ينزعون إلى النقلة إلى مصر لذلك " ويقول " كما بلغنا عن أهل مصر أن فيهم من يعلم الطيور العجم والحمر الأنسية .. وغير ذلك من العجائب التي لا توجد عندنا بالمغرب " ويقول " كما يحكي لنا عن مصر لهذا العهد وأن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط . . "[6] . ومن الواضح انه كتب ذلك في المقدمة وهو يحلم بالإستقرار في مصر لينعم بكل ما يتصوره فيها من نعيم .  وجاء فعلا إلى مصر سنة 784 ، ولقى فيها العلماء وأسهم في حركتها التعليمية ونظامها القضائي ، دون أن يضيف شيئا إلى مؤلفاته ، بل أن بعض سطور المقدمة تشير إلى أنه قام بتنقيح جزئي هزيل جدا وهو في مصر، قال فيه ملاحظتين ، الأولى قوله " ولقد وقفت بمصر على تآليف متعددة لرجل من عظماء هراة " يقصد سعد الدين التفتازاني والثانية قوله " ... ولا أوفر اليوم من الحضارة في مصر ، فهي أم العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصنائع [7]" ثم يذكر ما وصل إليه من كتب سعد الدين التفتازاني .

 ولم تنجح مصر بحضارتها وعلومها في حث العقلية الخلدونية على المزيد من الإبداع سواء في تطوير المقدمة أو في مؤلفات أخرى ، في مرحلة النضج والإستقرار . ولذلك ظلت الأخطاء في المقدمة ، منها ما يخص مصر ، وما يخص غير مصر .

2 ــ    إذ يبدو في المقدمة التجاهل الواضح للبيئة الزراعية ، يقول " إذا كانت المدينة تقترب من الجبال والبوادي فإن عمرانها لا ينقطع حيث يتوافد إليها أهل البوادي ويستقرون فيها " والواضح هنا أن حديثه متأثر بوطنه ولا يشمل البيئة الزراعية ، وإن كان قد جعلها قاعدة عامة .

 وفي موضع آخر يجعل سبب المجاعات من الظلم والعدوان في نهاية عمر الدولة وكثرة سكانها ، وينتج عن المجاعة سقوط الموتى وانتشار الأوبئة . وأغلب المجاعات كانت تحدث في مصر بسبب فيضان النيل الزائد عن الحد أو نقصانه الزائد عن الحد ، ولم يكن بسبب الظلم ، مع أن الظلم في مصر  ثابت البنيان راسخ الأركان ، بحيث يمكن القول إنه ـ أى الظلم ـ إستقرّ فى مصر وحصل ـ بجدارة  ــ على الجنسية المصرية .! . ومع ذلك فلم يكن الفاعل المتسبب فى المجاعات والأبئة التى كانت تحدث دوريا فى مصر العصور الوسطى .

3 ــ وتصل قمة تأثره ببيئته البدوية حين يجعل إبن خلدون الفلاحة من خصائص البدو ولا يقوم بها أهل الحضر ، أو أن يقول إن البدو يتكاثرون في المكان الواحد ويحدث بينهم شقاق فيتكتل كل فريق داخل سور وحول ماء ، وتنشأ بذلك المدينة التي تحتاج إلى حكم وإدارة وحصن وجيش وعمران [8]  ، وهذا عنده أساس الحضارة ( بدو يتحضرون ) .!.  أمّا مصر أم الزراعة وأصل الإستقرار والحضارة والعمران فغائبة عن عقل إبن خلدون . وقد قام أبناؤها ببحث " شخصية مصر " تاريخيا وحضاريا . ومنهم كاتب هذه السطور في كتابه " شخصية مصر بعد الفتح الإسلامي " الذي أثبت أن مصر قد ( مصّرت) الفتح الإسلامي ،أى قامت بتمصيره وأضفت على تدينها الشخصية المصرية ،  بالإضافة إلى العلامة جمال حمدان في كتابه شخصية مصر الذى بحث شخصية مصر من حيث الموقع والموضع .

 

 

 

( ق2 ف3 ) : أخطاء خلدونية مختلفة

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون

 الفصل الثالث : اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا 

أخطاء خلدونية مختلفة :

أولا : أخطاء صغيرة غريبة

 1 ـ    على أن تنقيح إبن خلدون الهزيل للمقدمة فى مصر لم يعصمها من أخطاء تاريخية نستغرب صدور بعضها عن مؤرخ مثله ، فهو يقول أن الخليفة المستظهر بالله العباسي أعطي لقب أمير المؤمنين إلى يوسف بن تاشفين [9]. والمشهور تاريخيا أنه أعطاه لقب " أمير المسلمين " . وقد ظننت في الأمر خطأ مطبعيا في طبعة بولاق الأصلية التي اعتمدت عليها في هذا البحث، ولكن وجدت نفس الكلام في طبعات أخرى للمقدمة . والغريب أن إبن خلدون  بعدها في التاريخ يقرر أن الخليفة العباسي منح إبن تاشفين لقب أمير المسلمين ، وذلك في معرض تأريخه للمرابطين في الجزء السادس [10].

2 ــ    ومن هذه الأخطاء التاريخية الغريبة حديثه عن معرفة الصحابة بالغيب في معرض كلامه عن الملاحم والجفر ويذكر من الصحابة كعب الأحبار ووهب بن منبه [11]. وهما من مسلمة بني إسرائيل وكعب الأحبار أسلم في خلافة عمر حيث جاء المدينة لأول مرة ، وبالتالي فلم يشهد النبي ولم يره ، ولم يكن من الصحابة .

3 ــ       ويؤكد إبن خلدون في أكثر من موضع على أن مصطلح " القراء " هم الذين يعرفون القراءة والكتابة من الصحابة ، أي أنه مفهوم يناقض " الأمية " [12] ، وذلك تفسير خاص بإبن خلدون لا يتفق مع البداية التاريخية لولادة هذا المصطلح ، إذ أن مصطلح القراء كان لا يعني القراءة وإنما كان يعني الأعراب الذين كانوا يتهجدون بالليل يقرؤون القرآن ، وأولئك إنضموا إلى علي بعد ثورتهم على عثمان ، وحاربوا مع علي في الجمل وصفين ، وهم الذين أرغموا عليا على قبول التحكيم في صفين ، يقول  الطبري في تاريخه بعد رفض علي للتحكيم " فقال له مسعر بن فدك التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا خوارج فيما بعد : يا علي أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه " [13]، وفعلا إشتهر الخوارج الأوائل بلقب القراء مع ألقاب أخرى . ولم يكن أولئك الأعراب يكتبون ويقرأون بالمدلول العلمي للكلمة .

4 ــ     ومن آراء إبن خلدون التي كانت تحتاج إلى تنقيح ومراجعة تاريخية قوله بأن الخلفاء العباسيين إستحدثوا لقبا آخر للخلفاء يتميزون به فكان من ألقابهم المنصور والمهدي والهادي والرشيد ، وسار على نهجهم الفاطميون ، واضطرب تفسيره لذلك [14].

والذي نراه أن الأمويين كانوا حكاما عربا أقرب إلى شيوخ القبائل يحكمون بمنطق القوة وحدها ، أي بمنطق المُلك الطبيعي في مصطلح إبن خلدون . فجاء العباسيون بمنطق الدولة الدينية وشاراتها ورموزها ، وكان من رموزها تلقيب الخليفة بلقب ديني ، وبدأ هذا اللقب الديني بالمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون ، ثم أضيف له فيما بعد لفظ الجلالة ، كالمعتصم بالله والمكتفي بالله والناصر لدين الله . . وعلى نفس المنوال سار الفاطميون ، ثم الأيوبيون حيث كان يضاف لفظ الدين " صلاح الدين " " أسد الدين.." ثم أصبح عاما تلقيب كل إنسان في العصر المملوكي بلقب ديني خصوصا من العلماء ، مثل شهاب الدين ، زين الدين ، أكمل الدين . حيث سيطر التدين السطحي على الحياة الإجتماعية بعد أن انتقلت إليها العدوى من الحياة السياسية .

 5 ــ    ويقتضينا واجب الإنصاف أن نذكر لإبن خلدون أنه ذكر رسالة حي بن يقظان ونسبها إلى صاحبها الأصلي الرئيس إبن سينا ، وليس كما هو مشهور الفيلسوف الأندلسي ابن الطفيل.

ثانيا : أخطاء فى العلوم الطبيعية  

   وهذا يدخل بنا على المنهج العقلي الطبيعي وما تناثر من أخطاء في المقدمة في هذا المجال . ومنبع الخطأ هنا هو في أنه إتبع الثقافة السائدة في عصره.

1 ـ في الجغرافيا وتقسيم العالم إلى مناطق جغرافية وأجناس بشرية تابع ابن خلدون ما قاله بطليموس . وأخذ عنه تأثير الهواء في الناس وفي الألوان ، واكتسب منه رؤية عنصرية نحو الأفارقة ، وجعلهم أقرب إلى الحيوان ، مع أنه كان أقرب من بطليموس إلى الأفارقة في المكان والثقافة ، وسجل بعض تواريخهم في كتابه في العلاقة بالبربر على الخصوص ، لذلك فإنه من الخطأ أن يقول عنهم " تذعن السودان للرق لنقص الإنسانية فيهم وقربهم من  الحيوان [15]. ويستثني الجزيرة العربية من الأقاليم الجغرافية البدائية وفق تقسيم بطليموس ، ويقول إن البحر أحاط  بالجزيرة العربية فترطب هواؤها وأصبحت معتدلة نسبيا ، وهذا خطأ واضح ، ونرجو أن يكون قد عرف هذا الخطأ حين قام بالحج من مصر سنة 789هـ .

2 ــ     وفي مجال التشريح نقل إبن خلدون أقسام المخ وموقعها من التفكير والتخيل ، وهو يخالف المعروف الآن عن فصوص المخ على الجانبين ،ولا ننتظر منه بالطبع أن يفعل ما فعله عبداللطيف البغدادي حين قدم إلى مصر في سلطنة العزيز عثمان بن صلاح الدين الأيوبي ، وكان وقت مجاعة ، والجثث منتشرة فأخذ يتفحصها وأضاف ثروة إلى معلوماته ومعلومات عصره .

 ولكننا ننتظر من إبن خلدون رؤية واضحة لعلم العمران مستقاة من أحكام تاريخية ناضجة .

ثالثا : أحكام سياسية خاطئة

    إلا أن بعض أحكامه السياسية تقع في الخطأ من وجهة نظرنا ، ونعطي أمثلة :

  1- يقول أن الأمة المغلوبة التي غلبتها غيرها يسرع إليها الفناء [16] ، وليس ذلك صحيحا بدليل بقاء وتكاثر الموالي في العراق وإيران والأنباط في الشام والمصريين والبربر بعد الفتوحات . وبدليل أن بريطانيا كانت لا تغيب عن أملاكها الشمس ، وتناقص سكانها الآن بينما تضاعف سكان مستعمراتها فيما بين الهند شرقا إلى مصر وأمريكا غربا .

   2- ويقول إن عظم الدولة واتساعها وبقاءها بقدر نسبة القائمين بها ، واستدل بأن كثرة الجيوش العربية أسقطت فارس وهزمت الروم . ولكن عدد سكان العرب كان بالتأكيد أقل من سكان الفرس والروم ، بل كان عدد سكان مصر في ذلك الوقت يتجاوز عشرة ملايين بدليل مقدار الجزية المدفوع ، والتفسير الصحيح ليس بالعدد أو الكم ولكن بالكيف ، فالعرب كانوا قوة مسلحة ناهضة لديها مشروع يحقق لهم خيرا دنيويا ويعدهم بالجنة في الآخرة ، وذلك في مواجهة إمبراطوريات متخمة أرهقها الترف .

   3- ويقول إن بقاء الدولة يتوقف على مدى قوة عصبيتها في النفوس ومدى رسوخ دعوتها في قلوب المؤمنين بها [17]، وليس ذلك قاعدة مضطردة . فقد تستمر الدولة الضعيفة باقية لظروف إقليمية أو دولية ، ينطبق ذلك على الدولة العباسية والدولة الفاطمية والدولة العثمانية ، في فترات الضعف . إذ منع سقوطها السريع عوامل خارجية بعضها إقليمي وبعضها دولي  .

   4- وقال أن الدعوة الدينية تزيد قوة الدولة فوق قوة عصبيتها . ويرى أن  الصبغة الدينية للدعوة تمنع التنافس الذي يصاحب العصبية ، ويجعل أهل الدول متحدين حول هدف واحد في مواجهة الدولة الأخرى التي يريدون فتحها والوثوب عليها . ويرى أن هذه الدولة الأخرى المطلوب فتحها يكونون كثرة إلا أنهم متخاذلون قد أرهقهم الترف وحب الدنيا ، لذا ينهارون سريعا أمام الدولة الفتية الناشئة ، ويستشهد بالفتوحات العربية الإسلامية وحركة الموحدين في شمال أفريقيا والأندلس .[18]

    ومع تناقضه هنا مع رأيه السابق ، إلا أن تفسيره الثاني هو الأقرب للصواب ، وهي وقوع القوة الأخرى في الترف ، أما الصبغة الدينية فقد تنجح ولكن في البداية ، ثم يتحول الإتحاد إلى تفرق عند توزيع الغنائم والتنافس في المتاع الدنيوي . ويؤدي ذلك سريعا إلى تقاتل وشقاق مذهبي وعقيدي ، وذلك ما حدث فى الفتنة الكبرى بعد الفتوحات  العربية ، وما نشأ عن من تأسيس أديان أرضية أكسبت الصراع بُعدا طائفيا دينيا ــ لا يزال حتى الآن .

 5- ويؤكد رأيه السابق حين يقول أن السبب في إنشاء الدولة إذا كان دنيويا إستدعى التنافس والخلاف ، أما إذا كان دينيا إتحد الجميع خلف هدف واحد .[19] ونكرر ما قلناه ،بأن الهدف في جميع الأحوال سياسي دنيوي ، وقد يكون مختفيا حول شعارات دينية مثل العباسيين والشيعة . وفي كل الأحوال ، فالحركات الدينية السياسية التي تنجح في إقامة الدولة أو تفشل في ذلك ليست حركات دينية ، وإنما هي حركات مذهبية دينية ، أي تقوم على رؤية دينية خاصة مستقاة من أغراضها السياسية ، وتزعم أن هذه الرؤية السياسية الفكرية هي صحيح الدين ، وتريد أن تقفز على أكتاف الناس بهذا الإدعاء . وإذا وصلوا إلى الحكم بهذا السبيل لا يلبث الشقاق أن يدب ببينهم في خلافات داخلية يزعم كل منها أنه الأصح دينيا ويتهم الآخر بالكفر والمروق .

الخلافات الدنيوية السياسية الواضحة  هى الأقرب إلى الحل ، لأنها مؤسسة على السياسة وتقبل أنصاف الحلول والصفقات المتبادلة ، أما الخلافات السياسية التي تختفي وراء المذاهب الدينية فلا سبيل إلى تجاوزها ، لأنها تدخل في نطاق الزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة ، فكل فريق يرى أنه على الحق والآخر على الباطل . وهنا لابد من تصفية الخلاف بتصفية الآخر تماما . وهنا يظهر حد الردة ، كما حدث حين اخترعه العباسيون لأول مرة في تصفيتهم لخصومهم الفرس فيما يعرف بحركة الزندقة . وقام بذلك الخليفة المهدي( لاحظ مدلول اللقب ) ضد الزنادقة ( لاحظ أيضا مدلول اللقب ). وإستمر هذا هذا ساريا داخل الدول الشيعية ( الانشقاقات داخل الفاطمييين وداخل مذهبهم الشيعى الاسماعيلى ) ، ولا يزال هذا ساريا داخل الوهابية الحنبلية السنية فى عصرنا ( الخلافات بين عبد العزيز والاخوان النجديين ، الخلافات بين السعودية والاخوان المسلمين ، الخلافات بين التنظيمات الوهابية المسلحة ). ويتبع الخلاف التكفير ومحاولات التدمير.

  6-  وقال إبن خلدون [20] إن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء ، واستشهد بالحديث القائل :  

" إنما الكريم إبن الكريم إبن الكريم إبن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم " مع أنه لا علاقة لذلك الحديث باستشهاد إبن خلدون ، حيث استمر الحسب الطاهر متمثلا في نسب الأنبياء من بني إسرائيل حتى عيسى من ذرية يعقوب وإبراهيم عليهم السلام . بل يمكن القول بأن الإستشهاد بالحديث جاء على العكس ، لأن يوسف – على أساس الرؤية الخلدونية -- هو العقب الأخير ، ولكن يوسف لم يهدم ملك آبائه أو حسب آبائه وشرفهم . بل أن يوسف هو الذي استقدمهم إلى مصر حين أصبح العزيز فيها ، وهو الذي رفع أبويه على العرش وأقام لإخوته في  مصر جاها سياسيا .

7 ــ    وفي هذا السياق إستشهد إبن خلدون بما جاء في التوراة من أقوال نراها محرفة – وهي أن الله تعالى يأخذ الأبناء بذنوب الآباء على الثوالث والروابع ، أي حتى الجيل الرابع ، وذلك يخالف القاعدة الإلهية ، من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى .

8 ـ     وفي النهاية فإن القول بأن نهاية الحسب في أربعة آباء قد تصح حينا ، ولكنها تسقط كثيرا ، والأدلة كثيرة في بيوت علمية إشتهرت لأكثر من  أربعة أجيال في العصر المملوكي ، مثل بيت الشحنة بين حلب والقاهرة ، وقد تخصصوا في القضاء ، وبيت البلقيني وبيت السبكي . ولماذا تذهب بعيدا ونترك الحسب العباسي الذي  استمر منذ العباس عم النبي عليه السلام ثم تملك أمر المسلمين في الدولة العباسية إلي أن سقطت الدولة بالمغول ، ثم استمرت الخلافة العباسية في مصر المملوكية إلى أن انتقلت إلى بني عثمان بعد الغزو لمصر سنة 921، أي استمر هذا البيت وحده عشرة قرون متمتعا بالحسب والنسب والجاه .  ومما لا شك فيه أن بعض هذه الأخطاء أوقع إبن خلدون في تناقض .

والتناقض سمة أساس في المقدمة .

 

 

 

 

 

 

 

 

( ق2 ف3 ) عبقرية إجتهادات إبن خلدون في علم العمران (الإجتماع )

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثالث  :  اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا

     عبقرية اجتهادات إبن خلدون في علم العمران ( الإجتماع )

مدخل :

 1- في البداية فإن المصطلح الخلدوني " العمران " أدق في التعبير من " الإجتماع " الذي جاء ترجمة عن الغرب . ولكن شاع لدينا ( علم الاجتماع ) نقلا عن الغرب ، وذلك من منطلق ما قرره إبن خلدون في المقدمة من أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب . وكان الأولى بنا التمسك بالمصطلح الخلدوني " علم العمران " ليس لأن إبن خلدون العربي المسلم هو منشئ هذا العلم ولكن أيضا لأن اختياره للمصطلح العربي كان غاية في الدقة .

  فكلمة الإجتماع ، أو علم الإجتماع لسانيا لا يدل على المفهوم من هذا العلم ، فالإجتماع قد يكون " جماعا " جنسيا بين رجل وامرأة ، وقد يكون " إجتماعا سياسيا  " بين رئيسين أو زعيمين أو أكثر ، وقد يكون إجتماعا سياسيا جماهيريا ، وقد يكون " إجماعا " بالإجتماع حول رأي واحد ، وفي هذه الأحوال فهو " إجتماع " بين بشر يبدأ بإثنين ، وقد يدخل فيه وجود مجتمع إجتمع في مكان واحد وزمان واحد ، وقد لا يوجد . ولكن اللفظ  يدل على إجتماع" فوقي " بين الناس بدون علاقة وثيقة بالمكان ، وأحيانا يشمل إجتماع الحيوانات حيث تسير في قطيع سويا ينتقل من مكان إلى آخر . والله جل وعلا يقول : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ  )(38) الانعام  ).

أما مصطلح علم العمران فهو أعمق وأدق . إنه يعني أن مجتمعا قام بتعمير مكان على كل المستويات السياسية والإقتصادية والعقلية والإنسانية ، وما يتبع إقامة ذلك العمران من علاقات مرتبطة بالإنسان والمكان والزمان . وبذلك تتحدد سمات علم العمران في المجتمعات الإنسانية – لا الحيوانية – التي تقيم في مكان وتؤثر فيه ويؤثر فيها ، وتتحدد علاقاتها الداخلية سياسيا وإقتصاديا ودينيا ، كما تتحدد علاقتها بالمجتمعات الأخرى بين حرب وسلام وتأثر وتأثير .

2-- وليس إجتهاد إبن خلدون قاصرا على اختياره الدقيق لإسم العلم الذي إخترعه، وإنما – كما سبق – خرج على تقاليد عصره باجتهاد عقلي ، مع كل تأثره وتسليمه بثوابت عصره ، ولم يأت بعده من العرب من أكمل طريقه ، لأن التقليد في عصر إبن خلدون تحول بعده إلى جمود وتأخر وجهل.

3 ـ ثم إن إبن خلدون في إختراعه لهذا العلم قد بلغ فيه النهاية في إستخلاص قوانين العمران حسب المتاح في العصور الوسطي  ، وكانت تلك المجتمعات متشابهة بين الشرق والغرب ، حيث كان الإستبداد الديني الثيوقراطي يحكم بتأييد رجال الدين ، وحيث يملك الخليفة أو السلطان أو الإمبراطور الأرض ومن عليها . ومن هنا فإن إجتهاد إبن خلدون كان نافعا ومعبرا عن العالم في عصره ، وتلك ميزة .

 4- ولكن يضاف لها ميزة أخرى ، أن  العقل الخلدوني جاء بقوانين في  العمران تنفع عصرنا برغم كثرة المتغيرات التي طرأت على العالم بعد إبن خلدون ، من إنهيار النظام الإقطاعي وتحالف الإكليروس والإستبداد الكهنوتي ، فقد بدأت الطبقة الوسطى البرجوازية الأوربية في الظهور ، وتتابعت المتغيرات من تقليص سلطان الكنيسة والإستبداد السياسي ، وتأسيس العقد الإجتماعي الذي يعطي السلطة للشعب ، وظهور الدولة القومية ، وما واكب ذلك من تطورات إقتصادية وسياسية أخرى إرتبطت بالكشوف الجغرافية والإستعمار ، وتحول البرجوازية إلى إستعمار ، ثم جاء عصرنا بنوع من الإستعمار الكوني من شركات متعددة الجنسيات تستخدم العولمة وثورة المعلومات والإتصالات في السيطرة على العالم الذي تحول إلى قرية مفتوحة مكشوفة .

     وبالرغم من كل هذه المتغيرات فإن بعض القوانين الخلدونية لا تزال صالحة للإستعمال أو ( الاستهلاك الآدمى ).

4 ــ  ويرجع ذلك إلى عدة عوامل:

4 / 1 : ، فالعبقرية الخلدونية مع تأثرها الواضح بالثوابت الأساسية لعصرها دينيا وسياسيا وثقافيا ، إلا أنها كانت تنفذ إلى داخل النفس البشرية برغاباتها وطموحاتها ، وكات تستلهم حقائق " إنسانية " من التاريخ السابق والمعاصر لها . ومن هذا وذاك إقتربت من الخصوصية الإنسانية على مستوى الفرد ومستوى البشر ، فأتى بقوانين سارية المفعول مهما اختلفت الظروف. ولعل ثقافة إبن خلدون الدينية أثرت عليه في تركيزه على صفات الإنسان والنفس مع ثقافة الوعظ والنقاء الخلقي ، بالإضافة إلى الموضوعات الفقهية في التعامل الإقتصادي وتراث المسلمين السياسي ، ومن  المنتظر من العقلية الخلدونية التي تشربت ذلك وهي تمارس السياسة وتعمل بالتاريخ أن تجيد إستنباط العلاقات الإنسانية من ذلك التاريخ ، وتصوغ منه قوانين للعمران صالحة لكل زمان ومكان .

4 / 2 : ثم إن منطق العصور الوسطى لم ينته بانتهاء العصور الوسطى ، فبالرغم من آليات العصر الحديث في سائر المخترعات ، فإن تلك الآليات نفسها لا تزال تستخدم في الدعوة وفي إرساء وفي توطيد نظم ثيوقراطية أو علمانية مستبدة ، خصوصا في العالم الثالث حيث تتربع في أرجائه نُظُم حُكم مستبدة علمانية وعسكرية ودينية ثيوقراطية ، وتعمل وتطمح بعض القوى لإقامة أنظمة دينية سياسية تنتمي إلى ثقافة العصور الوسطى ، وتستخدم سائر المخترعات الحديثة للعولمة من الفاكس إلى الإنترنيت للرجوع بأوطانها إلى عصور السيف والرمح والقلم البوص والكاغد . ثم إلى جانب ذلك هناك مجتمعات بحكم موقعها لا تزال مشدودة إلى الماضي ، لأنها تعيش الحاضر فقط مهما اختلفت ظروف العالم حولها ، مثل القبائل المنقطعة في أوطانها في أطراف العالم وفي صحاريه وعلى امتداد خط الإستواء . وعليه فإن تقعيد إبن خلدون المتأثر بالعصور الوسطى لا يزال صالحا للإستهلاك الآدمي في عصرنا ، حيث لم تعد العصور مجرد فترة زمنية إنتهت ، ولكن أصبحت مصطلحا يدل على نوعية من الثقافة تقبل التطبيق في عصرنا إذا أعطى الناس عقولهم وحياتهم ومستقبلهم لزعيم ملهم أو مهدي منتظر أو غير منتظر !!

4 / 3 :  كما أن تقعيد إبن خلدون للمجتمعات البدوية والمنقطعة التي تعيش حاضرها فقط – هذا التقعيد لا يزال ساريا حتى الآن ، لأن تلك المجتمعات لاتزال على حالها قبل عصر إبن خلدون ، وبعد عصر إبن خلدون.

4 / 4 : وهناك  تقسيمات حديثة لعلم الإجتماع سياسيا ونفسيا ودينيا وإقتصاديا ، ومن الطبيعي أن يتطور علم الإجتماع المعاصر ليواكب المتغيرات المتلاحقة في عصرنا ، وذلك يذكرنا بميزة أخرى لإبن خلدون ، وهي أنه أحصى معالم العمران ( أنواع علم الإجتماع) في عصره ، لتشمل السياسة والإقتصاد والتعليم والدين والعلوم والدول والمدن والبدو والحضر.

تفوق المنهج التاريخى العمرانى ( الاجتماعى ) الخلدونى على علم الاجتماع السياسى المعاصر

 1 ـ  المنهج الخلدوني في علم العمران يقوم على إستخلاص قوانين المجتمع  من جذوره التاريخية ويفسرها تاريخيا ، وهذا المنهج الخلدونى يغيب لدى علماء الإجتماع في عصرنا في تركيزهم على البحث الميداني والإستقراء الظاهري في دراسة الظواهر الإجتماعية ، وذلك دون غوص عميق يتعرض للجذور التاريخية والثقافية والدينية التي لا يمكن إنكار تأثيرها ، خصوصا في مجتمعاتنا التي لا تزال مشدودة للماضي ويشكل جزءا هاما من ثقافتها في محاولة منها لتعويض عجزها عن ملاحقة الحاضر . وهذه ميزة كبرى للمنهج الخلدوني .

6 ــ ومثلا : فإن بحث علماء الاجتماع السياسى المعاصرين للظاهرة المسماة ( بالاسلام السياسى ) يتركز على القشور. هى شجرة خبيثة لها جذورها التاريخية والأصولية ، ونعانى من ثمارها  ، ولكن البحث الاجتماعى السيسيولوجى  لهذه الحركة ( الأصولية) يقتصر على السطح الظاهرى بما يساعد ليس فقط عن العجز عن تفسيرها ومن ثم عن علاجها ،بل يتعدى الأمر الى تعضيد مباشر لهذه الظاهرة الارهابية بوصفها بالاسلامية تصديقا لمزاعمها وربطا لها بالاسلام ، وهى تناقضه فى عقيدته وشريعته وأخلاقياته وقيمه بما تقيم من المذابح والخراب فى الشرق الأوسط وخارجه .

 وفى مواجهة هذا الطرح القاصر قدمنا التفسير التاريخى والدينى لهذه الظاهرة ، بإعتبار ان التوصيف الصحيح للمرض هو بداية العلاج الصحيح. وهو أن من الخطأ ـ  الذى يقترب من الخطيئة ــ وصف تلك الظاهرة بالاسلامية .

 البداية هى الفصل الحاسم والحازم بين:  الاسلام دينا الاهيا له مصدر الاهى وحيد هو القرآن الكريم وبين المسلمين ، وهم بشر لهم تاريخهم البشرى وحضارتهم البشرية وتراثهم البشرى وأديانهم الأرضية وما تتضمنه من مفتريات مصنوعة فى شكل أحاديث ومنامات وفتاوى وتشريعات . وأن المسلمين ليسوا سواء ، هم مختلفون تراثيا بين أديان ارضية مختلفة ، أكبرها حجما هو التصوف السنى الذى يجمع بين السنة المعتدلة ( فى الشريعة السنية ) مع تقديس الأولياء والقبور ، والى هذا الدين الارضى ينتمى أغلب ( المسلمين ) ثم هناك أقليات ابرزها الشيعة والصوفية فقط والسنيون فقط ، ثم هناك طوائف ومذاهب داخل التشيع والسنة والتصوف . ثم هناك تقسيمات أخرى حديثة : مسلمون متدينون ، ومسلمون علمانيون  وملحدون . من الخطأ إعتبار كل المسلمين كتلة واحدة صمّاء ، ومن الخطأ وصم كل المسلمين بالتطرف والارهاب لأن الأغلبية الساحقة منهم ( حوالى بليون وربع بليون ) تعيش فى اندونيسيا وبنجلاديش وماليزيا وسنغافورة ووسط آسيا ( دول الكومنولث السوفيتى ) بالاضافة الى مسلمى البلقان ووسط وشرق أوربا .. التطرف يتركز فى الدين السنى ، بينما يتطرف الشيعة لو وصلوا فقط للحكم ، أما الصوفية فهم الأقرب الى المسالمة واحترام التعددية وحرية الدين . والسنيون المتطرفون ليسوا سواء ، أشدهم فى التطرف كانوا الحنابلة ، وأشد الحنابلة تطرفا كانوا أتباع ابن تيمية ، ثم ظهرت الوهابية فى عصرنا ــ عصر الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ـ لتكون أشد شراسة من خط ابن تيمية المتشدد .  وبالوهابية قامت الدولة السعودية الأولى ، ثم الثانية ، ثم الثالثة الراهنة ، وهى التى أسّست الاخوان المسلمين فى مصر ، وقام الاخوان المسلمون المصريون بنشر الوهابية فى مصر والعالم على أنها صحيح الاسلام ، وظهر البترول مصاحبا لظروف اقليمية ودولية ، فحمل قطار النفط هذه الوهابية الى ربوع العالم ، على انه الاسلام . هذا هو موجز الأرضية التاريخية الدينية للظاهرة الارهابية التى تنتشر تحمل معها الدمار والدماء . والعلاج هو بتأكيد علمى تاريخى قرآنى على التناقض بين الاسلام والوهابية ، وبتأسيس إصلاح دينى تشريعى سياسى تعليمى نهضوى تنويرى لا يعطى فرصة لديدان الوهابية ان تزحف فى شقوق الظلام .

 أما الاصرار على البحث الفوقى لهذه الظاهرة ( التراثية الماضوية ) والاصرار على وصفها بالاسلامية فهو الذى يعطى للارهابيين مجانا ما يريدون ، وهو وصفهم بالاسلاميين ، وعلى قدر ما فى هذا من تشويه للاسلام فهو أيضا تشويه للمصلحين المسلمين الحقيقيين وإتهام لهم بأنهم غير إسلاميين .

التطبيق العملى لهذا الفشل حدث فى جدل فكرى بين كاتب هذه السطور و د سعد الدين ابراهيم أستاذ علم الاجتماع السياسى ، حول إشراك الاخوان المسلمين فى العملية الديمقراطية . دافع د سعد الدين ابراهيم عن ( دمقرطة ) الاخوان المسلمين ، وكانت حٌجته أن ( الحركة الاسلامية ) تأقلمت مع الديمقراطية فى سنغافورة ومايزيا وتركيا وستتأقلم فى مصر والشرق الأوسط . وقلت أن الحركة  الدينية السياسية فى ماليزيا وسنغافورة نبتت من دين أرضى متسامح هو التصوف السنى ، لذلك فهى تعترف وتؤمن بالتعددية ، بل إن الحركة السياسية الدينية فى تركيا نشأن ليس فقط فى بيئة التصوف السنى بل فى ظل علمانية أتاتورك المتطرفة ، أما حركات ما يسمى بالاسلام السياسى فى الشرق الأوسط فقد نبتت فى أرضية دينية وهابية تستحل دم المخالف لها فى السياسة ، ولو وصلت بالخداع الى الحكم ( عبر الانتخاب ) فلن تتركه لأن مذهبها السياسى هو ( إما أن نحكمكم وإما أن نقتلكم ) .

 المنهج السطحى لعلم الاجتماع السياسى فى تناول هذه الظاهرة لا يفرق بين ( الاسلاميين ) فى تركيا أو سنغافورة أو البلقان وبين ( الاسلاميين ) فى مصر والسودان وأفغانستان وباكستان ، كما أنه لايفرّق بين مدرسة الامام محمد عبده التنويرية وحركة الاخوان المسلمين الوهابية الظلامية القرون أوسطية ، بل بعضهم يعتبر دعوة محمد بن عبد الوهاب دعوة إصلاحية.! .

ولأن علماء الاجتماع السياسى هم الأعلى صوتا والأكثر شهرة ، ولأن منهجهم القشرى السطحى يخدم الحركة الوهابية ويصمم على وصفها بالاسلامية ، ولأنه يحقق أمل الكارهين للاسلام فى تشويه الاسلام ــ لهذا كله فإن تفسيرهم وتحليلهم هو السائد . والنتيجة أن المذابح مستمرة ، ونحن نصرخ  ولا يلتفت الينا أحد .!!

هذا مجرد مثل ، يرفع من شأن ابن خلدون حين ربط بين الظاهر العمرانية ( الاجتماعية ) وجذورها التاريخية ، وهو ما فشل فيه علماء الاجتماع السياسى فى عصرنا .

 

 

 

 

 

( ق2 ف3 )  أ ــ إجتهادات خلدونية في السياسة العمرانية (علم الاجتماع السياسي )

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثالث  :  اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا

 

حظيت المقدمة بقراءات متعددة من متخصصين في علوم الإجتماع الحديث . ومن هنا نرجو منهم السماح لنا بهذه القراءة غير المتخصصة في " المادة الاجتماعية " في علم العمران الخلدوني . . وسبق لنا التعرض لآراء إبن خلدون وثقافته الدينية والصوفية وتجاوبه مع عصره فيها . وبقى أن نعيش مع آرائه في علم العمران ، وما يعبر منها عن  العصور الوسطى ، وما يصلح منها لعصرنا .

 

أ ــ إجتهادات خلدونية في السياسة العمرانية (علم الاجتماع السياسي )

العرب والأنهار :

  1-  أعطى إبن خلدون للعرب صفات محددة ، ومنها أنهم لا يتغلبون إلا على السهول أو المناطق الزراعية غير المحصنة ، وهنا إشارة لقصة العلاقة بين الصحراء والأنهار، حيث إعتاد البدو الأعراب الإغارة على المناطق  الزراعية المتاخمة للدول المجاورة إذا وصلت إلى دور الضعف ، ويخلص إلى النتيجة التالية ، وهي أنهم إذا سيطروا من خلال هذه الغارات على أوطان أسرع إليها الخراب .

    ومع أن كلامه هذا يتناقض مع حديث له آخر عن البدو يصفهم فيه بأنهم أحسن أخلاقا وعقولا ، مع ذلك فإن حديثه الصادق هو عن وصف العرب بتخريب السهول المجاورة ، وهو يؤكده بأن طعام الأعراب أو العرب في انتهاب ما في أيدي الناس وأن رزقهم في ظل رماحهم. وقد صيغت هذه العادة البدوية السيئة في حديث كاذب  منسوب للنبي يقول أن رزقه في ظل رمحه ، وهذا الحديث لا يزال متداولا حتى الآن بين الجماعات الإرهابية التي تستحل النهب والسلب للآخرين .

2- والشواهد التاريخية تؤكد ذلك ، سواء في تاريخ أعراب الجزيرة العربية قبل الإسلام وبعده ، فالسلب والسبي من مفاخر الأعراب ، وقد قاسى جنوب العراق والشام من غاراتهم ، ودفع الثمن الحجاج القادمون من الرافدين ومصر . كما أن أعراب الصحراء الغربية قاموا بتخريب العمران المصري الذي كان ممتدا بين السلوم والإسكندرية ، وفي العصر المملوكي كانت بعض القبائل الأعرابية تخدم الدولة وتحارب باسمها القبائل الأخرى التي كانت  تغير على القرى وتصل غاراتها أحيانا إلى أسوار القاهرة . وكان تخريبهم لأطراف العمران المصري شديدا خصوصا في الشرقية والبحيرة والصعيد  ولم يكن ذلك بعيدا عن إبن خلدون قبل وبعد أن أتى لمصر .

3- وعادة السلب والنهب تتعاظم وتتصاعد حين تجد متنفسا لها من خلال دعوة دينية تسبغ الشرعية على سلب الآخرين وتحوله إلى غنيمة وتعدهم بالجنة إذا قتلوا شهداء . وبهذا كان الإنتصار الساحق للفتوحات العربية والإمتداد العربي من اواسط آسيا والهند  الى أسبانيا . وبذلك تم لقريش توظيف قوة العرب المسلحة وحياتهم القائمة على السلب والنهب في الفتوحات بديلا عن متاعبهم داخل الجزيرة العربية . وبعد إستقرار الدولة العربية الإسلامية ثار عليها الأعراب تحت دعاوي دينية أخرى حملت لواء الخوارج ، ثم الزنج ، ثم القرامطة ، وخرجت كلها من منطقة نجد إلى درجة أنهم صاغوا حديثا يؤكد أن قرن الشيطان يبرز من نجد ، وظلت نجد تصدر الدعوات الدينية المسلحة التي تستحل نهب الآخرين وسلبهم ، وحين لا تخرج منها تلك الدعوة الدينية فإن أهلها يمارسون قطع الطريق على الحجاج وسلبهم وقتلهم واغتصابهم في الصحراء  ــ  بدون تسويغ ديني . وفي النهاية أقيمت في نجد الدولة السعودية على أساس دعوة دينية هي الوهابية ، واعتمدت كالعادة منهج " الدم الدم الهدم الهدم " وسقطت الدولة السعودية مرتين ، وأقيمت ثلاث مرات ، وفي المرة الأخيرة أتيح لها نشر المذهب الوهابي السلفي في مصر في إطار دعوة الإخوان  المسلمين القائمة على نسق حركة الأخوان السعودية.  ومن مصر إنتشر ذلك المذهب السياسي الديني في العالم " الإسلامي "، ومن معالم هذا المذهب الأساسية الإستحلال ، ولذلك يتردد حتى الآن في الجماعات الإرهابية حديث " جعل رزقي تحت ظل رمحي ".

4- وما قلناه أشار إليه إبن خلدون في عنوان يقول أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين . . وهي مقولة تنطبق  على العرب الصحراويين في العصور الوسطى وغيرها ، ومن الطبيعي أن هذا النوع الذي يجيد التخريب ينطبق عليه قول إبن خلدون " العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك " لأن سياسة الملك في رأي إبن خلدون تقوم على الإصلاح والعدل وإقامة العمران ، ومن لا يجيد إلا الهدم لايستطيع التعمير والإصلاح. وهذا ينطبق على أعراب الغزو والإغارات ، ولكن لا ينطبق على أحفادهم الذين يصبحون مسؤولين عن توطيد الملك وتعميره . والأعراب إذا عاشوا مسالمين على هامش الحضر عاجزين  عن الإستيلاء عليه فهم في حالة إحتياج لهذا الحضر وتابعون له .[21] وكان يمكن لإبن خلدون أن يعطي المزيد لو إستفاد بالخبرة التاريخية المصرية في هذا الموضوع .

أطوار الدول والعمران

 1-  يرى إبن خلدون أن العمران كله من بداوة وحضارة له  عمر زمني كالأشخاص ، وحين يصل العمران إلى درجة الترف تبدأ مرحلة الإنحلال ، وفيها يقترن الترف بالسرف والغلاء والتضخيم مع الفساد والفسق ، وتصبح للمال الغلبة على كل شئ وتضيع القيم الأخلاقية الرفيعة في خضم ذلك الصراع حول المال ، حيث يعني المال السيطرة السياسية ، وحيث يكون كل شئ معروضا للبيع . وهنا يكون المجتمع مرشحا للإنهيار والإنفجار من الداخل أو السقوط بعامل خارجي . وهذا الوصف الخلدوني ينطبق على العصر العباسي قبيل سقوط بغداد على أيدي المغول . كما ينطبق الآن على ما يحدث فى كثير من الدول الشرق أوسطية في عصرنا .

   2- ويرى إبن خلدون للدول أعمارا طبيعية كالأشخاص ، من قيام الدولة إلى توطيدها وإزدهارها ثم إلى ضعفها ثم سقوطها . بنفس المراحل الزمنية للإنسان حيث قال تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفا وشيبة ) الروم 54 ) ونسي إبن خلدون الإستشهاد بهذه الأية الكريمة  في أطوار الدولة فجعله خمسة : الإستيلاء على الحكم ، الإستبداد بالحكم ، ثم الدعة والراحة ، ثم القنوع والمسالمة والإسراف والتبذير [22] قبيل الإنهيار والسقوط .

3- وهذه الأحكام الخلدونية تنطبق على الدول المستبدة التي تتركز في عائلة حاكمة ولها عصبية مسلحة ، ويستأثر السلطان بالحكم والثروة . وقد ينطبق هذا في عصرنا على الملكيات المستبدة والنظم العسكرية الحاكمة . أما النظم السياسية التي يختارها الشعب فعلى قدر تعبيرها عن الشعب يكون بقاؤها ، وتبقى ببقاء الشعب الذي يملك إختيارها وعزلها وتغييرها . ومن هنا فإن الملكيات المستنيرة في الغرب إختارت أن تكون مجرد رمز للشعب ووحدته ، وتدع الشعب يحكم نفسه من خلال نظم نيابية . وبهذا إستمرت من أواخر العصور الوسطى إلى عصرنا الراهن . ويمكن أن تستمر باستمرار تعبيرها عن شعبها واحتضان شعبها لها .

4- وفيما بين السطور يشير إبن خلدون إلى تفصيلات في أطوار الدولة على نسق العصر الأوسطي ، فالقبيلة إذا وصلت إلى الملك كثر عددها وتكاثر أنصارها [23]، وحتى مجرد بيت من قبيلة إذا وصل إلى  السلطة عن طريق دعوة دينية ، فإنه يعمل على أن تتكاثر أعداد الأسرة لتصبح قبيلة ، وهذا ما حدث مع الأسرة السعودية التى تكاثرت عددا بالاكثار من الزوجات والإماء ، وحدث قبل ذلك مع الأسرة العباسية التي أصبحت عشرات الألوف في العصر العباسي الأول ، فيذكر إبن الجوزي في تاريخ المنتظم أن إحصاء بني العباس سنة 200هـ بلغ 33 ألفا من الذكور والإناث [24].

5- وينحت إبن خلدون مصطلح الإلتحام ويقصد به دوام الإنتماء والدفاع عن نظام الحكم القائم ، ويقول أنه يكون في البداية عن طريق العصبية في القوة المسلحة التي تقيم السلطنة وتقوم بتوطيدها ، وبعد التوطيد يحدث النفور بين السلطان وتلك العصبية التي يكون لها عليه دلال ونفوذ ، ولذلك يصطنع السلطان في المرحلة الثانية عصبية جديدة من الموالي يستعين بها على منافسيه من البيت الحاكم ومراكز القوى في العصبيات القديمة ، ويحاول أن يصنع لهم نفوذا ومجدا ، ولكن لا يصل إلى مجد العصبية الأولى التي أقامت السلطان ، ولا يكون لأولئك الموالي الجدد نفس الإلتحام الذي كان للعصبية السالفة [25].

6- وفي فترة التوطيد والتوسيع تصل الدولة إلى أقصى إتساع لها ، ولكن إذا زادت في التوسع عن إمكاناتها كان ذلك خطرا عليها ، لذلك يقرر إبن خلدون أن لكل دولة حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها [26]، وهو تحليل رائع يصدق تماما على العصور الوسطى حيث كان سهلا أن تقوم الدول وأن تتوسع فإذا ازداد توسعها فوق إمكاناتها العسكرية أسرع إليها الفناء ، وحدث ذلك في الفتوحات العربية الإسلامية ، كما حدث في الغزو المغولي والسلجوقي . وبعد كتابة المقدمة شهد إبن خلدون فتوحات تيمورلنك التي وصلت إلى دمشق ، وقابلهإ ابن خلدون فيها ، ثم سرعان ما انهارت دولة تيمورلنك بعد موته .

7- وفي العصر الحديث ينطبق ذلك على الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس ، وسرعان ما انفصلت واستقلت عنها تلك المستعمرات ، والآن يتهدد الوطن البريطاني نفسه ( المملكة المتحدة ) بحركات إنفصالية ليست قاصرة على أيرلنده ، بل قد تمتد في المستقبل إلى سكوتلاندة ، ولنتذكر مشاعر الاسكتلنديين بعد فيلم " القلب الشجاع  " هذامع وجود النظام الديمقراطي العريق في ( المملكة        المتحدة ) .  

8- ونعود للدولة بعد التوطيد حيث يصبح الإستسلام للدولة عادة بمرور الزمن ، ويصبح القتال عنها عقيدة ، ويلقي إبن خلدون بملاحظة ذكية في الموضوع حيث يقول " ولهذا جرت العادة على وضع الكلام في الإمامة بعد العقائد الإيمانية كأنه من جملة الإيمان " وينسى أن يشير إلى عقيدته الثيوقراطية التي تجعل الإمامة كإحدى العقائد ، وهوما تعلنه الشيعة في عقائدها . والمهم أنه بينما يخضع الناس للدولة والسلطان بحكم العادة والعقيدة فإن السلطان ربما يكون طفلا أو شابا ماجنا واقعا تحت سيطرة مراكز القوى التي تحاول شغل السلطان الصغير بالمجون ليترك لهم تصريف السلطنة ، ويرى إبن خلدون أن ذلك يحدث عندما تنفرد أسرة بالحكم وتتوارثه ، فيدفع الثمن ولي العهد الصغير حين يتحكم فيه الوزير أو القائد العسكري ، وذلك المتغلب على السلطة يمارسها فعلا ويترك رسوم السلطنة وشعاراتها للسلطان الصغير المستضعف الذي حكم بإسمه ، ولاينتزع منه شارات السلطنة ومظاهرها حتى لا يثير عصبيات السلطان الصغير [27].

9- ثم إذا وصلت الدولة إلى الترف واقترن الترف بالإستبداد دخلت في الشيخوخة والهرم وتأهبت للسقوط [28].

10- وتتوالى تقعيدات إبن خلدون لمرحلة الشيخوخة والسقوط ، وقد جعلها على شكل عناوين وتحليلات ، مثل إن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع ، وإن الخلل يأتي للدولة من أسس قوتها وهي العصبية ( القوة المسلحة ) والمال ، ويبدأ الإنهيار في الأطراف بالإنقسام ويتوالى الإنقسام بضعف الدولة ، ويقوم بذلك الإنقسام عصبيات ناشئة منتصرة على غيرها وتضمها إليها ، ثم تتوسع في الأطراف إلى أن تتمكن أخيرا من إسقاط الدولة [29] .

طبيعة السلطان المستبد : الإنفراد بالسلطة والثروة

  1- وبرغم تشريعه للثيوقراطية واستبداد الملوك إلا أنه كان أمينا في وصف طبيعة السلطان المستبد ، بما يعطي للقارئ فرصة في كراهية هذا النوع من الأنظمة . فيرى إبن خلدون أن طبيعة الملك الإنفراد بالمجد ، وهو عنوان دقيق أو عبارة دقيقة ، فلم يقل إن طبيعته الإنفراد بالأمر أو بالحكم ، وإنما قال الإنفراد بالمجد ، حيث لا يطيق المستبد أن يمدح الناس غيره في ملكه أو حتى خارج ملكه ، هذا ينطبق على العصور  الوسطى وعلى الأنظمة الإستبدادية في عصرنا ، وذلك ما يفهمه تماما جهاز الإعلام الذي ينافق الإستبداد فيفرض صورة الزعيم الملهم على الناس صباح مساء ولايسمح إلا بوجود أقزام حول الزعيم .

  2- ويرى أن طبيعة السلطان المستبد الترف ، وعلى قدر ملكه يكون حظه من الترف ، والعبارة الأخيرة غير دقيقة ، فهناك من الممالك الفقيرة ما يغالي السلطان فيها في الترف بدرجة تتجاوز سلطانا آخر أكبر شأنا . والأمثلة كثيرة في تاريخنا ، فالمعتضد بالله العباسي في خلافته ( 279- 289) كان مثل أغلب أسلافه يؤثر إكتناز الجواهر  رصيدا للخلافة ، ثم تولى إبنه المقتدر ، وفي خلافته (295- 320) أضاع تلك الجواهر في ترفه وإسرافه ، كما كان الخليفة العباسي المهتدي بالله (255-256) في خلافته القصيرة غاية في الزهد ، وجاء بعده المعتمد على الله (256- 279هـ) فانهمك في اللهو والمجون والترف والسرف . وفي عصرنا الراهن كان الإمبراطور بوكاسا مترفا في مملكته أفريقيا الوسطى مع فقرها الشديد ، والملك الحسن عاهل المغرب لا يدانيه في الترف والسرف مع أن المغرب أكثر ثراء من أفريقيا الوسطى . وملوك أوربا الديمقراطية لا يزيد حظهم من الترف كثيرا عن الأثرياء في بلادهم ، ولا يزيد عن بعض رؤساء الدول الفقيرة المستبدين .

 3- ويرى إبن خلدون أن طبيعة الملك الدعة والسكون ، إذ أنه بعد أن يصل إلى الحكم ويحقق هدفه يؤثر التمتع بالدنيا ، وذلك ليس حكما عاما ، إذ يتوقف على شخصية السلطان وظروف عصره ومراكز القوى حوله ، خصوصا وأن إبن خلدون نفسه تحدث عن إستظهار أو إستقواء السلطان على مراكز القوى أو عصبية أبيه بإنشاء موالي وأتباع يدينون له بالولاء والسمع والطاعة [30] ، ولم يكونوا مثل العصبية السابقة لأبيه قد رأوه صغيرا ولهم عليه الفضل في صيانة المملكة وتسليمها له . وهكذا فإن ذلك السلطان في الوقت المناسب لراحته وسكونه يكون مطالبا بتغيير جذري في الحاشية ومراكز القوى ، وقد يكلفه ذلك حياته وسلطانه ، وبالتأكيد  فإنه يكلفه راحته وهدوء باله . ومن الطبيعي أن ذلك ينطبق على دول العالم الثالث ، ما يعيش منها في ظل إستبداد صريح أو ما يجتاز منها فترة التحول الديمقراطي . 

  4- وعن الثروة وعلاقتها بالسلطان ، يضع إبن خلدون لها قواعد تتعلق بحركة الثروة بين السلطان ومراكز القوى – أو العصبية – حوله ، ويكون الإنفراد بالسلطة هو المعادل الموضوعي للثروة .

 يقول إبن خلدون أنه في بداية الدولة يكتفي السلطان بالسلطة وتتوزع الثروة على القائمين بتوطيد نفوذه ، وبعد توطيد الدولة ينفرد السلطان بالثروة  دون الذين أسهموا في توطيد الدولة . ثم يزداد إنفراد السلطان بالثروة في شيخوخة الدولة ليحمي نفسه ويقوي سلطته . أي أنه طبقا لما يقوله إبن خلدون فإن السلطان يستأثر بالثروة  في مرحلتي توطيد الدولة وشيخوختها . ولكنه يسمح بتوزيعها في بداية الدولة . ولكن الأغلب أن الثروة وثيقة الصلة بالسلطة ، وربما ينطبق على معاوية فقط أنه أفاض بالأموال على أنصاره وأعدائه السابقين حتى ينفرد بالسلطة باعتباره أول سلطان ملك  بالمفهوم الصريح للملكية في تاريخ المسلمين ، وكان لا بد في وصوله  إلى هذا التحول الخطير أن يعطي تنازلات ، منها إعطاء مصر طعمة أي ضيعة خاصة لعمرو بن العاص يأخذ خراجها لنفسه في مقابل أن يستولي عليها من ولاة " علي بن أبي طالب " ، ومنها العطايا المالية غير المسبوقة للقرشيين والهاشميين بعد توليه الخلافة . ولكننا نرى النقيض في بداية الدولة العباسية حيث كان أبو جعفر المنصور مشهورا بلقب أبي الدوانيق ، والدانق هو ما يساوي المليم ، وكان أبو جعفر المنصور في بخله الشديد يحاسب الولاة والقواد على الدرهم والدانق ، فسمى بأبي الدوانيق ، ومما يحكي عنه من نوادر أنه أراد فرض ضرائب على أهل الكوفة سنة 155 وأراد أن يعرف عددهم أولا ، فأمر بإعطاء كل فرد في الكوفة خمسة دراهم ، وتمكن بذلك من معرفة عددهم الصحيح ، وبعدها فرض على كل فرد منهم اربعين درهما ، ومن حصيلة الضرائب أقام سورا حول الكوفة وخندقا . فقال شاعر كوفي .

                         يالقومي مالقينـــــــــا               من أمير المؤمنينــــــــا

                       قسم الخمسة فينــــــــــا               وجبانا أربعينـــــــــا[31]

 5-  ونعود إلى إبن خلدون وهويؤكد حقيقة تاريخية عجيبة ، يقول أن السلطان لا يستطيع الفرار بأمواله من بلده ، وكذلك صاحب النفوذ التابع للسلطان [32] ، ولايستطيع أن يجد مثالا لهذه الحقيقة إلا في تاريخ موطنه شمال أفريقيا ، حيث كان سهلا أن تقوم الدولة وأن تسقط . وفي موطن يغلب عليه عدم الإستقرار السياسي فمن المنتظر أن نرى سلطانا يهرب من السلطنة بأمواله ، أو أن يفرض السلطان على أتباعه عدم الحج خوف الفرار ، وذلك ما أشار إليه إبن خلدون عن نظم الحكم المتشاحنة في الأندلس . إلا أن الحال إختلف في مصر المملوكية في نفس العصر ، فالسلطان والأمراء قاموا بتحصين أموالهم من المصادرة عن طريق الوقف الأهلى . بأن يقيم أحدهم مسجدا أو خانقاه ويوظف فيها هيئة كاملة  من الإدارة والتعليم ، ثم يوقف للصرف عليهم أراضي زراعية وعقارات ويجعل نفسه قائما على ذلك الوقف ، وبالتالي تتحصن أطيانه الزراعية وعقاراته ومنشآته من المصادرة إذا ضاع سلطانه ونفوذه ، ومع هذا فقد كان بعض السلاطين يحتال على ذلك بالإستبدال كي يستولي على الأطيان الزراعية الجيدة بأراضي بور أو صحراوية وتكون متماثلة المساحة على الورق ومختلفة تماما في القيمة الحقيقية ، وكان قضاة السوء والفساد يساعدون في هذا التزييف.

وفي عصرنا تكفلت الحسابات السرية الأجنبية بحل المشاكل ، وكل عام وأنتم بخير .

 6- وأشار إبن خلدون إلى قيام الملوك بتسخير الرعايا بدون أجر ، وقيامهم باحتكار السلع وعملهم بالتجارة إستغلالا منهم للنفوذ والسلطة ، وقد احتج إبن خلدون على ذلك ، إلا أن الإحتكار والتسخير للناس يعبر عن منطق الإستبداد ، إذ أن السلطان يعتقد أنه يملك الأرض ومن عليها ، طبقا للثيوقراطية التي آمن بها إبن خلدون.

 7- ولأنه يعرف أنه ظالم معتد أثيم فإن السلطان المستبد يتوقع العقاب في الدنيا وأن يقع عليه ما يوقعه بالآخرين ، وبسبب هذا القلق السياسي على المستقبل فإن أولئك الملوك يتشوقون لمعرفة غيب المستقبل ، وهذا ما أشار إليه إبن خلدون حين قال أن الملوك والأمراء أكثر الناس إهتماما بمعرفة مستقبل دولهم . لذلك يهتمون بمدعى العلم بالغيب [33] وتلك أهم ملامح الإستبداد السياسي في الرؤية الخلدونية . ونستطيع أن نرى بعضها في عصرنا .

      

 

 

 

 

 

( ق2 ف3 )  أ ــ إجتهادات سياسية لإبن خلدون سارية المفعول

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثالث  :  اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا

         إجتهادات سياسية لإبن خلدون سارية المفعول

ونعطي لها أمثلة وتفسيرات

1- يقول أن الأوطان كثيرة القبائل والعصائب ( جمع عصبية ) قل أن تستحكم أي تتوطد

 فيها دولة [34]. وترجمة هذه العبارة إلى ثقافة عصرنا تعني أن الأوطان كثيرة الأقليات

العنصرية والثقافية والدينية يندر أن تتحكم فيها دولة إذا تمتعت هذه الأقليات بعصبيات

 أو قوة مسلحة . واستشهد إبن خلدون بالشمال الأفريقي حيث قبائل البربر وقبائل العرب

، وكلها قوة عسكرية. وقال إن ذلك لايوجد في الشام والعراق ومصر فتمهدت فيها الدول

عكس الشمال الأفريقي . ومعلوم أن الشام والعراق ملئ بالأقليات على اختلاف أنواعها،

ولكنها ليست أقليات مسلحة . لذلك يسهل أن تخضع لحكم مركزي قوي . ويؤكد على

ذلك بالإشارة إلى مصر حيث تخلو من العصبيات ولذلك يسهل إقامة وتوطيد الدولة المركزية

فيها ، وقال إن المصريين غاية في الدعة ، والسلطان راسخ نفوذه ، ومصر عبارة عن

سلطان ورعية . واكتفى بهذا ولم يبحث الموضوع في ضوء الطبيعة النهرية وحاجة

المجتمع الزراعي الممتد حول نهر النيل إلى حكم مركزي يدافع عن العمران ضد

الطامعين فيه ، ويقيم أنظمة الري والصرف وشؤون الزراعة .

2-- وتحت عنوان " كيف يقع الحجاب في الدولة وكيف يتعاظم [35] يشرح ابن خلدون

الإنفصام الذي يحدث بين الحكومة والشعب ، ويقوم بزرع الحاجز بين السلطة الحاكمة والشعب مجموعة الحاشية ، وعندما يتسع نفوذ الملك يحتاج إلى نوعية خاصة من التعامل أو " الإتيكيت " يعرفها الخواص من الملأ أو الحاشية ولا تلبث هذه الحاشية بدورها أن تتخذ لها حاشية ، وهكذا تتعدد الدوائر المغلقة حول السلطان وتتكاثف الحجب ( جمع حجاب ) بينه وبين الشعب ، وتتباعد بينهما المسافات ، إلى أن يفاجأ بسقوط دولته ، وما أشار إليه إبن خلدون ينطبق على السنوات الأخيرة من حكم شاه  إيران ، وعلى بعض حكام العالم الثالث حين ترسخ إقدامهم في السلطة . وجدير بالذكر أن القرآن الكريم تحدث عن الملأ الذي ينافق السلطان ، سواء كان إمرأة مثل ملكة سبأ ، أو كان ذكرا مثل حاكم مصر في قصة يوسف ، إلا أنه عندما تحدث عن الملأ في قصة موسى وفرعون فقد ذكر أنواعا مختلفة ومتدرجة من الملأ ، حيث كان فرعون موسى يملك الأرض ومن عليها ، ويمثل أفظع أنواع الإستبداد الذي يصل إلى إدعاء الألوهية .

   ثم إن هذا الإستبداد يستلزم درجات من الملأ ومن الحجب ( جمع حجاب ) تبدأ من  عند المستبد وتتفرع في قنوات سرية لتصل إلى العمران ، وهذه القنوات تعمل في إتجاه واحد ، هو من الملك المستبد إلى الرعية ، تحمل أوامره ومصائبه للناس ،ولا تقوم بالتوصيل بين الناس والملك ، وبالطبع تستخدم نفوذها في الظلم والفساد . وباعتبارها قناة التوصيل الوحيدة للسلطان التي تأتي له بالمعلومات أو بمعنى أصح التي تحجب عنه المعلومات ، فلا يصل إليه منها إلا ما يفرحه ويسره ، حتى تحل الكارثة ، ولكي تحل الكارثة فإن ذلك السلطان المستبد يقمع كل رأي حر ويجعل مهمة الإعلام والصحافة مقصورة على التهليل والتقديس ، ويصور كل نقد إساءة لشخصه وخيانة وتلطيخا لسمعة الوطن ، حيث يكون هو الوطن والنظام والمجتمع والناس ، وبمرور الزمن تتضخم ذاته حتى تنفجر وينفجر معه نظامه . وسبحان من يرث الأرض ومن عليها .!

3-- والنظم العسكرية في عصرنا أقرب في طبيعتها للدول البدوية التي تتأسس وتقوم بالعصبية العسكرية . ومن هنا فإن بعض ما قاله إبن خلدون عن الدولة البدوية ينطبق على حكم العسكر . يقول إنها في بدايتها وفي نهايتها تحتاج أكثر إلى السيف أو القوة ، ويكون أرباب السيف أوسع جاها وأكثر ثروة ، أما في وسط الدولة فإنها تحتاج إلى أرباب القلم لتنظيم وتكثير الإيرادات . وشواهد عصرنا تؤكد على أن الفترة الأولى من الحكم العسكري يكون النفوذ الأكبر فيها للجيش ، ثم بعد فترة تنتقل السطوة للشرطة السرية والعلنية ، وبسبب القهر والإستبداد والفساد والتجارب الفاشلة يبدأ الإصلاح الجزئي ، وهنا يأتي دور أرباب القلم ، أو الخبراء في الإقتصاد والإدارة ، ولكن لابد أن يكون أولئك الخبراء من أهل الثقة وأصحاب الولاء للحاكم ، وهذا ما لم يغب عن عبقرية إبن خلدون القائل بأن الدولة البدوية تسيطر عصبية السلطان فيها على كل شئ من الأموال والرسائل وغير ذلك ، أي يتحكم فيها أهل الثقة من العسكر ، ثم تضطر الدولة إلى تعيين آخرين مدنيين من أهل الخبرة في الإقتصاد والادارة والكتابة ولكن كانت تجعلهم تحت سيطرة العسكر ، فالدولة المملوكية العسكرية جعلت الأمير المملوكي الداودار – حامل الدواة – هو المسيطر على كاتب السر أو صاحب ديوان الإنشاء ، وهو من غير المماليك.

 

 والمشكلة أن بعض أولئك الموظفين المدنيين الكبار في السلطة العسكرية يتمتعون بالشرط الأساسي ، وهو ثقة السلطان أو الحاكم فيهم ، أي أهل الثقة.  إلا أن خبرة بعضهم لا تكون كما ينبغي ، ذلك أنهم في محاولة إكتساب الثقة ينشغلون بالهتاف والتأييد للحاكم على حساب التخصص العلمي أو المهني في مجال عملهم . بينما ينكب المجتهدون على تحصيل العلم والخبرة ، بحيث لا يكون لديهم وقت للرقص أمام السلطان . وحين يحتاج السلطان إلى تعيين خبير فإنه بطبيعة الحال يفضل أهل الثقة فيجعله على قمة الجهاز ، لأن ولاء ذلك المنافق لشخص السلطان القائم في الحكم وليس لمصلحة البلد أو الدولة ، وحين يتربع المنافق على رأس الجهاز يشعر بالنقص العلمي في مواجهة ذلك الخبير المتمكن في العلم ، بينما يشعر الخبير المتمكن في علمه بالإحباط والظلم ، وينتهي الأمر بظلم زائد يقع على الخبير إذا أبدى ضيقا أو إعتزازا بنفسه ، ويفقد الوطن – والدولة – كفاءة لكي يزداد أهل الثقة واحدا إضافيا . ومن هنا فإن الشهرة يحوز عليها من يرضى عنه السلطان ، أي من يتملقون السلطان وينافقونه بينما المتفوق في مجاله قد يترفع عن التملق للسلطان وأصحاب الجاه.

وإبن خلدون مع عبقريته إلا أنه أخضعها لعصره ، من ثوابت فكرية ورموز سياسية ، ومن هنا فإنه لم يتعاطف مع العبقري الذي لم ينافق السلطان وأولى الجاه واعتبره متكبرا ، يقول " وإعلم أن هذا التكبر والترفع من الأخلاق المذمومة ، وإنما يحصل من توهم الكمال ، وأن الناس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة " ، ويصف أولئك الخبراء الأكفاء بأنهم يحقدون على الناس حيث لا يعطيهم الناس ما يستحقون من تكريم . كما أن الناس تمقتهم وتكرهم لتكبرهم واعتزازهم بالنفس ، فيعانون العزلة والفقر ، ولذلك يقرر في موضوع آخر أن الشهرة تأتي بالحظ  لمن لا يستحقها وتتجاوز من يستحقها من أهل النبوغ والكفاءة [36]

4-- هذا .  . . وفي موضع آخر يشير إبن خلدون إلى قضية معاصرة في عالمنا اليوم، وهي التكنوقراط من كبار البيروقراطية المكتبية الذين يعملون بالسياسة ، وكل خبراتهم مكتبية نظرية بعيدة عن نبض الواقع ، ويصدرون اللوائح والقوانين التي لا تتفق مع الواقع ، ويريدون إخضاع الواقع لهم ، لا أن تخضع قراراتهم للواقع ، وهذا الصنف لم يوجد بهذه المواصفات كلها في عصر إبن خلدون ، إلا أن عقليته النافذة رصدت البدايات ، وهذا ما نفهمه من قوله عن علماء عصره النظريين ، أنهم أبعد عن السياسة ومذاهبها ، لأن السياسة تحتاج إلى مراعاة الواقع واختلافات  أحوال العمران حسب الظروف ، لذلك من الخطأ إخضاع الواقع للفكر ، والسياسة هي فن التعامل مع الواقع ، والتعامل مع الواقع يستلزم سياسيا يستطيع التفاهم مع الجماهير على اختلاف مستوياتها الثقافية ، وذلك لا يتأتى لعالم نظري مكتبي ، بل لا يتأتى لذكي ألمعي عبقري يخرج به ذكاؤه عن مستوى عصره ، ومن هنا يرى أن الأفضل في السياسي أن يكون متوسط الذكاء لأنه أقرب إلى الأغلبية.

 وفي موضع آخر يفضل أن يكون الحاكم السلطان متوسط الذكاء ، حتى لا يرهق الناس .[37].

وربما يكون رأى ابن خلدون وجيها فى بعض الظروف ، ولكن يظل هناك فارق بين الذكاء والعقل . العقل أكبر من المهارة فى الذكاء. النصّاب ذكى وليس عاقلا ، وقد يكون الحاكم ذكيا جدا يستخدم ذكاءه الخارق فى التآمر والوقيعة ، مثل الخليفة العباسى الناصر الذى تسبب فيما بعد فى تدمير الدولة العباسية بذكائه ( الأحمق ) . العاقل هو من يتدبر العواقب ، سواء كان حاكما أو شخصا عاديا ، بعقله يكتسب الأنصار ويحوّل الخصوم الى أصدقاء أو على الأقل الى محايدين . الأحمق هم من يفعل العكس ،  وهناك حاكم جاهل وغبى وبليد وقد يستمر طويلا فى الحكم بسبب ظروف مواتية محلية واقليمية ودوليو . ومع الأسف ، فهذا الصنف متوافر حاليا فى السوق العربية.   

 5- وهناك إشارات أخرى كثيرة سارية المفعول ، نقتطف منها :

    الترف من عوائق الملك ، وبقدر تغلب العصبية أو القوة المسلحة تكون ثروتها ،أي أن  الثروة على قدر النفوذ والسلطة ، ولكن الثروة ما تلبث أن تذهب بأصحاب القوة المسلحة إلى الترف والترهل والضعف .

     والنصر في الحرب يأتي تبعا للحظ لأسباب خفية وطارئة ، مهما كانت الإستعدادات ، وحيث لا يمكن الوثوق والتأكد من النصر .

وازدهار العاصمة مقترن بازدهار الدولة ، وتتعرض العاصمة للخراب إذا سقطت الدولة ، والدول الكبيرة لا يؤثر فيها اختلال الحاكم .

     والأهم من ذلك كله كلمته المأثورة ، أنه كلما إزداد قهر الحاكم للشعب إزدادت الذلة فيهم ، وأن من مصلحة الحاكم والمحكومين الرفق في الحكم [38]. وهى حكمة بالغة ، ولكن من يعمل بها ؟. يقول جل وعلا عن الحكمة التى يعتاد البشر عدم العمل بها : (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)  القمر ).!

 

 

 

( ق2 ف3 ) ب – إجتهادات خلدونية في إقتصاديات العمران ( علم العمران أو الإجتماع الإقتصادي)

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثالث  :  اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا

 

 ب – إجتهادات خلدونية في إقتصاديات العمران ( علم العمران أو الإجتماع الإقتصادي)

 

   مقدمة إبن خلدون تحتاج لقراءة متخصصة من علماء الإقتصاد ، وفيها تتجلى عبقرية إبن خلدون التي إنطلقت في أمن من التعرض للثوابت الدينية والثقافية لعصره ، ومن هنا فإن إجتهاداته الإقتصادية ليست قاصرة على عصره وظروفه الإجتماعية . وحتى ما ارتبط منها بظروف سادت في العصور الوسطى فأننا لا نزال نسعد بوجود تلك الظواهر معنا ، ومنها التحايل بالكيمياء على ضعاف العقول وإقناعهم بإمكانية تحويل الأشياء إلى ذهب ، أو إدعاء البحث عن الكنوز والدفائن القديمة، واستخدام التدين في ذلك التحايل .

 الزراعة

    ومن الأنشطة الإقتصادية التي تعرض لها إبن خلدون من المنطلق الثقافي لعصره ، الزراعة. قال عن الزراعة معبرا عن عصره – إنها حرفة الضعفاء حيث يكون الفلاح ذليلا تحت سيطرة القهر ، ولاتزال تلك النظرة سائدة حتى الآن لدى بعض الدوائر الحاكمة حيث تصدر القرارات في مجال الزراعة دون مشورة أصحاب الشأن الفلاحين ، مع أن معظم أولئك الموظفين الكبار ينتمون إلى أصول ريفية ، ولكنهم توارثوا عن البيروقراطية العثمانية والمملوكية إحتقار الفلاح ، وهي نفس النظرة التي سجلها إبن خلدون عن عصره .

    والزراعة – أو الفلاحة – تعني الإستقرار والسكون والصبر وطاعة الحاكم القائم بالحماية وتنظيم الري والصرف وشؤون الوادي . ومن هنا يصبر الفلاح على القهر ، فالظالمون يفني بعضهم بعضا ، ولكن يظل الفلاح ملح الأرض باقيا ما بقيت السماوات والأرض ، وذلك سر الإستمرارالفلاح المصري حتى الآن . ولو أنه لول مرة فى تاريخه الذى يزيد عن خمسين قرنا يهجر أرضه التى التصق بها من قبل ليهاجر الى الخليج ، أو الى القاهرة ليعمل ( بوابا ) .!

ومهما يكن فإن الزراعة فى بلاد النهر والتى تؤسس الحضارة هي حالة تختلف عن أحوال القبائل الرعوية المسلحة المتنازعة في شمال افريقيا ، والتي أهلكت بعضها دون أن تقيم حضارة أو تنشئ فكرا .

ويتكرر إعتراف إبن خلدون بتخلف وطنه بسبب التقلبات السياسية التي لا تنتهي هناك ، والتي لا ينتج عنها إلا الوحشية في سفك الدماء وفي التخريب .

وإذا كان لنا أن نقارن بين صبر الفلاح المصري ووقوعه ذليلا تحت سيطرة القهر ، وبين وحشية السكان الآخرين فالصبر عندنا ليس سكونا سلبيا ، ولكنه عمل إيجابي في البناء والإنتاج والإستقرار والإستمرار ، عكس التدمير والتخريب ، وإن كانت عبارة إبن خلدون عن الفلاح المصري في  عهده صادقة في وصفها وفي إيلامها ، فإن التبعة تقع على عاتق أولئك الحكام الظالمين الذين ألهبت سياطهم ظهر الفلاح المصري ، وهو يكد في إنتاج الخير. . للغير..

عبقرية التحليل للدجل

    وصدق إبن خلدون في وصف حال الفلاح المصري – بالذات – يؤكده نظرته الثاقبة للدجالين محترفي الزعم بتحويل المواد إلى ذهب ، فهو يصفهم بأنهم فقراء عاجزون عن الكسب الطبيعي ، وفي موضوع آخر يجعل أغلبهم من طلبة العلم ، أي مثقفون فقراء حولوا ذكاءهم وثقافتهم إلى تحايل ودجل لكسب المال بطريق سهل ، ويؤكد نظرته الإجتماعية حين يقول أن الفارابي آمن بفكرة تحويل المعادن إلى ذهب لأنه كان فقيرا ، بينما أنكر هذه الفكرة إبن سينا لأنه كان غنيا وزيرا ، أي أن الظروف الإجتماعية تؤثر في الآراء العلمية طالما قامت على أساس الجدل العقلي والمزاج الشخصي دون التجارب العملية .

وفي موضوع البحث عن المطالب والدفائن كانوا يستعملون الطرق السحرية في البحث ، وليس التنقيب العملي ، واستهواهم ذلك البحث السحري المزعوم حتى أصبح مرضا ، وإبن خلدون يستخدم تعبيرا بالغ الدلالة في وصف حالهم ، فهو ينصح من يصاب " بهذا الوسواس" ، بأن يتعوذ بالله من العجز والكسل وينصرف عن طريق الشيطان ، أي أن الأمر تحول إلى  ما يشبه الوسواس (Obsession( القهري  المرضي  

   . . وفي التجارة

وبعد الزراعة واحتراف الدجل في كسب المعاش نصل إلى التجارة . وسبق أن عرضنا لنظرة مجتمع إبن خلدون للتجارة.  وقد شرح هذه النظرة المتدنية للتجار في فصلين ،  يؤكد فيهما أن الأشراف وأصحاب المروءة لايحترفون التجارة . وهو في موضع آخر يتحدث عن المصاعب التي تواجه التجار منها قلة أصحاب الذمة والغش وتطفيف الكيل والميزان والمماطلة في  الدفع وجحود الحق ، وعدم الوصول للحق بواسطة القضاء إلا بصعوبة وبعد مدة طويلة ، لذلك يرى أنه لا يصلح للتجارة ، ولا يفلح فيها إلا من كان جريئا في الخصومة بصيرا بعواقب الأمور شديد المماحكة مقداما على الحكام ، أو إذا كان صاحب جاه حتى يضمن حقه طوعا أو كرها ، ويؤكد أنه لذلك كانت أخلاق التجار بعيدة عن المروءة وأخلاق الملوك والأشراف بما فيها من مساومة وغش وحلف بالكذب ، ويندر من يكون من التجار شريفا سليما من هذه الرذائل [39]. ومن الطبيعى أن هذه الصفات للتجار مسئول عنها ـ جُزئيا ـ الفساد المرتبط بالاستبداد ، خصوصا مع عمل السلطان ( أو الجكومة ) فى الاقتصاد زراعة وتجارة وتدخلها بالقوانين واللوائح ، وشيوع الرشاوى ، وقد كان للرشاوى فى مصر المملوكية جهاز رسمى هو ( ديوان البذل والبرطلة ).

    وقد وصف إبن خلدون الدول البدوية التي قامت : بأنها تحترف السلب والنهب والتخريب للأمصار ، ومن الطبيعي أن يكون التجار ضحايا مثاليين لهذا النوع من الأنظمة الحاكمة ، خصوصا وأن طرق القوافل يتحكم فيها قطاع الطرق من أتباع الدولة وخصومها . ومن هنا فالتاجر الذي يستطيع الصمود في هذا المناخ إما أن يكون مغامرا أقرب إلى قطاع الطرق ، وإما أن يكون وثيق الصلة بالحكام ، أي أقرب أيضا إلى قطاع الطرق الرسميين . وفي كل الأحوال فأولئك التجار مع أولئك الحكام أبعد ما يكون عن المروءة وأخلاق الملوك والأشراف . وحال التجار فى الدول البدوية غير المستقرة أسوأ من حالهم فى الدول النهرية الأميل الى الاستقرار .

   والغريب أن إبن خلدون يغيب عنه ذلك التحليل ، ويكتفي بتسجيل رؤية عصره للتجار ، وهي رؤية خاصة بموطنها وتخالف الرؤية المصرية والمشرقية حيث الأمن أكثر إستتبابا، وحيث كان التاجر ذا وضع أكثر إحتراما ، وإبن التاجر في رواية ألف ليلة وليلة لايختلف كثيرا عن أبناء المترفين ، وكثير من التجار في العصر المملوكي أفسحت لهم الحوليات التاريخية بين سطورها وكان منهم من سلك طريق العلماء على سبيل الهواية ، ومنهم من سجلته الحوليات التاريخية بسبب كرمه وعلاقاته الطيبة بمجتمع العلماء والسياسيين ، ومنهم من ابتنى مساجد ومؤسسات دينية وتعليمية .

    ورؤى إبن خلدون ونظراته الإقتصادية في المقدمة جاءت في صالح تحرير التجارة والإزدهار الإقتصادي ، وإذا جاز لنا الإفتراض التاريخي ، فإننا نقول أن الغرب لو إتبع نظرات إبن خلدون لاستراح العالم من تجربة الشيوعية التي أعاقت التطور الإنساني نحو قرن من الزمان ، ولم تفلح الشيوعية إلا في تقليم أظافر الرأسمالية وإصلاحها من  الداخل . إذ تطرفت الرأسمالية في إستخدام نفوذها ضد العمال وأرهقتهم وأرهقت المجتمع بالإحتكار ، مما أدى إلى تطرف مضاد هو ظهور الفكر الشيوعي الذي أقيمت على أساسه نظم سياسية ، وفيها جاءت رأسمالية الدولة الصريحة في الصورة الشيوعية حيث يمتلك الدولة والشعب شخص واحد تتمثل فيه حقوق العمال الضائعة  ولايستطيع أحد أن يناقشه ، وذلك في مقابل الرأسمالية وهي حفنة من الأسر والتكتلات الإقتصادية تحكم الشعب بمسرحية التمثيل النيابي والديمقراطية غير المباشرة ، إلا أن العمال فيها والجماهير أفضل حالا من أمثالهم في العالم الشيوعي .

بين الثروة والنفوذ ، بين الجاه  والمال :

 ويؤكد إبن خلدون على العلاقة بين الثروة والنفوذ، أو الجاه  والمال ، أو التلازم بين السلطة والثروة . فيقول أن المتمول أو الرأسمالي  يحتاج إلى الجاه ، فالتاجر صاحب الجاه أكثر ثروة من التاجر الذي لا جاه له ، بل أن الفقيه صاحب الشهرة لايلبث أن يصبح صاحب جاه ثم صاحب ثروة ، وهذه حقيقة تنطبق على كل زمان ومكان . وفي موضع آخر يقول أن المال يأتي عن طريق العمل ، ولكن الجاه يفيد تنمية المال ، وبدون الجاه يصير الكسب على قدر العمل .

    ويلتفت إلى أحوال الجاه والنفوذ ، فالنفوذ يتركز في السلطان ثم يوزع من هذا المركز إلى الحاشية وأصحاب القوة وعلى قدر هذه  القوة ، إلى أن  ينتهي عند من لا حول له ولا قوة .

   ويشير في نظرة ثاقبة إلى الطبقات الإجتماعية ، فيوضح أن لكل طبقة في المجتمع جاها ونفوذا وسطوة ، وهي تخضع للطبقة الأعلى منها والتي تكتسب منها النفوذ ، ثم تمارس هذا النفوذ على الطبقة التي تليها والتي تعطيها بعض النفوذ . وهكذا فالطبقة الأدنى تستمد نفوذها وجاهها من الطبقة التي تعلوها . وتزداد ثروتها بقدر الجاه الذي تتمتع به . وهكذا تتميز كل طبقة عن الأخرى بمقدار جاهها وثروتها . وهذا الفتح الخلدوني هو الأول في بابه في فقه الصراع الطبقي الذي يختال به الغرب علينا . وقد جاء بين سطور المقدمة في معرض العلاقة بين الجاه والثروة .

     ثم يلتفت إبن خلدون إلى أحوال صاحب الجاه ويبين أنه إذا ضاع منه جاهه ونفوذه ضاعت منه ثروته ، وإذا اقتصر على عمله يصبح فقيرا . ويصل إلى نتيجة حقيقية ومؤلمة وهى إعطاء الجاه يعني إعطاء الثروة ، ومن هنا يتزلف المنافقون لأصحاب النفوذ طلبا للثروة والسطوة معا ، ومن يترفع عن النفاق ويقتصر في التكسب على عمله يظل فقيرا [40]مهما بلغت كفاءته ومهما بلغ نبوغه و إخلاصه لعمله . والمؤلم هنا أن هذه القاعدة الخلدونية سارية المفعول في عصرنا ، وهي من الأعراض المرضية ( من المرض ) في العالم الثالث ، وبها تهرب الكفاءات الى دول الغرب ، ورءوس المال ايضا ، فيظل الغرب فى تقدم مستمر ، ويظل الشرق ( الأوسط ) فى تراجع مستعرّ. !! .

 

 

 

( ق2 ف3 ) (ج )

وصفة سحرية خلدونية للإصلاح الإقتصادي: عدم تدخل الدولة فى الانتاج وتجريم الظلم

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثالث  :  اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا

 

(ج ) وصفة سحرية خلدونية للإصلاح الإقتصادي  

 1 ـ   ونؤكد في البداية على أن إستخلاص تلك الوصفة الإقتصادية السحرية مسؤولية المتخصصين في الإقتصاد ، وليس من حقهم الإستعلاء على ما جاء في مقدمة إبن خلدون ،  لأن الرئيس الأمريكي ريجان أقام سياسته الإصلاحية على ما جاء في مقدمة إبن خلدون وأعلن ذلك في حينه ، ومن أسف أننا لم نوثق هذه المعلومة حين إذاعتها . وإن ظلت محفوظة في الذاكرة .  وندلي باجتهادنا المتواضع في ذلك المجال .

  2 ـ    وقد سبق إيراد العلاقة بين النفوذ السياسي والثروة وتلازمهما ، بحيث يزداد أحدهما بازدياد الآخر ، ومن هنا فالسلطان الأكثر نفوذا وتسلطا هو الأكثر ثروة ، وفي هذا المناخ عاش إبن خلدون إلا أنه أطلق عبقريته تحاول الإصلاح الإقتصادي والإجتماعي في إطار تهذيب السلطة المطلقة لكي يكون المستبد عادلا ، ومن هنا فإن الرؤية الخلدونية ينقصها بالتأكيد ضرورة الإصلاح السياسي الحقيقي على مراحل.

الرؤية القرآنية تجعل المجتمع هو صاحب الحق المطلق في الثروة والسلطة ، وهو الذي يمارس هذا الحق في تعيين موظف من أصحاب الشأن أو الإختصاص أو الخبرة في موقع المسؤولية على أساس المحاسبة ، وعلى أساس أن طاعته مرتبطة بطاعة الله ورسوله أو كتابه ، وكما يمارس هذا الحق السياسي فإن المجتمع أيضا يمارس حقوقه على الثروة ، بحيث تكون للفرد طالما أحسن التصرف فيها ، فإذا ظهر أنه سفيه قام المجتمع بالحجر عليه والإنفاق عليه من أرباح ثروته التي يديرها المجتمع من خلال وصي ، ويخضع ذلك الوصي للمساءلة ( النساء /5: 6) .

 لانريد أن نتوقف كثيرا في شرائع القرآن الإقتصادية والسياسية التي أهملها تراث المسلمين وعباقرة المسلمين أمثال إبن خلدون ، ونعود إلى الرؤية الخلدونية ، وهي تحاول الإصلاح الإقتصادي  بديلا عن الإصلاح السياسي المستحيل في وقتها .

3 ــ ونتتبع ملامح هذا الإصلاح الخلدونى على النحو التالي :

  3 / 1 - فهناك قواعد عامة تؤكد على دور الدولة في الإقتصاد ، منها أن آثار الدولة أي جهدها في العمران بقدر قوتها ، وقوتها بقدر ثرائها الإقتصادي ، ويعتمد هذا الثراء الإقتصادي على رسوخ الدولة أي استقرارها واستمرار هذا الإستقرار ، وذلك الإستقرار السياسي يتحول فيه الإزدهار الإقتصادي إلى حضارة مستحكمة ومستقرة [41].

3 / 2 : وبعد التأكيد على دور الدولة – التي هي السلطان المستبد – يعمل إبن خلدون على تقليص دور السلطان في التدخل في الحرية الإقتصادية بل يكون دوره في منع الظلم ،ومنع السلطان من الإحتكار والمغالاة في الضرائب. والسلطان هنا هو السُّلطة أو النظام الحاكم .  ونصل إلى هذه التفصيلات .

 3 / 3 -  فيرى إبن خلدون أن من الخطأ أن يعمل السلطان – أو الدولة – في الزراعة والتجارة ، أو أي نشاط  إقتصادي ، أي يرى من الخطأ أن تقوم الدولة بالإنتاج الإقتصادي ، لأن ذلك يعني تدخل السلطة في قهر المزارعين والتجار على أسعار لا يرتضونها ، مما يجعل حماسهم يضيع فلا ينتجون ، وطالما تناقص الإنتاج فإن دخل الدولة من الضرائب يتناقص [42]، لذلك لابد من رفع يد الدولة عن الإنتاج وأن تترك الناس يعملون مكتفية بفرض الضرائب . وهذا رأى رائع ، نتمنى تطبيقه فى مصر .!!

3 / 4 - ويرتبط ذلك بتجريم إبن خلدون للإحتكار ، وهو يقول في صراحة أن الإحتكار في الزرع مشؤوم [43] وبالتالي لا يجوز للسلطان أن يحتكر سلعة ويرغم الناس على شرائها بالتسعيرة التي يحددها ، ولايجوز له أن يبخس الناس أشياءهم ، وتلك قاعدة قرآنية .

3 / 5 : ويلتفت إبن خلدون إلى ناحية أخطر وهي إحتكار السلطان للثروة وليس مجرد الإنتاج الزراعي . فيؤكد على أن السلطان – أو الدولة – إذا إكتنز الأموال أو إحتكر الثروة ، فقد حل الكساد بالبلد . لذا نرى ابن خلدون يشجع السلطان على إطلاق الأموال في الناس حتى يدور المال دورته فينتعش الإقتصاد . وبالتالي تزداد حصيلة الضرائب من سرعة دوران المال وانتعاش الإقتصاد . ويلخص إبن خلدون ذلك كله في عنوان موجز يقول " نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية " [44] أي باختصار يدعو إبن خلدون إلى تجريد السلطان من أمواله أو بتعبير مخفف يعطيها السلطان للشعب كي يستثمرها له ، ويكتفي السلطان – أو الدولة – بفرض الضرائب أو الجباية . . وهذا أيضا رأى رائع ، نتمنى تطبيقه فى مصر .!!

 3 / 6 - ولكن السلطان قد يلجأ للظلم ، ظلم الناس واحتكار جهدهم بلا مقابل ، أو ما يعرف بالسخرة ، وهنا نجد إبن خلدون يقول محذرا في عنوان واضح " إن الظلم مؤذن بخراب العمران " [45]وهي كلمة نستسهل قولها ، ولكن ثقافة العصور الوسطى ــ القائمة أساسا على الظلم ــ تجعل من المخاطر أن تقال هذه الكلمة في عنوان واضح . ولايكتفي إبن خلدون بالعنوان وإنما يشرحه بالتفصيل وبالتحليل  وإيراد الأمثلة ، ثم يجعل نصف الفصل في تحريم وتجريم السخرة ، وموجز كلامه أنه على قدر الظلم يكون التقاعس عن العمل والإنتاج ، وعلى قدر العمران والتعمير يكون السعي للعمل والإنتاج ، ويكون أيضا تناقض الظلم وشيوع العدل، ويرى أن الظلم هو إغتصاب أي حق مادي أو معنوي ، ثم يؤكد على أن السخرة من أفظع أنواع الظلم ، وكذلك الإحتكار في البيع والشراء ، والظلم يؤدي إلى خراب المجتمع وسقوط الدولة في النهاية .

4 ــ   وحتى نقدر إبن خلدون على هذا التصريح نعطي أمثلة محددة صريحة وسريعة تكشف لنا كيف أصبح الظلم عادة يومية في العصر المملوكي لا تستوجب الكثير من الإستنكار ، فالعصر المملوكي هو عصر بناء العمائر الدينية ، تلك العمائر التي لا تزال تزين القاهرة الإسلامية حتى الآن . وتلك العمائر الدينية من المفهوم أن أصحابها أقاموها تقربا لله تعالى ، ومن المفروض أن تكون من مال حلال طيب ومنزهة من أي ظلم أو سخرة . . ولكن كان يحدث العكس .

ونستشهد بأقوال مؤرخين من نفس العصر :

4 / 1. . فالمؤرخ المملوكي الأصل أبو المحاسن إبن تغري بردي يقول عن المماليك " وأعجب من ظلمهم انشاؤهم المدارس والربط ( جمع رباط وهو مسجد صغير للصوفية ) من هذا المال القبيح " واستشهد أبوالمحاسن بمدرسة فخر الدين ومدرسة جمال الدين الإستادار وما حدث من ظلم في بنائهما بزعم التقرب لله.

4 / 2 وترددت إشارات أخرى كاستعمال العسف والقسوة في بناء العمائر الدينية ، فقد ذكر العيني أنه نودي في القاهرة ألا يخرج أحد من الناس إلى أن تتم عمائر السلطان الناصر فرج ، ومنعوا بيع المؤونة والغذاء " فحصل بذلك ضرر كثير للناس ".

4 / 3 ـ وأراد الناصر فرج سلب رخام مدرسة جمال الدين الإستادار ، وهو أمير ظالم سابق ، فألزم بعض أعوان السلطان بأن تصبح الخانقاه ملكا للسلطان ويمحو منها إسم جمال الدين الإستادار ، واستعان بالقضاة في تنفيذ ذلك عن طريق الإستبدال ، وكان ذلك بعد موت إبن خلدون بست سنوات [46] .

4 / 4 ـ ويذكر أبوالمحاسن أن الأمير قان بردي الأشرفي شرع في بناء عمائره الدينية وكان ذلك في عدة أيام ، ويصف أبوالمحاسن ما حدث للعمال ، يقول " ومع هذا ظلم في تلك الأيام الظلم الزائد ، وعسف بالصناع وأبادهم بالضرب وباستعمالهم بغير أجرة ، فما عف في ذلك ولا كف " [47] .

4 / 5 ـ وكان يونس الداودار مشهورا بحب الرشوة ، ومن أمواله تلك أقام مدرسة وخانقاه ورباطا وزاوية ومقاما أي تربة [48] وتوفى أثناء وجود إبن خلدون في مصر أي سنة 791هـ .

4 / 6 ـ وقال المقريزي [49] عن الأمير أقبغا " كان من الظلم والطمع والتعاظم على جانب كبير " ومع ذلك أقام مدرسته المعروفة بالاقبغاوية وفيها صوفية خصصهم للدعاء له .

4 / 7 ـ  ولما بني السلطان المؤيد شيخ جامعه المشهور ، ينقل إبن إياس ما حدث للناس في بناء ذلك المسجد يقول " حصل للناس بسببه غاية الضرر لأجل الرخام ، وصار المؤيد يكبس ( أي يهجم ) الحارات التي فيها بيوت المباشرين ( أي كبار الموظفين ) وأعيان الناس ، بسبب الرخام ، وكان والي القاهرة يهجم على الناس في بيوتها ومعه المرخمون ( أي صناع الرخام ) فيقل"_ftnref52" title="">[52] ووصف المقريزي الظلم الذي صاحب إنشاء هذا الجامع الذي لايزال حتى الآن من مفاخر العمائر المملوكية .

 وهذا جانب من الظلم السائد فى عصر ابن خلدون والذى حاربه إبن خلدون .

 

( ق2 ف3 ) (ج ) وصفة سحرية خلدونية للإصلاح الإقتصادي:  الضرائب ، تحديد النسل والصناعة والأسعار 

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثالث  :  اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا

الضرائب ، تحديد النسل والصناعة والأسعار

الضرائب

1--  حين لا يتدخل السلطان بنفوذه فى التجارة والصناعة والزراعة ، وحين يكفُّ عن الظلم ، لا يبقى له من مورد إلا فى الضرائب . وهنا أيضا يتصدى له ابن خلدون بترشيد الضرائب أو الجباية .  إنها نظريته الثاقبة التي طبقها ريجان وأشاد بها . تخفيف الضرائب مرتبط بتقليل دور الدولة فى النشاط الاقتصادى وتركها الناس ينتجون بدون تعقيدات حكومية وملايين الموظفين ، جالسين فى مكاتبهم يستنزفون ايراد الدولة ويسوغون لها فرض المزيد من الضرائب لإعالتهم ، وهذه الضرائب من عرق الكادحين ، وهي تعرقل عملهم وتُحبطه . ويرى ابن خلدون أنه أنه إذا قلت جباية الدولة قلت الوظائف الرسمية وقلت مصروفات الدولة وتشجع الناس على العمل فيكثر الإنتاج ويزداد العمران ، خصوصا مع قلة الغرامات ، والضرائب ، إلا أن تلك الضرائب المحدودة تتكاثر بزيادة الإنتاج وزيادة المنتجين أى زيادة عدد دافعى الضرائب  . أما إذا زادت  الضرائب والمغارم ضعفت عزائم الناس عن العمل ، لأن ناتج عملهم تأخذه الدولة ، فتتناقص الضرائب لقلة الإنتاج وتدهوره . ومع زيادة الضرائب على ذلك الإنتاج القليل الآخذ في  التناقص يزاد العسف في تحصيل الضرائب وفي إزديادها مما يعجل بخراب العمران . . وهذا رأى رائع ، نتمنى تطبيقه فى مصر .!!

2 ـ  ويضع إبن خلدون قواعد تربط بين مراحل الدولة وفرضها للضرائب ، فالدولة في بدايتها تكون بسيطة قليلة الإنفاق والمصاريف ، لا تعرف الترف ولاتفرض ضرائب كثيرة ، وحين تدخل في دول الترف تتكاثر مصاريفها ومشاكلها فتضطر لفرض ضرائب لتنفق منها على العسكر والحماية ، فيأتي الكساد والخراب . وتقوم دولة جديدة تبدأ عهدها بإلغاء الضرائب التي لا داعي لها .[53]

3 ـ  وفي موضع آخر يؤكد على أن وفرة الإنتاج تعني التصدير والتأنق والترف ، وبالتالي إزدهار الصناعات والحرف ( جمع حرفة ) . أو يقول أن العمل يعني المكسب والمعاش ، والمكسب الزائد يعني الإستثمار واقتناء الكماليات ، أما إذا تناقص العمران تناقص العمل وتناقص الإنتاج وتخربت المرافق من المياه وغيرها [54].

تحديد النسل

1 ــ تناقص العمران أو زيادة العمران تعنى فى الرؤية الخلدونية تناقص أو تكاثر السكان . وواضح أنه يربط  وفرة الانتاج بزيادة العمران أو زيادة عدد السكان ، هذا إذا عملوا وأنتجوا بلا تدخل من السلطان ( الدولة ) وبلا ظلم وبلا ضرائب باهظة .

2 ــ هنا يتلامس ابن خلدون مع قضية جدلية فى عصرنا ، هو ( تحديد أو تنظيم النسل ) التى لا وجود لها فى الدول المتقدمة القوية . ولكن تتبنى نظم الحكم المستبدة الفاشلة سياسة تحديد أو تنظيم النسل .  

 ولكن الانسان فى حد ذاته أعظم ثروة ، وأعظم مورد للإنتاج  ، هذا إذا تم ( تصنيعه ) بالتعليم الجيد وتم توفير المناخ المناسب له لكى يبدع وينتج ، فى مجتمع ديمقراطى عادل ، يحترم كرامة الانسان وحريته ، ويقف مع الفاشل حتى ينجح ، ويختفل بالناجح ليزداد نجاحه ، ويحتفى بالمتفوقين والعباقرة ويوفر لهم ما يحتاجون .

3 ــ  العكس تماما فى النظم المستبدة التى يتحكم فيها فرد ومعه الملأ ، أو بتعبير ابن خلدون ( العصبية ) سواء كانت عسكرية ، أو حزبا يحتكر السلطة والثروة . هنا يفوز أهل الثقة المنافقون الذين لا يجيدون سوى الرقص فى مواكب المستبد وأعوانه ، وليس لديهم موهبة سوى فى النفاق ، بهذا النفاق يحتلون مكانة الخبراء ، بينما الخبراء المتخصصون يلقون التجاهل ، و يُعانون الفقر والاضطهاد لو تكلموا فى الاصلاح . فى هذه الحالة ينتشر الفقر ، وتنكمش الطبقة المتوسطة ، وتتعاظم الفجوة بين المترفين والفقراء . وبدلا من الاصلاح السياسى والاقتصادى والتعليمى بتأسيس دولة ديمقراطية حقوقية يلجأ المترفون الى تقليل أعداد الأغلبية الجائعة بسياسة تحديد أو تنظيم النسل .

4 ــ وكم كان ابن خلدون رائعا وهو يرى أن البديل عن تدخل الدولة فى الانتاج وظلمها هو كثرة السكان ، وكثرة الأيدي العاملة التي تجد المجال مفتوحا لأن تعمل وتنتج في دولة مستقرة عادلة . وهذا ما يبدو من خلال الربط بين كثرة السكان وكثرة الإنتاج في حديث إبن خلدون ، فهو يقول أن تفاضل المدن في كثرة الأرزاق والأسواق ناشئ عن كثرة العمران والسكان . وازدياد السكان مع كثرة العمل يعني زيادة الإنتاج ، وزيادة الإنتاج ينتج عنه فائض بقدر  الزيادة السكانية والعمرانية ، ويتحول هذا الفائض إلى الرفاهية وإنتاج الكماليات والتصدير . هذا طبعا فى ظل نظام عادل .

5  - وقد جاءت تلك الآراء أو الوصفة الخلدونية ضمن نظرات ثاقبة تصلح لأن تكون قواعد عامة ، منها : أن بعض المدن تتخصص في بعض الصناعات وتشتهر بها .

الترف يخلق أنشطة إقتصادية جديدة .

تختلف الأقطار في أحوالها الإقتصادية مثل إختلافات المدن إقتصاديا .

النشاط الإقتصادي أساس الإختلاف  بين الريف والحضر .

بإزدهار  النشاط الإقتصادي في الريف يتحول إلى حضر.

 نوعية الحيوان في الرعي تحدد درجة التحضر لدى الرعاة ، وتحدد مدى تنقلهم قريبا أو بعيدا عن الحضر ، ولذلك كان العرب البدو أكثر خشونة وتخلفا لقدرة الإبل على التوغل بعيدا في عمق الصحراء.

يقوم الحضر على أساس الكماليات بينما تقوم حياة البدو على الضروريات . [55]

 الصنائع (الصناعة) :

وعلى الرغم من موطنه الفقير في الصنائع ( الصناعات ) بالنسبة لمصر وغيرها فإن تقعيد إبن خلدون للصنائع يظل صالحا لعصرنا . وقد وضع في ذلك عدة قواعد منها :

  1- العرب أبعد الناس عن الصنائع لأنهم أعرق في  البداوة وأبعد عن التحضر وما يستلزمه من صنائع ، وفي المقابل ، فإن الصنائع ترتبط بازدهار العمران ، وعلى قدر العمران يكون التقدم  في الصنائع والتأنق فيها ، وترسخ الصنائع برسوخ الحضارة وطول أمدها ، حتى لو تراجع العمران . وإذا تناقص العمران وتراجع الترف إكتفى المجتمع بالضروريات وقلت الصنائع وانتهت صناعات الترف مثل الجواهرجية والزخرفة .

 2- تجود الصنائع إذا كانت مطلوبة ، ومن أتقن صناعة قل أن يتقن غيرها ، لأن الملكات صفات للنفس فلا تزدحم داخل النفس الواحدة ، فإذا بدأ الإنسان بفطرته بتعلم صناعة فإن نفسه تصطبغ بهذه الصناعة وتكون أضعف عن قبول غيرها، وينطبق ذلك على مجال الفكر والعلم .. [56].

الأسعار :

وقد وضع إبن خلدون عدة قوانين للأسعار جديرة بالإعتبار ، منها :

 1-بالنسبة لعلاقة الأسعار بالعمران والضروريات والكماليات:

إذا زاد العمران رخصت السلع الضرورية وارتفعت أسعار الكماليات ، وإذا نقص العمران إرتفعت أسعار السلع الضرورية ، وانخفضت أسعار الكماليات . لأن الكماليات لا يطلبها الجميع ولايعمل فيها الجميع. وإذا زاد العمران أصبحت الكماليات مطلوبة فلا يكفي المعروض منها حاجة الطالبين فتزداد الرغبة فيها ويعلو ثمنها ويرتفع . وإذا زاد العمران إنتعشت الصنائع وارتفعت أجور الحرفيين وانتعشت أعمال الحرف. والواضح أن هذه القوانين تشير لقانون العرض والطلب الذي بدأ به علم الإقتصاد في الغرب .

 2- وفي  موضع آخر يتحدث عن أجورالحرفيين وظاهرة التضخم عند كثرة العمران والترف . يقول أنه بكثرة العمران والترف تتحول الكماليات إلى ضروريات وترتفع أسعار الحرفيين مما يجعل الأسعار كلها ترتفع على قدر العمران ، ويحتاج رب الأسرة إلى دخل كبير ليغطي مصاريف أسرته ، مما يجعل من العسير على الفقير أن يعيش في تلك المدن . وهذه الحالة تنطبق على عصرنا الراهن .

 3-  وعن أسعار العقارات والمزارع : يقول أنها تتغير إذا أشرفت الدولة على الأنهيار ، لأن أصحاب الدولة المشرفة على الإنهيار يضطرون إلى بيع ممتلكاتهم لتتحول إلى ملاك آخرين ، يشترونها رخيصة ثم يعلو سعرها بعد ذلك ، وهنا يريح الإستثمار في العقارات في  الشراء من أصحاب المجد الزائل ، ولكن بشرط ألا تمتد أيدي أمراء الدولة الجديدة إلى ذلك الإستثمار بالإغتصاب أوبشرائه بثمن بخس . وإيراد العقارات تكفي المعاش فقط ، وتكون مصدرا للدخل للذرية الفقيرة . وواضح أن هذه القواعد لا تزال سارية المفعول ، ويعرفها جيدا من عاش في مصر عبدالناصر. 

 4- ويقترب مرة أخرى من نظرية العرض والطلب في حديثه عن نقل السلع فيقول أن الأفضل نقل السلع متوسطة الجودة ، وقال أنه يرتفع  ثمن السلعة المنقولة من مكان بعيد أو مكان خطر ، لأن حجمها يكون قليلا ، أي أن عرضها يقل فيرتفع سعرها ، ولكن حين تأتي السلعة بوفرة يكثر عرضها ويقل ثمنها . واقترن حديثه ذلك بالهجوم على الإحتكار وفسر شؤم الإحتكار على الزرع بأنه سبب حقد الناس على المحتكر للأقوات ، مع أن نظرية العرض والطلب التي أشار إليها هي التفسير الصحيح .

 5- وفي النهاية يرى إبن خلدون أن رخص الأسعار يضر بالفلاحين والتجار ومن لهم علاقة بتلك السلعة التي يرخص سعرها ، وبالتالي يتأثر إيراد الدولة . وأعطى مثلا على ذلك برخص أسعار الحبوب وقلة دخل المنتجين والتجار وأصحاب المخابز ، ولكنه أكد على أهمية أن تكون أسعار الغذاء رخيصة لأنها سلع ضرورية للجميع . وترك المسألة معلقة . وقد رأت الدولة المصرية الحل لتلك المشكلة في تدعيم سعر الرغيف ، وأن تتحمل الفرق لتعويض من يقع عليه الضرر ولتحافظ على سعر الرغيف ليكون في متناول الفقير ، وألحقت بذلك نظام بطاقة التموين ، ولكن المشكلة في وصول الدعم إلى مستحقيه الحقيقيين ، والمواءمة بين سياسة الدعم وتحرير الأسعار وآليات السوق . كما أن الحكومة الأمريكية تقوم بدعم المزارعين ، وتشترى منهم فائض القمح لترسله مساعدات خارجية ، أو لتتخلص منه بإلقائه فى البحر .

    ونعود إلى إبن خلدون وهو يتحدث عن الغلاء الفاحش ويجعله ضارا أيضا بالناس ، حيث  يقوم معاش الناس على التوسط والإعتدال ، ولا يستريحون لسرعة تغير الأسعار في السوق [57].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( ق2 ف3 ) : د – إجتهادات خلدونية في متفرقات إجتماعية: علم إجتماع المدن والصراع الطبقى  

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثالث  :  اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا :

د – إجتهادات خلدونية في متفرقات إجتماعية : علم إجتماع المدن والصراع الطبقى 

   في علم إجتماع المدن :

 ( إذا صحت هذه التسمية ) ، أو في القوانين العامة للعمران : توقف إبن خلدون مع عدة قواعد استنبطها ، منها :

1 ـ  أن الدول أقدم من المدن ، حيث أن الدولة هي التي تبني المدينة ، وهذا يتفق أكثر مع موطن إبن خلدون ، وإن كان قد أشار إلى رأي متناقص  في نشأة المدن من إقامة واستقرار البدو في مكان وتسويره ثم إقامة سلطة لحمايته ، أي أن المدينة سبقت قيام الدولة . وهذه إحدى تناقضان ابن خلدون فى المقدمة .

2 ـ    أن السلطنة تستدعي الإقامة في المدن ، وهو هنا أيضا متأثر بالدول الصحراوية ، أو القبائل المسلحة التي تقهر مدينة ثم تقيم دولتها على ما تبقى من تلك المدينة .

3 ـ : أن الدولة العظيمة تقيم المدن العظيمة.

4 ـ الآثار العظيمة من هياكل ومشروعات لا تستقل ببنائها دولة واحدة ، بل تتعاقب الأجيال على بنائها ، واستشهد بالأهرامات .

5 ـ   كما وضع شروطا في بناء المدن مثل إمكانات الحماية ووجود المنافع الإقتصادية وتسهيل المرافق ، وذلك بالقرب من المياه والمزارع والمراعي ، والقرب من البحر ليسهل الإتصال بالعالم الخارجي .

 واشترط في المدن الساحلية أن تكون في منطقة جبلية أو قريبة من العمران ووسائل الحماية ليسهل الدفاع عنها .

6 ـ    وقال إن المدن قليلة بشمال أفريقيا والمغرب لأن البربر قبائل تهتم بالإنتماء للنسب دون المكان وتتجمع في الصحراء ، ولا تهتم بالسكن في الحواضر . والعرب كذلك لم يهتموا بعد الفتوحات بإنشاء المدن الكبرى ، واكتفوا بالمدن القائمة ، خصوصا مع إبتعادهم وقتها عن الترف ، فلما دخلوا في الترف إستعانوا بأبناء الأمم المفتوحة في إقامة العمائر والمدن . والمدن التي أنشأها العرب لم يراعوا فيها إلا القرب من الصحراء ورعاية الإبل ، ولذلك كانت بعيدة عن المرافق والمياه ، ولذلك كان يسرع إليها الخراب ، واستشهد بالكوفة والبصرة . وقال إن تونس اختلفت عن بقية المنطقة بسبب سهولة الإتصال البحري بينها وبين مصر والتوافد المستمر بينهما ، فتشابهت أحوالها بمصر .

7 ــ  وقال إن المدينة تبدأ بسيطة ثم تتطور وتتأنق ، ثم تعود إلى الإنكماش والتقلص ، ثم الخراب والبساطة الأولى . وهذا ينطبق أكثر على موطنه.

8 ـ وقال أن المال والحضارة أساس في العاصمة . وتفتقر المدن القاصية للحضارة حتى لو كانت كثيرة السكان ، وذلك بخلاف المدن ذات الموقع المتوسط [58].

 الصراع الطبقى فى الرؤية الخلدونية :

1 ـكان إبن خلدون سابقا في رصد ( الصراع الطبقي ) الذى تم تأطيره وتنظيره وتطبيقه فى إقامة نُظم شيوعية فى القرن فى القرن العشرين . ، وإن كان ذلك المفهوم لم يكن واضحا لديه . إلا أنه سبقت الإشارة في موضوع العلاقة بين الجاه والنفوذ إلى كل طبقة تكتسب نفوذا من الطبقة الأعلى وتمارسه على الطبقة الأدنى ، مما يفيد وجود نوع من ( الإحتكاك الطبقي ) ، أدركته الرؤية الخلدونية الثاقبة .

2 ـ    وقد أفاض  إبن خلدون في الحديث عن مجتمع البدو وقيامه على العصبية والنسب والقوة المسلحة كما أشار إلى المترفين وظهور المنافقين السفلة في أواخر الدولة يتحكمون مع المترفين في شئونها .

3 ــ وكان ينقصه أن يرصد تلك الفجوة الهائلة التي تعني تركز الثروة في أيدي فئة قليلة ، أو بتعبير عبدالناصر مجتمع الواحد في المائة . وهذا يعني الإنفجار من الداخل.

وجود طبقة مترفة يعنى تحول الأثرياء باستغلال النفوذ وإحتكار الثروة الى ( الملأ ) المساند للمستبد . وهذا الملأ المترف لو سيطر فستتعاظم الفجوة بينهم وبين الأغلبية الساحقة من الفقراء ، فيصبح المترفون أكثر ثراءا ويصبح الفقراء أشد فقرا ، وتزول الطبقة المتوسطة التى هى صمام أمن للمجتمع ، حين تكون سلما آمنا يصعد عليه المتعلمون من أبناء الطبقات الدنيا ، ويرحب بمن ساء حظه في الثروة أو السلطة من الطبقات العليا . وبذلك يزول الحاجز الحديدي بين الطبقتين المتناقضتين المترفة والجائعة ،وتخف الفجوة بين السرف والجوع  بين الجانبين . وينجو المجتمع من الانفجار الداخلى .

وقد أشار رب العزة جل وعلا الى إهلاك الأمم والمجتمعات الظالمة التى يتحكم فيها المترفون وتضيع فيها العدالة الاجتماعية ، وتنسدّ فيها اُفُق الآمال فى الاصلاح وفى أحلام المستقبل : يقول جل وعلا : (  وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) الاسراء ) (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) الحج ).

ومن مميزات عصر عبد الناصر أنه جعل التعليم مجانيا وإلزاميا ومتاحا لأبناء الفقراء والعمال والفلاحين ، وأصبح دخول كليات الجامعة بالمجموع  فى الثانوية العامة بلا مجاملة ، وكان التعيين فى سلك الجامعة بالتقدير الأعلى ، وكذلك إلتزام الدولة بتعيين جميع الخريجين ، وبغض النظر عن المستوى الاجتماعى . وبهذا وصل أبناء الفقراء لأعلى المناصب ، وصار التعليم سُلّما يصعد عليه أبناء الفقراء الى الطبقة الوسطى والمثقفة بل والعليا حين يتم تعيينهم فى مناصب عليا .

إنتهى هذا جزئيا فى عصر السادات بإنشاء الجامعات الخاصة لأبناء الطبقات التى أثرت من الانفتاح والفساد . وانتهى كليا فى عصر مبارك إذ إنسحبت الدولة من مجال الخدمات بينما شددت قبضتها الأمنية. زالت المعادلة الناصرية التى تقايض الحرية برغيف الخبز ، فقد ضمن عبد الناصر رغيف الخبز والعدالة الاجتماعية مقابل مصادرة الحرية ، جاء مبارك فألغى العدالة الاجتماعية واستمر فى مصادرة الحرية .  ولم تعد الدولة ملتزمة بتعيين الخريجين ، وأصبح دخول الكليات العسكرية والشرطة بالمحسوبية ، كما أصبح التعيين فى المؤسسات ( السيادية ) مقصورا على أبناء الأكابر المترفين غير المحتاجين أصلا للمرتب ، وصار محرما على أبناء الفقراء المتفوقين بل والطبقات الوسطى التعيين فى رئاسة الجمهورية وديوان الوزارات والخارجية والنيابة والبورصة والبنوك.  ومع فساد التعليم وفشل السياسات الاقتصادية وانتشار البطالة بين الشباب ضاع المفهوم الثقافى للطبقة المتوسطة ، فأصبح الميسورون ماليا أبرز شرائح الطبقة المتوسطة ، ومعظمهم من الحرفيين والمقاولين والعاملين فى الخارج ، وهم أغنياء ماليا وفقراء فى المعرفة والثقافة ، وهذا أدى الى تراجع المستوى الاعلامى والفنى الذى يسعى لارضاء الجمهور ، وأغلبه يتمتعون بالجهل وبالقدرة على الشراء ، بينما إنزوى المثقفون الحقيقيون فى نفق البحث عن لقمة العيش ، وتركوا المجال واسعا لمدعى الثقافة المنافقين ليتصدروا المشهد الثقافى والاعلامى يطبلون فى مواكب السلطان .   ومقارنة بين حفلات أم كلثوم والحفلات الغنائية اليوم تُظهر الفارق بين الطبقة الوسطى المثقفة المحترمة فى عصر عبد الناصر والطبقة الوسطى الغوغائية فى عصر مبارك .

ونعود الى ابن خلدون :

4 ــ وبالتأكيد فإن مفهوم الطبقة الوسطى سياسيا وإجتماعيا لم يكن واضحا لدى ثقافة إبن خلدون وعصره ، وإن كان حديثه عن العلماء والمتعلمين والتجار يندرج  ضمن الملامح الأساسية للطبقة الوسطى سياسيا وإجتماعيا،  خصوصا وهو يصف الفلاحين بالضعف والذلة والخضوع للقهر ، ويصف التجار بالإنتهازية والمكر شأن حكام عصرهم ، ويجعل المثقفين والكتاب والعلماء من أصحاب القلم الذين يخدمون السلطة ، وكان منهم إبن خلدون ، بينما يتربع على القمة السلطان والأمراء وأصحاب العصبيات ومراكز القوى .

5 ـ  وحيث لا يصل من أولئك العلماء والكتبة إلى السلطان إلا من يجيد النفاق والولاء فإن جزءا من الطبقة الوسطى يلتحق بالطبقة العليا ، بينما يزداد فقرا من حافظ على كرامته وكفاءته ، ويكون مرشحا للسقوط إلى الطبقة الدنيا .

6 ــ ويضاف إلى ذلك الحالات التى تعترى الدولة ( السلطان )( أو الأسرة الحاكمة )  ما بين توطيد الحكم وإستبداد السلطان ،  إلى مجىء سلاطين عصر الدعة والسكون والقنوع والمسالمة ، ثم إلى ترف وضعف وشيخوخة وتحلل للدولة . وهذا التطور والصراع ينعكس بدوره على حركة الطبقات والإحتكاك بينها ، إذ تختفي العصبيات القديمة ، أو الطبقة العليا الأولى التي أسهمت في قيام الدولة ، ليحل محلها أتباع جدد منهم عسكر ومنهم مثقفون كتبة ، وأولئك قد يصعدون من أحقر طبقات المجتمع ( مماليك وخدم وجوارى ) أو من الطبقة الوسطى ( مثقفون ) بينما يقاسي أبناء العصبيات القديمة الزائلة من الفقر والإضطهاد والهجرة . ثم في نهاية الدولة ومجون السلطان وضعفه يقل عدد من حوله من الرجال المحترمين ويتكاثر الأسافل من المنافقين وتتكاثر دوائرهم حوله يحجبونه عن الشعب .

وذلك معروف في تاريخ الخلفاء  الضعاف في العصر العباسي وغيره ، حيث تحكم فى الخلفاء رعاع الفقهاء الحنابلة المسيطرين على الشارع العباسى ، ثم تلاهم رؤساء العصابات المعروفون بالعيارين .  وبالتالي ينعكس هذا على الإحتكاك الطبقي فيعلو قوم ويهبط آخرون من سائر الطبقات . وفى عصر آخر الخلفاء العباسيين فى بغداد كان  خدم الخليفة هم وجهاء القوم ومعهم رؤساء العيارين ، بينما كان كبار العلماء على حافة الجوع . 

7 ــ     كل ذلك يمكن فهمه من خلال المقدمة ، ومن بين سطورها ، إلا أن ثقافة إبن خلدون في عصره كانت لا تسمح بتجلية هذا الموضوع في عناوين مستقلة ، ليس فقط لأن ثقافة الصراع الطبقي  لم تكن قد ظهرت في العالم حينئذ ، ولكن لأن ( السلطان  ) كان مدار( الكون ) فى ثقافة العصور الوسطى ، وعنه يبدأ الحديث وإليه ينتهي ، وحوله يدور المجتمع في " طبقات " كالكواكب حول الشمس . وتقديس الحاكم كان عادة سيئة لدى الشرق والغرب على السواء ، ومن هنا فالحديث عن ( غير السلطان ) من طبقات وأحوال إنما يدور في إطار مدى علاقته بالسلطان .

وعلى هذا المنهج سارت الحوليات التاريخية وسار إبن خلدون في المقدمة وفي التاريخ . 

 

 

 

( ق2 ف3 ) : ابن خلدون : إحترنا فيك .!

د – إجتهادات خلدونية في متفرقات إجتماعية:  فى العلم والتعليم  

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثالث  :  اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا : فى العلم والتعليم

  عموما :

1 ــ  كعادته يربط إبن خلدون كل مظاهر الحضارة بتقدم العمران وإزدهاره . لذلك يقول هنا أن إزدهار التعليم بإزدهار العمران .

2 ـ ، ويدعو إلى الرحلة في طلب العلم ، وكان ذلك عادة في التاريخ العلمى العربي ، إلا أن الرحلة كانت تقتصر على داخل العالم الإسلامي ، حيث لا حدود ولا قيود.  

وهذه الدعوة للرحلة طلبا للعلم لاتزال سارية المفعول فى عصرنا، ولكن ليس للعالم الثالث ، ولكن إلى بلاد الحضارة حيث كانت، من اليابان شرقا إلى أوربا وأمريكا غربا .

3 ــ وفي العلوم دعا إبن خلدون إلى عدم التفريع في العلوم التي ليست مقصودة لذاتها كالنحو ، لأن التفريع فيه يصبح لغوا ويزيدها تعقيدا . هى ( علوم للوسائل ) أى بها يمكن فهم (علوم المقاصد ) وهى عندهم العلوم المتصلة بالقرآن والحديث والفقه والتشريع .

وكالعادة فإن مصطلح ( العلماء ) فى العصر المملوكى ـ عصر ابن خلدون ــ ينصرف أساسا الى الفقهاء والمتخصصين فى الحديث . وليست هذه فعلا علوما  لأنها قامت فى العصر العباسى على إفتراء الأحاديث وبناء الفقه عليها . ثم جاء عصر التقليد العلمى ـ العصر المملوكى ـ الذى إنعدم فيه الابتكار والاجتهاد والتجديد ،فنشر هذه الأكاذيب وشرحها ولخّصها على أنها علوم .! .

4 ــ وفي التعليم أشار ابن خلدون من طرف خفي للربط بين زيادة الذكاء بالتعليم وممارسة الصنائع حتى تزداد ملكات التلميذ ، كما نهى عن الشدة في ضرب التلميذ ، ومراعاة التدرج في التدريس له [59].

  5 ــ  عرفنا المستوى الهابط للعلم في العصر المملوكي حيث دار حول التقليد والجمود وتلخيص ما سبق ثم شرح التلخيص ، ثم تحويل الملخص إلى متن وإعادة شرحه وهكذا ، وقد هاجم إبن خلدون هذه الظاهرة تحت عنوان "كثرة الإختصارات في العلوم مخلة بالتعليم " وعنوان " كثرة التأليف في العلوم عائقة عن التحصيل " وفيها رصد الأثر السئ لهذه الظاهرة على درجة إستيعاب الطالب لهذه المؤلفات التي تدور حول حشو وقشور وتفصيلات شكلية لا طائل من ورائها.

6 ــ  إلا أن إبن خلدون فاته أن ينبه على خطورة الحفظ والتلقين فى قتل ملكة الإبداع والنقد ، وخصوصا حفظ مثل تلك المؤلفات والمتون والملخصات المتخلفة الهابطة .  

7 ـ ولقد إهتم إبن خلدون بتنمية ملكات النفس في حديثه عن التعليم والصنائع ، إلا أنه كان يربطها  أحيانا بملكة الحفظ والتلقين دون أن يدري خطورة التلقين على مستوى العقلية . بل إنه يعتقد بأهمية التلقين ويرى أن التعليم الفعلي يكون بالمباشرة والتلقين ، ويفتخر بشيخه السطي بأنه كان في الفقه لا يجاريه أحد في الحفظ والفهم . ومن هنا كان خضوع إبن خلدون لمنطق عصره القائم على الحفظ والتلقين وترديد ما قاله السابقون دون نقد أو إعتراض ، مع أن عقليته المتفردة كانت تطل بين السطور تبتكر وتقول ما لم تقله عقول الآخرين في عصره ، وعلى سبيل المثال فإنه يعلل إنتشار المذهب المالكي في شمال أفريقيا والأندلس برحلتهم إلى الحجاز دون المرور على العراق فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة ومذهب مالك فيها ، ثم تشابه الظروف البدوية بين الحجاز وشمال أفريقيا [60].

  إقتراب من نظريات علمية حديثة   وتلك العقلية الخلدونية إقتربت بالفكر المجرد – دون تجربة – من بعض النظريات الحديثة في مجال العلم ، وقد شهدنا إقترابها من نظرية العرض والطلب ،وإبتكارها لكثير من قوانين العمران ، وصلاحية أغلب تلك القواعد والقوانين لعصرنا ، مع إختلاف الظروف .

1 ـ  فقد سبق نيوتن في قانون الجاذبية القائل : كل فعل له رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الإتجاه ، إذ قال إبن خلدون : أن الآثار إنما تحدث عن القوة التي كانت بها أولا ، وعلى قدرها يكون الأثر [61].

2 ــ  وسبق إبن خلدون نظرية النشوء والإرتقاء أو التطور التي نادى بها دارون وسماها إبن خلدون التدرج ونظرية إبن خلدون مختلفة عن نظرية دارون وأوسع وأشمل ، لأنها تبدأ بالمعادن وقابلية أعلى درجة منها لأن تلتحق بالدرجة السفلى من  النبات ، ثم قابلية أفق النبات لكي يلحق بأسفل  درجة من الحيوان ثم قابلية أفق الحيوان لأن يلتحق بالإنسان ، ثم قابلية أكمل البشر للسمو إلى عالم الملائكة [62]، وفيها يحدث الوحي . وهي نظرية خلدونية نرفضها تماما . 

والحقيقة أننا فى حيرة مع العقلية الخلدونية

إبن خلدون : إحترنا فيك

  وهذا بدوره يجعلنا نقترب من العقل الخلدوني الحائر بين الإنطلاق العبقري والخضوع لثوابت عقله .

1 ـ  ففي أجزاء من نظريته عن التدرج يتفق بعقله المجرد مع حقائق علمية أثبتتها التجربة من حيث تحول المعادن إلى كائنات حية ، فهناك جراثيم الإنفلونزا ، التي تمر بفترة بيات  وسكون تكون فيها مجرد بلورات معدنية ثم إذا جاءتها نقطة ماء دبت فيها الحياة ، إلا أن إبن خلدون حين يخضع لثوابت عصره ومنها العلم اللدني يقع في  الخطأ ويفترض صعود الإنسان إلى عوالم الملائكة ، مع تأكيدات القرآن بأن الإنسان لن يرى الملائكة إلا عند الموت وعند البعث ، أي بعد أن يتخلى عن جسده المادي .

2 ــ  وهناك مثل آخر على هذه الحيرة الخلدونية ، ففي الرد على أسطورة عوج بن عناق العملاق الذي كان يتناول السمك من البحر ليشويه في الشمس يقول إبن خلدون أن الحر هو الضوء ، والضوء فيما قرب من الأرض أكثر مما بعد عنها حيث تنعكس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء فتتضاعف  الحرارة بسبب ذلك ، فإذا تجاوز الإنسان مطارح الأشعة الشمسية المنعكسة إنخفضت الحرارة ، أو بتعبيره " لا حر هناك بل يكون البرد حيث مجاري السحب " وهنا كلام علمي جميل ، إلا أنه سرعان ما يخضع لثوابت عصره فيردد ثقافة العصر القائلة بأن الشمس في حد ذاتها جسم بسيط مضئ ليس حارا ولا باردا [63]، ويتجاهل وصف القرآن للشمس بأنها سراج وهاج . وفي أثناء تأكيده على نظريات العلم اللدني الخرافية تتسلل بين السطور عبارات صحيحة علميا كقوله أن " سرعة فكر الإنسان أسرع من لمح البصر " [64] أو " أن الأحداث توجد في عوالم الملائكة ( أي البرزخ) مجردة عن زمن الحدوث ".

3 ــ     وحتى في الأمور الطبية نرى عقله يفتي بأراء جيدة كقوله عن أهل الحضر أنه تكثر فيهم الأمراض لكثرة الأكل وتعدد ألوانه وخلطه بالتوابل والبقول ( أي الطعام المسبك ) ثم لا يمارسون الرياضة . أما البدو فالأغلب عليهم الجوع وقلة الأكل وكثرة الحركة والنشاط فيحسن بذلك هضم طعامهم البسيط القليل في مناخهم الجاف ، لذلك لا يحتاجون إلى الطبيب. وما أروع قوله عن طب البادية أنه مبني على  التجربة القاصرة ، وليس على قانون طبيعي ، ويجعل منه الطب النبوي المنسوب للنبي ، وهذا كلام جيد خصوصا حين يقول أن النبي لم يأت ليعلمنا الطب وإنما لكي يعلمنا الشرائع . وليته يتوقف عند ذلك ، ولكنه يسرع باسترضاء ثوابت عصره فيقول أن ما جاء في الأحاديث يمكن استعماله على سبيل التبرك وصدق الإعتقاد فيكون له أثر عظيم في النفع تبعا للإيمان [65].

4 ــ     وتصاحبنا هذه الحيرة حتى في آرائه الأدبية . إذ يطالعنا بآراء معقولة عن الملكات الأدبية مثل " إذ تنازعت ملكتان تعذر أن تتم الملكتان معا " أي في الألسن واللغات ، ويجعلها مثل الصنائع ، ويقول " ملكة الفصاحة تستفاد بالتعليم منذ الطفولة " ، " لا تتفق الإجادة في الشعر والنثر معا إلا للأقل من الناس "، " الفصاحة أساس الشعر والنثر " ،" صناعة النظم والنثر في الألفاظ وليس المعاني " [66].

    وفي موضوع السجع الذي ساد النثر في العصرين المملوكي والعثماني نرى موقف إبن خلدون عجيبا . إذ يهاجم السجع ويرى وقوع الأدباء في السجع بسبب عجزهم عن الفصاحة ، لذا يسترون بالسجع فقرهم في البلاغة ، وهذا كلام صحيح ، ويعززه حديثه عن نفسه في تاريخه أنه حين عمل كاتبا للسر لدى السلطان أبو سالم لم يلتزم بأسلوب السجع المعتاد ، يقول عن طريقة السجع " لضعف انتحالها وخفاء المعاني منها على أكثر الناس ، بخلاف الكلام المرسل " ويقول أنه  إنفرد بهجر أسلوب السجع وكتب كلاما مرسلا فاستغربه أهل صناعة الكتابة .[67]

  وهذا كلام جميل . . إلا أن إبن خلدون في إفتتاحية المقدمة أنشأها بأسلوب السجع المتكلف اللزج المملوء نفاقا للسلطان أبي فارس وحتى لا تنتقده حاشية السلطان .

ولم يدرك إبن خلدون بعبقريته المعهودة أن ذلك السلطان لن يلبث أن يصبح نكرة مجهولا ، وإن إسم إبن خلدون هو الذي سيبقى في دنيا الحضارة . وما كان أجدره أن يحذف هذه السطور ويتخلى عن السجع الذي التزم به في الإفتتاحية  حتى لا نحتار معه في تلك المتناقضات .

   ولكنها في النهاية حيرة سهلة ، لأنها كانت تعبر عن ظاهرة العقلية الخلدونية التي تناقضت مع مألوف عصرها ولكن أرادت التصالح مع ذلك المألوف . وبين التناقض والتصالح تنشأ الحيرة .  وإذا عُرف  السبب بطلت الحيرة وبطل العجب .

 

 

 

 

 



[1]
- الفصل السابع ، الباب الثاني.

[2] - الفصل الواحد والعشرون ، الباب الثاني . الفصل 16 الباب 2.

[3] - الفصل الخامس عشر ، والسادس عشر ، الباب الخامس .

[4] - الفصل الثالث ، الباب الخامس .

[5] - الفصل السادس عشر ، الباب الثالث

[6] - الفصل الحادي عشر ، الباب الرابع. الفصل السابع عشر ، الباب الخامس . الفصل الثلاثون ، الباب الخامس .

[9] -  الفصل الثاني والثلاثون ، الباب الثالث.

[10] - تاريخ ابن خلدون : الجزء السادس ص 188 . ط بولاق

[11] - الفصل الرابع والخمسون ، الباب الثالث

[12] - الفصل الخامس والثلاثون ، الباب السادس

[13] - تاريخ الطبري ، 5/ 49.

[14] - الفصل الثاني والثلاثون ، الباب الثالث

[15] - الفصل الرابع والعشرون ، الباب الثاني 44- 49 .

[16] - الفصل الرابع والعشرون ، الباب الثاني

[17] - الفصل الثامن ، الباب الثالث .

[18] - الفصل الخامس ، الباب الثالث

[19] - الفصل الرابع ، الباب الثالث

[20] - الفصل الخامس عشر ، الباب الثاني .

[21] - المقدمة ، الفصل 25، 26، 27، 28، 29، من الباب الثاني .

[22] -  المقدمة ، الفصل 14، 15 من الباب الثالث                                                  

والفصل 18 من الباب الرابع .

[23] - المقدمة الفصل السادس عشر الباب الثالث

[24] - ابن الجوزي ، المنتظم 10/86. ط . بيروت

[25] - المقدمة الفصل 20 الباب الثالث

[26] - الفصل 7 الباب الثالث .

[27] - الفصل 2 الباب  3      

الفصل 21 الباب 3   

الفصل 22 ، الباب 3

[28] - الفصل 13 الباب 3

[29] - الفصول 21، 46، 47، 48، 49، 50 ، الباب 3.

[30] -  الفصول ، 10، 11، 12، من الباب الثالث .

[31] - ابن الجوزي ، المنتظم 8/184.

[32] - المقدمة ، الفصل 42 الباب 3

[33] - المقدمة ، الفصل 54، الباب 3

[34] - المقدمة ، الفصل 14 ، الباب 3

[35] - المقدمة ، الفصل 45، الباب 3.

[36] - المقدمة : الفصل 36، 34 ، الباب 3 ، الفصل 6 الباب الخامس الفصل 38 الباب 3.

[37] - المقدمة ، الفصل 34 من الباب 6 ، والفصل 24 من الباب 3

[38] - المقدمة : الفصل 38 الباب 3 من الفصل 19 الباب 4 ، الفصل 24 الباب 3 ، الفصل 6 الباب 2

[39] - المقدمة : الفصل 4، 8 ،11، 10 ، الباب 5 ، والفصل 26 من الباب 6

[40] -  المقدمة : الفصل 5، 6 من الباب 5 والفصل 16 من الباب 4 .

[41]- المقدمة : الفصل 17 ، الباب 4 ، الفصل 18 ، الباب 3

[42]- المقدمة : الفصل 4 ، الباب 3.

[43]- المقدمة : الفصل 13 ، الباب 5

[44]-  المقدمة :  الفصل 43 ، الباب 3

[45] - المقدمة : الفصل 44 ، الباب 3

[46]- العيني : عقد الجمان : مخطوط لوحة 331.

[47]-  أبوالمحاسن : حوادث الدهور 3/728 نشر بارينير .

[48]-  العيني : عقد الجمان لوحة 381 : 382.

[49]- خطط المقريزي 4/224: 225.

[50]-  تاريخ ابن إياس 2/20 .

[51]-  أبوالمحاسن : النجوم الزاهرة 16/28.

[52]- المقريزي :  السلوك 20/ 385 .

[53]- المقدمة : الفصل 39 ، 40 ، الباب 3

[54]-  المقدمة : الفصل 11، 14 الباب الرابع ، الفصل الأول ، الباب الخامس .

[55]-  المقدمة :  الفصل 20، 14  من الباب الرابع ، الفصل 1، 2، 3 من الباب الثاني

[56]-المقدمة : الفصول 17، 18، 19، 20، 21، 22 من الباب الخامس .

[57]- المقدمة :  الفصول 12، 13، 15 من الباب الرابع ، والفصل 12، 13، 14 من الباب الخامس .

[58]- المقدمة : الفصول 1، 2، 3، 4، 5 ، 7، 8، 9، 10، 17  من الباب الرابع ، والفصل 18 من الباب الخامس.

[59]- المقدمة  :  الفصول 3، 33، 30,31، 2، 32، 29 من الباب السادس

[60]- المقدمة : الفصول 28 ، 27، 33، 7 من الباب السادس ، وتاريخ ابن خلدون 7/389.

[61]- المقدمة : الفصل 18 ، الباب 3

[62]- المقدمة 81: 82 .

[63]-  المقدمة : الفصل 18 ، الباب الثالث

[64]- المقدمة : الفصل 1 ، الباب 6

[65]- المقدمة : الفصل 29 ، الباب 5 ، الفصل 19 ، الباب 6

[66]-  المقدمة : الفصول 43، 45، 46، 47، الباب السادس

[67]- المقدمة : الفصل 44 الباب السادس ، تاريخ ابن خلدون 7/405.

كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
تم نشر هذا الكتاب فى القاهرة عام 1998 ، وهو تحليل أصولى تاريخى لمقدمة ابن خلدون وتاريخه وعقليته ، ونعيد نشره هنا مع بعض تعديل وإضافة فصل جديد .
more