عودة البصر لنبي الله يعقوب:
تغريبة بني إسرائيل 7 - الإرتحال

محمد خليفة Ýí 2016-02-19


المرحلة الثالثة للإرتحال : كشف يوسف عن شخصيته واستدعاء أهله أجمعين(الآيات من 94 إلى 98)

 

الآية 94

" وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ  لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ "

 

ولما .. أي مرت فترة ليست بالقصيرة إلي أن جاءت وقائع أحداث الآية التي نحن بصددها وفصلت العير أي حينما خرجت القافلة خارج العمران أي أنه ليس من حوائل من بنيان أو مدن أوجبال بحيث لا تمتنع أي موجات أو هبة رياح أو غيرها عن قطع المسافات فليس ثمة موانع تعرقل الإنسياب وقد يجيء هذا الفصل عن طريق القوافل العام فحينما لاحت ديارهم انفصلت العير التي تخصهم عن القوافل السائرة في الطريق العام وهذا هو الأقرب للمنطق.

 

لأن الإحتمال الأول يكون ضرباً من ضروب الإعجاز والذي قد يكون إمتداداً لإعجازقميص الشفاء فيما يخص النبيان الكريمان يوسف ويعقوب

أما الإحتمال الثاني فلا مانع عقلي من وقوعه لقرب المسافة وإن كان أيضا فيه لمسة من الخصوصية وإن كان المحتمل أن يكون ذلك لشدة تعلق يعقوب بيوسف فقد إستدعي من الذاكرة (ذاكرة الروائح) رائحة يوسف[1]

لذلك قال   " .. إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ .. "

ثم وفي تراجع ملحوظ          أردف   " .. لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ .. "

 

لازال الرجل يذكر يوسف بل يذكر رائحته بل إن هذا يعني أنه يوقن أن يوسف بين الأحياء بعد طول الأمد، وطول البعاد.

ولولا أن المحيطين به سوف يتقولوا عليه ويتهموه بالخرف والهذيان وبتخيل أشياء لا وجود لها لكنه غير مبصرإذن تكون لحاستي الشم والسمع القدح المعلا، فما باله يتخيل أنه يشم رائحة وصفها بأنها ريح يوسف إن هذا لهو الهذيان بعينه.

 

الآية 95

" قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيم "

 

كان هذا هو رد المحيطين بيعقوب وقت أن إدعى أنه يشم ريح يوسف، هؤلاء المحيطين لم يكونوا إخوة يوسف فإخوة يوسف في القافلة العائدة من مصر والتي لم تصل وحتي وقت هذ الموقف إلي الديار بعد.

 

لذا كان المحيطين به هم مجموعة من الأحفاد وأيضا عجائز النساء ونساء إخوة يوسف وكانوا أن تسامعوا بقصة فقد يوسف وضياعه وكان الجميع علي يقين من هلاك يوسف وعدم وجوده مطلقاً بين الأحياء ولم يجرؤ إخوة يوسف الذين قاموا بجريمة إلقاءه في الجب، لم يجرؤ أحد منهم في مجرد إخبار ذاته بأنه كذب في إدعاؤه بمقتله وأكل الذئب له، بل صار الإدعاء الكاذب حقيقة مؤكدة آمن بها الجميع إلا يعقوب فهو يعلم من الله ما لا يعلمون، وإخوة يوسف الذين قاموا بالفعلة.

 

وكان ذلك يعنى أن المحيطين بيعقوب كلهم في هذا الوقت كانوا يؤمنون بعدم وجود يوسف فما بالك برائحته.

لذا كان تعليقهم الفوري  "تَاللَّهِ "  قسم مؤكد بالله أنك يا يعقوب بما قلته أنفاً  ،إنك قد عاودتك ذكريات الماضي الأليمة ، وإنك لازلت تعيش فيها وتتوهم وجود أشياء هي بالقطع ليست موجودة والضلال هنا هو شدة الإنشغال بالمحبوب وكثرة السؤال عنه والبحث المتلاحق.

 

الآية 96

" فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا  قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ "[2]

 

بدأت الآية بحرف الفاء مما يعني التعجيل وسرعة التنفيذ، ويقال أن الذي قام بحمل قميص يوسف هو الأخ الأكبر، الذي إقترح إلقاءه في الجب بدلاً من قتله، بحثاً عن مخرج سالم له، وتحسباً لنجاته، وهو أيضاً الذي تخلف عن ركب العودة في العام الثاني، حين تم القبض علي أخيه الأصغر في مكيدة يوسف بإبقاء أخيه إلي جواره، ثم كان هذا الموقف الذي أصر هذا الأخ الأكبر أن يكون هو بذاته وكما حمل قميص البلاء ذو الدم الكذب إلي الأب وبداية أحزان الأب أن يكون هو بذاته هو من يحمل قميص الشفاء حتي تذهب حسنات هذه الفعلة بسيئات الفعلة السابقة، وهو بذلك يود أن يكون البشير الذي سوف يقع عليه نظر يعقوب ساعة أن يعود إبصاره إليه.

وتردد حرف الفاء في مرحلة الوصول يعني أنه بمجرد وصولهم إلي ديارهم توجه هذا الأخ البشير فألقي القميص علي وجه الأب الذي إرتد إليه بصره لحظة أن وقع القميص فوق رأسه لأن الفعل    " فَارْتَدَّ " بما يعني فوراً.

وكان تعليق الأب الذي شابه الحمد والشكر والإمتنان العظيم لله المنان الأعظم حيث قال في هدوء الواثق  " .. قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون .. "

 

ووضع السؤال في هذه الصيغة إنما كان يعني أن يعقوب كان يعلم علماً يقينياً بكل هذا الذي حدث، أو علي الأقل كان يدري الخطوط العريضة أو النتائج النهائية، كل هذا كان تعليماً من لدن الله وكما جاء في أول السورة الآية 5 & 6 حيث سمع رؤيا يوسف وعرف تأويلها بما أعطاه له الله من علم تأويل الأحاديث وكان يعرف أن نجم يوسف سوف يصعد ويعلو وسوف يسود قومه.

 

وكان هذا أيضاً نهاية الحزن الذى هو فوق الأحزان، والذى ألمح إليه يعقوب حين بدأت المراودة فى إصطحاب يوسف فى أول الأحداث حيث قال

" قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ "

ذلك أن ذكر الحزن هنا ليس له اّية بوادر فما هو الداعى للتلميح إليه فما هو المحزن فى ذهاب يوسف مع إخوته ليلعب ويرتع...إلا أن تكون سبق علم من يعقوب ببداية تنفيذ أمر الله فى هذا الأمر[3]

 

ملحوظة مرجعية :

حاول بعض أطباء العيون في العصر الحديث ترسم هذا الأسلوب في الوصول إلي علاج لمرضي فقد الإبصار بعد إبصارهم.

ويصنف هذا النوع من الأمراض وهو بياض إنسان العين، بأنه بسبب تجمع سوائل تؤدي إلي عتامة العدسة التي تجمع حزمة الضوء المنبعثة من الصور وتقوم بتركيزها وتحويلها إلي صورة مقلوبة علي الشبكية، والتي هي عبارة عن حلمات عصبية تتأثر بالضوء لتحوله إلي نبضات كهربائية تسري في العصب البصري إلي مركزالإبصار في المخ ليقوم بتصنيفها وترجمتها ومقارنتها بالذاكرة البصرية والتي يتم بناء عليها تصرف الإنسان.

والمياه البيضاء تمنع العدسة من تأدية وظيفتها لذا تصور هذا الطبيب العالم أن رائحة القميص ناتجة عن العرق فقام بإحضار كميات من العرق البشري، وقام بتجفيفها وحصل منها علي مجموعة من أملاح صار يجربها واحد تلو الأخر فوجد أن بعضها يقوم بتخفيض المياه البيضاء وإعادة العدسة إلي سابق صفاءها ومن ثم إعادة الإبصار إلي العين المصابة.

وهذا يعني أن هناك ثمة علاقة بين الأملاح الموجودة في العرق البشري وبين علاج حالة عتامة عدسة العين (التراكوما) أو المياه البيضاء.

لكن هذا لا يعني أن هذا هو ما حدث في حالة يوسف ويعقوب لأنه وكما أشرنا في تفسير الآية أنه إعجاز خص به النبيان الكريمان ذلك كان العلاج بالطريقة سالفة الذكر -  أملاح العرق -  تستغرق زمناُ ليس بالقصير يمتد الى أيام متعاقبة قد تصل إلى أن تكون آسابيع ، أو عدة شهور .

 

 لكن الذى حدث هنا هو إرتداد البصرإلى نبى الله يعقوب بمجرد إلقاء القميص على رأسه  فإذا كانت البشري كما يتراءي لنا هي السبب المباشر في إرتداد بصر يعقوب إليه فما حكمة إلقاء القميص؟

ويجب أن نتوخى الدقة عند محاولة تأويل هذا النص ، فقول الحق على لسان يوسف        ".. فَأَلْقُوهُ.. "  كان يمكن أن تكون ( ضعوه على وجه أبي ) أو تكون ( أحكموا غطاء رأس أبي بهذا القميص ) ، لكنها جاءت " .. فَأَلْقُوهُ.. " ، ذلك لأن الإلقاء يتطلب بعضا من قوة الرمي، بما يشكل صدمة خفيفة، وبما يعني إمكانية إلتحام مجموعة من الشعيرات العصبية والتي قد تكون هي ماإنفصل في نوبة الحزن الشديدة التي إنتابت نبي الله يعقوب، في تداعي لذكريات فقد يوسف، لذا فقد يكون هذا الإرتطام الهادئ الخفيف هو بذاته البادئ في تنفيذ أمر الله بعودة الإيصار إلى أعين نبي الله يعقوب.

  

والواضح أيضا، أن النص أردف " عَلَىٰ وَجْهِهِ " ولم يأت " على رأس أبي " وحكمة ذلك  أنه حين إرتداد البصر يدخل كمية كبيرة نسبياً من الضوء إلي العين مما قد يسبب إجهاداً ضوئياً مفاجئاً علي شبكية العين أو علي العصب البصري الذي ينقل الإشارة الكهربية المحولة من الشبكية إلي مركز الإبصار في المخ وكان إلقاء القميص على الوجه بمثابة تخفيفاً لهذه الضياء المفاجئة حفاظاً علي العين من الصدمة الضوئية.

 

الآية 97

" قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ "

 

إقرار آخر بالخطأ من إخوة يوسف وشعور هائل بالخجل والصغار أمام هذا الزخم من عطاءات الخير وفيوضات الله

لقد سامحهم يوسف فيما يخصه في  الآية 92       " ..  يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْۖ.."

وبقي أن يسامحهم الأب وأن يدعوا لهم بالمغفرة

فطلبوا منه بإسترقاق واضح قالوا                " يَا أَبَانَا "

ثم بطلب صريح                                    " اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا "

ثم إقرار بالذنب                                     " إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ "

 

جاءت بالجمع، أي أن مجموعهم قام بالخطأ، وأن الأخطاء لم تكن خطأ واحداً بل كان عدة أخطاء

أي أنهم مجتمعون قاموا بعدة أخطاء متآزرين وهم علموا أنهم كانوا مخطئين في تصورهم وكذلك مخطئين في إقتراف هذه الأخطاء.


الآية 98

" قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي  إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم ُ"

 

قال أي أنه تريث في الرد، وأجابهم ، ليس علي وجه التعجيل بأنه سوف يستغفر لهم ربه لكن ذلك ليس آنياً، وليس في التو، ولم تصفو نفسه بعد لهم، وذلك حتي تكون دعوته خالصة، وأيضاٌ قد تعني أنه أجل هذه الدعوة إلي وقت السحر وإلي صلاة الليل حتي يكون في حالة صفاء وقرب من الله، هنا يستطيع أن يطلب لهم المغفرة، والتي يرجو إن طلبها، أن يعفو الله عنهم ويرحمهم وإن لم يغفر ويرحم فمن ذا الذي يفعل.

 

وبعد هذا التقديم، مما ذكر في الآيات البينات، يتردد سؤال هو أقرب إلى التساؤل..!!

ألا وهو متى - على التحديد -  بدأت رحلة التغريبة..؟

أهي بدأت فورا بعد إرتداد البصر إلى نبي الله يعقوب..؟

أم بدأت بعد قليل وقت  أو كثيره ..؟

أو هم إنتظروا إلى تاريخ المراجعة السنوية، والتي فيها يقترب رصيدهم من الحبوب من النفاد..؟

  

فالرأى عندى أنهم تحركوا على الفور، ليس فقط رواء لظمأ شوق اللقاء،  ولكن للتنعم فى ظل النعيم الذى صار فيه يوسف،  والإحتماء بمظلة السلطة التى اّلت إليه .

وهذه ترجع الى خصيصة مهمة من خصائص بنى إسرائيل وهى تعظيم الفائدة من الفرصة المتاحة والتمرغ فى نعيمها، والركون إلى جانب السلطة والتضلع بنشوتها، وحمايتها.

 

 

المرحلة الرابعة للإرتحال : الوصول إل مصر الآية  ( 99 )

الآية 99

" فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ"

 

الإيقاع الزمني غير محدد المدة هذه المرة بين زمن الآية السابقة وزمن الآية الحالية، بمعني أنه حين عاد ليعقوب القدرة علي الإبصار وعلم بُشري وجود يوسف حياً وعرف أنه صار عزيزاً في مكانه كبيراً علي من هم يعملون معه، وعلم أيضاً بطلب يوسف بقدومهم أجمعين، فهل تحركوا فوراً أم تحركوا بعد فترة فمن المؤكد أن يوسف أعطاهم الميرة والغذاء الذي طلبوه مقابل البضاعة المزجاه دون مقابل منهم، بعد أن كشف لهم عن شخصيته.

والسؤال هل إنتظروا للعام القادم حيث موعد توزيع الميرة وأوان حضور القوافل حتي لا يثير حضورهم هكذا مجتمعين نظرات التساؤل في عيون المشاهدين من المصريين والغرباء أم تحركوا على الفور ورجعوا بظهورهم ؟

أغلب الظن أن لهفة يعقوب على لقاء يوسف كانت كبيره لا يعادلها سوى لهفة يوسف إلى لقاء أبيه ولاننسى الأخ الأصغر، الذى هو عند يوسف لعامين على الأقل فالرأى عندى أنهم تحركوا على الفور ليس فقط رواء لظمأ شوق اللقاء ولكن للتنعم فى ظل النعيم الذى صار فيه يوسف والإحتماء بمظلة السلطة التى اّلت إلى يوسف وهذه تضاف الى خصيصة مهمة من خصائص بنى إسرائيل وهى تعظيم الفائدة من الفرصة المتاحة والتمرغ فى نعيمها والركون إلى جانب السلطة.

 

كان هذا عن المدة الزمنية بين الآيتين، لكنها ها هنا بدأت الآية بحرف الفاء يعنى التعجيل بالفعل أى أنه بمجرد دخولهم على يوسف، فإنه قام على الفور بإحتضان أبويه وحاول أن تحوى هذه الضمة شوق السنين وتحاول أن تنهل من بحر الحنان المتدفق كسيل عارم وأبويه هنا تعنى الأب والأم، وإن كان يقال أن أمه ماتت فى نفاس أخيه الأصغر، فيوسف كان يتيم الأم وكذلك أخوه بالطبع، وكان هذا مما حدا بيعقوب لمزيد من الحنان والرعاية لكليهما، مما جر عليهما حقد الإخوة وكان ما كان .

وقامت خالته شقيقة الأم وهى أيضاً كانت زوجة ليعقوب قامت هذه الخالة بتربية الأخوين فلها عليه حق التربية ويظهر أنها كانت تحسن معاملتها حتى يكون لها حق وصفها بأنها أمه أو كأنها أمه بحنانها وحدبها ورعايتها له.

 

وسوف نعود إلى  الآية 69  التى تصف دخول إخوة يوسف عليه ومعهم أخوه الأصغر كطلب يوسف، سوف نجد أن بدايتها كانت  " وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ"

 

وقلنا وقتها أن الواو فى بداية الاّية تعنى أن عملية الإيواء لم تبدأ حين دخل الإخوة وإنما جاءت بعدها فى هدأة الليل، فيوسف كان لا يستطيع أن يمارس هذه الحميمية فى الإستقبال مع أخوة لحظة أن رآه، وإلا كان قد كشف عن نفسه، وهذا لم يكن مخطط يوسف ذاك الحين.

أما هنا فشخصية يوسف معلومة للجميع، فلما علم بقدوم أبويه ومعهم أهلهم أجمعين، خرج إلي أحد إستراحاته خارج مصر ، وفي طريق القوافل القادمة من الشام وأرض الكنعانيين، لذا وبمجرد وصول القافلة، ولحظة أن دخلوا عليه في مقامه، أوي إليه وعلي الفور أبويه وإستقبلهم الإستقبال اللائق بهم.

وبعد أن إنتهت موجات الحنين والحنان، وإرتواء أظماء الشوق وهدأت حرارة اللقاء وخمدت موجات الحميمية، هتف يوسف في أهله هيا بنا لندخل مصر[4] حيث يمن الله علينا هناك بالأمان والنعيم والرخاء، ومن الطبيعي أن يكون يوسف قد أعد لهم مقاماً مناسباً يليق بما كان فيه من سلطة وأبهة وإستعدادا لإقامة دائمة لأهله جميعاً.

وهكذا وصل بني إسرائيل إلى مصر، ومصر ذلك الزمان لم تكن مصر الحالية - وادي النيل -، ولا كانت تلك التي توصف خطأ بمصر الفرعونية - ، بل كانت مقاطعة محدودة في الشمال الشرقي من أرض القبط، حيث كانت محتلة بمن أطلق عليهم الهكسوس  أو ما يعني الملوك الرعاة، أو العماليق، حيث سكنوا منطقة بين محافظة الشرقية الحالية والبحيرات المرة، وحيث كان يخترق هذه المنطقة أحد أفرع النيل وهو الفرع  المسمى (البيلوزي )، وحيث كان يمكن أن تجري أحداث هذه القصة .

 

 فمن غير المنطقي أن تكون  هذه الأحداث قد جرت في أنحاء وادي النيل، بل إقتصرت على منطقة بعينها وهي كما سبق وحددناها، وذلك حتى يتسنى ليوسف المتابعة المستمرة أثناء سنوات الخصب والإنتاج، ويتأكد من دأب المزارعين وحرصهم على المحصول، ومن ثم متابعة تخزينه على نسقيه ( قصير المدي لإعادة زراعته في العام القادم، وطويل المدي للإحتفاظ به ثم استخدامه في السنوات العجاف )، ثم إنشاء المخازن التي يمكن أن تحوي تخزين المحصول لمدة سبع سنين متتالية، مثل هذا التخطيط والتنفيذ يتطلب جهودا خرافية تفوق حد قدرات البشر، هذا إذا إقتصرنا على فرضيتنا في حصر مسرح العمليات، في المنطقة سالفة الذكر، فمن المستحيل تعميم ذلك على مساحات وادي النيل بالكلية.

وسوف نعود لمناقشة ذلك بالتفصيل عند عرض علوم التاريخ ، وعلم تقويم البلدان                      ( الجغرافيا ) ، وما إستعمال لفظة مصر هنا إلا علي سبيل التعميم ، فهم فعلا قد وصلوا إلى بوابة مصر الشرقية ، وحيث كان يمكن أن يقال وصلنا مصر ، ويحق لنبي الله يوسف أن يدعوهم لدخول مصر، هذه من ناحية...

الناحية الأخري المهمة والتي يجب أن نلتفت إليها، أن نجاح يوسف في وصوله إلى سدة الحكم، وتمتعه بواسع السلطات -  وإن كانت بقدر الله ومشيئته - إلا أنه يلاحظ أنه بعد أن إستتب له الأمر، فقد استدعى أهله على الفور، ليتنعموا بالخير القائم عليه، ولتشملهم مظلة الحماية والآمان الذي يوفره لهم وجود يوسف في السلطة .

 ويجب أن نلاحظ أن نبي الله يوسف حين إستدعى أهله، كان يستدعيهم  برا بوالديه وأهله، أي أنه كان  نابعا من الخيرية التي جبل عليها وحنانا من لدن الله ورحمة ملأت جوانحه، ووضع ذلك الإستدعاء في إعتباره وخطط له، من لحظة ما أن وقعت عيناه على إخوته أول مرة، وكان ذلك في العام الأول لسنوات الجفاف، وعرف منهم حينها أن أباه  لا يزال على قيد الحياة وأيضا علم أن شقيقه حي يرزق .

 وكان أن خطط بهدوء وروية وبتدبيرمن الله، ووفق في تنفيذ خطة جلب الأخ الأصغر، كمرحلة أولى، وخطوة تمهيدية لترحيل بني إسرائيل بكاملهم من ديارهم في بيداء كنعان، إلى حيث المؤنة والآمان في شرق دلتا مصر، فعل يوسف هذا من باب البر والخير، ولم يطف  في فكره أبدا أن حكماء بني إسرائيل سيجعلون مما قال وفعل دينا وديدنا، فقد اتخذوا من نداءه التاريخي    {  قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}

ناموسا فطريا، ونصيحة غالية واجبة الإتباع، يتوارثونها كابرا عن كابر، والولد عن الوالد، وتتلخص في ثلاثة بنود :

 

البند الأول :

الإلمام بجوانب المعرفة، وليس الإكتفاء بقشورها، بل زيادتها وتعميقها، وإذكاء روح التخصص بل والتخصص الدقيق والريادة في ذلك وتلك، فيكون لهم السبق دائما على من سواهم، على أن يتم ذلك في خطوات متتابعة مع الحرص الشديد على إتقان التنفيذ في كل مرحلة من المراحل، مرورا بمراحل التصاعد  لدرجات الإستيعاب والإبتكار

 ( فهو يتعلم إلى أن يصبح  عالم   ثم يرتقي إلى   ذو علم     ثم يرتقي إلى     عليم )

 وبذلك تكون أعلى درجات العلم الممنوحة للبشر هي أن يصير المرء عليما.

 

البند الثاني:

 العمل على ابتكار الوسائل المختلفة للحفظ  (  البيانات ، الشيئيات ) مع الحرص على توثيق هذه المعارف، وحفظها في وسائط التسجيل المتباينة, بحيث تكون أكثر أمانا، وأقل حجما ووزنا وثمنا لتسهيل التداول، مع التيقن من حفظها     وتأمينها في مخازن خاصة من غوائل السرقة والحريق والتلف [عوامل بيئية ( الهواء والرياح والأتربة والرطوبة، متلفات حيوية ( القوارض، الحشرات، الحيويات الجرثومية ) ] ، ومن قبل ذلك كله يأتي الإنسان الأمين الذي يحرص على المتابعة المستمرة الدائبة  لعمليات الإضافة والخصم والتعديل، لكي يمكن دائما الوقوف على بيانات ومستويات المخزون آنيا، وهو من نستطيع أن نصفه  بأنه مؤتمن حفيظ.

 

البند الثالث :

حسن عرض المهارات وترويجها، أو بما يعني حسن تسويقها، فبعد استعراض جانب من المهارات الفعلية والعملية، يصير التلويح بالإمكانيات الكامنة، والإقتراحات المفيدة، وبما يمكن أن يعود على الجموع، أو على المؤسسة بالخير والإنجازات المتلاحقة.

ولو دققنا النظر في كلمات الآية المذكورة سوف نجد أن نبي الله يوسف، كان قد سبق له استعراض جانبا من مهاراته في تأويل رؤيا الملك، بل إنه إقترح  خطة تفصيلية للخروج بالبلد من المصير المزعج المروع، والذي كانت سوف تؤول إليه   - إذا ما لم تأخذ الإقتراح بجدية - وهو وفي أول مقابلة له مع ملك البلاد المعجب بذكاء يوسف وفطنته، قام بعرض جديد لمهاراته وتسويقه لإمكانياته، فقد طلب من الملك - وفي غلاف الإقتراح - أن يجعله على خزائن الأرض، والمقصود هنا في تصوري شيئان لا شئ واحد

 

الشئ الأول: هو الخزائن بمعانيها الشاملة أي خزائن الأموال وخزائن الأشياء وأيضا خزائن البيانات والمعلومات، أي إدارة كل ما يمكن أن يخزن في المخازن.

 

الشئ الثاني  :وفيها إشارة إلى الأرض، حيث كانت هي مصدر الثروة والنماء، بما تغله من محاصيل زراعية، للإستخدام المباشر مثل القمح والشعير والبقل والفوم والبصل وغيرها، ومنها ما يعاد تصنيعة وعصره للإستفادة من عصيرة وزيته، أو بتجفيفه وقديده، والأرض بذلك تكون هي المصدر الوحيد ذاك الحين لتنمية الثروة.

 

وبهذين اللفظين ( خزائن الأرض )  يكون يوسف قد جمع بين مصادر إنتاج وتنمية الثروة، وبين وسائل الحفاظ عليها، ثم أضفي إلى مهاراته، أنه عليم بدقائق ووسائل إنماء الشيئين، أيضا هو أمين مؤتمن عليهما قادر بعون الله على حفظهما وتأمينهما، حتى يكونا في طوع الملك يؤمن به ملكة، ويأمن بهما غائلة الأيام على الناس.

هكذا سوَق نبي الله يوسف نفسه، وسوَق إمكانياته، وبهما نال التمكين والمكانة.




[1]
الآلآت الحديثة تستطيع أن تلتقط صور للشخص وللأحداث بعد إنتهائها.

هناك من يزعم أن الطاقات لا تندثر، والأصوات يمكن الحصول عليها بعد زمن من صدورها

هناك مخلوقات حية عندها حالة الشم عالية لدرجة كيلومترات فلماذا إستغربوا من يعقوب أن يشم رائحة يوسف.

 

[2]البشير تعني إنساناً يحمل بشري مفرحة، وهل هناك بشري مفرحة لقلب يعقوب أكبر من إبلاغه بوجود يوسف علي قيد الحياة ، وليس هذا فقط بل أنه صارت إليه الملك والسلطان والمكانة ، ومن المعروف علمياً أن الفرح الشديد له تأثير نفسي مثله مثل الحزن الشديد ولأن الحزن الشديد المكتوم كان السبب في ذهاب بصر يعقوب فيمكن أن يكون الفرح الشديد سبباً في إرتداد البصر إليه (حيث أن البشري بوجود يوسف سبقت إلقاء القميص عليه).

وفي هذا إشارة إلي نوعين من أنواع التطبيب أولهم الطب النفسي وثانيها هو طب العيون.

 

[3]" إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ "

وهي من خواطر الداعية الشيخ محمد متولي الشعراوي صفحة 7072.

فإذا جاءكم خبر من معصوم فإياكم أن تقفوا بعقولكم فيه لأن العقول تأخذ مدركات الأشياء علي قدرها وهناك أشياء فوق مدركات العقول وحين يحدثكم معصوم عن فوق مدركات عقولكم إياكم أن تكذبوه سواء فهمتم ما حدثكم عنه أو لم تستوعبوا حديثه عما فوق مدركات العقول.

 

[4]ذكرتمصر في القرآن الكريم  أربـعة مرات وذلك في الآيات  87 سورة يونس  ،21 ، 99 سورة يوسف ، 51  سورة الزخرف

 { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) }سورة يونس

 {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْمِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)} سورة يوسف

 { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99) } سورة يوسف

 {  وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)} سورة الزخرف

  وجاءت منصوبة ( مصرا ) مرة واحدة  في الآية 61 البقرة  {  وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)سورة البقرة

اجمالي القراءات 8256

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2011-11-20
مقالات منشورة : 103
اجمالي القراءات : 1,596,459
تعليقات له : 5
تعليقات عليه : 107
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt