أزمة خيال:
أزمة خيال

نبيل شرف الدين Ýí 2008-12-16


يتطلب حصر الأزمات التى تحاصر المجتمع المصرى فى المرحلة الراهنة لمجلدات ضخمة، لكنى أحسب أن «أم الأزمات» الآن هى «أزمة الخيال»، وأرجوك ألا تستخف بالأمر، فكل الإنجازات التى قلبت حياة البشر رأساً على عقب بدأت بالخيال، وكافة المشكلات التى استنزفت جهود الأجيال لم يحسمها سوى الخيال، الذى أمكن ترجمته لحلول يمكن تطبيقها فى الواقع، وحتى المآسى الإنسانية كان يقف خلفها خيال شرير كالذى راود النازيين والفاشيين والإرهابيين الأصوليين وغيرهم من أشرار الت&Cceاريخ.

ولا يحتاج الأمر لكثير عناء حتى يكتشف المرء أن خيال المصريين خلال العقود الماضية أصبح فقيراً وبدائياً لدرجة مخيفة، فالشباب لا يحلمون بتحقيق نجاحات مهنية ولا حتى عاطفية، بل يسعون لحرق المراحل دفعة واحدة ليبدأ كل منهم حياته «مديراً»، وحين يتعرف الشاب المصرى على فتاة يفكر بمضاجعتها قبل أن يحلم بصياغة مشاعر دافئة معها،

لهذا يستسهل الشباب المصرى اليوم الاعتراف بالحب، قبل أن يدع الفرصة لعقله وخياله ليفكر بالأمر قليلاً، ولعل ذلك أحد أسباب زيادة معدلات الطلاق أخيراً، فضلاً عن شيوع طراز من العلاقات الباردة، التى تستمر لاعتبارات اجتماعية بعد أن جفت ينابيع الخيال بين الشريكين، وقد وصلا لصيغة التعايش غير المريح بذرائع واهية مثل الحفاظ على الأبناء.

فى كواليس السياسة يعتمد صنّاع القرار أكثر الحلول نمطية، ويستبعدون الأفكار المبدعة وربما لا يتيحون لها أى فرصة، وبالتالى فإن العملة الرديئة تطرد الجيدة، ويصنع معدومو الموهبة وفقراء الخيال شرنقة سميكة تعزل السياسى عن مجتمعه، وتجعله يعيش فى عالم مصطنع لا صلة له بما يجرى فى الواقع، وتتسع الهوة شيئاً فشيئا حتى يبدو المشهد كما هو الآن، السلطة والناس من كوكبين مختلفين.

أما عن العاملين بالجهاز الإدارى للدولة فحدث ولا حرج، فهؤلاء لم يجف خيالهم فحسب، بل ناصبوا المخيلة الإبداعية العداء وأصبحوا أقرب لمنطق «أبى لهب وأبى جهل» فى تبنى مبدأ «هكذا وجدنا آباءنا»، فالموظف المصرى عدو للخيال، ويعتبره تهمة وسبّة، وكثيراً ما نسمع من مسؤولين ردوداً على اقتراحات من هنا أو هناك، بأنه «اقتراح خيالي» لا يمكن تطبيقه فى الواقع، ولو تمهل صاحبنا قبل أن يردد المحفوظات البيروقراطية كالببغاء، لاكتشف أن الخيال هو الشرارة الأولى وراء كافة الأفكار العبقرية التى أزعم أن بلادنا بحاجة ملّحة إليها، خاصة فى ظل تعقد المشكلات على نحو لم تعد تجدى معه المعالجات التقليدية.

الكارثة أن هذه الذائقة المعادية للخيال انتقلت لدوائر الشركات والمؤسسات الخاصة، والسبب أن هذه الكيانات لن تستقدم موظفين من الفضاء، بل من نفس المجتمع الذى يناصب الخيال العداوة والتحقير، وأصبح كل صاحب فكرة مبتكرة يعامل باعتباره «حالة» تستحق السخرية والتسفيه، بدل الإنصات إليها وتأملها وبلورتها، خلافاً لما يجرى فى البلدان المتقدمة التى تؤمن بأن العالم ذاته مجرد فكرة.

حتى فى الجريمة أصبحنا نطالع أنباء عن جرائم فجّة بدائية تفتقر لأى خيال، فالقتل يجرى وفق خطط ساذجة خرقاء تعتمد على العنف المفرط، والمصادفات اللحظية، فجريمة مقتل الفتاتين فى مدينة ٦ أكتوبر تحدث بسذاجة تفتقد لأبسط المبررات المستساغة حتى فى أوساط المجرمين، وكذا جريمة قتل المغنية اللبنانية فى دبى لايستوعب العاقل أن تكون قد جرت بهذه السذاجة، على الرغم من أن المتهمين بالضلوع فيها ليسا من الهواة،

بل يفترض فيهما أنهما من الصفوة فى المال والسلطة، ومع ذلك تغلب الغرائزية على الحدث لدرجة تدفع الناس للشك فى الواقعة برمتها، ومن ثم تروج نظريات المؤامرة، ويصنع الشارع أساطيره الخرافية، بينما يتعالى صنّاع القرار على الشارع، وهكذا تتسع الهوة لتدخل دائرة مفرغة يبدو أن الفكاك منها يرتبط بإعادة إطلاق العنان للخيال الخلاّق، الذى ظل أسيراً طيلة زمن دولة الموظفين.

اجمالي القراءات 9295

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2007-10-01
مقالات منشورة : 61
اجمالي القراءات : 748,052
تعليقات له : 0
تعليقات عليه : 108
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt