رقم ( 8 ) : القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون
الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه

عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف1: 4 )العلم والتعليم وانواع العلوم  

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

مقالات متعلقة :

   الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه  ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق

                                                   الفصل الأول

                                العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري

    تميز الإنسان على الحيوان بالفكر الذي  يستعين به على معاشه وعلاقاته بمن حوله واهتدائه إلى الرسالات السماوية .

    والإنسان في كل ذلك مفكر لايستغني عن الفكر ، بل إن سرعة فكره أسرع من لمح البصر ، وعن هذا الفكر تنشأ العلوم والصنائع .وبهذا الفكر يقوم الإنسان بتحصيل ما ليس عنده من العلوم بالأخذ عما كتبه السابقون والإضافة إليهم . وقد يتوجه فكره إلى إحدى الحقائق فيركز عليها ويتخصص فيها ويقوم بتعليمها للاخرين فيأتون إليه للتعلم ، وبذلك يكون العلم والتعليم طبيعيا في البشر .

                                             الفصل الثاني

                                التعليم للعلم من جملة الصنائع

معنى الملكة العلمية

     التفنن في العلم يكون بالإحاطة بمبادئه وقواعده ومسائله واستنباط فروعه من أصوله ، وإلا فلا تفنن ولا تبحر في العلم ، وهذا ما يسميه إبن خلدون بالملكة ، أي ملكة الإحاطة بالعلم والإبداع فيه . ويرى إبن خلدون أن هذه الملكة هي في غير الفهم والوعي ، لأن الفهم والوعي يشترك فيهما العالم والعامي . أما الملكة فيختص بها العالم الباحث والفنان المبدع . والملكات كلها في رأيه جسمانية في البدن أو الدماغ من فكر أو فن ، أي كلها محسوسة تحتاج إلى التعليم شأن الصنائع . لذلك تحتاج الموهبة إلى صقل بالصناعة والتعليم .

مصطلحات في العلوم

    ولكل صناعة في علم ممصطلحات خاصة يتعلمها المبتدئ عن الإمام في العلم أو الصنعة . ولذلك تختلف مصطلحات العلوم مابين الفقه والكلام وعلوم اللغة ، لأن هذه العلوم أصبحت صنائع أو صناعات في التعليم مع أن العلم واحد في نفسه .

التعليم في المغرب

     ويؤكد إبن خلدون على أن العلم قد كاد ينقطع عن أهل المغرب بعد خراب القيروان وقرطبة، وخصوصا بعد انهيار دولة الموحدين ، ويرى إبن خلدون أن استمرارية العلم تقوم على السند يأخذه التلميذ عن شيخه ، وقد رحل إبن زيتون بعد انقراض دولة الموحدين في مراكش إلى المشرق في أواسط المائة السابعة فأدرك تلميذ ابن الخطيب فأخذ عنه العلوم العقلية والنقلية وعاد إلى تونس بعلم كثير ، ومثله إبن شعيب الدكالي الذي رحل من المغرب إلى مصر فأخذ عن شيوخها ورجع إلى تونس فأخذ عنهما أهل تونس ، واتصل سند تعليمها جيلا  بعد جيل ، وانتقل من تونس إلى تلمسان ، إلا أن تلاميذ تلمسان أصبحوا قلة .

   وقال إن التعليم تقاصر في المغرب ولم يتصل سنده ، فتعسر عليهم حصول الملكة وانصرفت عنايتهم إلى الحفظ ، وطالت مدة تحصيل الطالب في المغرب إلى ست عشرة سنة مع أنها في تونس خمس سنين فقط ، وذلك بسبب عسر التعليم في المغرب . وأما أهل الأندلس فقد تناقص فيها عمران المسلمين وتناقص تبعا لذلك عنايتهم بالتعليم ، ولم يبق فيه إلا فن العربية والأدب ، وضاع فيهم الفقه والعلوم العقلية ، وانشغلوا بالبحر ومعايشهم أكثر.

 التعليم في المشرق

     أما المشرق فلم ينقطع فيه سند التعليم ، بل أسواقه رائجة لاتصال العمران واتصال الحضارة والتعليم ، وانتقلت مدارس العلم والحضارة من الكوفة والبصرة وبغداد إلى عراق العجم شرقا ومصر غربا ، وأهل المشرق أعرق في العلم وأرسخ من أهل المغرب ، حتى يظن البعض أن أهل المشرق أكثر نباهة وعقلا من أهل المغرب . ولكنه التحضر بكل أصنافه ، فإن المشرق أكثر استقرارا منه في المغرب ، وهذا ما يؤكده إبن خلدون ، فيقول " ولقد بلغنا في تعليم الصنائع عن أهل مصر غايات لاتدرك ، منها أنهم يعلمون الحمر الأنسية والحيوانات العجم من الماشي والطائر مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها ، ويعجز أهل المغرب عن فهمها ".

زيادة الذكاء بالتعلم والممارسة

    ويؤكد على ذلك إبن خلدون بأن ذكاء الإنسان يزداد بالتعلم وممارسة الصنائع فتزداد ملكاته ، ولذلك يتفوق إنسان الحضر على إنسان البدو ، وليس ذلك راجعا إلى تفاوت في حقيقة الإنسانية بينهما بل في تفاوت الملكات التعليمية والصنائعية بينهما في العادات والأحوال ، بل ربما ينبغ من أهل البداوة في الفهم عن بعض أهل الحضر .

     ولذلك امتاز أهل المشرق برسوخ حضارتهم عن أهل المغرب الذين ترسخت فيهم البداوة .

                                          الفصل الثالث

                           العلوم تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة

إزدهار التعليم بإزدهار العمران

    لأن تعليم العلم إحدى الصنائع التي تكثر في الأمصار على قدر عمرانها في الكم والكيف . وعلى هذا المقياس يكون العلم ، فكلما تخفف الناس من هموم المعاش إهتموا بالعلوم والصنائع ، ومن يرغب في العلم من أهل القرى والبوادي لا يجد فيها مايتمنى ، لذلك يرحل إلى الأمصار. ولذلك إزدهر العلم في بغداد وقرطبه والقيروان والبصرة والكوفة عندما إزدهر فيها العمران ، ولما تناقص عمرانها تناقص العلم فيها .

إزدهار العلم بمصر

    والعلم مزدهر في مصر بسبب إزدهار عمرانها واستحكام حضارتها منذ آلاف السنين ، لذلك إزدهرت فيها الصناعات ومنها صناعة العلم . ويضاف إلى ذلك إزدهار الأوقاف على إنشاء المدارس ، ذلك لأن الأمراء يخشون من السلطان أن يصادر أموالهم ، فيقومون بإنشاء المدارس ويوقفون عليها الضياع والعقارات ، ويجعلون النظر عليها لأولادهم ، فلا يستطيع السلطان مصادرة الأوقاف ، ولما كثرت الأوقاف على المدارس والزوايا والربط ( جمع رباط) كثرت صناعة العلم وارتحل الناس لطلب العلم من الأفاق إلى مصر.

                                              الفصل الرابع

               أصناف العلوم الواقعة في العمران في  عهد إبن خلدون

نوعا العلوم

    العلوم عنده نوعان : ( طبيعي ) للإنسان يهتدي إليه بفكره ، و( نقلي ) يأخذه عمن وضعه .

    العلم الطبيعي : هو علوم الحكمة والفلسفة التي يصل إليها الإنسان بفكره فيعرف مسائلها وبراهينها والخطأ والصواب فيها .

    أما العلوم النقلية الوضعية : فتعتمد على الإسناد إلى الشرع ، ولامجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع والجزئيات بالأصول والكليات عن طريق القياس . والحكم الشرعي ثابت في الأصل ، ويقوم القياس بإلحاق الفروع والجزئيات إلى ذلك الأصل الشرعي . وأصل العلوم النقلية عنده هي الكتاب والسنة من الله تعالى ورسوله وما يتعلق بهما من علوم مساعدة وما يتبعهما من علوم اللغة العربية .

أنواع العلوم النقلية

     وأصناف العلوم النقلية كثيرة . وتؤخذ بالنص أو بالإجماع والقياس . وعلم التفسير هو النظر في الكتاب لبيان ألفاظه ، وعلم القراءات هو إسناد النقل في القراءات وروايتها للنبي ، وعلم الحديث هو إسناد السنة إلى النبي وبحث أحوال الرواة ، من حيث العدالة والتوثيق أو الضعف ، وعلم أصول الفقه هو إستنباط الأحكام من أصولها ( القرآن والسنة ) من وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الإستنباط . وعلم الفقه :  هو ثمرة المعرفة بأحكام الله تعالى في أفعال الناس المكلفين . والتكاليف – أي الفرائض – منها تكاليف بدنية وتكاليف قلبية إيمانية . وعلم الكلام هو المختص بالأدلة العقلية المتعلقة بالتكاليف القلبية – أي العقائد الإيمانية في ذات الله تعالى وصفاته ويوم القيامة والقضاء والقدر . والعلوم اللسانية اللغوية أنواع ، علوم اللغة والنحو والبيان والآداب.

تحريم العلوم النقلية غير الإسلامية

    ويرى ابن خلدون أن العلوم النقلية كلها مختصة بالملة الإسلامية ، وإن كانت للملل الأخرى علومهم النقلية ، إلا أن العلوم النقلية الإسلامية تنسخ أو تبطل غيرها من أصحاب الملل الأخرى لأن الشرع نهى عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن بحديث :  ولا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد " وحديث غضب النبي حين رأي مع عمر ورقة من التوراة. ويضيف إبن خلدون سببا آخر هو ازدهار واكتمال العلوم الشرعية النقلية الإسلامية من حيث الاصطلاحات والموضوعات . وقال إن المشرق إزدهرت فيه العلوم بينما كسدت في المغرب بسبب تناقص العمران فيه . 

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف5: 6)علوم القرآن والتفسير والحديث

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه                       ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق

                                            الفصل الخامس

                         في علوم القرآن من التفسير والقراءات

ماهية القرآن

    القرآن كلام الله تعالى المنزل على النبي ، المكتوب بين دفتي المصحف ، وهو متواتر بين الأمة .

ماهية القراءات السبع

    وقد روى الصحابة القرآن على طرق مختلفة في بعض الألفاظ وكيفيات الحروف في آدائها . وأشهر هذه الطرق ما يعرف بالقراءات السبع التي صارت أصولا لقراءة القرآن . وربما زادوا بعد ذلك قراءات أخرى أضعف ألحقوها بالسبع .

في تواتر القراءات

    قال بعضهم بأن القراءات متواترة كلها سمعيا ولفظيا ، وقال بعضهم أنها متواترة فيما لا يتوقف على السمع فقط . وقال بعضهم أن القراءات كلها غير متواترة لأنها طرق لكيفية القراءة ، وذلك لايمكن ضبطه . وقالوا إن عدم التواتر في القراءات لا يقدح في تواتر القرآن نفسه.

تدوين القراءات

    مثل باقي العلوم مرت القراءات بفترة الرواية الشفهية ، ثم تم تدوينها وصارت صناعة مخصوصة يتداولها الناس جيلا بعد جيل في المشرق والمغرب .

دور مجاهد العامري في علم القراءات

    أخذ مجاهد العامري القراءات عن سيده المنصور بن أبي عامر، وتفوق في بلاط المنصور بن أبي عامر في علم القراءات، ثم تولى مجاهد إمارة دانية والجزائر الشرقية بالأندلس فاهتم في حكمه بالقراءات. . أبوعمرو الداني

   ثم ظهر في عهده أبو عمرو الداني الذي تخصص في هذا الموضوع وانتهت إليه روايات القراءات وأسانيدها ، وتعددت مؤلفاته في هذا العلم ، ومنها كتابه التيسير .

أبو القاسم بن فيره

    ثم ظهر أبو القاسم بن فيره من مدينة شاطبه فقام بتهذيب وتلخيص ما كتبه أبو عمرو الداني في قصيدة استوعب فيها هذا العلم ، وكان الناس يحفظونها ويلقنونها للمتعلمين من الأولاد في المغرب والأندلس.

علم رسم الكتابة القرآنية

    أضيف إلى علم القراءات علم رسم الحروف القرآنية ، نظرا لاختلاف الكتابة القرآنية عن القواعد المعروفة للكتابة العربية ، لذلك احتاجوا إلى حصر الإختلافات بين نوعي الكتابة من خلال ماجاء في كتابة القرآن . وكتب في ذلك أبو عمرو الداني مجموعة من الكتب أشهرها كتاب " المقنع" ثم قام أبو القاسم بن فيره الشاطبي بتلخيصه في قصيدة إهتم الناس بحفظها وتلقينها . ثم كثر الخلاف في علم الرسم في كلمات وحروف أخرى من الكتابة القرآنية ، ذكرها إبن نجاح وهو من تلاميذ أبي عمرو الداني ، ثم نظم الخراز قصيدة أخرى زاد فيها على ما كتبه أبوعمرو الداني، واشتهرت قصيدة الخراز واقتصر الناس في المغرب على حفظها .

التفسير

   نزل  القرآن بلغة  العرب وبأساليب البلاغة العربية ، فكانوا يفهمونه ، وكان ينزل  حسب الوقائع . وينزل في العقائد وفي الفرائض ، ومنه ما يتقدم في النزول ومنه ما يتأخر. وقد تابع ابن خلدون ما قاله السابقون فى ( النسخ ) فقال أن من آيات القرآن ماتينسخ أيتيبطل حكم آيات أخرى ، وأن دور النبي في تبيين المجمل وتمييز الناسخ من المنسوخ ، ويعرف الصحابة ذلك ، كما عرفوا أسباب النزول ، وأخذ التابعون كل ذلك عن الصحابة ، وتداولته الروايات الشفهية حتى تم تدوينها ، وظهر الطبري والواقدي والثعالبي وغيرهم فكتبوا التفسير على أساس المرويات المنقولة عن الصحابة والتابعين .

التفسير النقلي والتفسير اللغوي

    وبعد أن تأثر اللسان العربي باللحن نشأت علوم اللغة من نحو وبلاغة واحتاجوا في ذلك إلى تفسير لغوي للقرآن ، وبذلك انقسم التفسير إلى تفسير نقلي يقوم على الروايات والناسخ والمنسوخ و أسباب النزول ومقاصد الآيات وما نقلوه عن أهل الكتاب من روايات بدء الخليقة والأمم السابقة والملاحم وكلها بعيدة عن الأحكام الفقهية ، فكان سهلا تصديقها ، وكان مرغوبا معرفتها فامتلأ بها التفسير المنقول دون محاولة للتحقق من صدق هذه المنقولات عن أهل الكتاب . إلى أن قام إبن عطية بتلخيص تلك التفاسير وتحري الأقرب للصحة منها وتبعه القرطبي . أما التفسير اللغوي فقد ظهر بعد ازدهار علوم اللغة ، ومع ذلك فقلما ينفرد التفسير اللغوي عن التفسير النقلي لأن النقلي هو الأصل . وأبرز هذا النوع من التفسير اللغوي الكشاف للزمخشري ، إلا أنه يدافع عن مذهب الإعتزال ، وهذا ما يأخذه عليه إبن خلدون ، وإن كان يعترف بعبقرية الزمخشري في علوم اللغة . وقد قام شرف الدين الطيبي بشرح تفسير الزمخشري ولكن رد عليه من وجهة نظر أهل السنة المضادة للمعتزلة.

                                           الفصل السادس

                                                  علوم الحديث

أنواع علوم الحديث

أنواعها كثيرة :

    منها : النظر في الناسخ والمنسوخ : حيث يأتي النسخ للتخفيف ورعاية للمصلحة والمتأخر ينسخ المتقدم الذي يتعارض معه ، والناسخ والمنسوخ من أهم علوم الحديث وأصعبها .

    ومنها معرفة الأسانيد: لمعرفة الحديث الذي يجب العمل به . حيث يجب العمل بما يترجح صدقه من الأحاديث ، وذلك عن طريق الظن بمعرفة رواة الحديث من حيث العدالة والضبط والجرح والغفلة ، أي هل الراوي ثقة أو غير ثقة ، وكذلك مراتب الرواة من الصحابة والتابعين وتفاوت بعضهم وتميز البعض الآخر . وكذلك تفاوت وتميز الأسانيد أو سلسلة الرواة . باتصالها أو بانقطاعها بأن يكون الراوي لم يلق الراوي الآخر الذي يروي عنه . ولهم في ذلك مصطلحات على مراتب الحديث مثل الصحيح والحسن والضعيف والمرسل والمتقطع والمعضل والشاذ والغريب وغيرها .

   وقاموا بتبويب ذلك كله وما فيه من الخلاف وكيفية التوفيق ، ثم كيفية النظر في أخذ رواية البعض عن البعض ، وما يقع في متن الحديث نفسه من ألفاظ  قد تكون غريبة أو غير مفهومة أو لحقها التصحيف في كتابتها.

أئمة الحديث

   وكان رواة الأحاديث مشهورين في أوطانهم وعصورهم ، وكان أهل الحجاز أكثر ثقة في الحديث من غيرهم ، وإمامهم مالك وصاحبه الشافعي ثم ابن حنبل ، وكان علم الشريعة حينئذ بالنقل الصرف دون الرأي والاجتهاد ، لذا اهتموا بتحري الصحة في النقل ، وكتب مالك الموطأ في أصول الأحكام من الأحاديث الصحيحة المتفق عليها ورتبه على أبواب الفقه . ثم اهتم علماء الحديث بمعرفة طرق الأسانيد وروايات المختلفة .

    وجاء البخاري فسجل أحاديث أهل السنة في أبوابها بجمع طرق الحجازين والعراقيين والشاميين ونظمها حسب الأبواب ، لذلك تكررت الأحاديث حتى وصلت 9200 منها ثلاثة آلاف مكررة ، وهي مختلفة الأسانيد والطرق .

    ثم حذا مسلم في صحيحه حذو البخاري فنقل المجمع عليه وحذف المتكرر وجمع الطرق والأسانيد ورتبها على أبواب الفقه ، ومع ذلك لم يستوعب البخاري ومسلم كل الأحاديث الصحيحة ، لذلك استدرك العلماء عليهما كما فعل أبو داود السجستاني والترمذي والنسائي ، ولكن التزموا بشروط العمل  من الرتبة  العالية في الإسناد الصحيح  ،والذي يكون دونه من الحسن وغيره .وبذلك اكتملت المسانيد المشهورة في السنة ، ومعرفة شروط واصطلاحات الحديث ترجع في الأغلب إلى هذه المسانيد من أمهات كتب الحديث .

    وهناك من كتب في غريب الحديث، ومن كتب في مؤتلف ومختلف الحديث .

   والحاكم النيسابوري هو الذي هذب علم الحديث ، وإبن الصلاح أشهر المتأخرين في علم الحديث في أوائل القرن السابع وتلاه النووي . ثم  انقطع في عهد إبن خلدون تخريج الأحاديث لأن  المتقدمين من الأئمة المجتهدين لم يتركوا شيئا لللاحقين ، لذلك لم يبق لللاحقين إلا تصحيح أمهات الكتب وضبطها والنظر في أسانيدها لتكون محكمة .

أهم كتب الحديث

    ويرى أن صحيح البخاري أعلاها رتبه ولكنه أصعبها ولذلك يحتاج إلى إمعان النظر حيث تتكرر فيه الأحاديث حسب التراجم والموضوعات والمعاني ، ولذلك قيل أن " شرح البخاري دين على الأمة " يريدون أن العلماء لم يعطوا صحيح البخاري حقه من الشرح .

     أما صحيح مسلم فقد اهتم به علماء المغرب وفضلوه على البخاري وأكثروا من شرحه ومنهم المارزي في كتابه المعلم بفوائد مسلم ، وأكمله القاضي عياض وسماه إكمال المعلم ، ثم شرح النووي وقد استوفى ما في الكتابين وزاد عليهما .

   وأما كتب الأحاديث الأخرى – وفيها معظم مآخذ الفقهاء – فأكثر شرحها في كتب الفقه ، إلا فيما يختص بعلم الحديث ، حيث استوفى الناس ما يحتاج إليه علم الحديث من موضوعات وأسانيد . وتميزت الأحاديث بين صحيح وحسن وضعيف، وعرفها الأئمة بطرقها وأسانيدها ، بحيث لو روي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد تغير وضعه .

تفاوت الأئمة في رواية الحديث

    وتفاوت الأئمة في رواية الأحاديث ، فأبو حنيفة بلغت روايته سبعة عشر حديثا فقط . وقد صح عند مالك في الموطأ ثلاثمائة حديث لا غير . وفي مسند أحمد بن حنبل خمسون الف حديث .ولكل منهم إجتهاده في ذلك .

رأي إبن خلدون في الحديث

    ولا يتهم إبن خلدون بالجهل من قلت روايته للأحاديث خصوصا الأئمة ، ويقرر أن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة ، ولكن قلل بعضهم الرواية خوف المطاعن والجرح والعلل التي في رواية الأحاديث فيؤديه الإجتهاد إلى  ترك ما يشك فيه من الأحاديث فتقل روايته . هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية لأن الحجاز مأوى الصحابة . وفى تعليل قلة أبى حنيفة فى رواية الحديث يرى ابن خلدون أن ذلك يرجع الى تشدده في الشروط ( وليس لأنه ترك الحديث متعمدا فحاشاه من ذلك بدليل اعتماد مذهبه بين العلماء.) ، وأما غيره من جمهور العلماء فقد توسعوا في الشروط وكثر رواياتهم في الحديث ، وقد توسع أصحاب أبي حنيفة بعده في الشروط وكثرت رواياتهم ، وكل منهم إجتهد . والمتأخرون كالطحاوي توسع في الشروط زيادة على شروط الصحيحين ، فلذلك فالصحيحان لهما التقديم . ويحسّ إبن خلدون  بضعف حجته فيقول فيما يشبه التوسل  للقارىء: " فلا تأخذك ريبة في ذلك ، فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم والتماس المخارج الصحيحة لهم ."  .!

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف7: 9 )الفقه وأصول الفقه 

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

  تابع البابالسادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه  ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق

                                              الفصل السابع

                                    في علم الفقه والفرائض

     ما هو الفقه                                                                                                        الفقه هو معرفة أحكام الله تعالى في تصرفات الناس المكلفين بالفرائض ، وذلك بأن تكون الأحكام واجبة أو محرمة أو مندوبة أو مكروهة . وتؤخذ الأحكام من الكتاب والسنة فإذا استخرجت الأحكام من الأدلة قيل أنه الفقه .

سبب الإختلاف الفقهي

  ويؤمن ابن خلدون بمقولة " أن القرآن حمّال أوجه " ، ومن خلالها يعلل إختلاف السلف في فهم النصوص والإستدلال بها لأن اللفظ القرآني يقتضي  معاني كثيرة ، ولاختلاف السنة في طرق الثبوت وتعارض أحكامها مما يحتاج إلى ترجيح حكم على آخر ، ثم إن الوقائع متجددة أكبر من طاقة النصوص مما يستدعي الخلاف . ووقع الخلاف بين السلف والأئمة .

أنواع العلماء وتسمياتهم

    ولم يكن الصحابة كلهم أهل إفتاء ، بل كان منهم القراء أي من يقرأ الكتاب ، وهم الذين يعرفون الكتاب بما فيه من ناسخ ومنسوخ وغيره . ثم أطلق لقب الفقهاء والعلماء بديلا عن القراء عندما استكمل العلم وتحول إلى صناعة .

المذاهب الفقهية

وانقسم الفقه حسب المنهج إلى :

1- طريقة أهل الرأي والقياس ، وهم أهل العراق ، حيث كان الحديث قليلا في العراق فاستكثروا من القياس ، وإمامهم أبو حنيفة .

2- طريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز ، وإمامهم مالك والشافعي من بعده .

3- الظاهرية : أنكروا القياس وحصروا عملهم في ظاهر النص والإجماع ، وتزعم ذلك المذهب داود بن على وإبنه .

4- الفقه الشيعي القائم على ذم بعض الصحابة وعصمة الأئمة من ذرية علي .

5- الخوارج، وقد أنكر الجمهور مذهبهم ، فلم ينتشر إلا في مواطنهم .

رأي إبن خلدون في المذاهب الفقهية

    ويستنكر إبن خلدون الفقه الشيعي والفقه الخارجي (نسبه للخوارج) وقال إن الفقه الظاهري قد انتهى في العراق ، ثم أحياه إبن حزم في المغرب والأندلس فتعرض للإستهجان مع إمامته في الحديث والفقه ، ومع أنه خالف داود الظاهري في أمور كثيرة . ولم يبق إلا مذهب أهل الرأي ( أبوحنيفة ) وأهل الحديث ( الشافعي ومالك وابن حنبل).

   واستقر مذهب أبي حنيفة في العراق ، وقد شهد لأبي حنيفة مالك والشافعي ، وكان مالك إمام المدينة ثم الشافعي ، ثم إبن حنبل . واختص مالك بجعل عمل أهل المدينة ضمن مصادر التشريع لأنه اعتبر أهل المدينة قد تابعوا ما كان عليه النبي وأصحابه .واعتبر بعضهم أن عمل أهل المدينة من ضمن الإجماع ، ويرى إبن خلدون أن الإجماع عام لايخص أهل المدينة وحدهم ، والإجماع هو الإتفاق على أمر ديني عن طريق الإجتهاد ، وبهذا المعنى فإن مالكا لم يعتبر عمل أهل المدينة ضمن الإجماع وإنما اعتبره إتباعا من جيل لاحق لجيل سابق إلى أن ينتهي للنبي عليه السلام وعصره ، والإقتداء بذلك يعم الملة .

    وجاء الشافعي بعد مالك ، وقد رحل من الحجاز إلى العراق فأخذ عن أصحاب أبي حنيفة ومزج بين طريقتي أهل الحجاز وأهل العراق وخالف مالكا وجاء بمذهب جديد . ثم جاء أحمد إبن حنبل وكان من علماء الحديث وتفقه أصحابه على مذهب أبي حنيفة مع علمهم بالحديث .

أسباب شيوع التقليد

    وبعد عصر الإزدهار جاء عصر التقليد ، ويرى إبن خلدون أن أسباب شيوع التقليد هي سد أبواب الخلاف حيث تشعبت الإصطلاحات مما أعاق الوصول إلى مرتبة الإجتهاد وخافوا أن يسند العلم إلى غير أهله فردوا الناس إلى التقليد ، وعمل كل مقلد بمذهبه بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية .

التقليد في عهد إبن خلدون وتوزع المذاهب في المنطقة

    ويرى إبن خلدون أن من يدعي الإجتهاد في عصره يستحق الهجران والإنكار حيث عم تقليد الأئمة الأربعة .وابن حنبل أتباعه قليلون لابتعاده عن الإجتهاد وأكثرهم في الشام والعراق حول بغداد . وينتشر مذهب أبي حنيفة في العراق والهند والصين وما وراء النهر وفارس بسبب الخلافة العباسية ورعايتها للمذهب الحنفي ، وانتشر مذهب  الشافعي في مصر ، حيث نزل الشافعي على بني عبدالحكم في مصر وأخذ عنه العلم جماعة من كبار العرب المصريين . ثم انقرض الفقه السني في مصر بقيام الدولة الفاطمية حيث حل فيها الفقه الشيعي ، ثم عاد الفقه السني  بدولة صلاح الدين الأيوبي ، فظهر النووي وإبن عبدالسلام وإبن الرقعه وإبن دقيق العيد والسبكي وانتهى العلم إلى سراج الدين البلقيني في عصر إبن خلدون . 

إنتشار مذهب مالك في المغرب والأندلس

    وانتشر مذهب مالك في شمال أفريقيا والأندلس لسببين ، الأول : إن رحلة مسلمي المغرب وأفريقيا والأندلس غايتها الحجاز ولا تمر على العراق فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة ومذهب مالك ، والثاني : تشابه ظروف الحجاز البدوية مع ظروف البدو في شمال أفريقيا .

التحول من الإجتهاد المطلق إلى الإجتهاد المقيد الفقهي

    بتعذر الإجتهاد والقياس ورسوخ التقليد للأئمة احتاجوا إلى تنظير المسائل المطروحة تبعا لما قاله الإمام ، وسمى هذا التنظير " الفقه " الذي اقترن بالتقليد ، وقلد أهل المغرب الإمام مالك ، وكان تلامذة مالك قد تفرقوا في العراق ومصر ، ومن مصر انتقل إلى الأندلس عن طريق عبدالملك بن حبيب الأندلسي صاحب كتاب " الواضحة" ،  ثم كتب تلميذه العتبي كتاب " العتبية ".

دور إبن القاسم المصري في تعليم المغاربة الفقه المالكي

    وجدير بالذكر أن إبن القاسم في مصر الذي كان أستاذا للفقه المالكي أخذ عنه عبدالملك بن حبيب ، ثم أخذ عنه أيضا أسد بن الفرات ، وكتب أسد بن الفرات كتابه  " الأسدية " وأخذ سحنون أيضا على إبن القاسم ، وعارض سحنون كتاب الأسدية ،ووافقه أستاذه إبن القاسم ، فاتبع الناس " مدونة " سحنون وأهملوا " أسدية " أسد بن الفرات . وعكف أهل المغرب ، على مدونة سحنون كما عكف أهل الأندلس على " واضحة " إبن حبيب " وعتبية " العتبي . ثم قام العلماء اللاحقون بشرح تلك الكتب وتلخيصها حسبما شاع في عصور التقليد والجمود .

مذهب مالك في مصر

    وبقى مذهب مالك في مصر يتزعمه إبن مسكين وإبن المبشر وإبن اللهيث وإبن الرشيق ، وتزعمه في الإسكندرية بنو عوف وبنو سند ،ولكن اشتهر أبو عمرو إبن الحاجب ، وهو الذي انتقل علمه من مصر إلى شمال أفريقيا في أواخر القرن السابع ، إذ تركز في  تونس والقيروان وانتقل منها إلى باقي أقطار المغرب .

                                             الفصل الثامن

                                      في علم الفرائض والميراث

    هو معرفة فروض الميراث وتوزيع التركة على مستحقيها . أو حين يحدث اختلاف بين المستحقين ، ويحتاج ذلك التقسيم إلى الحساب ، لذلك أصبح علما خاصا بمؤلفاته ، واشتهر في هذا المجال الشافعية والحنفية والحنابلة ، وقد بالغوا في استخراج المسائل وافتراض الحالات ، ومع ذلك فهو مفيد للتدريب العقلي .

ويرى إبن خلدون أن تسمية هذا العلم بالفرائض إنما هو إصطلاح ناشئ للفقهاء عندما استحدثوا المصطلحات الفقهية .

                                      الفصل التاسع

                     أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات

معـــــــــــــناه

    النظر في الأدلة الشرعية ( القرآن ، السنة ، الإجماع ، القياس ) التي تؤخذ منها الأحكام . والأدلة الشرعية في مفهوم إبن خلدون هي مصادر التشريع. وهى :

القـــــــــــــــرآن

    والقرآن هو أول الأدلة الشرعية . ودليله المعجزة القاطعة في متنه ونصوصه والتواتر في نقله بحيث لم يبق فيه مجال للإحتمال.

الســــــــــــــنة

   هى التي تبين القرآن ، ففي عهد النبي كان يبين الأحكام بقوله وفعله بخطاب شفهي لايحتاج إلى نقل أو نظر أو قياس ، وبعد النبي تعذر الخطاب الشفوي وأجمع الصحابة على وجوب العمل بما يصل من السنة بالنقل الصحيح قولا أو فعلا للنبي بما يغلب على الظن صدقه .

قواعد النظر في السنة

   والمنقول من السنة محتاج إلى (1) تصحيح الحديث أو الخبر عن طريق البحث في طرق النقل وعدالة الرواة ،(2) وعند تعارض الحديثين ، طلب المتقدم منهما ومعرفة الناسخ والمنسوخ ، (3) ومعرفة دلالة الألفاظ بالمهارة في النحو والصرف والبلاغة ، (4) والمهارة في استفادة واستخلاص الأحكام من الأدلة ، أو المهارة الفقهية طبقا لقوانين وقواعد خاصة مثل أن اللغة لا تثبت قياسا ، والأمر قد يكون للوجوب أو الندب أو التراخي أو التنفيذ الفوري .

الإجمـــــــاع

     وجعلوا الإجماع في منزلة الكتاب والسنة ، حيث أجمع الصحابة على استنكار  من يخالفهم ، وهم لايتفقون من غير دليل ، بالإضافة إلى شهادة الأدلة بعصمة الجماعة .

القيــــــــاس

    هو قياس الأشياء الشبيهة بما يشبهها ، ومناظرة المثال بما يماثلها بشروط المساواة حتى يغلب على الظن أن حكم الله واحد فيهما . وأجمع الصحابة على هذا القياس . والبحث في القياس أعظم نواحي علم الأصول لأن فيه تحقيق الأصل  والفرع فيما يقاس ويتماثل من الأحكام بما يغلب على الظن أن حكم الأصل يسري على تلك الفروع .

آراء أخرى في الأدلة الشرعية أو المصادر الشرعية

    ورأى بعضهم أن الإجماع والقياس لايؤخذ بهما . والحق بعضهم بها أدلة أخرى أعرض إبن خلدون عن ذكرها .

أصول الفقه لم يعرفه السلف من الصحابة والتابعين

    وعلم أصول الفقه لم يعرفه الصحابة والتابعون حيث لم يحتاجوا إلى معرفة المعاني وأسانيد الرواة لأنهم هم الذين أخذ الناس عنهم الرواية واللغة والأحكام. فلما تحول العلم إلى صناعة إحتيج إلى قواعد لاستخراج الأحكام من المصادر الشرعية بعد تحديدها ، فكان علم أصول الفقه .

علم أصول الفقه لدى الفقهاء

     والشافعي أول من كتب فيه رسالته المشهورة ، ذكر فيها الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ والعلة والقياس . ثم توسع الفقهاء الأحناف في الموضوع ، وكان أبوزيد الدبوسي إمام الأحناف فيه ، وكان البزدوي إمام المتأخرين الأحناف ، وجاء إبن الساعاتي الحنفي فجمع بين كتاب الأحكام للدبوسي وكتاب البزدوي وسمى كتابه البدائع . وصار كتاب البدائع حجة للعلماء المتأخرين يشرحونه ويلخصونه . وكتابة الفقهاء في الأصول أقرب للفقه وأكثر أمثلة ، أما المتكلمون الذين كتبوا فكانوا أقرب للتجريد .

علم أصول الفقه لدى المتكلمين 

    إذ كتب علماء الكلام في أصول الفقه من وجهة نظر عقلية صورية . وأحسن ما كتبه المتكلمون في الأصول كتاب البرهان للجويني إمام الحرمين ، والمستصفي للغزالي تلميذ الجويني . وهما معا من الأشعرية ، وكتاب العهد للقاضي عبدالجبار المعتزلي ، وقام تلميذه أبو الحسن البصري بشرح كتاب العهد . وقام اثنان بتلخيص الكتب الأربعة ، وهما إبن الخطيب في كتابه المحصول ، والآمدي في كتابه الأحكام وكان إبن الخطيب أقرب إلى الإستكثار من الأدلة والإحتجاج والرد ، بينما كان الآمدي مهتما بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل . وفي عصور التقليد قام اللاحقون بتلخيص وشرح كتابي المحصول والأحكام .

الخلافات الفقهية قبل وبعد الأئمة

   وفي بداية الإجتهاد الفقهي كثر الخلاف بين المجتهدين تبعا لاختلاف مداركهم ، ثم انتهى علم الفقه إلى الأئمة الأربعة ، ووثقت بهم الأمة فمنعوا تقليد سواهم ، وانحصرت الخلافات بين المذاهب الفقهية ، فيما يتفق أو يختلف فيه أئمة المذاهب الأربعة .

المناظرات بين المذاهب ونشأة علم الخلافات

   وأدت المناظرات الفقهية بين المذاهب إلى نشأة علم الخلافيات الفقهية الذي يبحث في مآخذ واجتهادات واختلافات الأئمة والمذاهب . والمتخصص في الخلافيات الفقهية يتبحر في معرفة قواعد الإستنباط لأحكام شأن المجتهد الفقهي العادي ، إلا أنه يعرف تلك القواعد لكي يحتج بها دفاعا عن مذهبه وهجوما على المخالفين .

أهمية علم الخلافات وازدهاره لدى غير المالكية

    وازدهار هذا العلم أفاد في معرفة دقائق الخلاف بين الأئمة وقام بتدريب الفقهاء على الجدل والبرهان ، ولذلك ازدهر لدى الحنفية والشافعية لاعتمادهم على القياس العقلي ، أما المالكية فهم أهل حديث وبداوة لذا  لم يزدهر لديهم هذا العلم بنفس المقدار.

أهم المؤلفين في الخلافيات

    وأشهر المؤلفين في الخلافيات  الغزالي في المآخذ ، وأبوزيد الدبوسي في التعليقة . وقد جمع إبن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما ينبني عليه الفقه الخلافي في المسائل الخلافية.

الجدال الفقهي : تعريفه وأنواعه:

    هو معرفة آداب المناظرة بين أهل المذاهب وغيرهم ، ومعرفة الحدود التي يقف عندها المتناظرون في الرد والقبول وكيف يسوغ له الإستدلال أو السكوت أو الإعتراض . وقيل أنه معرفة الحدود والآداب في الإستدلال في حفظ رأي وهدم الآخر ، سواء كان ذلك من الفقه أو من غيره . وهو نوعان : طريقة البزدوي ، وهي خاصة بالأدلة الشرعية من النص والإجماع والإستدلال ، وطريقة العميدي ، وهي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم ، وأكثره إستدلال عقلي.

رأي إبن خلدون في طريقة العميدي

   ويرى إبن خلدون أن طريقة الجدل لدى العميدي فيها نواحي حسنة وأخرى مغالطات مبنية على السوفسطائية وتحري الإنتصار في الجدل ولو على حساب الحقيقة ، وإن كان ذلك يتم وفق طرق الإستدلال المرعية ، والعميدي أول من كتب في الموضوع ، من خلال كتابه " الإرشاد " ثم سار النسفي على طريقته ، ثم كثرت التأليف ، إلى أن هجرها عصرالتقليد ، لأنها من العلوم الكمالية .

 

 

 

 

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف10)علم الكلام 

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

  تابع الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق

                                الفصل العاشر

                                            علم الكلام

مع ان ( علم الكلام ) اشتهر به المعتزلة وارتبط بهم أكثر من غيرهم إلا إن ابن خلدون  يرى أنه علم الدفاع عن العقائد الإيمانية السنية السلفية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعين المنحرفين عن عقائد السلف وأهل السنة. ويجعل إبن خلدون من التوحيد ( السلفى ) سر العقائد الإسلامية .   

السببية دليل التوحيد العقلي

   ويستدل على التوحيد بالبرهان السببي ، أو برهان العلة : هذه الأشياء حادثة ، وكل حادث لابد له من محدث ، وتنتهي الأسباب إلى مسبب واحد وهو الله لا إله إلا هو .

الدعوة إلى عدم البحث في الأسباب والبحث في المسبب

    والأسباب تعني الكائنات والموجودات في العالم المادي ، وما بينها من علاقات ، ويدعو إبن خلدون إلى عدم البحث في الأسباب ، لآنها تتضاعف ولا تستطيع النفس الإحاطة بها وبما فيها من أفكار ونظام ، واستشهد بقوله تعالي " ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " ، وهو إستشهاد فى غير محله . وقال إن الباحث في الأسباب ربما يضل ويهلك . وقال إن تأثير الأسباب في المسببات مجهول وكيفيته مجهولة لذا يجب الامتناع عن بحث الأسباب ، والتوجه إلى الله مسبب الأسباب كلها لترسيخ صفة التوحيد في النفس ، واستشهد بحديث موضوع يقول " من مات يشهد أن لاإله إلا الله دخل الجنة ، فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع وحقت عليه كلمة الكفر ، وأن سبح في بحر النظر والبحث عنها وعن أسبابها وتأثيراتها واحدا بعد واحد فأنا الضامن له ألا يعود إلا بالخيبة " والواضح أنه حديث مصنوع .

    ومثل أهل السُّنة يؤكد إبن خلدون على استحالة الإحاطة بالكائنات وأسبابها لأن كل عقل ينحصر علمه فيما يدركه ولا يتعدى ذلك إلى مالا يدركه ، مثل انحصار الأصم فيما لا يسمع والأعمى فيما لا يرى وانحصار الحيوان الأعجم بما لا عقل فيه . لذلك يدعو إلى أن يتهم الإنسان إدراكاته في الحصر ويتبع ما يأمره به الشارع في الإعتقاد والعمل لأن الشارع هو الأعلم بما ينفع .

العقل لا مجال له في التوحيد ولا في الأسباب

    ولايعتبرإبن خلدون هذا إتهاما للعقل وإدراكاته ، إذ يرى أن العقل ميزان صحيح وأحكامه يقينية إلا أنه لامجال له في أمور التوحيد والآخرة والنبوة والصفات الألهية ، كما لا مجال له في الأسباب التي تتجاوز مدركاته ، ويصل إلى القول بأن التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيرها وتفويض ذلك إلى الخالق جل وعلا ، ويقول مقالة الصوفية " إذ لا فاعل غيره وكلها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته " واستدل بقول بعضهم " العجز عن الإدراك إدراك ".

كمال التوحيد وكمال العبادات

   ويرى إبن خلدون أن التوحيد مجرد الإيمان ، ولكن كمال التوحيد حصول صفة منه تتكيف بها النفس . وكمال العبادة حصول ملكة الطاعة وتفريغ القلب عما سوى المعبود حتى ينقلب المريد السالك ربانيا ، وكذلك العلم بالتوحيد يكون بالإتصاف به فترسخ ملكته في النفس ويحصل بذلك الإتصاف والتحقيق ، وهذا هو معنى الكمال في أوامر الشرع ، فالكمال في الإعتقاد يكون هو العلم الثاني أي الإتصاف بالتوحيد ، والكمال في العبادات الإتصاف بها والتحقق بها . ثم يأتي الإقبال على العبادة ثمرة للإتصاف بها ، واستشهد بحديث " جعلت قرة عيني في الصلاة " أي صارت الصلاة صفة له يجد فيها منتهى لذته.

    وينتهي إبن خلدون إلى أن المطلوب في التكاليف حصول ملكة راسخة في النفس يحصل عنها علم إضطراري للنفس هو التوحيد ، وهو العقيدة الإيمانية ، وذلك يسري على التكاليف القلبية الإيمانية والعبادات البدنية . والإيمان مراتب أولها التصديق القلبي الموافق للسان وأعلاها تكيف الجوارح بذلك التصديق بحيث لا يقع المؤمن في معصية صغيرة أو كبيرة . واستشهد بحديث " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ".

عصمة الأولياء

    وبسبب إنتمائه الصوفى فقد جعلها المرتبة الثانية من العصمة بعد عصمة الأنبياء ، وهذه العصمة للمؤمنين تأتي بسبب الإيمان والعمل ، وبالعصمة يتفاوت الإيمان تبعا للعمل .

بين الإيمان والعمل

   ويرى إبن خلدون أن الإيمان فعلى ، والتصديق أول مراتبه . وهذا التصديق لا تفاوت فيه لأنه أقل ما يطلق عليه إيمان ، وهو الذي يمتاز به المؤمن عن الكافر ولكن التفاوت يأتي في الأعمال الناشئة عن الإيمان.

مفردات الإيمان

    وقد كلفنا الشارع بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء خيره وشره ، وتلك هي العقائد الإيمانية المقررة في علم الكلام ( السنى )، ويجب الإيمان بها بالقلب والإقرار بذلك باللسان.

 الإيمان بالله

    يرى إبن خلدون عقيدة الصوفية فى ( وحدة الفاعل ) فيقول أن الله تعالى هو الخالق الذي ترد الأفعال كلها إليه وحده ، وفي هذا الإيمان نجاتنا ، ومعرفتنا بكنه حقيقة الله يتعذر على أدراكنا . لذلك فإن المطلوب منا إعتقاد تنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين وعن صفات النقص  "وتوحيده بالإتحاد وإلا لم يتم الخلق للتمانع "، والإعتقاد بأنه عالم قادر لتتم الأفعال التي تشهد بكمال إتحاده ، وأنه يعيدنا بعد الموت ، والإعتقاد في أنه بعث بالرسل وأنه جعل الجنة والنار .

نشأة علم الكلام

    وكان السلف على هذا الإعتقاد ، إلا أنه حدث خلاف في التفاصيل بسبب الآيات المتشابهة ، وتطور الخلاف إلى خصام وتناظر بالعقل وزيادة الإستشهاد بالنقل من الآيات وبذلك نشأ علم الكلام .

    فقد جاء في القرآن وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل ، ويجب الإيمان بها ، وجاءت تفسيرات نبوية من الصحابة والتابعين تفسر الأيات على ظاهرها ، وجاءت آيات أخرى في القرآن توهم التشبيه ، ورأي السلف عدم التعرض لمعناها ببحث أو تأويل مع الإيمان بها . إلا أن المبتدعة ( وهم فى نظره المخالفون لأهل السنة ) اتبعوا ماتشابه من الآيات وأوغلوا في التشبيه في حديث القرآن عن يد الله ووجه الله فوقعوا في التجسيم للذات الإلهية وخالفوا آيات التنزيه المطلق لله وهي الأكثر عدداالكثر ااا في القرآن والأوضح دلالة ، لأن التجسيم يقتضي النقص والإفتقار ، وقد احتجوا بأن له – تعالى – جسما لا كالأجسام ويرى إبن خلدون أنهم يقعون في التناقض والجمع بين النفي والإثبات.

    ومنهم من ذهب إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة والإستواء والنزول والصوت والحرف  ، فوصلوا أيضا إلى التجسيم وقالوا صوت لا كالأصوات وجهة لا كالجهات.

آراء المعتزلة

   ثم كثرت العلوم والصنائع والتدوين والبحث ، وجاء المعتزلة في تعميم التنزيه وذلك بنفي صفات المعاني من القدرة والعلم والإرادة والحياة زائدة على أحكامها ، حتى لا يقال بتعدد الذات ، ويرد عليهم إبن خلدون بأن الصفات ليست عين الذات ، وقضى المعتزلة بنفي السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام والتجسيم ، ويرد إبن خلدون إنهما إدراك للمسموع والمبصور ، وقضى المعتزلة بنفي الكلام ، ويرى إبن خلدون أنهم لم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس ، وعلى ذلك حكموا بأن القرآن مخلوق. ويرى إبن خلدون أن خلق القرآن بدعه خالفها أهل السنة وأدت إلى ظهور الإشاعرة حين نهض أبو الحسن الأشعري للرد على المعتزلة .

الأشاعرة

    وقد توسط الأشعري بين المشبهة المجسمة وبين المعتزلة ، فنفي التشبيه وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف . كما تحدث عن الإمامة ردا على الشيعة حين جعلوا الإمامة جزءا من عقائد الإيمان . ورأى الأشعري إنها قضية مصالح للأمة ولا تلحق بالعقائد . وتكاثر الكلام في الموضوع بعد ظهور الأشعري .

سبب تسمية علم الكلام

    ولأن هذا العلم قام على المناظرات الكلامية خصوصا في صفة الكلام ونسبتها أو عدم نسبتها لله تعالى فقد أطلقوا على هذا العلم علم الكلام.

تلامذة الأشعري

    وكان إبن مجاهد أهم تلامذة الأشعري ، وأخذ عنهم أبوبكر الباقلاني وأصبح إمام الأشاعرة ووضع لهم المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة ، وجعلها قواعد للعقائد الإيمانية الواجب اتباعها ، ثم جاء إمام الحرمين فوضع كتابه الكبير ( الشامل ) ثم اختصره في (الإرشاد) واتخذه الناس إماما لعقائدهم ، وانتشرت بعده علوم المنطق بين الناس .

أثر علم المنطق في علماء الكلام المتأخرين

   وبانتشار علم المنطق فرقوا بينه وبين الفلسفة ، إذ جعلوا المنطق وسيلة للإستدلال ، وبالمنطق بحثوا علم الكلام لدى المتقدمين فخالفوا الكثيرين منهم بالإستدلال المنطقي ، وردوا بالمنطق على بعض التأثيرات الفلسفية لدى المتكلمين الأوائل ، وردوا على الفلاسفة ، وهذه طريقة المتأخرين من علماء الكلام ، وأولهم الغزالى ثم إبن الخطيب .. ثم توغل من جاء بعدهم في الفلسفة ، وخلطوا بين الفلسفة وعلم الكلام ، مع ما بينهما من فوارق .

بين الفلسفة وعلم الكلام

    ومنهج البحث مختلف بين المتكلم والفيلسوف ، فعلم الكلام ينظر في الكائنات وأحوالها ليستدل بها على وجود الله وصفاته أما الفلسفة فتنظر في الكائنات من حيث الحركة والسكون .وتنظر الفلسفة في الإلهيات على أنها الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته ، أما علم الكلام فيبحث العقائد من حيث الإستدلال عليها عقليا ووجوب الإيمان بها قلبيا ولرفع الشكوك والبدع . وما لبث أن وقع الإختلاط بين الفلسفة والكلام عند المتأخرين كما حدث لدى البيضاوي في كتابه " الطوالع ".

رأي إبن خلدون في ضرورة علم الكلام في عصره

    ويرى إبن خلدون أنه لم تعد ضرورة لعلم الكلام في عصره إذا انقرضت المبتدعة والملاحدة ،وقد رد عليهم الأئمة ، ولكن علم الكلام يفيد آحاد الناس وطلبة العلم في حججه النظرية في الدفاع عن العقائد ( السنية بالطبع ).!. 

 

                       

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف11: 12)التصوف وتفسير الاحلام 

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

 تابع  الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق

                                      الفصل الحادي عشر

                                  علم  التصوف

بداية التصوف

    يرى إبن خلدون أن التصوف علم شرعي مستحدث ، وبدايته تكمن في انقطاع الصحابة والسلف للعبادة مع الزهد ، فلما غرق الناس في القرن الثاني في متاع  الدنيا أطلق على الزهاد إسم الصوفية.أى أنه لا يفرّق بين الزهد والتصوف.

اشتقاق التصوف

    ويخالف إبن خلدون القشيري الذي يرى أن التصوف ليس مشتقا من اللغة العربية بينما يرى إبن خلدون أنه مشتق من الصوف الذي يدل على الزهد.

إختصاص التصوف بالإدراك الوجداني أو الحال

    ويقسم إبن خلدون المدركات إلى عقلية في العلوم والمعارف ، ووجدانية في أحوال الفرح والحزن  والقبض والبسط . وقد اختص الصوفية بالمدركات أو الأحوال الوجدانية ، والمريد في مجاهدته ينشأ له عن كل مجاهدة حال ، فيكون صاحب حال .

بين الأحوال والمقامات

    والأحوال التي تعرض للمريد قد تكون عن عبادة فترسخ وتصير مقاما للمريد وقد لا تكون عن عبادة كالأحوال النفسية المتغيرة .

نهاية الترقي إلى التوحيد

    ولايزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد أو المعرفة ، وذلك على أساس الطاعة والإخلاص القائمين على الإيمان . وإذا وقع تقصير في الوصول فمرجعه إلى النفس ، ولذلك يجب على المريد أن يحاسب نفسه .ويستعمل ابن خلدون مصطلح التوحيد دون تحديد معناه عند الصوفية ، مما يوحى بأنه نفس ( التوحيد ) الذى يقول به ( أهل السنة ).

الذوق أساس التصوف

    والمريد يحاسب نفسه بالذوق – أو الوجدان ، وبالذوق أيضا يمكنه الوصول ويتعرف على نتائج المجاهدة ,إذا كانت مثمرة أم لا .

إصلاحات الصوفية وتدوينها

    وللصوفية آداب خاصة ومصطلحات خاصة تختلف عن الفقهاء والمتكلمين، وهي تدور حول المجاهدة للنفس ومحاسبتها والذوق والمواجيد ، وفي عصر تدوين العلوم كتب الصوفية في التصوف كالقشيري والسهروردي والغزالي وأصبح التصوف علما بعد أن كان طريقة عبادة .

الكشف ( علم الغيب ) والكرامة

 ويتابع ابن خلدون الصوفية فى أنه ينتج عن المجاهدة بالخلوة والذكر كشف حجاب الحس والإطلاع على الغيب أن  الروح تقوى بالمجاهدة فتكشف لها العلوم اللدنية والفتح الإلهي حيث تقارب أفق الملائكة . ويقترن بالكشف التصرف في الكون – أو الكرامات . و يقول إن العظماء منهم لايهتمون بما يتجلى لهم من كشف أو ما يعرض لهم من كرامات ، ويرى إبن خلدون أن الصحابة كانت لهم كرامات ولم يهتموا بها أيضا ، ويؤكد أن الكشف ( علم الغيب ) يستلزم الإستقامة . وقد اهتم متأخرو الصوفية بالكلام عن الكشف وعما ظهر لهم من غيوب علوية وسفلية ، وبعضهم أنكر عليهم ، والبعض الآخر سلم لهم بما يقولون .

عقائد التصوف

  1- مذهب التجلي ورأي إبن خلدون فيه    

    وكلامهم في الكشف والغيب أتاح لهم التعبير عن عقائدهم ، ومنها مذهب التجلي . وهو أن الوجود صدر عن الفاعل وفق ترتيب معين بطريقة التجلي.  وأول مراتب التجلي تجلي الذات على نفسه الذي يتضمن الكمال ، وفيه تفصيل الحقائق وعالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية  وحقائق الصفات واللوح والقلم والأنبياء والرسل والكاملين من أهل الملة المحمدية ، ويصدر عنها بالتجلي حقائق أخرى في الحضرة البهائية وعنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ثم عالم العناصر ثم عالم التركيب ، وهذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق . ويرى إبن خلدون أنه كلام غامض لايقدر عليه أهل النظر والبحث ، وربما ينكره ظاهر الشرع .

مذهب الوحدة المطلقة 

   ويقول إبن خلدون أنه أغرب من مذهب التجلي ، وهو أن الوجود بتفصيلاته يعتبر وحدة واحدة مع الذات الألهية التي إنبثت منها كل أنواع الوجود ، فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية ، وهي حقيقة عندهم بسيطة ، ولكن الإدراك العقلي يتيه عنها لأنه يستغرق في التفصيلات .

 رأي إبن خلدون في الوحدة

    ويرى إبن خلدون أن هذا الرأي ساقط ، ويقول أن محققي الصوفية المتأخرين رأوا أن عقيدة وحدة الوجود قد تعرض للمريد عند الكشف في البداية ، وذلك مقام الجمع ، ولكن يترقى إلى أن يصل إلى التمييز بين الموجودات ، وهو مقام الفرق . أي مقام العارف المحقق ، ويقول إبن خلدون أن متأخري الصوفية من أصحاب وحدة الوجود ذهبوا إلى الحلول والإتحاد وكتبوا في ذلك ، كما فعل الهروي وإبن عربي وإبن سبعين وإبن الفارض والعفيف التلمساني .

 تأثر صوفية الوحدة بالشيعة

   ويرى إبن خلدون أنهم تأثروا بالشيعة ، ويجمعهم القول بالحلول وإلاهية الأئمة والقطب والأبدال والنقباء ، واتخاذ علي بن أبي طالب إماما دون بقية الصحابة والكلام في الفاطمي المنتظر .وقال أن الفقهاء تم ندبهم للرد على أولئك الصوفية .

 بين  الصوفية والفقهاء

    وفي البداية فإن إبن خلدون يرى أن الفقهاء لا يشاركون الصوفية  في أحوالهم ومقاماتهم وأذواقهم . لذلك أنكر بعض الفقهاء على كلام الصوفية في الكشف والغيبيات .

رد إبن خلدون على الصوفية

    وقام إبن خلدون بالرد على الصوفية في أربعة مواضيع:

كلامهم في المجاهدات والأذواق ومحاسبة النفس ، ويراهم على الحق .

كلامهم في كشف الغيوب من الصفات والعرش والكرسي وترتيب الأكوان ، يقول أنه أمر صحيح .

 ودافع إبن خلدون عن كرامات الصوفية ، وعاب على الأشاعرة إنكارهم للكرامات وقال أنها لا تلتبس بالمعجزات النبوية لأنها ليس فيها التحدي ، كما أن الكرامات وقعت للصحابة والسلف .

4- شطحات الصوفية : ودافع عنها إبن خلدون طالما تصدر عند حالة الغيبة وقال أنه كلام وجداني متشابه يستحق التأويل ، أما إذا صدرت شطحات في حالة يقظة كما قال الحلاج فيستحق القتل .

دفاع إبن خلدون عن التصوف

    وبذلك انتهى إبن خلدون إلى أن سلف الصوفية هم أعلام الله ولم يكن لهم حرص على كشف الغيوب ، بل اهتموا بالإتباع والإقتداء ، ومنعوا أتباعهم من الإهتمام بالكشف والخوض فيه ، وقال" وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد ".

                                          الفصل الثاني عشر

                                              في علم تعبير الرؤيا

بدايته

    علم تعبير الرؤيا علم شرعي مستحدث بعد أن تحولت العلوم إلى صناعة وحرفة ، أما الرؤية نفسها فقد كانت موجودة من قبل ، ولكن لم يصل إلينا تفسير الأحلام سوي عن يوسف في القرآن وعن النبي محمد وأبي بكر في الأحاديث .

الرؤيا والغيب

    والرؤيا إحدى مدارك الغيب واستشهد إبن خلدون بحديث " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " ، وأنه " لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له " . وكانت الرؤيا أولى ارهاصات النبوة للنبي محمد فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح .

كيف تحدث الرؤيا

    ويعلل إبن خلدون صلة الرؤيا بالغيب بتفسير العصور الوسطى ، وهو أن الروح القلبي المنبعث في جهاز القلب داخل الجسد الإنساني ينتشر في الشرايين مع الدم في سائر البدن فإذا أحس بالملل من الجسد رجع إلى القلب فيدخل الجسد إلى النوم ، وفي النوم يتخفف من أعباء الجسد ويستقبل المدركات من عالم الغيب ويحفظها في الحافظة .

     ويضيف تفسيرا آخر وهو أن النفس تجرد من نفسها صورا نفسية عقلية عن طريق تجريد المحسوس ليكون معقولا وخيالا ، وتلقي النفس بهذه المعقولات والخيالات إلى الحس المشترك فيراه النائم كأنه محسوس .

أنواع الرؤى

    ويرى إبن خلدون طبقا لبعض الأحاديث أن هناك ثلاثة أنواع للرؤى (1) رؤيا من الله وهي الصريحة التي لا تحتاج إلى تأويل بسبب وضوحها أو قربها من الأشياء  المدركة ، (2) رؤيا من الشيطان ، وهي أضغاث الأحلام ، وهي صور من الخيال في حالة النوم ولكن مأخوذة من صور الخيال التي أودعها الخيال في الحافظة منذ اليقظة ، (3) رؤيا من الملك وهي صادقة ولكن تحتاج إلى تفسير ، وهي أيضا صورة من الخيال في حالة النوم ولكنها مأخوذة من الروح العقلي المدرك ، وليس من الحافظة المتأثرة بأحوال اليقظة . قوانين تعبير أو تأويل الرؤيا

    يرى إبن خلدون أن الروح العقلي يدرك الأشياء في النوم ويلقيه في الخيال في صورة مناسبة لذلك الشئ ، وحين يحكيه النائم لمن يفسر الأحلام ينظر في قوة التشبيه وبالقرائن الأخرى عن حال صاحب الحلم ، كمن يرى البحر وتأويله بالسلطان أو الغيظ أو الهم العظيم .. والقرينة هي التي تحدد المراد ، وهو ما يعرف بقوانين تعبير الرؤيا .

علاقة الرؤيا بالإدراك الشخصي

    ومن الطبيعي أن الإدراك الحسي يؤثر في  استقبال الأحلام ، فالأعمى لايرى في المنام إلا الذي يتناسب مع طبيعة مدركاته ، وكذلك الأصم .

أشهر المؤلفين في  تفسير الأحلام

     وقد تنقل علم تعبير الرؤيا بين  السلف وأشهرهم محمد بن سيرين الذي كتب قوانين تفسير الأحلام ، ثم الكرماني وكثيرون . وأشهرهم في المغرب في عصر إبن خلدون  ، أبوطالب القيرواني والسالمي .

 

 

 

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون:ب6:(ف13: 16)العلوم العقلية والعددية والهندسية والفلكية

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

 تابع  الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق

                                           الفصل الثالث عشر

                                        العلوم العقلية وأصنافها

عمومية العلوم العقلية

     العلوم العقلية لاتختص بملة الإسلام وإنما هي عامة للبشر منذ الخليقة .

     وتنقسم إلى : (1) علم المنطق ، وهو علم يعصم الذهن عن الخطأ ، (2) العلم الطبيعي الذي يبحث في المواد من المعدن ، والنبات والحيوان والفلك والحركات الطبيعية والنفس (3)الإلهيات ، وتتخصص في ما وراء الطبيعة من الروحانيات (4) التعاليم وهي النظر في المقادير .

أقسام التعاليم

وتنقسم التعاليم إلى أربعة علوم :

(1)الهندسة : وهي النظر في المقادير مطلقا سواء كانت منفصلة أومتصلة ذات البعد الواحد فهو الخط ، أو ذات بعدين كالسطح أوثلاثة أبعاد وعلاقاتها ببعضها .

 (2 )العدد ( الأرتماطيقي ): وهو معرفة ما يعرض للكم وعلاقته بالخواص والعوارض وينقسم إلى الحساب والفرائض والمعاملات .

(3) الموسيقى : وهو معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد ، وذلك لمعرفة الألحان .

(4) الهيئة ( الفلك ) وهو تعيين أشكال الأفلاك وحصر أوضاعها وتعددها لكل كوكب ، ومن فروع الهيئة ما يعرف بالأزياج ، وهي قوانين لحساب حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها.

العلوم العقلية قبل الإسلام

    وظهرت هذه العلوم لدى الفراعنة والسريانيين والكلدانيين ، ولاتزال آثار الفراعنة شاهدة بذلك في البراري ( في الصعيد) وأصبحت تصنف في بند السحر المحرم . وانتقلت تلك العلوم إلى الفرس  والروم . وازدهرت هذه العلوم لدى الفرس ، ويقال إنها وصلت منهم لليونان بعد حملة الأسكندر الأكبر ، والمشهور أن اليونانيين حملوا مشعل العلوم وظهر فيهم المشاءون وأبقراط إلى أرسطو وأفلاطون . وكان أرسطو معلما للأسكندر الأكبر، وبعد زوال عظمة اليونان ورثهم الرومان ، وبعد اعتناق الرومان للنصرانية هجروا فلسفة اليونان ، وبقى تراث اليونان إلى أن جاءت الفتوحات إلى مصر والشام والعراق.

العلوم العقلية في عصر الإسلام

     وحين فتح سعد بن أبي وقاص فارس إستشار عمر في أمر الكتب الكثيرة فأمر بتدميرها فذهبت علوم الفرس ولم تصل إلينا .

     وفي عصر أبي جعفر المنصور حيث دخل المسلمون في عصر الحضارة إستورد كتب الفلسفة من ملك الروم ، ثم أقام المأمون نهضة علمية باستنساخ وترجمة التراث اليوناني ، وعكف عليها العرب والمسلمون وغيرهم . وظهر الفلاسفة المسلمون كالفارابي وإبن سينا وإبن رشد وإبن الصائغ ، وأثير الجدال حول هذه العلوم . ثم تناقصت تلك العلوم في المغرب بتناقص حضارته وبقيت في المشرق مع بقاء حضارته . ويقول إبن خلدون " ولقد وقفت بمصر على تآليف متعددة لرجل من عظماء هراة" يقصد سعد الدين التفتازاني ، ويقول أنه علم أن بلاد الفرنجة تزدهر فيها العلوم العقلية والفلسفية بمدارسها وطلبتها وأساتذتها.

                                       الفصل الرابع عشر

                             العلوم العددية

الأرتماطيقي  Arithmatic's

 وهو معرفة خواص الأعداد من حيث التأليف إما على التوالى أو بالتضعيف ، وله قوانين ، مثل أن الأعداد إذا توالت متفاضله بعدد واحد فإن جمع الطرفين منها مساو لجمع كل عدد بعدهما من الطرفين بُعد واحد . ومثل : أن الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة يكون أولها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها ، الخ . ومثل مايحدث من الخواص العددية في وضع المثلثات العددية والمربعات والمخمسات والمسدسات إذا وضعت متتالية في سطورها بأن يجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلثة ، وتتوالى المثلثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ، ثم تزيد على كل مثلث ثلث الضلع الذي قبله فتكون مربعة وتزيد على كل مربع مثلث الضلع الذي قبله فتكون مخمسة وهلم جرا ..

    والأرتماطيقي أول أجزاء التعاليم ، ويدخل في براهين الحساب. وللحكماء المتقدمين فيه مؤلفات ، وأكثرهم يدرجونه ضمن التعاليم ولا يفردونه بالتأليف، كما فعل إبن سينا في كتاب الشفاء والنجاة . والمتأخرون هجروه واستخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعل إبن البناء في كتاب رفع الحجاب .

صناعة الحساب :

هو حساب الأعداد بالضم أي الجمع والضرب وبالتفريق أي الطرح والقسمة في العدد الصحيح أو الكسر وجذور الأعداد . ويقول إبن خلدون أن الحساب صناعة علمية جديدة إحتيج إليها في التعامل بين الناس ووضعت فيها المؤلفات ، وجرى تعليمها للنشء ، ومن الأفضل الإبتداء بتعليمها للأطفال حيث يتعلم الطفل من خلالها الصدق ، كما أنه ينشأ عنها في الغالب عقل مضئ يلتزم بالصواب . ومن المؤلفات في الحساب في المغرب في عصر إبن خلدون لإبن البناء المراكشي تلخيص كتاب الحصار الصغير،وشرحه بعنوان" رفع الحجاب "

الجبر والمقابلة :

وهو إستخراج العدد المجهول من المعلوم المفروض إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك ، بأن جعلوا للمجهول مراتب بالتضعيف بالضرب ، أولها العدد وثانيها الشئ المجهول وثالثها المال وهو مبهم ، وما بعد ذلك فعلى الإس في المضروبين ثم يقع العمل المفروض في المسألة فتخرج إلى معادلة ، ويتم حل المعادلة . والخوارزمي أول من كتب في الجبر ، ثم أبو كامل شجاع بن أسلم الذي وضع المسائل الست في الجبر ، وشرح كتابه كثيرون من الأندلس ، ومنهم القرشي ، ومنهم من وضع مسائل بلغت فوق العشرين واستخرج لها أعمالا وبراهين هندسية .

المعاملات :

 وهي تصريف الحساب في معاملات المدن في البيع والمساحات والزكاة وغيرها . أي تطبيق معرفة الحساب والجبر في التعامل الإقتصادي ، وهذا التطبيق يدرب العقل ، وهناك مؤلفات في هذا المجال في الأندلس منها معاملات الزهراوي وإبن السمح وأبي مسلم إبن خلدون.

الفرائض :

هو تصحيح الأسهم في الميراث عن طريق الحساب ، خصوصا عند تعقد مسائل الميراث بتعدد الورثة أو هلاك بعضهم أو زيادة الفروض على الأسهم مثل العول ، أو إنكار بعضهم ، ولذلك فهي صناعة تجمع بين الفقه والحساب ، ويورد أصحابها أحاديث تمدح ذلك العلم مثل " الفرائض ثلث العلم"  " وأنها أول مايرفع من العلوم "  . ويرى إبن خلدون أن تلك الأحاديث في الفرائض العينية وليست في فرائض الميراث . وذكر إبن خلدون مؤلفات عديدة في الميراث تدور حول الشرح والتلخيص .

                                           الفصل الخامس عشر

                                             في العلوم الهندسية

معنى الهندسة

    هي النظر في المقادير المتصلة ( الخط المستقيم ، السطح ، الجسم ) أو المنفصلة ( الأعداد وعوارضها مثل : زوايا المثلث قائمتان ، الخطان المتوازيان لا يلتقيان ، الزوايا المتقابلة متساوية).

كتاب إقليدس في الهندسة

   وكتاب إقليدس عمدة الهندسة وقد ترجم للعربية في عهد أبي جعفر المنصور ، وله  عدة تراجم مختلفة حسب المترجمين ( حنين بن اسحق ، ثابت بن قرة ، يوسف بن الحجاج ) ويشتمل على خمس عشرة مقالة في المساحات والعدد والجذور والمجسمات والمنطقات ، وتعرض كتاب إقليدس للشرح والإختصار ، اختصره إبن سينا في الشفاء وإبن الصلت في الإقتصاد ، وشرحه كثيرون . ويرى إبن خلدون أن  الهندسة تضئ العقل ويعتدل بها الفكر لاستقامتها ووضوحها.

الهندسة الكروية والمخروطية ( الميكانيكا )

      في الهندسة الكروية كتابان يونانيان ، الأول منهما لثاودوسيوس والآخر تأليف ميلاوش ، ويرى إبن خلدون أنهما ضروريان لمن يتعلم علم الهيئة ( الفلك )

     والهندسة المخروطية تنظر في الأجسام المخروطة ومايعرض لها ببراهين هندسية ، وهي مفيدة في النجارة والبناء والتماثيل وجر الأثقال ونقل الهياكل ، وكتب مؤلفون في الحيل العلمية بما يتضمن الصناعات الغريبة .

المساحة :

هو فن قياس الأرض بالشبر أو الذراع ، وهو علم مفيد في فرض الضرائب على الزراعة وتقسيم الميراث في الأراضي والبناء.

المناظرة الهندسية (الضوء)

علم يبحث أسباب الخطأ البصري ، ورؤية ماتحت الماء أو الأشياء الشفافة ، واختلاف مناظر القمر باختلاف العروض ، ورؤية الأهلة والكسوف والخسوف ، وإبن الهيثم أشهر من كتب في هذا العلم .

                                      الفصل السادس عشر

                                            في علم الهيئة ( الفلك )

ماهية علم الهيئة وموضوعاته

    يبحث علم الهيئة في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيزة ليستدل منها على أشكال الأفلاك وأوضاعها بطرق هندسية ، ويبرهن على الإختلاف بين مركزي الأرض والشمس ويبرهن على وجود أفلاك تحمل الكواكب داخل الفلك الأعظم ، ويبرهن على وجود فلك ثامن وتعدد الأفلاك للكوكب الواحد بتعدد ميل المحاور .

الرصد اليوناني وفي الإسلام

    ويتم البرهان عن طريق الرصد للحركات الكوكبية وأجناسها ، واعتنى اليونانيون بالرصد واتخذوا له الآلة المسماه ذات الحلق ، وتناقلها الناس عنهم ، وظهر الإهتمام بالرصد في خلافة المأمون حيث صنعت آلة ذات الحلق ، وفتر الإهتمام بعد المأمون .

وعلم الهيئة يعطي صورة للسماء والكواكب والأفلاك ، وليس حقيقتها الواقعية ، واستدل إبن خلدون على هذه المقولة بدليل عقلي .

المجسطي أحسن المؤلفات في علم الهيئة

    وأفضل المؤلفات في علم الهيئة هو المجسطي لبطليموس ، وقد اختصره علماء المسلمين مثل إبن سينا في الشفاء وإبن رشد وإبن السمح وإبن الصلت وإبن الفرغاني .

علم الأزياج

    ومن فروع علم الهيئة علم الأزياج ، وهو صناعة حسابية تقوم على قواعد حسابية تخص كل كوكب وحركته وسرعته وبطئه ، وله قوانين في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية ، وتوضع في جداول مرتبة تسمى بالأزياج .

والتقويم هو إستخراج مواضع الكواكب في أوقات معينة عن طريق تلك الأزياج .

المؤلفات في علم الأزياج

     وأظهر من كتب في الأزياج البتاني وإبن المكماد ، واعتمد المغاربة في عهد إبن خلدون على زيج إبن اسحق ، ويقال أن إبن اسحق أخذه عن يهودي صقلي كان ماهرا في هذا العلم ، ولخص إبن البناء كتاب ابن اسحق وسماه المنهاج . ويحتاج التنجيم إلى علم الأزياج في معرفة تأثير الكواكب على أحوال الناس .

 

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف17: 20 )علم المنطق والطبيعيات والطب والفلاحة

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

 تابع  الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق                           

                                      الفصل السابع عشر

                                            في علم المنطق

ماهية المنطق

     والمنطق هو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في معرفة الأشياء والماهيات البراهين القاطعة .

صلة المنطق بالإنسان

    والمنطق وثيق الصلة بالإنسان ، حيث يشترك الإنسان مع الحيوان في الإدراك الحسي ، إلا أن الإنسان يمتاز بإدراك الكليات المجردة عن الحس عن طريق التخيل ، فيأتي بصورة ذهنية كلية مجردة يمكن تطبيقها على صور المحسوسات .

 وهناك منازل للتجريد تبدأ بالنبات ثم بالحيوان ثم بالإنسان ثم تنتهي بالجنس العالي وهو الجوهر الذي يتوقف العقل عنده بالتجريد.

قانون المنطق

    وقد خلق الله تعالى الفكر داخل الإنسان ، فنشأ عن قابلية الإنسان للفكر والعلم تصوره للماهيات أي إدراكه للأشياء إدراكا بسيطا ، أو تصديقه لحكم ثابت بطريق العقل والفكر ، ويقوم الفكر بجمع تلك الماهيات والتأليف بينها لتكوين صورة عامة عنها يمكن أن تنطبق على كل الحالات ، هذا في تصور الماهيات ، وإما يحكم بأمر على أمر ليكون ذلك تصديقا له يتعرف به على حقائق الأشياء .

وهذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح وقد يكون بطريق فاسد ، وقانون المنطق هو الذي يميز الطريق الصحيح من الطريق الفاسد في تحصيل البراهين الفكرية والعلمية .

أرسطو والمنطق

    وأرسطو هو الذي هذب مسائل المنطق ورتب فصوله ، ولذلك سمى بالمعلم الأول ، وكتابه في المنطق إسمه " النص"  ويشتمل على ثمانية كتب ، منها أربعة في صورة القياس وأربعة في مادته ، والكتاب الأول منها في الأجناس العالية في التجريد وهو كتاب المقولات ، والثاني كتاب العبارة في القضايا التصديقية ، والثالث كتاب القياس ، والرابع كتاب البرهان للنظر في القياس المنتج لليقين ، والخامس كتاب الجدل ، وهو القياس الذي يفحم الخصم ، والسادس كتاب السفسطة وهو القياس المفيد للمغالطة ، والسابع كتاب الخطابة في التأثير على الجمهور ، والثامن كتاب الشعر المفيد للتمثيل والتشبيه في الترغيب والتنفير .

وبعد أرسطو أضاف اليونان الكلام في الكليات الخمس المفيدة للتصور .

المنطق في تاريخ المسلمين

    وترجم المسلمون علوم الفلسفة والمنطق وشرحوها كما فعل الفارابي وإبن سينا وإبن رشد ، واستوعب الشفاء لإبن سينا علوم الفلسفة كلها ، ثم جاء المتأخرون فغيروا إصطلاح المنطق والحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته ، وهي الكلام في الحدود ، وغيروا وبدلوا في الكتب الأخرى ليوائموا بينها وبين علم الكلام والمنطق بما يتفق وثقافتهم ، وأول من فعل ذلك فخر الدين بن الخطيب ثم الخونجي في كتابه كشف الأسرار ، وتعرض للإختصار فتداوله المتعلمون في عصر إبن خلدون .

                                             الفصل الثامن عشر

                                             في الطبيعيات

ماهية علم الطبيعيات ومجالاته

    يبحث عن الجسم وما يلحقه من الحركة والسكون وما يتولد عنه من حيوان وإنسان ونبات ومعدن، وما يتكون في الأرض من عيون وزلازل وما يتكون في السماء من سحب ورعد وبرق ومطر .

من أرسطو إلى علماء المسلمين

    وترجمت كتب أرسطو أيام المأمون ، وألف المسلمون على منوالها كما فعل إبن سينا في الشفاء ، ثم لخصه في كتاب النجاة وكتاب الإشارات ، وخالف أرسطو في بعض المسائل ، أما إبن رشد فاكتفى بالتلخيص عن أرسطو دون أن يخالفه ، وتكاثرت المؤلفات في الطبيعيات ، وعنوا بشرح كتاب الإشارات لإبن سينا كما فعل إبن الخطيب والآمدي ونصير الدين الطوسي.

                                           

                                                  الفصل التاسع عشر

                                                 في علم الطب

ماهية علم الطب

    هو صناعة النظر في جسم الإنسان من حيث المرض والصحة لحفظ الصحة وشفاء المرض والتداوي بالدواء والغذاء . وذلك بعد تبين المرض في العضو وأسباب ذلك المرض والدواء المناسب له وتأثير ذلك الدواء على الجسم وقبول الجسم له ، ويتم الفحص للنبض وفي الطباع والفضلات البشرية حسب أحوال الطبيعة . ويلحق به طب العيون أي أمراض العيون والإكحال المناسبة لها ، كما يلحق به منافع  الأعضاء . أي وظائف الأعضاء،

وجالنيوس هو إمام الطب ، ومؤلفاته الطبية هي أمهات هذا العلم ، واقتدى به من جاء بعده ، خصوصا الرازي وإبن سينا والمجوسي ، ومن الأندلس إبن زهر .

 وتناقص الطب مع اضمحلال الحضارة نظرا لأنه يزدهر مع الترف .

طب البادية

    وهناك طب بدوي مبني على التجربة القاصرة على بعض الأشخاص والمتوارث عن الشيوخ والعجائز، وربما يصح بعضه ، إلا أنه ليس على قانون طبيعي .

رأى ابن خلدون فى ( الطب النبوى )

، ويدخل في الطب البدوى  طب العرب الجاهليين والطب المنقول في الشرعيات، ويرى أن هذا الطب ( النبوى )  ليس من الوحي في شئ ، وإنما كان أمرا  عاديا بين العرب وذكروه في أحوال النبي(ص) كإحدى العادات ، فالنبي لم يبعث لنا لكي يعلمنا الطب ، ولذلك قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم . وماجاء في الأحاديث قد يستعمل على سبيل التبرك بصدق الإعتقاد فيكون له أثر عظيم في النفع تبعا للإيمان والتصديق ، كما يقال في مداواة المبطون بالعسل .  

                                      الفصل العشرون

                                         علم الفلاحة

ماهية الفلاحة

    هي النظر في النبات في إنمائه وعلاجه ورعايته.

علم الفلاحة لدى القدماء ولدى المسلمين

    وارتبطت الفلاحة لدى القدماء بالسحر ومشابهة النبات لروحانيات الكواكب واشتهر في ذلك كتاب الفلاحة النبطية ، ولما جاء الإسلام إقتصر علماء المسلمين على الكلام في النبات من حيث الغرس والرعاية والعلاج ، واختصر إبن العوام كتاب الفلاحة النبطية بهذا المنهج ، وبقى الفن الآخر متعلقا بالسحر ، وكتب المتأخرين كثيرة في علم الفلاحة .

 

 

          

                         

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف21: 23) ماوراء الطبيعة والسحر وعلم الحرف

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

 تابع  الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق     

                                الفصل الحادي والعشرون

                           (الإلهيات ( ما وراء الطبيعة )

ماهية علم الإلهيات

    علم ينظر في الوجود المطلق ، في الأمورالعامة للجسمانيات والروحانيات من حيث الماهية والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان ، ثم مبادئ الموجودات وأنها روحانيات ، ثم كيفية صدور الموجودات عن الروحانيات ومراتبها ، ثم أحوال النفس بعد مفارقة الجسد وعودتها إلى المبدأ.

ما فعله علماء المسلمين بعلم الإلهيات اليوناني

   وترجمت كتب أرسطو في الإلهيات . ولخصها إبن سينا في الشفاء والنجاة ، ولخصها إبن رشد ، ثم رد الغزالي على الفلاسفة ، وحدث خلط بين علم الكلام وعلم الإلهيات ، وغيروا ترتيب المسائل كما فعل إبن الخطيب في المباحث الشرقية .

رأي إبن خلدون في الخلط بين علم الكلام وعلم الإلهيات

   ولايرى إبن خلدون الخلط بين علمي الكلام والإلهيات، لأن مسائل علم الكلام عقائد مستقاة من الشريعة كما نقلها السلف بدون الرجوع إلى العقل ، حيث أن مدارك الشريعة أوسع من العقل لأنها تستمد من الأنوار الإلهية فلا تدخل تحت قانون العقل الضعيف ، فإذا هدانا الشرع إلى شئ فينبغي أن نقدمه على مداركنا العقلية ، ولو تعارض العقل مع الشرع إعتمدنا على الشرع وفوضنا إليه أمرنا وعزلنا العقل .

 و( الشرع ) المقصود عند ابن خلدون هو القرآن والسنة ( الأحاديث ) التى يعتبرها وحيا ، وسرتفع بها فوق العقل.

ويرى إبن خلدون أن المتكلمين الأوائل لجأوا إلى الحجج العقلية للرد على الملحدين بنفس أسلحتهم دفاعا عن العقائد السلفية ، مما أوقعهم في الخلط بين علم الكلام والعلوم الطبيعية والإلهيات .

رأي إبن خلدون في الخلط بين الطبيعيات والإلهيات والخلط بين التصوف والإلهيات

    ويختلف إبن خلدون مع المتأخرين الذين خلطوا علم الكلام بالطبيعيات والإلهيات في الوضع والتأليف ويرى أنهما مختلفان في الموضوع . ويقول نفس الشئ عن غلاة الصوفية الذين خلطوا التصوف بالإلهيات الإغريقية وجعلوهما واحدا في كلامهم عن النبوءات والإتحاد والحلول ووحدة الوجود ، ويرى إبن خلدون أن التصوف يخالف علم الكلام كما يخالف الإلهيات ، لأنه يقوم على الوجدان ولايقوم على العقل والبرهان .

                                         الفصل الثاني والعشرون

                              في علوم السحر والطلسمات

ماهية السحر وماهية الطلمسات 

وهوعلم بكيفية إستعداد لدى النفس بالتأثير في العناصر بغير معين أو مساعد . أما الطلسمات فهو علم بكيفية إستعداد لدى النفس بالتأثير في العناصر عن طريق معين أو مساعد .

المؤلفات في السحر والطلسمات قبل الإسلام وبعده

    كتب فيهما الأنباط والأقباط والفراعنة والكلدانيون والبابليون ، ونظرا لاتهام السحرة بالكفر فلم تترجم تلك الكتب للعربية ، وما كتبوه مختلطا بالفلاحة قام المسلمون بترجمة الفلاحة وتركوا ما اختلط منها بالسحر .

وعن الخلط بين الكيمياء والسحر يقول ابن خلدون أنه ظهر جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة فكتب في صناعة السحر والكيمياء لأن إحالة الأجسام من صورة إلى أخرى لايكون إلا بالقوة النفسية لا بالصناعة العملية ، فهو من قبيل السحر ، ثم ظهر مسلمة المجريطي في الأندلس فلخص كتب السابقين في السحر في كتابه " غاية الحكيم ".

     وقال إن الفلاسفة يثبتون تأثير السحر والطلسمات ، وقالوا إنه تأثير عارض من كيفيات الأرواح ومن جهة التصورات والإيحاء.

    أما من حيث الفرق بينهما فالسحر لايحتاج إلى معين ، والطلسم يحتاج إلى روحانيات الكواكب والإعداد ، والسحر إتحاد روح بروح والطلسم اتحاد روح بجسم والساحر مفطور على السحر لايكتسب سحره ، أما صاحب الطلسمات فيستعين بالتنجيم وغيره.

    ويرى الفلاسفة أن المعجزة قوة إلهية من روح الله للخير ، أما السحر فمصدره ذات الساحر وبمدد الشياطين وفي الشر . وقد توجد كرامات لبعض الصوفية بالمدد الإلهي تبعا للنبوة وعلى قدر إيمان الولي وحاله وبعد الإذن الإلهي . ولأن المعجزة مدد إلهي فلا يقوى السحر على مواجهتها كما حدث مع سحرة فرعون أمام موسى .

    رأي الفقهاء : لم يفرق الفقهاء بين السحر والطلسمات ، إذ حظروهما معا وحظروا معها التنجيم ، واعتبروا التحدي فارقا بين السحر والمعجزة واعتبروا الساحر كاذبا لا يستطيع التحدي.

الحسد ( الإصابة بالعين ) :

 يراها إبن خلدون تأثيرا من الحاسد يأتيه بفطرته ، عندما يستحسن شيئا بشدة ويتمنى زواله ، فيزول ويرى أن الحاسد مجبور في صدور الحسد عنه .

                                    الفصل الثالث والعشرون

                                    علم أسرار الحروف

ماهيته ونشأته

     هو علم السيمياء ، وهو علم حادث في تاريخ المسلمين ، إبتدعه غلاة الصوفية في رغبتهم في علم الغيب وافتعال الكرامات على أساس عقيدتهم في وحدة  الوجود أو تنزل الوجود عن الواجد.

أساس علم الحرف

    ويقوم هذا العلم على أساس أن الكمال الأسمائي للخالق يظهر في أرواح الأفلاك والكواكب وأن للحروف طبائع تسري في الكون وفق هذا النظام منذ أن أبدع الله تعالى الكون ، وتنتقل في  أطواره وتكشف عن أسراره ، وهذه هي أسرار علم الحرف ، الذي كان من فروع علم السيمياء ثم أصبح يطلق عليه إسم السيمياء من باب اطلاق العام على الخاص .

ثمرة هذا العلم

    وقد كتب فيه إبن عربي والبوني وغيرهما ، وثمرة هذا العلم هو أن النفوس الربانية ( الصوفية ) تستطيع أن تتصرف في الكون ( بالكرامات ) عن طريق الأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الكون .

إختلافهم في سر قوة الحروف

    واختلفوا في سر التصرف أو قوة الحروف إلى رأيين :

(أ) مزاج الحروف وكينونتها الداخلية ، وقسمت الحروف إلى أربعة أصناف مثل العناصر ، واختص كل صنف في الطبيعة بما يناسبه من الحروف يتصرف فيه الحرف طبقا لقانون صناعي اسمه التكسير ، وبالتكسير تتنوع الحروف إلى نارية وهوائية ومائية وترابية ، ومثلا لعنصر النار حروف سبعة وهي الألف والهاء والطاء والميم والفاء والسين والذال ، ولعنصر الهواء سبعة وهي الباء والواو والياء والنون والضاد والتاء والظاء ولعنصر الماء سبعة حروف وهى الجيم والزاي والكاف والصاد والقاف والثاء والغين . ولعنصر التراب أيضا سبعة وهي الدال والحاء واللام والعين والراء والخاء والشين وقالوا أن الحروف النارية لعلاج الأمراض الباردة ومضاعفة قوة الحرارة في الجسم ، أما الحروف المائية فهي لدفع الأمراض الحارة ولتضعيف القوى الباردة .

(ب) والرأي الثاني أن سر تصرف الحرف بقيمته العددية ، وذلك وفقا لجدول يبين قيمة كل حرف حسبما كان معتادا في ترتيب الحروف العربية وقيمة كل حرف .

أساس هذا العلم يقوم على علم الغيب

    وسر التناسب بين الحروف وأمزجة الطبائع أو بينهما وبين الأعداد أمر عسير على الفهم ، إذ ليس من قبيل العلوم والقياسات ، وإنما يقوم على الذوق الصوفي أو الكشف أي العلم اللدني بالغيب والتوفيق الإلهي ، ومن هنا يرى إبن خلدون أن تصرفهم في الطبيعة بهذه الحروف أمر ثابت لاينكره أحد ، وقد تواترت أخباره عنهم . أي أن الأمر يحتاج إلى الإيمان والتسليم بدون إنكار .

الفرق بين مقدرة أصحاب الطلسمات السحرية ومقدرة أصحاب علم الحرف

     التصرف يعني المقدرة على الأتيان بالخوارق ، ويرى إبن خلدون أن التصرف في عالم الطبيعة كله إنما هو للنفس الإنسانية والهمم البشرية ، حيث أن النفس البشرية محيطة بالطبيعة وحاكمة لها .

     وأصحاب الطلسمات يتصرفون في الطبيعة باستنزال روحانية الأفلاك وربطها بالصور أو بالنسب العددية حتى يحصل من ذلك نوع من المزاج يفعل الإحالة أو قلب الأشياء إلى أشياء أخرى أي الإتيان بالمعجزة ، وذلك بالقهر والغلبة . أما تصرف أصحاب الأسماء فيحدث لهم بالمجاهدة الصوفية والعلم اللدني الغيبي أي الكشف الآتي من النور الإلهي والمدد الرباني فيستطيع بهذه القوة أن يسخر الطبيعة دون حاجة إلى إستمداد المقدرة من الأفلاك ، لأن مدده أعلى منها . وبينما يحتاج أهل الطلسمات إلى رياضيات ومجاهدات قليلة تمكنهم من إستخدام روحانيات الأفلاك فإن أهل الحروف يحتاجون إلى رياضيات كبرى ومجاهدات عليا ليحصلوا على الكرامات التي تعطيهم المقدرة على التصرف والإتيان بالمعجزات .

الفرق بين أصحاب علم الحروف وأصحاب السيمياء

     فإذا وصل صاحب علم الحروف بالمجاهدات الكبرى إلى الكشف والعلم اللدني الرباني واقتصر في عمله على مناسبات الأسماء وطبائع الحروف كان من أصحاب السيمياء ، ولم يعد هناك فارق كبير بينه وبين أصحاب الطلسمات السحرية ، بل أن صاحب الطلسمات أوثق منه لأنه يرجع إلى أصول طبيعية علمية وقوانين مرتبة ، وأما صاحب الأسماء إذا فاته الكشف الأكبر الذي يطلع به على حقائق الكلمات وآثار المناسبات فليس له في العلوم الإصطلاحية قانون برهاني .

المزج بين الأسماء والطلسمات

    وبعض أصحاب الأسماء والحروف يمزج قوى الكلمات والأسماء بقوى الكواكب فيعين لذكر الأسماء الحسنى ولسائر الأسماء أوفاقا أو أوقاتا تكون من حظوظ الكوكب الذي يناسب ذلك الإسم ، وذلك مافعله البوني في كتابه " الأنماط " . وهذا المزج يأتي عندهم من لدن الحضرة العمائية وهي برزخية الكمال الأسمائي ، ويتنزل تفصيلها في الحقائق على ماهي عليه من المناسبة ، وإثبات هذه المناسبة عندهم بحكم المشاهدة التي تأتي للعارفين من الأولياء الصوفية ، فإذا لم يصل صاحب علم الحرف إلى هذه الدرجة وتلقى تلك المناسبة تقليدا أصبح في منزلة صاحب الطلسمات السحرية ، بل يكون صاحب الطلسمات أوثق منه .

  المزج بين الطلمسات والدعوات المكونة من أسماء وحروف

  وقد يمزج صاحب الطلسمات بين عمله وقوى الكواكب وبين قوى الدعوات المؤلفة من كلمات مخصوصة بحيث تكون هناك مناسبة بين الكلمات والكواكب وتقوم هذه المناسبة على اقتسام الكواكب لجميع ما في عالم المكونات من جواهر وأعراض وذوات ومعاني ، ومن بينها الحروف والأسماء ، فلكل كوكب حظه من هذه الأسماء والحروف ، وعلى ذلك يقسمون آيات القرآن وسور القرآن تقسيمات غريبة كما فعل مسلمة المجريطي في كتابه " الغاية " ، وذلك مايبدو في كتاب " الأنماط " للبوني حين تعرض للدعوات وتقسيمها على ساعات الكواكب السبعة ، وحديثه عن قيامات الكواكب أو الدعوات التي تختص بكل كوكب . وفي النهاية يقرر إبن خلدون إيمانه بكل ذلك حيث يقول " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا  ، وليس كل ما حرمه الشارع من العلوم بمنكر الثبوت ، فقد ثبت أن السحر حق مع حظره ، لكن حسبنا من العلم ماعلمنا ".

إستخراج الأجوبة من الأسئلة

   إحدى فروع السيمياء ، وذلك عن طريق إرتباط بين الكلمات والحروف ، وتدخل ضمن الزايرجة ، ولهم في ذلك أدعية وقصائد ومنها قصيدة السبتي ، وقد أوردها إبن خلدون ، وقسم أبياتها على عناوين ، مثل : الكلام على استخراج نسبة الأوزان وكيفياتها .. فيما يخص السيمياء ، والطب الروحاني ومواليد الملوك وبتيهم والانفعال الروحاني والانقياد الرباني ، ومقامات المحبة والعشق والطاعة .. الخ .

    ثم أسهب إبن خلدون في شرح كيفية العمل في إستخراج أجوبة المسائل من زايرجة العالم ، مما نقله إبن خلدون عن القائمين بهذا العلم ، وتلخيص هذا الكلام أو عرضه ليس إلا مضيعة للوقت ، وإن كان يدلنا على أن عقلية إبن خلدون كانت تؤمن بهذا الكلام .

     ثم عقد فصلا في الإستدلال على ما في الضمائر الخفية بالقوانين الحرفية .. وهي طريقة تنفع الدجالين في عصرنا حين يتصدون لما يسمى بالعلاج الروحاني ، ونحن نقصد أنها تنفعهم في خداع البسطاء.

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف24:  27 ) علم الكيمياء والفلسفة والتنجيم

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

 تابع  الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق     

                                   الفصل  الرابع والعشرون

                                      في علم الكيمياء

ماهية علم الكيمياء

    هو علم تحويل المواد إلى ذهب أو فضة ، وذلك بالعثور على المادة المستعدة للتحول إلى ذهب أو فضة سواء كانت من حيوانات أومعادن ، واخضاعها بالتحليل والتقطير والتجميد والتكليس إلى أن يستخرجوا منها الأكسير وهو الجسم الطبيعي الذي يلقي منه على الرصاص والقصدير والنحاس بعد أن يحمي بالنار فيصيرهم ذهبا أو فضة .

التأليف في الكيمياء

     وإمام الكيمياء هو جابر بن حيان وله فيها سبعون رسالة مليئة بالألغاز ، ثم الطغرائي وله فيها دوواين ومناظرات ، ومسلمة المجريطي الأندلسي ، وله فيها كتاب رتبه الحكيم وجعله قرينا لكتابه الآخر عن السحر والطلسمات والذي عنوانه غاية الحكيم ، وكل مؤلفات الكيمياء عبارة عن ألغاز . وينسبون للغزالي معرفة الكيمياء ، وينكر ذلك إبن خلدون كما ينكر أن يعرف خالد بن يزيد بن معاوية الكيمياء لأن عصره كان بدويا بعيدا عن الصنائع .  

رأي إبن خلدون في الكيمياء

     ونقل إبن خلدون فقرات مطولة من كلام إبن بشرون في الكيمياء وهو كلام غير مفهوم لايخرج القارئ منه بطائل ، واستدل إبن خلدون بذلك على ألغازهم في الحديث عن الكيمياء وأنها ليست بصناعة طبيعية .

    ويرى إبن خلدون أن الكيمياء من آثار النفوس الروحانية وتصرفها في عالم الطبيعية ، إما عن طريق الكرامة إذا كانت النفوس خيرة ، أو عن طريق السحر لأن الساحر في رأي إبن خلدون يستطيع قلب الأعيان كما حدث من سحرة فرعون وما يحدث من سحرة الهند والسودان ، واعتبر تخليق الذهب ضربا من ذلك السحر ، واعتبر المتكلمين في هذا العلم من الحكماء مثل جابر ومسلمة ، وقال أنهم لجأوا للألغاز خوفا من الإتهام بالسحر . وفات ابن خلدون تقرير القرآن الكريم على أن سحرة فرعون لم يقلبوا الحبال والعصى ثعابين ، وإنما جعلوا الناس يتخيلون هذا ، أى أنهم سحروا أعين الناس .

                                       الفصل الخامس والعشرون

                                في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها

نقل إبن خلدون للآراء الفلسفية

    يقول إبن خلدون أن علوم الفلسفة تزدهر في الحضارة ، وضرر الفلسفة واضح بالدين لأن الفلاسفة يزعمون أن الوجود وكل أحواله إنما يدركه العقل ، وأن العقل هو الذي يصحح العقائد الإيمانية ، وقد وضعوا قانونا يستطيع به العقل تمييز الحق من الباطل وهو المنطق.

ويصف إبن خلدون الفلاسفة بأنهم صنف من عقلاء النوع الإنساني ، وأورد أقاويلهم في المحسوسات والمعاني والتجريد والمعقولات الثواني وتقدم الحكم على التصور وغير ذلك مما قاله أرسطو، وأن السعادة هي إدراك الموجودات في الحس وماوراء الحس بالبراهين الفلسفية . وترتيب الوجود لديهم يبدأ بالجسم السفلي المركب الحسي ثم النفس ثم العقل ، ووجود النفس والعقل للأفلاك كما هي للإنسان ، وربطوا بين إدراك الوجود والتمسك بالفضائل وذلك لتحقيق السعادة والبهجة واللذة ، وأن الجهل بذلك هو العذاب السرمدي ، وهذا هو معنى النعيم والعذاب في الآخرة .

وترجمت المؤلفات الفلسفية اليونانية للعربية في العصر العباسي ، وانشغل بها فلاسفة المسلمين كالفارابي وإبن سينا .

رأي إبن خلدون في الفلسفة

   ويعتبر إبن خلدون بطلان مذهبهم في إسناد الموجودات كلها للعقل الأول ، لأن الوجود الذي خلقه الله تعالى أوسع من ذلك ، ويشبههم بالطبيعيين المنكرين لما وراء المادة ، ويرى أن براهين الفلاسفة قاصرة ، وتفتقر إلى اليقين ، ومسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا ولا معاشنا فوجب علينا تركها . وماوراء الطبيعة عوالم مجهولة لايمكن التوصل إليها بالبرهان ، وغاية ما نصل إليه هو الظن بعد التعب . إذا فلا داعي لهذا المجال ، ويرى أن القول بأن السعادة هي إدراك الموجودات بتلك البراهين إنما هو قول مزيف ، وأستدل بسعادة الصبي الصغير بما يدركه بحواسة ، ولا شأن له بالبراهين .. كما استدل بالصوفية الساعين للسعادة بالادراك الوجداني وليس بالبراهين العقلية ، ويسخر إبن خلدون من قولهم بأن السعيد من أدرك منهم العقل الفعال – وهو أول رتبة في الكشف عن الروحانيات ، ولأنه يرى السعادة والشقاء من وراء الادراكات الجسمانية والروحانية ، فإن إبن خلدون يخالفهم في القول بأن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه واصلاحها ، وقال أن إبن سينا قد تنبه لذلك  حين قال في كتابه " المبدأ والمعاد" أن المعاد الروحاني يعرف بالبرهان العقلي ، أما المعاد الجسماني فلا يمكن إدراكه بالبرهان لأنه ليس على نسبة واحدة.

    وينتهي إبن خلدون إلى أن علم الفلسفة لايفي بمقاصدهم ، وليس له إلا ثمرة واحدة ، هي تدريب الذهن على استخدام الأدلة والحجج للوصول إلى الصواب ، وينصح الناظر في الفلسفة بتجنب الزلل فيها ، وأن يتخصص أولا في الشرعيات والتفسير والفقه حتى يتسلح بعلوم الملة قبل أن يخوض بحار الفلسفة .

                                         الفصل السادس والعشرون

                         في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها

ماهية علم النجوم

   يزعم أصحاب هذا العلم أنهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها عن طريق معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها في العناصر ، ومن هنا تدل أوضاع الأفلاك على ماسيحدث في  الكائنات الكلية والشخصية .الكائنات الكلية والشخصية

    والمتقدمون من علماء التنجيم يرون معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتجربة ، وهو أمر تتقاصر عنه أعمار البشر ، ويرى آخرون أن المعرفة بذلك تأتي بالوحي ، ويعارض إبن خلدون هذا الرأي لأن الأنبياء يعلمون الغيب بالوحي من الله وليس بالتعلم والإستنباط الصناعي .

أقوال بطليموس والمتأخرين

    ويرى بطليموس وأتباعه أن دلالة الكواكب على أحوال الكائنات دلالة طبيعية من مزاج الكواكب في العناصر ، مثل أثر الشمس في تبدل الفصول ونضج الثمار والزرع ، ولهم في بقية الكواكب طريقان في معرفة تأثيرها ، التقليد والحدس والتجربة بالقياس إلى الكوكب المنير الأعظم – أي الشمس - ، هل يزيد عند الاقتران أم ينقص ، ثم إذا عرفنا قوى الكواكب مفردة عرفناها مركبة عند تناظرها بأشكال التثليث والتربيع وذلك بالقياس إلى الكوكب المنيرالأعظم .وإذا عرفنا قوى الكواكب عرفنا تأثيرها في الهواء وفي المزاج وتأثير ذلك في العناصر والبشر والنفوس . ويقول بطليموس أن هذا علم ظني وليس من القضاء الإلهي ، ولكنه من جملة الأسباب الطبيعية للكون ، والقضاء الإلهي ، سابق عليها .

رأي إبن خلدون

    ويستدل إبن خلدون – على ضعف هذا العلم بقيامه على الظن ، ويقرر أن القوى النجومية ليست الفاعلة وحدها بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادي ، مثل قوة التوليد للأب في النطفة والقوى الخاصة داخل النوع ، وقال أنه يشترط مع العلم بتأثير النجوم إضافة المزيد من الحدس والتخمين حتى يقوي الظن ، وإلا تناقص وأصبح شكا . وقال أن اختصاص كل كوكب بقوة لا دليل عليه ، ولا يمكن إثبات قوى الكواكب الخمس بالقياس للشمس لأن قوة الشمس مستولية عليها ، وتأثير الكواكب فيما تحتها باطل حيث لا فاعل إلا الله ، والشرع يرد الحوادث كلها إلى قدرة الله ، والنبوات تنكر تأثير النجوم ، واستشهد بأحاديث مثل الشمس والقمر لايخسفان لموت أحد ولا لحياته ، أي أن علم النجوم باطل شرعا وعقلا .

إعتقاد العوام في النجوم

     وقال أن بعض العوام يعتقد في النجوم والتنجيم إذا تصادف صدق تنبؤاتها فيرد الأشياء إلى غير خالقها . ونصح بقطع دابر هذه الصناعة في البلاد لضررها على الدين والدولة حيث تساعد على تطاول الأعداء وقيام الثورات . ويرى أنه من العبث تضييع العمر في تحصيل هذا العلم الظني الضار القاصر ، لأنه بعد تحريمه أصبحت مطالعة هذا العلم تتم سرا ، ومع صعوبته وقلة الملتفتين إليه فإن من المستحيل أن يتبحر أحد فيه .

                                             الفصل السابع والعشرون

                                    في إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة

                                وجودها وما ينشأ من المفاسد من إنتحالها

الكيميائيون في عصر إبن خلدون

    تحدث إبن خلدون عن التحايل بالكيمياء الذي صار في عصره أحد طرق إكتساب المعاش، حيث يعتقد أحدهم أنه من الأيسر له اقتناء الأموال عن طريق الكيمياء التي كانت تعني تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب ، فيضيع جهده ووقته وماله في غير طائل ويبوء بالخسران وأحيانا غضب السلطان .

طرق الكيمياء : تحويل المعادن إلى ذهب

   ولديهم طرق مختلفة في تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب ، والأساس فيها الحصول على الحجر المكرم من البراز أو الدم أو الشعر أو البيض .. الخ ، ويقول إبن خلدون ثم تمهي بالفهر على حجر صلد أملس وتسقى أثناء إمهائها بالماء وتضاف لها العقاقير ، ثم تجفف أو تطبخ بالنار أو تقطر ، وفي النهاية يستخرج منها الإكسير الذي إذا ألقي على الفضة المحماة بالنار صارت ذهبا ، وإذا ألقي على النحاس المحمي بالنار صار فضة ، ويقولون إن الإكسير مادة مركبة من العناصر الأربعة فيها قوة مؤثرة مثلما تؤثر الخميرة في العجين فتحوله إلى عجين مخمر .

    ويقول إن الكيميائيين في عصره عكفوا على هذه التجارب وتناقلوا ما كتبه جابر بن حيان والمجريطي والطغرائي والمغربي ، ولم يخرجوا من ذلك بطائل ، وقد استشار إبن خلدون الشيخ التلفيقي أكبر شيوخ الأندلس في بعض كتبهم ، فقال له بعد أن قرأ ذلك الكتاب أنه لايضمن لهم إلا الخيبة .

تورطهم في الخداع والتدليس والتزييف

    وبعض الكيميائيين في عصر إبن خلدون يقع في التدليس كتمويه الفضة بالذهب أو إلقاء الشبه بين المعادن مثل تبييض النحاس ليشبه الفضة ، ولايكتشف ذلك إلا الخبراء ، وهم يضعون عليها علامة السلطان ، ويراهم إبن خلدون شر الناس ، حيث يسرقون الناس عن طريق تزييف الذهب والفضة والعملة وقال أن معظمهم من طلبة البربر الذين يعيشون على أطراف المدن يخدعون الأغنياء بمقدرتهم على استخلاص الذهب والفضة ، وبعد أن يفوزوا بالأموال يتركون المكان إلى بلد آخر ، ويطالب إبن خلدون بتشديد العقوبة عليهم لأنهم يفسدون العملات المعدنية من الذهب والفضة ويرى إبن خلدون أن هذا الصنف لايستحق الرد عليه .

    ويقول إن الصنف الذي يستحق الرد عليه هو من تنزه عن التدليس والتزييف وآمن بصحة تحول المعادن الخسيسة إلى الفضة والذهب . وقال إنه لم يحدث أن نجح أحد من قبل في ذلك ، بل ذهبت أعمارهم في غير طائل ، مع أن انتحال هذه الصناعة قديم ، وأوضح إبن خلدون أصل الموضوع .

الأساس الفكري للكيمياء

    قال إن المعادن السبعة القابلة للطرق هي الذهب والفضة والرصاص والقصدير والحديد والنحاس والخارصين ، وقد اختلف الحكماء هل هي من نوع واحد أو مختلفة الأنواع ، وعرض إبن خلدون لذلك الإختلاف بين إبن سينا والفارابي . ويرى الفارابي أنها نوع واحد لذلك يمكن تحويل بعضها إلى بعض بالكيمياء ، أما إبن سينا فيرى أنها مختلفة الأنواع يستحيل تحولها . ورد عليه الطغرائي بإمكانية التحويل بمثل ما تتخلق الحيوانات التي نجهلها من التراب والنتن ، وكانوا يعتقدون أن الحشرات تتولد من التراب والقاذورات والمهم هو الحصول على المادة المستعدة للتحول وقوتها الفاعلة التي تشبه الخميرة ، وهي الإكسير .

رأي إبن خلدون

    وقرر أن تلك الأحوال التي يذكرونها عن المعادن لا نهاية لها ويعجز العلم البشري عنها مثل من يحاول تخليق إنسان أو حيوان أو نبات ، واستشهد بحجة إبن سينا وهي أن هذين المعدنين

( الذهب والفضة ) هما أساس الأموال ، ولوحصل عليهما أحد بالصنعة لبطلت حكمة الله في اتخاذهما ، وتكاثر وجودهما لايجعل لهما قيمة مالية ، وقال أنه لو كان سهلا الحصول عليهما بالطريق الصناعي لكان أسهل بالطريق الطبيعي .

     ويوافق إبن خلدون على زعم الطغرائي في تخليق العقرب والنمل من التراب ، إلا أنه لايرى ذلك متفقا مع الكيمياء ، حيث لايزال أصحاب الكيمياء عاجزين عن الوصول لمطلبهم ، ولو نجح أحدهم لعرف الجميع بطريقته وتناقلوها.

وفي الرد على تشبيه الإكسير بالخميرة ، ينفي إبن خلدون ذلك الشبه ، لأن الخميرة تعد العجين للهضم وهو فساد ، والفساد في المواد سهل ميسور ، أما المطلوب من الإكسير فهوقلب المعدن إلى ما هو أشرف منه ، فهو صالح للتكوين ، وذلك أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير بالخميرة . ومن الواضح أنه يرد عليهم بالجدل المنطقي حسب المنهج العقلي الأرسطي .

     وفي النهاية يرى إبن خلدون أن الكيمياء إذا صح وجودها فليست من الصنائع الطبيعية ، وإنما هي من الأمور السحرية والخوارق الخارجة عن حكم الصنائع ، فمن طلب الكيمياء عن طريق الصناعة أضاع ماله وعمله ، وأشار إبن خلدون إلى إمكانية  الكيمياء واقعيا مما وراء الطبائع ( أى بالكرامات )  مثل المشي على الماء وامتطاء الهواء ومثل كرامات الأولياء أو معجزات الأنبياء ، وقد تأتي للغير الصالح أو غيره فتكون سحرا ، ولذلك كان الكلام فيها ألغازا لا يعرفها إلا من خاض لجة علم السحر واطلع على تصرفات النفس.أي يؤمن بالكيمياء إذا جاءت من الأولياء الصوفية.

     وقال إنه يتعلق بها العاجزون عن الكسب الطبيعي من الفقراء طلبا للرزق السهل ، ولذلك آمن بها الفارابي وكان فقيرا ، بينما أنكرها إبن سينا وكان غنيا وزيرا .

 

 

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف28: 36) عن عبثية الشروح والمتون وطرق التعليم

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

 تابع  الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق     

                                         الفصل الثامن والعشرون

                                 كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل

   كان ابن خلدون رائعا  فى هذا الفصل وهو ينتقد الحركة العلمية فى عصره الذى خلا من الاجتهاد، وتركز الانتاج العلمى على شرح وتلخيص كتب  السابقين ، والاقتصار على الحفظ دون الابتكار والنقد ، فقال إنه  مما يعوق التعليم والتفوق فيه كثرة المؤلفات واختلاف المصلحات العلمية وعدد طرقها ، ومطالبة الطالب بحفظها حتى يحصل على الشهادة أو الإجازة لذا يفنى عمره في حفظها في دائرة تخصصه ، ولايجد الوقت للتعمق أو التثقيف في غير مجاله .. وأعطى إبن خلدون أمثلة في الفقه المالكي ومؤلفاته ، ذلك أن مدونة مالك كتبوا عليها الكثير من الشروح مثل كتاب إبن يونس واللخمي وإبن بشير والتنبيهات والمقدمات والبيان والتحصيل ، وكذلك كتاب إبن الحاجب وما كتب عليه . هذا بالإضافة إلى الطرق القيروانية والقرطبية والبغدادية والمصرية ، وكلها مختلفة فيما بينها في المنطق الفقهي ، مع الإختلافات بين المتقدمين والمتأخرين والطالب عليه أن يعرف ذلك كله .

     ويقول إبن خلدون أنه كان من المفيد والأسهل الإقتصار على المسائل المذهبية فقط ، إلا أن ذلك المنهج التعليمي في الفقه صار عادة مستحكمة ليس في الفقه فقط ، بل في علم العربية أيضا ، إذ تعاملت المدارس البصرية والكوفية والبغدادية والأندلسية في كتاب سيبويه بمثل ما تعاملت المدارس الفقهية مع مدونة مالك الفقهية ، وذلك الأسلوب يقضي على وجود أي مجتهد إذ ينقضي العمر في حفظ القشور ، وعد إبن خلدون من النوادر ظهور إبن هشام النحوي المصري الذي يقارن بإبن جني وسيبويه في النحو ، وقد أحاط بأصول اللغة ووصلت مؤلفاته إلى المغرب واستدل إبن خلدون بذلك على أن الفضل ليس منحصرا في المتقدمين .

                                                 الفصل التاسع والعشرون

                                       كثرة الإختصارات في العلوم مخلة بالتعليم

 ويستمر ابن خلدون فيقول انه عمد المتأخرون في عصر إبن خلدون إلى اختصار أمهات الكتب ، كما فعل إبن الحاجب في الفقه وإبن مالك في العربية والخونجي في المنطق وغيرهم ، ويرى إبن خلدون في ذلك فسادا في التعليم وإخلالا بالتحصيل لأنه يلقي الغايات أمام المبتدئ وهو لم يستعد لقبولها ، بالإضافة إلى أن التلخيص يعني تكثيف المعاني في أقل عدد من الألفاظ مما يجعل فهمها عسيرا على المبتدئ ، ثم أن الملكة العقلية الناتجة عن تلك المختصرات تكون قاصرة بعكس الملكة التي تتكون من قراءة الكتب المطولة ، ويقول إبن خلدون إنهم قصدوا تسهيل الحفظ على المتعلمين بهذه المختصرات فمنعوهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها .

                                                     الفصل الثلاثون

                                 وجه الصواب في تعليم العلوم وطرق إفادته

واجبات المعلم : التدريج

     يرى إبن خلدون أن تلقين العلوم للمتعلمين يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا مع تقريب الشرح على سبيل الإجمال مع مراعاة درجة عقله واستعداده لتقبل ما يرد عليه ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى فهم الموضوع ، فتكتمل لديه ملكة ذلك العلم التي تؤهله لفهم الفن وتحصيل مسائله ، ثم يرجع به في التلقين إلى رتبة أعلى ويستوفي الشرح والبيان ، ويخرج عن الإجمال ويذكر له الخلاف في الموضوع إلى أن ينتهي به إلى آخر الفن فتجود ملكته وقد حصل على التعليم المفيد خلال ثلاث تكرارات ، وقد يحسب لبعضهم في أقل من ذلك .

    ويقول إبن خلدون أنه رأي  في عصره كثيرا من المعلمين يجهلون طرق التعليم ، إذ  يطالبون المبتدئ بحل المسائل العويصة على سبيل المران ، وهو لم يستعد لهذه النهايات في العلوم ، وهذا خطأ لأن قبول العلم والاستعداد له ينشأ تدريجيا ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا ويحتاج إلى التقريب والتبسيط والأمثال الحسية ، ثم يتدرج الإستعداد لديه قليلا قليلا ، وهذا يستلزم ألا تلقي عليه الغايات التي يعجز عن فهمها حتى لا يكره ذلك العلم أو التعليم أصلا .

 ولا ينبغي للمعلم أن يزيد على التلميذ كتابا آخر ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يستوعب الكتاب المقرر أولا ، لأن التلميذ  إذا أحس أنه تمكن من استيعاب ذلك الكتاب إشتاق إلى المزيد ، أما إذا أضيفت إليه كتب أخرى ومسائل أخرى قبل أن يستوعب المقرر الأول أصيب باليأس ، ولا ينبغي تفريق ساعات التدريس والتحصيل وتطويل الزمن بينها لأن ذلك الإنقطاع ذريعة للنسيان ، وانقطاع الصلة بين الموضوعات المتصلة التي يدرسها الطالب . وينبغي على المدرس ألا يخلط على التلميذ تعلم علمين في وقت واحد ، بل يتفرغ لأحدهما ليكون أيسر عليه.

الطبيعة الفكرية للإنسان

     يبدأ إبن خلدون بعرض تصوره للطبيعة الفكرية للإنسان ، وأنها طبيعة فطرية ووجدان حركة النفس تكمن  في البطن الأوسط من المخ , ومنها ترتيب الأفعال الإنسانية ومبدأ العلم حيث يقوم الجزء الأوسط من المخ بجمع طرفي النفي والإثبات للفكرة بأسرع من لمح البصر إن كان واحدا ، أو ينتقل إلى تحصيل الأفكار المتعددة وتجميعها .

    ويرى أن الطبيعة المنطقية هي كيفية وآلية تصرف الطبيعة الفكرية للإنسان وهي بمثابة ميزان التصحيح الفكري والتوجه للوسطية ، ويراها إبن خلدون أمرا صناعيا ، ويأتي بعد الطبيعة المنطقية معرفة الألفاظ ودلالتها على المعاني الذهنية بالقراءة والإستماع للكلمات . ويضع إبن خلدون ترتيب الدلالات ، فأولها دلالة الكتابة على الألفاظ المنطوقة ، ثم دلالة الألفاظ المنطوقة على المعاني المطلوبة ، ثم قوانين ترتيب المعاني للإستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق ، ثم تلك المعاني مجردة فكريا . ويقول أنه ليس لكل أحد أن يتجاوز هذه المراتب ، بل ربما يتوقف عند مرتبة منها بالجدل وبالشبهات ولا يتخلص منها إلا من هداه الله.

نصائح للتلميذ

     ولذلك ينصح إبن خلدون التلميذ إذا وقع في الشبهات بأن يخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي ويركز عليه بعيدا عن الألفاظ والأساليب معتمدا على الله ، وحينئذ يفتح الله عليه ، ثم يرجع إلى قوالب الأدلة فينظر فيها بالمنطق ، وينصح التلميذ بألا يتوقف عند الجدال وتفنيد الأدلة ، لأنها تعوق عن تحصيل المطلوب ، وحتى لا يقع في إدمان الجدل والحيرة بين الأدلة والتشكك فيها ، لأن الفكر الطبيعي هو التجرد عن الأوهام ، وأما المنطق فهو وصف لفعل هذا الفكر وليس حقيقة له .

                                    الفصل الحادي والثلاثون

               العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار ولا تتفرع فيها المسائل

    يرى إبن خلدون أن العلوم نوعان ، علوم مقصودة لذاتها كالشرعيات مثل التفسير والحديث والفقه والكلام ، والطبيعيات والإلهيات ، ثم العلوم التي هي وسائل لتلك العلوم المقاصد ، مثل علوم اللغة والحساب لعلوم الشرعية ، ومثل المنطق للفلسفة وأصول الفقه لعلم الفقه .

    ويرى إبن خلدون أن العلوم المقصودة لذاتها لا حرج في توسع الكلام فيها وتفريع مسائلها ، أما العلوم التي هي وسائل فلا مجال للتوسع فيها أو التفريع لأن التوسع فيها يخرج بها عن مقصودها ويصبح لغوا ويزيدها تعقيدا ، وحين زاد المتأخرون في تفريعها جعلوها كالعلوم المقاصد , وعظم ضررها بالمتعلمين وأضاعوا اعمارهم في بحثها ، لذا لا يجب على المتعلمين التبحر فيها .

                                      الفصل الثاني والثلاثون

              في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه

القرآن أصل التعليم للأولاد

     القرآن هو أصل التعليم للأولاد في دول الإسلام ، وبه يترسخ الإيمان وتتقوى الملكات ، فالتعليم في الصغر أشد رسوخا .

إختلاف طرق المسلمين في تعليم الأولاد القرآن والعلوم

    واختلفت طرق تعليم القرآن للأولاد ، فاقتصر أهل المغرب على تعليم القرآن فقط دون غيره حتى يحذق حفظ القرآن أوينقطع ، وينطبق ذلك عندهم على تعليم الكبار ، وأما أهل الأندلس فلا يقتصرون على تعليم القرآن ، ولأنهم يعتبرونه أصل الدين والعلم جعلوه أصلا في التعليم ، لذا يضيفون للأولاد مع القرآن رواية الشعر واللغة العربية وتجويد الخط ، ويصل الولد إلى البلوغ والشباب وقد تعلم طرفا من العلوم العربية والأدبية مما يكون له ذخيرة إذا انقطع عن التعليم . أما أهل شمال أفريقيا فيخلطون في تعليم القرآن تعليم الأولاد الحديث وقوانين العلوم ، إلا أن عنايتهم بالقرآن أكبر وعنايتهم بتعليم الخط أكبر تبعا لذلك وهم أقرب لطريقة أهل الأندلس .

    أما أهل المشرق فهم يخلطون في التعليم بين القرآن وغيره ، ويجعلون لتعليم الخط منهاجا خاصا لأنه صناعة أكبر من أن يتعلمه الأطفال في الكتاتيب .

    ويرى إبن خلدون أن اقتصار أهل المغرب على تعليم الأطفال القرآن فقط جعلهم قاصرين عن ملكة اللغة العربية لأن البشر عاجزون عن الإتيان بمعجزة القرآن ، وأهل أفريقية أقل وأخف من أهل المغرب حيث خلطوا تعليم القرآن بقوانين العلوم ، إلا أنهم قاصرون في البلاغة ، وأما أهل الأندلس فقد أفادهم التفنن في التعليم والشعر واللغة حصولهم على الملكة في التفوق في اللسان العربي مع تقصيرهم في سائر العلوم لابتعادهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي  هو أصل العلوم وأساسها ، فكانوا أهل أدب بارع .

رأي إبن العربي في ترتيب التعليم وتعقيب إبن خلدون عليه

     وقد نادى القاضي أبوبكر بن العربي بتقديم العربية والشعر في التعليم على ما عداها ثم الحساب ثم القرآن ، وذلك حتى لايؤخذ الصبي بقراءة القرآن وهو لا يفهم ما يقرأ، ثم نصح بأن يتعلم الطالب أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه . ونهى عن أن يخلط في التعليم بين علمين إلا إذا كان عقل التلميذ يقبل ذلك ويستوعبه.

    واستحسن إبن خلدون رأي إبن العربي واستدرك عليه بأن العوائد أي العادات لا تساعد عليه ، وهي المؤثرة في المجتمع ، حيث اعتاد الناس البدء بدراسة القرآن تبركا به وتقوية لإيمان الطفل قبل البلوغ لتكون له حصانة من الزيغ بعد البلوغ وأكد إبن خلدون على أهمية الأخذ برأى إبن العربي .

                                   الفصل الثالث والثلاثون

                              الشدة على المتعلمين مضرة بهم

    يرى إبن خلدون أن الشدة على الصغار في التعليم تعصف بعقليتهم ونشاطهم وتعودهم على الكذب والمكر والخديعة والكسل عن اكتشاف الفضائل .

    وقال أن ما يحدث للفرد من القهر والعسف يحدث للأمة التي تتعرض للقهر واستشهد  بما حدث لليهود وبما جبلوا عليه من أخلاق السوء بسبب ما تعرضوا له من قهر ، ولذلك نصح المعلم ألا يستبد في تأديب التلميذ ، ولا يزيد في ضربه على ثلاثة أسواط ، واستشهد بكلام عمر : من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ، وذلك حرصا على صون النفوس من مذلة التأديب ، واستشهد إبن خلدون بوصية الرشيد لمعلم إبنه الأمين ، إذ وصاه بتعليم إبنه القرآن والتاريخ والأشعار والفصاحة وآداب السلوك من الضحك في أوقات الضحك وتعظيم شيوخ أسرته وقواد الدولة ، وأن يتوسط بين الشدة والتسامح ، وأن يستثمر أوقات الفراغ ، وأن يستعمل معه اللين أساسا وإلا فالشدة والغلظة .

                                        الفصل الرابع والثلاثون

                       الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد من كمال العلم

    يرى إبن خلدون أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم بالعلم والتعليم بالإلقاء والمحاكاة والتلقين ، إلا أن التعليم الفعلي يكون بالمباشرة والتلقين ، ولذلك تترسخ ملكة التعليم بكثرة الشيوخ وكثرة مصطلحاتهم ، وبذلك تتعدد الشيوخ أمام المتعلم وتتعدد طرقهم ويستطيع التمييز بينها فيتسع عقله وينمو ، وكذلك فالرحلة لابد منها للقاء الشيوخ والأخذ عنهم .

                                      الفصل الخامس والثلاثون

                              العلماء أبعد البشر عن السياسة ومذاهبها

    والسبب إستغراقهم في النظر الفكري وتجريد المحسوسات لتصبح معاني والحكم عليهم بالعموميات ، وتطبيق الكليات العامة على الأمور الخارجية ، والميل للقياس الفقهي مهما اختلف مع الواقع ، والسياسة مختلفة عن ذلك إذ تحتاج إلى مراعاة الواقع كما تختلف أحوال العمران حسب الظروف ، وحينئذ لا تتفق مع تجريد الأحكام الفكرية الكلية ، لذلك يخطئ العلماء إذ طبقوا أفكارهم على الواقع على أساس اخضاع الواقع للفكر ، ويلحق بالعلماء أهل الذكاء الثاقب ، بينما المتوسط الذكاء من العوام يعطي لكل حال من الواقع حكمه ولا يجاوز في الأحكام ولا يعممها على ما لا تنطبق عليه .

    ويخلص إبن خلدون إلى أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط بسبب ما فيها من تجريد وابتعاد عن الواقع الذي قد يخالفها في كثير من الأحيان : وخصوصا عند التطبيق والتجربة .

                                            الفصل السادس والثلاثون

                                     حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم   

    ويرصد إبن خلدون باستغراب أن أكثر العلماء في العلوم الشرعية والعقلية من الأعاجم ، ومن كان منهم عربيا بالنسب تراه عجميا في تربيته وشيوخه ، مع أن الملة عربية والنبي عربي . ويرى السبب أن العرب ليسوا أهل علم أو صناعة بسبب البداوة وكانت أحوال الشريعة يأخذونها بالتلقي الشفوي ، ولم يعرفوا في البداية التعليم والتدوين والتأليف ، ومن تخصص منهم في ذلك سموا بالقراء أي الذين يقرؤون الكتاب وليسوا أميين حيث كانت الأمية فاشية بين الصحابة ، فقيل لحملة القرآن قراء ، وبمرور السنين تباعد النقل عن النبي في عصر العباسيين فاحتاجوا إلى وضع التفاسير وتقييد الحديث ومعرفة الأسانيد والجرح والتعديل للرواة ، ثم كثر استخراج الأحكام من الكتاب والسنة ، وفسد اللسان العربي باللحن فاحتاجوا إلى وضع القوانين النحوية ، خصوصا لحاجة العلوم الشرعية إلى العلوم النحوية واللغوية كآليات ووسائل لفهم العلوم الشرعية . كما احتيج إلى الإستنباط والقياس للدفاع عن العقائد أمام البدع والإلحاد ، وبذلك تكونت تلك العلوم التي احتاجت إلى التعليم الذي أصبح إحدى الصنائع الحضرية ، وبالتالي كان الموالي وأهل الحضر هم الأنسب لتلك الصناعة ، حيث ترسخت الحضارة فيهم ، ولذلك كان الأعاجم أئمة النحو والحديث وأصول الفقه والتفسير ، واستشهد بحديث " لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس ".

     وأما العرب فشغلتهم الحرب والرياسة والتكبر عن انتحال العلم حيث استنكفوا عن الصنائع والمهن وتركوها للموالي فصار الموالي أئمة العلوم الشرعية واللغوية . وأما العلوم العقلية فقد ظهرت بعد استقرار العلوم فاختص بها العجم المعربون واستمرت في العراق وخراسان وما وراء النهر ، فلما أصاب الخراب تلك البلاد ذهب العلم مع العمران ، ولذلك ازدهر العلم في مصر في عصر إبن خلدون ، يقول عنها " واختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة ، ولا أوفر اليوم  من الحضارة في مصر فهي أم العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصنائع " وبقيت بعض مظاهر الحضارة في بلاد ما وراء النهر ، ووصلت مؤلفات بعض علماء أهلها إلى إبن خلدون وهو سعد الدين التفتازاني .

 

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف37: 44)علوم النحو والبلاغة واللهجات العربية    

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

 تابع  الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق     

                                   الفصل السابع والثلاثون

                                   في علوم اللسان العربي

    ومعرفتها ضرورية لأهل الشريعة وهي اللغة والنحو والبيان والأدب ، فالأحكام الشرعية من الكتاب والسنة باللغة العربية . والنحو أهمها وبه يعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر ، ولولاه لضاعت الإفادة ، ولولا فائدته لكان علم اللغة أي الصرف هو المتقدم عليه.

علم النحو

ماهية اللغة العربية

    اللغة هي عبارة المتكلم أو تعبيره عن مقصوده ، واللغة فعل لساني تصير ملكة في اللسان وهو العضو الفاعل في التطبيق ، واللسان يعبر في كل أمة باصطلاحها . وكانت اللغة العربية أوضح اللغات لأن الحروف مع الإضافة فيها تدل على كثير من المعاني وذلك لايوجد إلا في لغة العرب ، أما في غيرها فلكل معنى أو حال له اللفظ الخاص به ، ولذلك تطول الجملة في لغات العجم عنها في لغة العرب .

إختراع النحو لعلاج اللحن

    وكان العرب ينطقون لغتهم بالسليقة فلما اختلطوا بالأمم المفتوحة ما لبث اللحن أن أفسد سليقتهم ، وخيف على ضياع اللغة العربية وما يستتبع ذلك من انغلاق الأفهام عن القرآن ، فاستنبطوا قواعد اللغة العربية من خلال السماع ومجرى الكلام ، واخترعوا مصطلحات لها مثل الإعراب والفاعل والمفعول ، وجعلوها صناعة .

علماء النحو

    أول من كتب فيه أبو الأسود الدؤلي باشارة " علي " وكتب الناس بعده إلى أن جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي أقام علم النحو ، وأخذه عنه سيبويه الذي أكمل الفروع وأكثر الشواهد ووضع كتابه المشهور الذي أصبح إماما في النحو لكل كتاب بعده ، ثم حذا حذوه الفارسي والزجًاج في كتب مختصرة للتعليم. ثم انقسم النحويون إلى مدرستي البصرة والكوفة وكثر اللجاج بينهما في الأدلة والقاعدة والقياس والشواذ والإختلافات الإعرابية خصوصا في القرآن . ثم جاء المتأخرون فاختصروا المطولات كما فعل إبن مالك ، أو اقتصروا على المبادئ كما فعل الزمخشري في المفصل ، وربما حولوا المختصر إلى نظم كإبن مالك وإبن معطي .

     وهكذا فالمؤلفات في النحو كثيرة وطرق التعليم  فيه مختلفة ، وكادت أن تضيع هذه الصناعة بالمغرب بذهاب الحضارة ، ووصلهم في المغرب – كما يذكر إبن خلدون – كتاب إبن هشام المصري وإسمه  " المغني " وفيه علم جم إقتفي فيه أثر إبن جني .

 علم اللغة : ( الصرف)

     هو بيان الموضوعات اللغوية ، ذلك أن فساد الإعراب في حركات آخر الكلمة بسبب الإختلاط بغير العرب ما لبث أن تبعه فساد آخر في بنيان الكلمة وتراكيبها ، فاحتاجوا إلى حفظ الموضوعات اللغوية .

الخليل بن أحمد

   وبدأ الخليل بن أحمد يحصر تراكيب الكلمة العربية حسب الحروف الأبجدية من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي ، وذلك وفق قوانين حسابية خاصة ، وبعد أن حصر كل التراكيب رتب الخليل أبوابه على حروف الأبجدية ، واعتمد فيه ترتيب المخارج ، فبدأ بحروف الحلق ثم حروف الحنك ثم الأضراس ثم الشفة  ، ثم حروف العلة الهوائية ، وبدأ من حروف الحلف بالعين لأنه الأقصر منها فلذلك سمي كتابه بالعين .

   ثم بين المهمل من التراكيب والمستعمل منها ، وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب لهما .

بعد الخليل

   ثم جاء أبوبكر الزبيدي بعد الخليل بقرنين فاختصر كتاب العين وحذف منه المهمل وكثيرا من شواهد المستعمل ، وكتب الجوهري في المشرق كتاب الصحاح على الحروف الأبجدية وبدأ بالهمزة واقتدى بالخليل في حصر التراكيب, وكتب إبن سيده من أهل دانية الأندلسية كتاب المحكم بطريق ترتيب كتاب العين وزاد فيه ذكر إشتقاقات الكلمات وتصاريفها , ولخصه محمد بن أبى الحسين في تونس الحفصية . وهناك مختصرات أخرى ، إلا أن كتاب الزمخشري في المجاز هو أروع ما   وضع في مجازات الألفاظ ، وكتب الثعالبي فقه اللغة في معرفة إستعمال العرب للكلمة ، وكتب بعضهم في الألفاظ المشتركة وحصرها . وانتشرت المختصرات في هذا العلم – علم اللغة.

علم البيان ( البلاغة )

معنى علم البيان

    إستحدث هذا العلم بعد النحو والصرف ، وهو يتعلق بدلالة الألفاظ وإفادتها المعنوية ، ذلك أن معنى الكلام المستفاد قد يأتي عن طريق مفردات الأسماء والأفعال والحروف ، أو بتغيير حركات الإعراب أو البناء وهذه صناعة النحو، وقد تأتي الإفادة عن طريق الدلالة المحيطة بواقعة الفعل ، وذلك بعد تحقيق صناعة النحو والصرف ، وعن طريق إختلاف الصيغة تختلف الدلالة وأهميتها ، فقولك جاءني زيد غير قولك زيد جاءني ، ففي الأولى تقدم المجئ لأهميته ، وفي الأخرى تقدم الجائي زيد لأهميته لدى المتكلم ، ونفس الحال في التأكيد من عدمه وزيادة التأكيد ، كقولك زيد قائم ، أن زيدا قائم وأن زيدا لقائم ، ومن ذلك إستعمال التنكير والعطف والإطناب والإيجاز والتشبيه والإستعارة والكناية وكلها هيآت وأحوال مختلفة  الدلالات يبحثها علم البيان .

أقسام علم البيان

    وينقسم علم البيان إلى ثلاثة أقسام : البلاغة : التي تبحث في الهيئات والأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال ، ثم البيان : يبحث عن دلالة اللازم اللفظي وملزومه وهي الإستعارة والكتابة ، ثم البديع وهو تزيين الكلام بالسجع والتورية والجناس ..

علماء علم البيان

    وبدأ الكتابة في هذا العلم جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة ، ثم بدأ العلم في الإكتمال بكتاب السكاكي المفتاح في النحو والتصريف والبيان ، ولخص القزويني ذلك الكتاب في " الإيضاح والتلخيص " وإبن مالك في كتاب " المصباح ".

إزدهارعلم البيان في المشرق

    ويقول إبن خلدون أن علم البلاغة أكمل لدى المشارقة عنه لدى المغاربة لأن الحضارة أتم هناك ، ولضلوع العجم في الحضارة ، ولذلك كان تفسير الزمخشري مبنيا على البيان ، ولكن اهتم أهل المغرب بالبديع فأكثروا من أبوابه وأنواعه لسهولته وعذوبته بالنسبة لدقة البيان وتعمقه ، وكتاب العمدة لإبن الرشيق أشهر الكتب في البديع .

ثمرة علم البيان

    وثمرة علم البيان في فهم الإعجاز القرآني في البلاغة وهي أعلى مراتب الكلام في انتقاء الألفاظ وجودة تركيبها ، ويدرك هذا الإعجاز من كان له ذوق في فهم اللسان العربي ، وانفرد الزمخشري بتفسيره في تتبع الإعجاز البلاغي للقرآن ، لولا أنه – في رأي إبن خلدون – يؤيد عقائد أهل البدع يعني المعتزلة ، ولذلك يعرض عنه أهل السنة ، وينصح إبن خلدون من يقرأ تفسير الزمخشري بأن يتشرب عقائد السنة أولا ، ثم يقرأ ويرد على الزمخشري ، أو يعلم أنه بدعه فيعرض عنه .

علم الأدب

    والمقصود بعلم الأدب ثمرته ، وهي الإجادة في فن الشعر والنثر على أساليب العرب ، وذلك بجمع كلام العرب من شعر وسجع وما يقع خلال ذلك من أيام العرب وأنسابهم وأخبارهم ويستخلص منها مناحي البلاغة وقوانين النحو والصرف ، ولذلك قالوا أن الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط . وهي القرآن والحديث ، كما يحتاج صاحب هذا الفن لمعرفة الإصطلاحات .

    وأمهات كتب الأدب أربعة ، أدب الكتاب لإبن قتيبة ، والكامل للمبرد والبيان والتبيين للجاحظ  والنوادر لأبي علي القالي، ثم كتب الأخرون كثيرا في هذا الفن .

    وكان الغناء تابعا للشعر ، ولم يكن الغناء في العصر العباسي ينافي الوجاهة والمروءة ، ولذلك كتب الأصفهاني الأغاني على أساس مائة صوت من الأغاني وجمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم ، وهو غاية كل أديب.

                                             الفصل الثامن والثلاثون

                                            اللغة ملكة صناعية

 بين اللغة والبلاغة

       يقول إبن خلدون أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة ، وبها يستطيع الإنسان التعبير عن المعنى المطلوب بحسب تمام ملكته في التعبير أو نقصانها . والبلاغة هي حصول الملكة التامة في تركيب الألفاظ المعبرة عن المعنى المقصود المطابق لمقتضى الحال .

بين الفعل والصفة والحال والملكة

    ويقول إبن خلدون إن الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولا فيصبح صفة للذات ، ثم تكرر الصفة فتكون حالا ، فالحال صفة غير راسخة ، ثم يزيد التكرار فتكون صفة راسخة ، وبذلك كان الطفل العربي بتعوده السمع والنطق الصحيح لايخطئ في الإعراب حتي صار ذلك ملكة أو صفة راسخة فيه ، ثم عندما اختلط العرب بالأمم المفتوحة أصبح أبناؤهم يسمعون اللحن في الكلام ويسمع كلاما أخر غير العربية فاختلط عليه الكلام ، وأخذ من هذه وتلك ، فتأثرت ملكة الأطفال ، وبهذا دخل اللحن في منطقهم وفسد اللسان العربي فاحتيج للنحو ، أي للضبط الصناعي للغة بعد ضياع السليقة ، وهذا بعد الفتوحات .

إختلاف الفصاحة بين القبائل

    وقبل الفتوحات كان العرب داخل الصحراء أبعد عن الإختلاط بالأمم العجمية ، وكانت ملكاتهم نقية بالسليقة في اللسان العربي ، خصوصا قريش ،وثقيف وهذيل وخزاعة وكنانة وغطفان وأسد وتميم . أما عرب الأطراف  على حدود الجزيرة العربية فقد فسد لسانهم من قبل لمجاورتهم الفرس والروم  والأنباط ، مثل ربيعة ولخم وجذام وغسان وأياد وقضاعة . ولهذا لم يكن أهل النحو واللغة يحتجون بلسانهم في معرفة واستنباط قواعد اللغة من السليقة العربية الأصلية.

                                           الفصل التاسع والثلاثون

                   لغة العرب في عهد إبن خلدون مختلفة عن لغة مُضر وحميَر

لهجة عصر إبن خلدون مثل لهجة مُضر

    يرى إبن خلدون أن اللغة العربية في عهده تجري على طريقة لغة قبائل مُضر العربية ما عدا حركات الإعراب التي تحدد الفاعل المرفوع والمفعول المنصوب وغيرها ، وقد اعتاض الناس في عهد إبن خلدون بالتقديم والتأخير حتى يتحدد الفاعل والمبتدأ بالإضافة  إلى القرينة .

إرتباط اللغة العربية بالبلاغة

    ويرى إبن خلدون أن البلاغة في لسان قبائل مُضر أكثر حيث تدل الألفاظ على  المعاني، وكل معنى لابد أن تكتنفه أحوال تخصه ، ويجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود ، وتلك الأحوال لها ألفاظ مخصوصة في كل اللغات ، ولكن في اللغة العربية يستعاض عنها بالتقديم والتأخير والحذف وحركات الإعراب في تركيب الكلمة أو باضافة حروف غير مستقلة ، وذلك دون كلمات خاصة مثل باقي اللغات ولذلك تجد الكلام العربي موجزا وأقل ألفاظا من اللغات الأخرى. 

      ومن هنا ارتبطت اللغة العربية بالبلاغة إلى عهد إبن خلدون الذي يؤكد أنه يجد في عهده الكثير من ألفاظ العربية الأولى وتعبيراتها وأساليبها ومقاصدها ، ولم تفقد إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم .

     ومعروف أن لسان القبائل المُضرية إعتراه اللحن بعد اختلاطها بالأمم الأخرى فاحتيج إلى علم النحو لضبط اللغة ، وحتى لاينسى الناس لغة القرآن والحديث .

    ويرى إبن خلدون أنهم لو اعتنوا باللسان العربي في عهدهم وعرفوا أحكامه لأمكنهم الاستغناء عن الحركات الإعرابية بأمور أخرى داخل اللغة منها قوانين ضبط الكلام ، وربما تكون في أواخر الكلام على غير المنهاج الأول في لغة مُضر .

بين لغة حميَر ولغة مُضر

    ويقول أن لغة حميَر مع لغة مُضر كانتا بهذه المثابة ، وحدث إختلاف بين اللغتين فلا يصح إجراء اللغة الحميَرية على مقاييس لغة مُضر لأنهما كانتا لغتين مختلفتين . إلا أن العناية بلغة مُضر بسبب كونها لغة القرآن والشريعة جعلهم يستنبطون منها قواعد النحو ، وليس في عهد إبن خلدون ما يدعو إلى ذلك .

حرف Gأصيل في لغة مُضر

    وأشار إبن خلدون إلى الإختلاف في نطق حرف القاف ، حيث جرت اللهجة على نطقها متوسطة بين الكاف والقاف ( أي مثل نطق حرف G  باللغة الانجليزية ) ويرى إبن خلدون أن هذا التطور لحرف القاف هو الأصل في لغة مُضر ومما يتميز به العربي الصريح عن العربي الدخيل وعن لغة أهل الأمصار . لذلك فإن هذا النطق قد توارثته قبائل مُضر حتى عهده ، ويقول لعلها كانت لهجة النبي عليه السلام ، لذلك زعموا أن من لم يقرأ القرآن بها في صلاته فقد فسدت صلاته . ويبدي إبن خلدون حيرته في الأصل الذي جاءت منه القاف الصريحة لأن أهل الأمصار لم يستحدثوها وإنما تناقلوها أيضا من السلف ، وكان أكثر السلف من قبائل مُضر أيضا ، كما أن الجيل الذي ينطق بـ (G) لم يستحدثها وإنما تناقلها أيضا عن السلف إلا أنه تميز بعدم اختلاطهم بالأمصار وأهل العجم ، مما يرجح أن نطق القاف (G) لديه هو الأصل بدليل الإتفاق على أن هذا النطق إنما يميز العربي الصحيح من العربي الدخيل .

                                              الفصل الأربعون

                لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مُضر         

    يرى إبن خلدون أن اللهجة السائدة في الأمصار والحضر ليست لغة مُضر القديمة ولا لغة أهل الجيل المعاصر لإبن خلدون بل هي لغة أخرى قائمة بذاتها . مختلفة عن لغة مُضر وعن لغة جيل إبن خلدون . ويبرهن على أن لغة الأمصار قائمة بذاتها بوجود الإختلاف في داخلها ، وهو ما يعتبره النحويون لحنا في الكلام ، ثم أن هذا الإختلاف يظهر في اختلاف المصطلحات  واللهجات بين الأمصار فيما بين المشرق والمغرب والأندلس ، ومع ذلك فكل لهجة تؤدي المقصود منها في الدلالة على المعنى وبدون حاجة إلى الإعراب والتزام قواعد النحو .

    كما يبرهن على كون لغة الأمصار مختلفة عن لغة مُضر بأن الإبتعاد عن لغة مُضر إنما يكون بقدر الإختلاط بالعجم ، ذلك الإختلاط الذي يؤثر على ملكة النطق العربي الفصيح حيث يسمع الطفل من هنا وذاك ،  وبقدر ما يسمع من اللغة الأخرى يكون ابتعاده عن الفصاحة  في لغته الأصلية ، وفي مناطق الأطراف حيث تكاثر الإختلاط مثل أفريقيا والمغرب تغلب العجمة على اللسان العربي وصارت هناك لغة أخرى خليطا بين العربية والبربرية ، ونفس الحال مع المشرق في الإختلاط بالفرس والترك ، وكذا مع الأندلس والأسبان ، ومن هنا صار لكل إقليم لغة مخصوصة به تخالف لغة مُضر وتخالف بعضها بعضا .

                                      الفصل الحادي والأربعون

                                         في تعليم  اللسان المضري

لقد ذهبت ملكة اللسان المُضري العربي الفصيح ، وأصبحت اللغة في عهد إبن خلدون مغايرة للغة أهل مُضر التي نزل بها القرآن ، أي أصبحت لغة أخرى امتزجت فيها اللغة الأعجمية ، فكيف يمكن تعلم لغة مُضر القديمة ؟

    يجيب إبن خلدون على هذا السؤال بأن يأخذ الإنسان نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على ألسنتهم من القرآن والحديث والشعر وكلام السلف حتى تتربي لديه ملكة اللغة السالفة الفصيحة البكر ، ثم يأخذ نفسه في تعبيره عما في ضميره بحسب عباراتهم وكلماتهم وما حفظه من أساليبهم ، ويداوم على ذلك الإستعمال ، وبالحفظ والتلقين وجريان اللسان بنفس اللغة تزداد الملكة رسوخا ، وهذا يحتاج إلى سلامة الطبع وتفهم العقلية العربية والذوق العربي . وعلى قدر المحفوظ وكثرة الإستعمال تكون جودة القول المصنوع بفصاحة ولغة أهل مُضر .

                                   الفصل الثاني والأربعون

                 ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم

     صناعةالعربية هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها ، أي هي علم بالكيفية ، وليس علما بنفس الملكة ، مثل الذي يعرف إحدى الصناعات علما نظريا ولا يستطيع أن يمارسها عمليا . وهكذا العلم بقوانين الإعراب ، فهو شئ ، ولكن تطبيقه والإلتزام به في النطق والكتابة شئ آخر ، والعكس صحيح ، فهناك من ينطق العربية نطقا صحيحا ، ويأتي بها شعرا ونثرا فصيحا ، وهو لا يدري شيئا عن قوانين النحو والصرف مع التزامه بهذه القوانين في سليقته وفطرته . وهكذا فالملكة أو السليقة تختلف عن صناعة العربية وقواعدها . وهناك من يجمع بين صناعة اللغة – أي الإعراب ، وبين الفصاحة ، وذلك قليل ، كما يقول إبن خلدون ، ولذلك حشا سيبويه كتابه في النحو بأمثلة وشواهد من الأدب العربي ، حتى تتوازن القواعد مع التطبيق والإستعمال أي تتوازن الملكة مع الصناعة . وذلك ما  نفتقده في كتب النحاة المتأخرين ، الذين استغرقوا في القواعد دون إيراد الأمثلة والشواهد ، إلا أن الأندلس في عصر إبن خلدون إمتازت بالعناية بالأمثلة والشواهد والتطبيق عن المغرب وشمال أفريقيا اللتين أصبحت فيهما علوم النحو واللغة بحوثا نظرية جامدة وبعيدة عن المران وعن تربية الملكة والسليقة العربية .

                                       الفصل الثالث والأربعون

                                 تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان

                       وتحقيق معناه وبيان أنه لايحصل للمستعربين من العجم

    الذوق هو حصول ملكة البلاغة للسان ، والبلاغة هي مطابقة الكلام للمعنى المراد من جميع وجوهه بخواص في التركيب تفيد ذلك ، والبليغ العربي يتحرى ذلك في كلامه ، وهو بنفس القدر إذا سمع كلاما يخلو من البلاغة لم يهتم به . ويرى إبن خلدون أن البلاغة العربية ملكة تمكنت ورسخت بين العرب وظهرت كأنها طبع ،وهذه الملكة تتمكن بالممارسة والتكرار بالقول والسمع والتنبه لخواص البلاغة في الكلام، وليس بمعرفة القواعد البلاغية والنحوية، ولذلك فإن صاحب ملكة البلاغة  لا يستطيع الفكاك منها إذا تكلم أو إذا استمع ، فإذا تكلم أفصح وكان بليغا ، وإذا استمع اهتز للبلاغة ولم يهتز للكلام غير البليغ ، وهذا أمر وجداني تخلقه الممارسة والمعايشة لكلام العرب وفصاحتهم . شأن من تربى في البادية الفصيحة فتكلم بالعربية الأولى في تلقائيتها وفصاحتها وبلاغتها والإلتزام الفطري بالإعراب .

    واصطلح أهل البيان والبلاغة على أن الذوق هو تلك الملكة البلاغية التي ترسخ وتستقر في الوجدان ، وهو مأخوذ من ذوق الطعام باللسان ، وأصبح يدل على تذوق البليغ للكلام .

    ومن الطبيعي فهذا الذوق البلاغي والأدبي بعيد عن الأعاجم أو الداخلين في تعلم اللغة العربية من غير العرب ، لأن ملكة الذوق تترسخ بعد معايشة للأسلوب العربي الفصيح . كما أن هذا الذوق قد ضاع من أهل الأمصار ، مع معرفتهم بالقواعد والأحكام , ويقول إبن خلدون إن أئمة البلاغة والنحو كانوا من الأعاجم مثل سيبويه والزمخشري والفارسي ، إلا أنهم تربوا في مجتمع عربي فصيح أضفى عليهم طابعه الثقافي بحيث كانوا أعاجم في النسب فقط ، وكانوا عربا في النشأة والثقافة والإنتماء والمهنة ، وكان ذلك في أوان قوة العربية وفصاحتها ، وعكفوا على الممارسة والدرس فحصلوا على الغاية من ذلك . ولايتوفر ذلك لأي أعجمي اليوم إذا خالط العرب حيث فسد اللسان العربي وضاع الذوق البلاغي العربي ، وحتى لو عرف القواعد النحوية والبلاغية فأين له بالملكة إذ ستكون متعذرة عليه لو حاول بالممارسة أن يرسخها في نفسه .

الفصل الرابع والأربعون

                     أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل الملكة

            اللسانية أو الفصاحة العربية التي تستفاد بالتعليم ، ومن كان منهم أبعد

                                عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب

الملكة في الفصاحة هي الأساس

     ذلك لأن المتعلم في الأمصار قد سبق له أن حصل على ملكة أخرى مخالفة للملكة اللسانية التي يريد أن يتعلمها . إذ تعلم في طفولته اللهجة المحلية وهي مزيج من العربية والأعجمية التي كانت سائدة قبل الفتح ، ولذلك يسارع بعضهم بتعليم الأولاد اللغة ، والنحو ، إلا أن قواعد النحو لاتفيد ، بل الذي يفيد هو تأسيس الملكة بمعايشة كلام العرب .

 بين الأندلس وأفريقيا العربية

    وكلما ابتعد القطر عن الفصاحة العربية والتحم بالأعاجم تباعد عن تعلم اللغة العربية ، وعن توافر ملكتها ، ولذلك كان أهل شمال أفريقيا والمغرب أعرق في العجمية وأبعد عن الفصاحة العربية في الشعر والنثر ، أما أهل الأندلس فقد كانوا أقرب إلى العربية بسبب معايشتهم للمحفوظات الشعرية والنثرية ، وكان فيهم إبن حيان المؤرخ وإبن عبد ربه والقسطلي ، وازدهر ذلك في عصر الطوائف ، وعندما ضعفوا أمام الزحف الأسباني تناقص العمران فيهم وتناقص شأن الصنائع ومنها الأدب ، وهجرها الأدباء ألى الساحل الأفريقي ، وهو دونهم في الملكة اللغوية والأدبية فانقرضوا .

بين الأندلس والمشرق  

    وشأن المشرق كالأندلس في تقوية الملكة ، وظهر في المشرق فحول الأدباء وأمهات الكتب مثل الأغاني للأصفهاني ، وبقيت الملكة مستحكمة في المشرق في الدولتين الأموية والعباسية ، بل ربما كان فيهم من هو أفصح ممن كان في الجاهلية ، وظل ذلك حتى تلاشى أمر العرب وفسدت لغتهم وغلبهم الأعاجم في عصر البويهيين والسلاجقة .

 

 

 

عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف 45 :51 ) الشعر والنثر

 كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع  الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق     

                                              الفصل الخامس والأربعون

                                     إنقسام الكلام إلى فني النظم والنثر

بين الشعر والنثر

    ينقسم كلام العرب إلى فنِين :- الشعر المنظوم ، وهو الكلام الموزون المقفي ، وأوزانه كلها على رَوِيْ واحد أي قافية واحدة ، ثم النثر وهو الكلام غير الموزون . وكل منهما يشمل فنونا ومذاهب . ففي الشعر نجد المدح والهجاء والرثاء ، وفي النثر نرى المسجع وهو إلتزام القافية في كل كلمتين منه ، والمرسل وهو الكلام المنطلق بلا تقييد ، والقرآن يخرج عن النوعين وإن كان منثورا ، فليس مرسلا ولا مسجعا ، بل تفصيل آيات تنتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها، ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بدون التزام سجع أو قافية ، وآخر الآيات تشمل فواصل ليست قوافي أو أسجاعا .

أساليب الشعر والنثر

    ولكل فن من هذين الفنّين أساليب ، مثل التشبيب في الشعر ، والحمد والدعاء في الخطب ، واستعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في النثر ، مثل السجع والقافية ، ولم يختلف عن  الشعر إلا في الوزن . وظهر ذلك في المشرق في الكتابات السلطانية . ويرى إبن خلدون أن السجع الغليظ لايناسب الخطاب مع السلطان ، بل يناسبه الترسل في الكلام من غير تكلف مع مراعاة مقتضى الحال . ويرى أن وقوع الأدباء في العجمة وعجزهم عن الفصاحة هو السبب في الولوع بهذا السجع المتكلف ليستروا به فقرهم في البلاغة ، حتى أنهم يقعون في أخطاء نحوية وصرفية لكي يحافظوا على السجع والجناس .

                                              الفصل السادس والأربعون

                                        لا تتفق الإجادة في الشعر والنثر معا إلا للأقل

     ملكة الفصاحة الفطرية تتم في الطفل العربي منذ نشأته حيث لم يعرف إلا العربية الفصحى . وإذا تنازعت ملكتان تعذر أن تتم الملكتان معا مثل البربري الذي يتعلم العربية ، ولا يمكن للعربية أن تتسيد على لسانه فيظل فيها قاصرا ، فالألسن واللغات مثل الصنائع ، والصنائع وملكاتها لا تزدحم ، ومن سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد في صناعة أخرى.

                                              الفصل السابع والأربعون

                                         صناعة الشعر ووجه تعلمه

قوانين الشعر العربي

     يوجد الشعر في كل اللغات ، وله قوانينه في كل لغة ، والشعر العربي كلام مفصل قطعة قطعة متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة ، وكل قطعة تسمى بيتا والحرف الأخير من البيت هو الروي والقافية . وجملة الكلام تسمى قصيدة ، وكل بيت قائم بمعناه مستقل عما قبله وما بعده ، وإذا كان بيتا قائما بذاته كان تاما في المدح أو الهجاء. ويحرص الشاعر في القصيدة على أن ينتقل من أسلوب إلى آخر من النسيب إلى المديح مثلا ، وقد يمهد قبل أن ينتقل من غرض إلى آخر ، ومع اختلاف الأساليب أو الموضوعات فإنه يلتزم بالوزن الواحد.

علم العروض ، والبحور

     وللموازين قواعد يتضمنها علم العروض ، وهناك خمسة عشر بحرا أو وزنا للقصيدة العربية ، وكان الشعر أشرف كلام للعرب ، واستحكمت ملكته فيهم ، مع صعوبة ملكة الشعر . وعلى من يريد اكتساب ملكة الشعر من المتأخرين أن يتعمق في رعاية الأساليب الشعرية القديمة واستعمالها وأن يحاول السير على منوالها ، ذلك أن الشعر يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنظمة التي تنطق على تركيب خاص ، ولكل فن من الكلام أساليب خاصة وتوجد فيه على أنحاء مختلفة . وذكر إبن خلدون أمثلة من افتتاحيات القصائد العربية المشهورة وأبيات أخرى في أغراض مختلفة .

الفصاحة أساس الشعر والنثر

    ويقول إبن خلدون أن مؤلف الكلام كالبّناء أو النساج ، والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبني فيه أو المنوال الذي ينسج عليه ،فإن خرج عن القالب في بنائه أو عن المنوال في نسجه كان فاسدا . ولا تكفي في ذلك معرفة قوانين البلاغة لأنها قواعد علمية قياسية مثل قواعد اللغة العربية النحوية ، وإنما المطلوب ملكة الفصاحة التي تتكون من معايشة الفصاحة العربية الشعرية فينتج العقل والوجدان أمثلة لها من الشعر والنثر ، ولذلك كان الفصحاء من الشعراء والأدباء من غير النحويين وعلماء البلاغة والعروض . وأولئك الفصحاء عرفوا قواعد النحو والبلاغة ولكن أضافوا لها فهم القوالب الشعرية والنثرية وحفظ الأساليب والأدب والشعر القديم ومعايشته فانتحوا على مقايسه مما يناسب عصرهم .

حقيقة الشعر عند إبن خلدون

     وعن حد الشعر أو رسمه لا يكتفي إبن خلدون بما قيل أن الشعر هو الكلام الموزون المقفي ولكنه يرى أن الشعر هو الكلام البليغ المبني على الإستعارة والأوصاف ، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن ، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله ، والجاري على أساليب العربية المخصوصة به . وافاض إبن خلدون في شرح هذا التعريف الذي وضعه لممفهوم الشعر ، وأوضح به الفارق بين الشعر والنثر الفني ، بل أوضح به الفارق بين الشعر بهذا المفهوم وشعر المتنبي والمعري حيث لم يجريا على أساليب العرب .

كيفية عمل الشعر عند إبن خلدون

     ويضع إبن خلدون شروطا لكيفية عمل الشعر وإحكام صناعته ، وهي الحفظ من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة الشعر العربي وينسج على منوالها ، ويختار منه المحفوظ النقي الحر ، وأقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل جرير وإبن أبي ربيعة وكثير والبحتري وأبي نواس ، وأكثره في الأغاني ، والمختار من شعراء الجاهلية ، ومن كان خاليا من المحفوظ فشعره قاصر ردئ وأولى به ترك الشعر . ثم بعد امتلاء الحفظ يأخذ في نظم الشعر ويستكثر من النظم حتى تستحكم ملكته الشعرية ، ويشير إبن خلدون إلى نسيان المحفوظ  على اللسان بعد أن يكون قد ترسخ في أعماق الشاعر ، وهنا يستعمل الشاعر ألفاظ عصره ولكن بقواعد ورسوم الشعر الأصيل .

     ثم يتخير الخلوة والمكان الرائع الذي يستجلب قول الشعر مثل الحدائق ومجالس الطرب حتى تستنير القريحة الشعرية وتنشط ، بالإضافة إلى العوامل النفسية مثل السرور والعشق والإنتشاء كما أوضح إبن رشيق في كتابه العمدة ، وإن استصعب عليه الوقت فليترك الشعر إلى وقت آخر.

    ويبني القصيدة على قافية واحدة ، وذلك في كل بيت ، ويكون كل بيت شعري مستقلا بنفسه مع مراعاة المناسبة بين الأبيات . ثم يراجع شعره بعد الإنتهاء منه ويقوم بتنقيحه ونقده ، ويتركه إذا لم يكن جيدا بما فيه الكفاية ، ولايستعمل فيه إلا أفصح التراكيب ، ولايلجأ إلى الضرورات اللسانية النحوية ، ويتجنب التراكيب المعقدة ، ويختار منها أقربها لسهولة الفهم ، ويبتعد عن حشد المعاني الكثيرة وتكثيفها في البيت الواحد لأن ذلك تعقيد لا ضرورة له . والمهم أن تكون المعاني على قدر الألفاظ ، والشعر السهل هو الذي تسابق معانيه ألفاظه ، ويجتنب الألفاظ الغربية والعامية والمبتذلة ، والشعر في الربانيات والنبوات قليل الجودة ولا ينبغ فيه إلا الفحول ، لأن معانية معروفة . وإذا تعذر الشعر فلا ييأس ، ولكن يعاوده لأن القريحة مثل الضرع يدر بالإمتراء ويجف بالترك والإهمال كما يذكر إبن رشيق ، وهو ما ينقل عنه إبن خلدون وينصح بالرجوع إليه.

                                    الفصل الثامن والأربعون

                     صناعة النظم والنثر في الألفاظ وليس في المعاني

    صناعة الشعر والنثر في الألفاظ ، والمعاني تتبع الألفاظ التي هي الأصل ، وملكة الشعر والنثر تتكون بالألفاظ وما تضمه من حفظ أشعار وآداب فصيحة . واللسان نفسه له ملكة النطق بالألفاظ وتكرارها ، وأما المعاني ففي الضمائر ، وهي موجودة لدى الجميع ولكن تحتاج إلى قوالب لفظية فنية من شعر ونثر تخرج فيها ، وبذلك يتميز الأديب عن غيره . والمعاني كالماء ، والألفاظ كالأواني ، وقد تختلف الأواني الذهبية عن القضية ، ولكن الماء واحد ، وكذلك جودة اللغة وبلاغتها تختلف باختلاف طبقات الكلام .

                                      الفصل التاسع والأربعون

                 حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ ، وجودتها بجودة المحفوظ

    لابد من كثرة الحفظ لمن يريد تعلم اللسان العربي ، وعلى قدر جودة المحفوظ  تكون جودة الملكة الناشئة عن هذا الحفظ ، فمن يحفظ للعتابي وإبن المعتز وإبن المقفع وإبن الزيات تكون ملكته أعلى ممن يحفظ للشعراء والأدباء المتأخرين ، فعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الإستعمال ، ثم تترقى الملكة بارتقاء المحفوظ ، وينشأ الطبع على منوالها .

    والنفس تختلف في البشر بحسب ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان ، وتتطور الملكات بالتدريج سواء كانت في الشعر أم في النثر أم في العلوم أم في التصوف والروحانيات ، وتتلون النفس بذلك ، وكذلك الملكات داخل النفس .

قصور الفقهاء في الشعر

    ولذلك ترى الفقهاء والعلماء قاصرين في الشعر والبلاغة حيث امتلأ حفظهم وملكاتهم بالفقه أو بالعلم ، وكلاهما بعيد عن البلاغة والشعر ، وتلونت بذلك أنفسهم وملكاتهم . حتى أن الفقيه الشاعر يتبدى فقهه في أبيات شعره ، ويعترف إبن خلدون أنه مع خبرته بالشعر فإنه يصعب عليه قول الشعر ، هذا مع أنه يحفظ من القرآن والحديث وكلام العرب ، ويرى السبب في تباعده عن الشعر ، أنه حفظ قصيدتي  الشاطبي في القراءات ودرس كتابي إبن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيرا من قوانين التعليم في المجالس . وهذه الثقافة العلمية والفقهية غطت على ملكته الشعرية .

أدباء المسلمين الأوائل أفصح من الجاهليين

    ويرى إبن خلدون أن الأدباء المسلمين في القرنين الأول والثاني من الهجرة أعلى فصاحة من أدباء العصر الجاهلي بسبب معايشة المسلمين للقرآن وإعجازه الفصاحي والبلاغي ، ويضع إبن خلدون الحديث في نفس منزلة القرآن في الإعجاز الفصاحي وغيره ،إذ يقول " والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما ".

                                           الفصل الخمسون

                             ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر

     كان الشعر ديوان العرب ، وكان الشاعر فخر قبيلته ، وافتخرت القبائل بشعرها ، ومن هنا كانت المعلقات السبع على الكعبة . وهي قصائد امرؤ القيس والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمي وعنترة وطرفة بن العبد وعلقمة بن عبده والأعشى . ثم ظهر الإسلام بالقرآن فانشغل العرب به عن الشعر ، ولكن لم يحرم القرآن الشعر بل استمع إليه النبي ، فعاد العرب للشعر ، ولقى الشعر حظوته لدى الخلفاء  في العصر الأموي والعصر الأول العباسي ، حيث تقرب الشعراء المجيدون للخلفاء ونالوا حظوتهم ومكانتهم . ثم تحكم الملوك والأعاجم في الخلافة العباسية وظهر شعراء الصنعة بلا ملكة شعرية حقيقية ، وتحولوا إلى الإستجداء بالشعر ونفاق ذلك الحاكم والكذب على ذاك . فاستنكف عن قول الشعر أهل المراتب من المتأخرين واصبح تعاطي الشعر مما يعاب به أهل الرياسة في عصر إبن خلدون .

                                          الفصل الحادي والخمسون

                         في أشعار العرب وأهل الأمصار في عهد إبن خلدون

تأثر الشعر باللهجات

    الشعر موجود في كل لغة ، عرفه الفرس واليونان وحميَر ومُضر ، إلا أن إختلاط العرب بالأعاجم أنشأ لغة جديدة بين الأمصار ، وهي لغة تخالف لغة مُضر في الإعراب والتصاريف ، وتخالف أيضا لغة الجيل العربي في عهد إبن خلدون ، بل هي تختلف بين أمصار المشرق والمغرب والأندلس . ومن الطبيبعي أن يتأثر الشعر بهذا التحول حيث يوجد الشعر بالطبع في كل لسان . ولذلك تغير الشعر بهذه اللغة الجديدة وإن حافظ على الوزن والقافية .

أنواع جديدة من الشعر في عصر إبن خلدون

     والجيل العربي في عهد إبن خلدون حافظوا على الشعر السلفي وجاءوا بالمطولات مشتملة على أغراض الشعر بنفس الطريقة القديمة ، وسموا هذه القصائد بالأصمعيات في المغرب ، وييسميه أهل المشرق بالشعر البدوي . ويلحقون بعض الغناء بألحان بسيطة يسمونه الحوراني ، ولهم فن آخر إذ يأتون بالشعر على أربعة أجزاء يخالف المقطع الأخير المقاطع الثلاثة في القافية ، ويلتزمون بالقافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة.

 ويرى إبن خلدون أن ذلك راجع إلى فقدان الملكة في لغة عصره ، وقد تصح فيه البلاغة ،وإن كان الإعراب لا يوجد فيه ، إذ غالب كلاماتهم ساكنة ، ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بحسب القرينة ، وليس بحركات الأعراب

.الموشحات والأزجال في الأندلس

     والملكة في الأندلس أتم ، وعندهم يكثر الشعر ويتهذب، فاستحدث المتأخرون فيهم فن الموشحات ، ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا ، ويسمون المتعدد منها بيتا ، ويلتزمون القوافي عند الأغصان ، وتتكون القصيدة من سبعة أبيات تقريبا ، ويشتمل كل ببيت على عدد من الأغصان بحسب المذهب ، وفيها الغزل والمدح ، وانتشر هذا اللون لسهولته وقربه .

    واخترع الموشحات مقدم بن معافر الفريري ، وأخذه عنه أبو عبدالله بن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد ، ثم برع فيه عبادة القزاز .. وذكر إبن خلدون بعض أخبار الموشحين وبعض الموشحات الأندلسية .

     وفي النهاية يقول إبن خلدون أن الذوق البلاغي يأتي بالمخالطة اللغوية من الإستماع والقراءة والإستعمال ، وكل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته .

 

     وبعد ..

فهذا عرض للمقدمة أتى بلغة متوسطة بين لغة إبن خلدون ولغتنا المعاصرة . واحتوى العرض على كل ما جاء في المقدمة ، معتمدا على نسخة بولاق أقدم النسخ .

كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
تم نشر هذا الكتاب فى القاهرة عام 1998 ، وهو تحليل أصولى تاريخى لمقدمة ابن خلدون وتاريخه وعقليته ، ونعيد نشره هنا مع بعض تعديل وإضافة فصل جديد .
more