الزهاد والبكاءون فى القرن الثانى الهجرى
• الإسلام لا يعترف بالزهد ، فالقرآن الكريم يدعو للتمتع بالطيبات وينهي عن تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، ومفهوم الزهد لم يكن معروفا في عهد النبي عليه السلام وأصحابه ، إلا أن بيئة الشام والعراق قد عرفت الرهبانية طريقا للتعبير الصامت عن الظلم الروماني ، ثم خفت صوت الرهبانية في حكم الخلفاء الراشدين ، ثم ما لبثت أن رجع في صورة الزهد بعد أن خابت الآمال لدي المتدينين ، فأصبح الزهد هو طريقهم في الاحتجاج الصامت ورفض الدنيا التي احتكرتها الدوائر الحاكمة دونهم .
• ومن المنتظر أن تكون دعوة الاسلام للعدل قد أعطت آمالا لكثير من المثقفين الذين دخلوا فى الاسلام فى مصر و الشام بعد الفتوحات ، ولكن خابت آمالهم سريعا بدخول الصحابة فى الفتنة الكبرى والحروب الأهلية، وما نتج عنها من ظهور الخوارج باستحلال القتل العشوائى للمدنيين ، أو ما يعرف الان بالارهاب . ثم كانت القاصمة فى قيام الملك الأموى الاستبدادى يقلد ـ بمزيد من القسوة ـ الحكم البيزنطى الرومى ويتعامل مع أبناء البلاد الأصليين كممتلكات للخليفة . قسوة الأمويين فى معاقبة من يخرج عليهم تعدت كل الحدود بعد ما فعلوه بالحسين وآل بيته ، وما فعلوه بمكة والكعبة والمدينة. وكان ما فعلوه بالثائرين المسلحين من الموالى الفرس والأقباط و البربر أشد قسوة .
• مع القضاء على ثورات العلويين بدءا من الحسين فى كربلاء 61 الى حفيده زيد بن على زين العابدين 122 ثم ابنه يحيى 125 ظهر الفقهاء يحملون راية المطالبة بالعدل ، ولكن استطاع الأمويون قمع تلك الحركات المسلحة التى كان قوامها فقهاء انضموا الى ثورة محمد بن الأشعث التى قضى عليها الحجاج بن يوسف عام 84 فى معركة دير الجماجم ( بسبب أهرامات الجماجم للقتلى وكان معظمهم من الأ سرى الثوار ) ثم تلقف راية الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر والظلم الحارث بن سريج وثار فى خراسان فقضت الدولة الأموية عليه وعلى حركته عام 128 هجرية. ومن هنا آثر المثقفون الحالمون الرجوع الى الزهد بنفس ما كان عليه آباؤهم فى العصر البيزنطى .
• إلا أن هناك أملا لمع بين دموع المحبطين بظهور أحاديث تبشر بقرب ظهور المهدى المنتظر الذى سيملأ الدنيا عدلا بعد أن إمتلأت جورا وظلما. وقد صيغت تلك الأحاديث بمهارة بارعة تجعل المتشكك يميل لتصديقها ، فكيف بالآمل الحالم.
• ووضح بعدها أن للمهدى دعوة سرية تتحرك بثبات فى خراسان تحمل الدعوة الى (الرضى من آل محمد ) بدون تحديد لصاحب الدعوة سوى أنه من آل بيت النبى محمد عليه السلام. بظهور الدعوة و انتشار الأحاديث عن قرب ظهور المهدى انضم الكثيرون للدعوة الجديدة فخرجت فى خراسان الى الدور العلنى المسلح بقيادة (أبو مسلم الخراسانى ) الذى نجح فى تدمير الدولة الأموية سريعا وإقامة الدولة العباسية عام 132 هجرية .
• وتوالت المفاجآت بعدها ، إذ إتضح أن الدعوة ليست لذرية على بن أبى طالب ولكن لبنى عمومتهم العباسيين ، وكانت المفاجأة الكبرى أن أولئك العباسيين أشد قسوة من الأمويين ، وان أول ضحاياهم كانوا من أنصارهم الطامعين فى المشاركة فى السلطة فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور ، فهو الذى قضى على أبى مسلم الخراسانى ، وهو الذى قضى على الرواندية . وهو الذى حارب أتباع أبى مسلم الخراسانى فى أقاصى الشرق ، وهو الذى عذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه ،وهو..وهو..
• لكنه هو الذى كان يرتكب كل تلك الجرائم بفتاوى دينية يصدرها له أتباعه من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد فى الدين على الخليفة . وحين امتعض ابو حنيفة ورفض أن يفتى له بما يريد قام ابو جعفر المنصور بسجنه وتعذيبه وقتله بالسم.
كانت خيبة أمل المثقفين شديدة ، فقد جاء الظلم اشد ، وجاء متوشحا بفتاوى دينية وأحاديث نبوية ، وخليفة يعلن أنه سلطان الله فى أرضه .
• وهكذا كانت خيبة أمل المثقفين الورعين في الدولة العباسية هائلة ، وكان التعبير عنها هائلا أيضا، وتمثل في الرفض الكامل ليس للدولة فحسب وإنما للدنيا أيضا التي يئسوا منها فأقاموا لهم دولة بديلة صنعوها من آمالهم المحبطة وأحلامهم التي لم يكن لها أن تحقق إلا في دنيا الخيال والأقاصيص ، واكتفي أولئك بدنياهم تلك وابتدعوا لهم طقوسا دينية جديدة غلفوها بالبكاء والمنامات وأقاصيص الكرامات.
• وكان الدخول إلي تلك الدولة الوهمية التي ابتدعها أولئك الزهاد يبدأ بمقاطعة الدولة العباسية ووظائفها ، وكانت الدولة تحتاج إلي أولئك المثقفين الورعين في تولي منصب القضاء فشاع بينهم تحريم تولي منصب القضاء في ظل الخلافة العباسية ، وقد نجحت دعاية الزهاد حتي أن بعض المتورعين من غير الزهاد رفض بإصرار تولي منصب القضاء مثل أبي حنيفة النعمان الذي تحمل اضطهاد أبي جعفر المنصور له . وكان الزهاد أكثرهم صرامة في رفض منصب القضاء خصوصا زعيمهم سفيان الثوري الذي هرب إلي مكة مستجيرا بالحرم من خوفه من الخليفة ، ويروي ابن الجوزي أن سفيان الثوري ظل خائفا من أبي جعفر المنصور حتي حين ذهب الخليفة إلي الحج ومات في طريقه إليه.
• وقد كان أبو زرعة التجيبي المتوفى 153 هـ من الزهاد البكائين ، وقد أمره الوالي العباسي بمصر واسمه أبو عون بأن يتولى القضاء وقال له : إنا معشر الحكام لا يعصينا أحد فمن عصانا قتلناه ، فاستأذنه أبو زرعة ليأتي إلي أهله ، فذهب ثم عاد إلي الوالي وقد لبس أكفانه واستعد للموت وقال للوالي : نحن أولي من سحرة فرعون حين قالوا له : اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . ولن أتولي لك شيئا ، فعفا عنه الوالي.
• وكان عثمان بن طلحة أحد أولئك الزهاد في المدينة ، وقد امتنع عن تولي القضاء بها فهدده الوالي العباسي بالسياط فأذعن . وحين جاء الخليفة المهدي لزيارة المدينة سنة160 هـ سأله أن يعزله عن القضاء وقال له : والله لو عرفت أن بلد الروم تجيرني ولا تمنعني من الصلاة لاستجرت بهم . فعزله المهدي ، وأراد إعطاءه مرتبه المتأخر وكان يرفض أخذه من قبل ، فتنازل عنه أمام الخليفة.
• والذين أكرهتهم الخلافة العباسية علي تولي القضاء تعرضوا لسخط الزهاد ، وكان من أولئك القاضي شريك النخعي ، وقد رآه أبو هاشم الزاهد يخرج من دار يحيي البرمكي فبكي وقال : أعوذ بالله من علم لا ينفع . أي كان شريك النخعي عند أبي هاشم الزاهد قد ضل سواء السبيل لأنه رضي التعاون مع العباسيين .
• وبمقاطعة الدولة العباسية (الظاهرة) يحصل الزاهد علي جواز المرور إلي الدولة (الوهمية) التي ابتدعها خيال الزهاد من أقاصيص لا تتورع عن الكذب . وقد حرصوا علي أن يكونوا وحدهم فيها ذوي شأن وادعوا أنهم كانوا أصحاب نفوذ فعليين ثم رفضوا الجاه والسلطان وفضلوا عليه الزهد ، وهي الأسطورة الشائعة عن بوذا نراها تتكرر في مصادر التاريخ في ترجمة إبراهيم بن أدهم(ت160هـ) فيقول فيه ابن الجوزي إنه كان من أولاد السلاطين ولا يعطينا اسم والده السلطان المزعوم ، مع أن اسمه ( إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر العجلي) وليس لذلك صلة بالحكام المعروفين وقتها ، ويحكي عنه نفس القصة المشهورة عن بوذا وهي إنه خرج إلي الصيد مع الغلمان والخدم والفرسان فسمع هاتفا يدعوه للإيمان فخرج عن موكبه وتزهد وأصبح سلطانا في مملكة الزهد الخيالية .
• وحكي إبراهيم بن أدهم نفس الأسطورة عن رفيقه في الزهد حميد بن جابر الشامي ( ت151هـ) يحكي إبراهيم بن يسار إنه كان يسير مع إبراهيم بن أدهم في الصحراء فمر علي قبر فوقف عليه إبراهيم وبكي وقال : هذا قبر حميد بن جابر صاحب هذه المدائن كلها، كان غارقا في بحر الدنيا وأخرجه الله منها واستنقذه ، وحكي أنه خرج عن سلطانه حين جاءه هاتف يدعوه للخروج من ذلك الذي سيفني إلي ما يدوم ، فخرج عن سلطانه واعتزل في الجبل حتي مات ..!!
• ويحكي ابن أدهم نفس الحكاية عن صاحبه شقيق البلخي(ت153هـ) إنه كان ذا ثروة عظيمة فخرج عنها وتزهد ،ويصف هذه الثروة بأنها كانت ثلاثمائة قرية وقد تصدق بها جميعا مكتفيا بالزهد. وكأن أولئك الزهاد ـ فى أكاذيبهم وخيالاتهم ـ يقولون للدولة العباسية إننا لا نقل عنكم جاها ولكن تركنا ذلك لأنه جاه مؤقت وفضلنا عليه النعيم الأبدي الذي يستمر في الدنيا والآخرة.
• ولأن تلك الأقاصيص تعبر عن آمال المحبطين و المقهورين فقد شاعت وتناقلها القصاصون و صدقها الناس خصوصا العوام لأنها تعبر عن الطموحات المصادرة والآمال المحطمة والرغبة في تعويض النقص ، وتلك مشاعر اشترك فيها الزهاد مع عوام الشعب المقهورين أبدا .
• وإذا كانت الدوائر العباسية تتيه علي الناس بما تكتنزه من أموال فإن أولئك الزهاد في مملكتهم الوهمية كانوا يحتقرون الأموال ويحكون في ذلك أقاصيص تلهب خيال العوام وتفتح شهيتهم للاستماع.
يروي إبراهيم بن أدهم عن نفسه أن غلاما جاء من أهل أصحاب السلطان يركب فرسا ومعه بغلة وعشرة آلاف درهم بعث بها أخوته إليه ، فأمره بالرجوع وأنعم عليه بالحرية وأعطاه الأموال وأمره ألا يخبر أحدا بذلك ، ومع أنه لم يخبر أحدا إلا أن القصة شاعت ووصلتنا يحكيها ابن الجوزي مصدقا لها ، ولو حدثت تلك الرواية لكان ذلك الغلام مستحقا لجائزة نوبل في الأمانة ، ولكان لنا أن نعاتب إبراهيم بن أدهم أن حرم رفاقه الجائعين من تلك الأموال .. ولكنها التعبير النفسي الصادق عن الحرمان . والحرمان أبرز النوازع النفسية في الزهد .
• وبعضهم لجأ إلي ادعاء الكرامات يعبر بها عن رفضه الأموال التي يستطيع أن يحصل عليها بأيسر طريق إلا أنه يرفضها ، ونري ذلك في ترجمة أبي زرعة التجيبي أحد زعماء الزهاد البكائين ، يقول أحد أتباعه وهو خالد بن الفرز إنه كان يعاني من شظف العيش فقال له يرحمك الله لو دعوت الله يوسع عليك في معيشتك ، فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا فأخذ حصاة من الأرض وقال : اللهم اجعلها ذهبا ، فأصبحت ذهبا ، ورمي بها إلي صاحبه مستنكفا منها وأمره أن ينفق منها!
وتتكرر نفس الأسطورة في ترجمة عبد العزيز الراسبي (ت150هـ) الذي دعا لصاحبه ( دهثم) أن يعطيه الله المال ليستعين به علي عياله ، وسرعان ما استجاب الله دعاءه فتناثر الذهب عليهما ، وتركه الراسبي معرضا عنه ومضي ، ولم يلتفت إليه !!
• وتلك الروايات كانت تحمل انتقادا ضمنيا للدوائر المؤثرة والمحيطين بها الذين يتكالبون علي الأموال ، خصوصا الخليفة أبا جعفر المنصور الذي كان مشهورا بحب المال واكتنازه فتأتي تلك الروايات تؤكد أن الزهاد يترفعون عن ذلك المال الذي يتنازع عليه أبناء الدنيا .
علي أن بعض الروايات التي اخترعها الزهاد وذكرتها مصادر التاريخ كانت تنتقد الخليفة المنصور خصوصا عندما بني مدينة بغداد وجعلها أعظم مدينة وبني فيها قصره المعروف باسم قصر الخلد ، وقد ندد به الزهاد شعرا فقال أبو هاشم :
بنو وقالوا لا نموت
وللخراب بني الُمبِنّي
ما عاقل فيما رأيت
إلي الحياة بمطمئن
وحين خربت بعض منشآت العباسيين فيما بعد كتبوا علي جدارها:
هذي منازل أقوام عهدتم
في رغد عيش رغيب ماله خطر
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا
إلي القبور فلا عين ولا أثر
الزهاد في رواياتهم
• ولعب الزهاد بمهارة في قضية الموت والآخرة إذ جعلوا أنفسهم أهل الآخرة في مقابل العباسيين ودولتهم الدنيوية ، وبذلك ضمنوا لأنفسهم التفوق الذي يحتاجون إليه لعلاج عقدة النقص المتحكمة فيهم .
وتكفلت الكرامات التي أسندوها لأنفسهم في تأكيد ذلك المعني ، فعلي سبيل المثال قالوا إن رواد العجلي ــ أحد البكائين ــ حين حملوه إلي قبره وجدوا لحده مفروشا بالريحان ، وأخذ القوم من بعض ذلك الريحان فمكث سبعين يوما طريا لا يتغير فافتتن به الناس ، فاضطر الأمير إلي أخذ ذلك الريحان . وانتهت الأسطورة بضياع الريحان من منزل الأمير ، ولم تذكر مصادر التاريخ اسم ذلك الأمير ولا اسم المدينة التي حدثت فيها الواقعة ، وإن ذكرت سنة الوفاة التي مات فيها أبو رواد العجلي وهي (165هـ) ، والواضح أنها إشاعة قيلت بعد وفاته وصدقها الناس وسجلها المؤرخون علي أنها حقيقة تاريخية .
وبالغت روايات أخري في حكاية موت علي بن صالح والفضل بن عطية وقد توفيا سنة 154هـ
ولم يتحرج الزهاد من حكاية منامات أقدموا فيها علي تزكية أنفسهم وأشياخهم ، وبعضها كانوا يمدحون فيها من مات منهم ، إذ يدعي بعضهم أنه رأي المتوفى بعد موته وهو يصف كيف أصبح منعما في الآخرة ، يقول سليمان العمري رأيت أبا جعفر القاريء في المنام بعد موته فقال لي : اقريء أخواني مني السلام وأخبرهم أن الله تعالي جعلني من الشهداء الأحياء المرزوقين ، واقريء أبا حازم مني السلام وقل له : يقول لك : إن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات ..!!
• وبعضهم رأي أبا المعتمر التيمي (143هـ) بعد موته في المنام فسأله : ما فعل الله بك فقال : غفر لي وأدناني وقربني وعلمني.
البكّـــــــاءون
• علي أن أقاصيص الكرامات وأساطير المنامات لم تفلح كلها في علاج عقد النقص والحرمان عند الزهاد ، إذ ظلوا منفصلين عن الواقع الدنيوي ، وكان ذلك الواقع يؤرقهم بحاجاته الملحة للطعام والكساء ومتطلبات المعيشة ، ويضاف إلي ذلك واقع القهر وجبروت التسلط للحكام الذي لا تفلح روايات الكرامات والمنامات في التخفيف منه ، ومن هنا نفهم ضرورة البكاء إذ كان المتنفس الوحيد لعلاج ذلك الانفصام بين الواقع المرير والأحلام الوردية .
• وهكذا كان وصف البكائين من مستلزمات الزهاد في عصر أبي جعفر المنصور . وكان أشهر من وصف بالبكائين ابن أبجر (ت 150هـ) يقول عنه ابن الجوزي " وكان من البكائين" ليؤكد أن طائفة البكائين كانت فرقة معروفة في عصر أبي جعفر المنصور .
• وبعضهم كان يواصل البكاء علي سبب تافه مثل كهمس بن الحسن (ت 149هـ) القائل " أذنبت ذنبا فأنا ابكي عليه أربعين سنة ، زارني أخ لي فاشتريت له سمكا بدانق ، فلما أكل قمت إلي حائط جار لي فأخذت منه قطعة طين فغسل بها يده ، فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة ". والبكاء المتصل لأربعين عاما لسبب تافه كهذا يعتبر علاجا نفسيا للتكيف مع واقع يستعصي علي الحل .
• وبعضهم كان يبكي الليل بطوله مثل هشام بن حسان (ت147هـ) حتي آثار دهشة جارته فتقول عنه : أي ذنب عمل هذا ليظل ليله باكيا ..؟!!
• وبعضهم ظل يبكي حتي ذهب بصره مثل الحسن بن يزيد( ت 149هـ) الذي بكي حتي عمي وصام حتى صار كالعود الناشف ، ومثل هشام بن أبي عبد الله (ت153هـ) الذي أظلم بصره من طول البكاء يقول المؤرخون " فكنت تراه يبصر إليك ولا يعرفك حتي تكلمه " وظلت عبيدة بنت أبي كلاب ( ت163هـ) تبكي أربعين سنة حتي ذهب بصرها ..!!
• ولأنهم اتخذوا البكاء ملجأ وملاذا فقد كانوا يقيمون له حفلات جماعية يبكون فيها جماعات ، يحكي أشعث الحداني (ت 151هـ) إنهم ذهبوا إلي حبيب أبى محمد يسلمون عليه في الصباح فأقاموا حفل بكاء فما زالوا يبكون حتى صلاة الظهر ، ثم صلوا الظهر وعادوا للبكاء حتي حضرت صلاة العصر ، وبعد صلاة العصر عادوا للبكاء حتي المغرب ثم بعد صلاة المغرب رجع كل منهم إلي داره بعد أن تواصوا علي الاستمرار في البكاء .. وكان بعضهم يتخذ من داره موطنا للبكاء تشارك معه فيه أسرته ليل نهار ، وهكذا كان يفعل الحسن بن صالح الذي مات بعد عهد المنصور في سنة 169 هـ وكانت تشاركه أمه وأخوه ، وكذلك كان يفعل ضيغم بن مالك(ت 146هـ) وكانت تشاركه أمه ومعها أهل بيته
• والبكاء من خشية الله تعالي من علامات التقوى والإيمان بشرط أن يكون ذلك بعيدا عن الرياء ، إلا أن أصحابنا كان يرتبط لديهم البكاء بالرياء ، وكانت الشهرة بين الناس هي مطلبهم الأسمى حيث وضعوا أنفسهم في مقابل أهل الدنيا . ومن هناك كان أحدهم لا يتحرج من إعلان البكاء وإشاعات المنامات والكرامات .
• وبعضهم اتخذ طريقه للشهرة أن يعلن أنه لن يضحك أبدا ليظل وفيا لبكائه ، مثل وهيب بن الورد الذي حلف ألا يراه الله أو الناس ضاحكا أبدا، وكانوا يأتونه بالوسادة فيظل يبكي عليها حتي تبتل من دموعه ، وكان لا يأكل الفاكهة أبدا ويكشف عن بطنه فيرون فيها أثر الخضرة لأنه يكتفي بالبقول ، ويقول يخاطب نفسه " يا وهيب ما أري بك بأسا ، ما أري الفواكه ضرتك شيئا". وقد توفي سنة 153 هـ .
ورواد العجلي (ت 165هـ) عاهد الله تعالي ألا يضحك حتي يري الله ، وكان يقضي ليله يصرخ فيأتي الناس يسألون أخته عن أقواله ودعائه حين يصرخ بالليل ، وقد أصابه الإجهاد من طول البكاء حتي مات .
• وكانت لرباح القيسي(ت 146هـ) طريقة خاصة في إظهار بكائه ، كان يأخذ بعض رفاقه ـ حتي يروي عنه ما يفعل وما يقول ـ ويقول له : هلم يا فلان حتي نبكي علي قصر الساعات ثم يذهب به إلي المقابر ، فيصرخ ويغشي عليه ويصحو ويبكي حاله وهكذا.
• أما أبو عتبة الخواص (ت 162هـ) فكان أحد مشاهير البكائين الزهاد ، وكان يأخذ بلحيته ويبكي يخاطب ربه قائلا " قد كبرت فاعتقني " . وكان يسير في الشارع وقد وضع علي صرته خرقه وعلي رقبته خرقه ويهتف باكيا: واشوقاه إلي من يراني ولا أراه ..!!
• وعاش عتبة الغلام إلي أن أدرك خلافة المهدي ومات 167 هـ ، وكان يترصد مجلس الواعظ عبد الواحد بن زيد حين يجتمع الناس فينطلق في البكاء حتي يشوش علي الناس فلا يفهمون كلام عبد الواحد ، وكان لعتبة بيت يتعبد به ويبكي فلما خرج إلي الشام اقفله وقال لأصحابه : لا تفتحوه إلي أن يبلغكم موتي ، ولما بلغهم موته فتحوه فوجدوا فيه قبرا محفورا وغلا من حديد كان يعذب نفسه بهما.
• وكان زمعة بن صالح (160هـ) ضيفا في بيت ابن راشد الشيبانى ، فقام الليل يصلي ويبكي حتي أيقظ أهل الدار ، وعندما اقترب الفجر أخذ يهتف في الناس يدعوهم لقيام الليل وظل كذلك إلي الفجر . وبذلك ضمن أن يروي الجميع قصته ، وسجل اسمه في صفحات التاريخ .
• وعاش سعيد بن السائب إلى أن أدرك خلافة الرشيد ومات 171هـ وقد وصفوه بأنه لا تجف له دمعة ودموعه جارية أبدا ، إن صلي بكي وإن جلس بكي وإن عاتبه أحد بكي ، وكان يحلو له البكاء في حضور الناس خصوصا في مجلس سفيان الثوري كبير الزهاد الذي قال فيه : وحق له أن يبكي..!!
آثار باقية
• وخلال بحور الدموع أبحر أولئك الناس إلي صفحات كتب التاريخ ولولا البكاء ما ذكرتهم كتب التراث إلي جانب الخلفاء والوزراء والمشاهير .
• ولم يكن ذلك الأثر الوحيد لحركة الزهد في عصر أبي جعفر المنصور . فقد أفسحت كتب التاريخ للقصص التي اخترعها الزهاد لتروج لمذهبهم وتعلي من شأن شيوخهم ، بل إن تأريخهم لشيوخهم امتد ليؤثر علي التاريخ للخلفاء فأضافوا روايات يحسبها القاريء العادي أنها قد حدثت فعلا، ولكن المؤرخ المدقق يري فيها آثار التصنع وأصابع الزهاد ، والأمثلة علي ذلك كثيرة منها تلك الروايات التي ادعوا أن المنصور العباسي رآها قبل موته ، وتقول أخري إن المنصور دخل قصرا فرأي شعرا مكتوبا علي الحائط يقول:
ومالي لا أبكي واندب ناقتي
إذا صدر الرعيان نحو المناهل
وكنت إذا ما اشتد شوقي رحلتها
فسارت لمحزون طويل البلابل
وفي رواية أخري: إن الشعر يقول:
ومالي لا أبكي بعين حزينة
وقد قربت للظاعنين حمول
وتحت الشعر : آه .. آه.. أي تأوه الشاعر وأنينه.
ومنها القصص التي تزعم أن بعض الزهاد استطال علي أبي جعفر المنصور في الوعظ ، وكان المنصور يبكي ويسترجع .. وكأنهم أرادوا الانتقام من سطوة المنصور فعاقبوه في تلك الروايات.
• علي أن اخطر ما أفرزته حركة الزهد هو تشويه سيرة بعض العلماء الذين قبلوا التعامل مع الدولة العباسية وتولوا القضاء ، أبرز مثل لأولئك هو القاضي شريك النخعي الذي أجبروه علي تولي القضاء فحكم بالعدل وأنقذ من براثن الظلم العباسي كثيرا من المظلومين ، وظل محتفظا بولائه لأفكاره إلي أن اضطرت الدولة لعزله ، وقد شوهت روايات الزهاد تاريخ القاضى شريك بينما أعلت من شهرة عبد الله بن المبارك ، فجعلوه أبرز علماء عصره ، ولم يكن ابن المبارك متمسكا بتلك النوعية من الزهد إذ كان يتاجر ويربح ويعيش في بحبوحة من العيش ، ولأنه كان كريما مع الزهاد ينفق عليهم أمواله فأنهم أجمعوا علي فضله واعترف كبيرهم سفيان الثوري له بأنه عالم المشرق والمغرب .. ولذلك تري المبالغة في مدح ابن المبارك وتشويه سيرة أستاذه شريك النخعي .. والسبب في ذلك الميل والهوى .
وما لبثت حركة الزهد والبكاء أن توارت لتفسح الطريق في العصر العباسي الثاني لحركة أخري اشد خطرا هي حركة التصوف ، تلك الحركة التي ورثت عقائد التشيع والزهد الفلسفي ونظريات الحلول والاتحاد ووحدة الوجود .. وما لبثت أن انتشرت وامتدت وسيطرت علي حياة الناس وأفكارهم قرونا من الزمان.
وتبقى لنا العبرة.
فالظلم لا بد له من أثر معاكس. والمثقف المظلوم ـ قليل العقل ـ إن عجز عن أقامة العدل فى الدنيا آثر أن يعتزل ليقيم له دنيا أخرى مليئة يالأوهام والأكاذيب لا تلبث أن تتحول الى دين أرضى ..أى يخسر دينه بعد أن خسر دنياه.
وفى موضوع البكائين هذا لا نريد للقارىء ان يخرج منه باكيا ، لذلك نختمه بسؤال : ماذا إذا وقع احد أولئك البكائين فى حبائل إمرأة لعوب ؟
الاجابة على هذا السؤال فى تلك الواقعة الظريفة التى رواها ابن الجوزى فى ( المنتظم ) وهو مرجعنا التاريخى الأصلى فى هذا المقال.
فى تأريخه للزاهد البكّاء عطاء بن يسار وأخيه سليمان يحكى ابن الجوزى فيقول:
(خرج عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار حاجين إلى المدينة ، ومعهما أصحاب لهما ، حتى إذاكانوا بالأبواء نزلوا منزلًا ، فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم ، وبقي عطاء قائمًا في المنزل يصلي. فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة، فلما رآها عطاء ظن أن لها حاجة فأوجز في صلاته ، ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم. قال: ما هي قالت: قم فأصب مني فإني قد ودقت ( أى اشتقت لممارسة الجنس ) ولا بعل لي. قال: إليك عني ! لا تحرقيني ونفسك بالنار.
ونظر إلى امرأة جميلة فجعلت تراوده عن نفسه ويأبى .. فجعل عطاء يبكي ويقول: ويحك إليك عني.. واشتد بكاؤه فلما نظرت المرأة إليه وما دخله من البكاء والجزع بكت المرأة لبكائه. .. فجعل يبكي والمرأة تبكي بين يديه . فبينا هو كذلك إذ جاء سليمان من حاجته فلما نظر إلى عطاء يبكي والمرأة بين يديه تبكي جلس في ناحية البيت يبكي لبكائها ولا يدري ما أبكاهما ، وجعل أصحابهما يأتون رجلًا رجلًا كلما أتى رجل فرآهم يبكون جلس فبكى لبكائهم لا يسألهم عن أمرهم ، حتى كثر البكاء وعلا الصوت، فلما رأت المرأة الإعرابية ذلك قامت فخرجت. .. )
أما كيف خرجت ؟ أخرجت تائبة ؟ أم ساخطة ؟ أم خرجت تلعن حظها التعس الذى أوقعها فى هؤلاء القوم ؟
لا ندرى...
الاشارات عن البكائين تجدها فى تاريخ المنتظم لابن الجوزى :
ج 7 صفحات : 85ـ ، 90 ، 136 ـ ، 155 ، 188 ، 197 ، 204 ـ ، 218 ، 219 ، 227 ، 268 ، 279 ، 291 ، 319 ، 323 ، 327 .
ج 8 . صفحات :98 ، 77 ، 172 ،173 ، 97 ، 109 ، 117 ، 119 ، 125 ، 150 ، 186 ، 200 ، 268 ، 259 ، 280 ، 338 .
اجمالي القراءات
6638
السلام عليكم.
لئن غلبت عيني و كففتها عن البكاء لبكاء البكائين إلا أن قلبي بكى عليهم بكاء أليما لقد بكى قلبي دما و لوعة لأناس باعوا دينهم بدنياهم. لقد آثروا الجهل و استحبوا العمى على الهدى من أجل الشهرة فهؤلاء الزهاد و البكائين أثبتوا أن أي جهل وقع فيه المسلمون سببه بالأساس هجر القرآن الكريم لما سواه من أكاذيب و غباء البشر فما ضر البكائين لو قرؤوا قوله تعالى ( ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ - الحديد-27 ) لو قرؤوا هذه الآية الكريمة لفقهوا أن غاية الله من عباده التمتع بالحلال الطيب و عدم تحريم ما أحل الله و أن الإنسان دائما ظالم لنفسه.و أظن كذلك أن حركة الزهاد و البكائين ما هي إلا تصور فلسفي بحت بإسم الدين حول نظرية المدينة الفاضلة حيث ينعم المثقف بما حرم منه في مجتمعه. شكرا دكتور أحمد على هذا الإجتهاد الرائع.