الشخصية المملوكية فى المجتمع المصرى :
ثقافة المماليك

محمد حسين Ýí 2013-02-13


إن التاريخ المصرى المعقد والحافل قد حوى فى طياته على أشد وأعقد التفاصيل إستأثر بها لنفسه مقارنة بتاريخ الأمم الأخرى. تفاصيل تمتلئ بشطحات وتراث وتراكمات فكرية وعقدية وإجتماعية شكلت الإنسان المصرى وعقله على مدى قرون تضرب بجذورها فى التاريخ وتمتد إلى السحيق منه. ما يزيد عن الستة آلاف عام من التقلبات والإحتلالات وصراعات الحكم والحروب. كل حقبة منفصلة حملت على أمواج السنين ملحمة تشكلت عليها أجزاء من الشخصية المصرية إنعكست إما على اللسان أو التعامل مع العوامل المحيطة او طريقة التفكير أو الحكم والإدارة ، وحتى على حتى طريقة العبادة فى الأديان المختلفة التى إعتنقها المصريون.

المزيد مثل هذا المقال :

الحقبة المملوكية كانت من أكثر تلك الحقب تأثيرا فى الشخصية المصرية وأكثرهم تشكيلا للوعى والعقلية المصرية أيضا. وعندما نتوقف عند الحقبة المملوكية ، فإننا نتوقف عند حوالى خمس (واحد على خمسة) التاريخ المصرى ، أى الف ومائتى عام شكلت جزءا كبيرا من الشخصية المصرية المعقدة بدأت نسبيا مع بداية حكم احمد بن طولون. قد نستخدم المنطق هنا فى التأريخ بأن بداية المماليك التراثية فى مصر بدأ عند بن طولون ، لكن دكتور أيولون فى كتابه "المجتمع العسكرى المملوكى" يبدأ بعصرهم كإستخدام فى الحكم لما هو أقدم من ذلك ، عند الأمويين - بل وفى بعض الأحيان تنويها منه إلى انهم يمتدون أبعد مما نقدر أن نتحصل او نستقى كعمق تاريخى. وأحمد بن طولون هو أحد الرقيق او العبيد للخليفة العباسى المعتز إبن المتوكل. وقد إستطاع أحمد بن طولون المتمرد على خليفته العباسى أن يستقل بدولته عن الخلافة وإنشاء دولته المستقلة وبداية لدولة المماليك فى الحكم. ومن ثم كان بن طولون هو الأب الفعلى لثقافة وتراث المملوكية فى مصر. فقد مرر لأبناءه كنزا من طريقة الحكم والسيطرة على المحكومين وتحويل الدولة إلى نظام مملوكى قائم على طريقة شراء العبيد وتدريبهم وتقسيمهم إلى مجموعات وكيفية التحكم بهم. بقى ان ننوه قبل الإسترسال أن العباسيين قد عينوا ولاة فى السابق من الرقيق الأبيض "المماليك" كعلى بن يحيى الأرمنى و يزيد بن عبدلله وأرجور التركيان ، إلا أننا نستطيع القول بأن التراث المملوكى إن صح وتصورنا له أبا شرعيا فما عسانا أن نبخس حق أحمد بن طولون فى ذلك. ومحاولة فهمنا لطريقة المماليك وأسلوبهم فى الحكم والتحكم والإدارة قد توضح لنا بشكل كبير تركيبة الشخصية فى المجتمع المصرى الحديث.

وحتى لا نغض الطرف عن إحدى العوامل المتصلة بين المماليك والمجتمع المصرى ، فإن للأعداد الهائلة المستجلبة من المماليك فى ظل الحكام المتعاقبة أثر بالغ أيضا فى التكوين الفيزيقى للشخصية المصرية الآن أيضا. فقد كان معروفا عند مجتمع المماليك كثرة الزواج والحصول على إماء والتناسل منهن. بل كان المماليك معرفين بنهمهم لأجود اللحوم والبهارات التى تساعد على التخصيب. مما يجعلنا نقول بأن الدماء المملوكية لها نصيب هائل من الدماء المصرية (كما العربية) والتى بدورها ساعدت فى ترسيخ التراث كتوارث من صفات تحملها الأجيال كما تتوارث الصفات الجسدية.

 

ودون الإنزلاق إلى السرد التاريخى ، قد نستعرض بعض الأمثلة للبيان والإستبيان حتى يسهل علينا فهم الجوهر من الأمر والمآل. وحتى نفهم من أمرنا شيئا قد يطرأ سؤال علينا ، لم أثر المماليك "الرقيق الأبيض" وتراثهم وثقافتهم فى مصر ولم تؤثر الرقيق او العبيد فى ثقافات ومجتمعات أخرى بنفس الدرجة الهائلة "كرقيق أمريكا على سبيل المثال" أو فى أوروبا؟! –( ملحوظة: لسنا هنا بداعين فى كلامنا للعنصرية ولكن للتوضيح لا أكثر) -

الإجابة على السؤال تكمن فى أن الرقيق فى تلك الأمم لم يكن لها أن تخدم أو تستخدم فى الحكم وفى البلاط الملكى "أو بلاط الخلافة" على عكس المماليك فى العصر العباسى تحديدا. فالمماليك كانوا فى الغالب وارد العباسيين وقد إستخدموهم فى الحكم وفى إدارات الدولة العدة وأهمها الجيش والشرطة والجباية "الضرائب". وكان لهم فى ذلك مذاهب ، فكان المملوك المفضل يطلق عليه لفظ "ترابى" أى تم شراؤه صغيرا ثم تربيته وكان لهؤلاء ثقة تكاد تكون عمياء لدى الخليفة وكان لهم المكانة الكبرى مقارنة بالآخرين لما كان من ولاءهم الشديد. ثم يأتى النوع الآخر من المماليك وهو الـ "مجلوب" وهو المملوك المشترى على كبر ، وهذا فى الغالب ينبع عن عجلة وإستعجال من أمر الخليفة. أضف إلى ذلك أن الرقيق فى دول كأمريكا لم تقم لهم دولة مستقلة نبع منها شخصية مستقلة فى طريقة الحكم ما من شأنها التأثير على المجتمع ككل فى كافة أركانه. 

 

المهموز والزنب والدبوس:
وبما أن مصر خضعت بالفعل لحكم العبيد ، فقد تفنن هؤلاء العبيد فى طريقة حكمهم. ومن الأساليب التى إستخدموها فى حكمهم كان أسلوب أو نظام "المهموز أو الدبوس أو الزنب". وبالنظر لتلك الكلمات فللوهلة الأولى تراها مألوفة فى مصر. ونشأتها الأصلية كانت فى عصر حكم المماليك. وكان هذا الأسلوب يتم إتباعه فى الإيقاع بين المجموعات المختلفة التى يتحكم فيها الحاكم المملوكى كمجموعات لحكم الدولة. وكانت تلك الأدوات بمعانيها المألوفة - والتى تتلخص فى الإيقاع او تدبيس الآخرين فى مصيبة أو "فقعهم زنبة" - فى الإيقاع بين المجموعات التى على رأسها "مجاليب" على وجه التحديد. والتلبيس والتدبيس والمهموز والزنب كألفاظ وأفعال وطرق هى تراث مملوكى أصيل. وقد ترسخت على إثر تلك الطريقة مبدأ فصل الأخلاق عن السياسة ، والتى بدورها كقاعدة أبطلت دور مهم فى شخصية الحكم فى مصر وهو دور أى قوانين إصلاحية أو تشريعات. والتى بدورها أيضا آلت بنا إلى المحسوبية والرشاوى ووجود أشخاص فى مكانهم ليس لأنهم يستحقونها ، وإنما عن طريق المهاميز والتدبيس وإنفلات البعد الأخلاقى بناءا على ذلك. ولنا فى التراث الشعبى وأقصوصاته وحكاويه مثال صارخ على ذلك إمتد من قبل على الزيبق وحتى أدهم الشرقاوى ومن بعده (الجدعنة وإستخدام الجريمة والزنب والمهاميز). 

 

البتاع:

كان للأعداد الهائلة المستجلبة من الأتراك "الغالبية العظمى" والديلم والأرمن ثم السود فى مصر لصالح الجيوش الفاطمية والعباسية أثرا بالغا فى إستجابة المصريين للثقافة الغربية بشكل كبير. (أنظر: المواعظ والإعتبار فى ذكر الخطط والآثار للمقريزى - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة لإبن تغرى بردى ، للتعرف على الأعداد المستجلبة وإحصاءاتهم الهائلة قياسا بحجم المجتمع إبان ذاك).  وعند قراءة تلك الكتب نلاحظ أن كل حاكم أو خليفة كان يستجلب الآلاف ويطرد آلافا سابقين كانوا تحت إمرة من سبقه فى الحكم. وكان يطلق على الحديثين المستجلبين "بتوع" وكان اللفظ المفضل للحاكم عن هؤلاء "دول بتوعى" ومن هنا جاء لفظ "البتاع" كما نألفه الآن. ومنذ ذلك الحين ، وعندما حكم المماليك ، كان شيئا معتادا ولازما ومعروفا ولم يسبق له الشطط أن يجلب كل حاكم مملوكى المماليك والرقيق "بتوعه" فى البلاط الحاكم. وعلى أثر ذلك كانت فكرة البتاع والبتوع هى المسيطرة وإنتقلت جيلا بعد جيل لمدة ألف عام على نحو أو آخر. فنحن هنا نرى المدير والأمير والحاكم يأتى بـ"بتوع" له. وكان هذا له بالغ الأثر فى أن الإدارة لم تكن تتبع لوائح ولم تكن تباشر الأعمال فى ظل قوانين فقط ، وإنما تحملها أسلوب "البتاع" و"الأقدمية" و"التوجيهات" ، والتى تقوم بها المجموعات من "البتوع" التى يستجلبها "المدير او الحاكم". وكلما تغيرت الإدارة تغيرت الحاشية الحاكمة ليستمر النهج الأعرج ويتلاشى النظام الثابت القائم على "البتاع" و"الخوف". وعلى هذا تتضح لنا مقولة أخرى شهيرة وأصولها مملوكية خالصة ألا وهى "إحنا نخاف ولا نختشيش". أى أننا لا نتبع أخلاقا ولا قوانينا ، وإنما دافعنا هو الخوف من الحاكم او المدير. وهنا تنهار كل ما نعرفه عن أساليب الإدارة وتتلاشى فاعلية القوانين ونستبنط مرة أخرى أسلوبا آخر يضرب علوم الإدارة والقوانين والتشريعات والإصلاحات فى مقتل. ولهذا فإنه معهود لدينا فى مجتمعنا مسألة إصدار الحاكم أو المدير أوامرا عدة تخالف القوانين واللوائح إستنادا إلى ضمان "البتوع" والعاقبة فى آن واحد.

 

النفاق الإجتماعى والثقافى الصارخ:
ومع ضيق المكان والصراع على "اللحمة المملوكية - كإشارة" فى المجتمع المصرى ، فقد لجأ المصريون إلى تراثهم المملوكى فى التعامل مع التزاحم فى المكان والتنافس الغير الأخلاقى فى مجالات العمل والحكم وكل شئ فى الحياة. وقد قسم المصريون على أثر ذلك علاقاتهم على نحوين (علاقة متماثلة مع المثل فى الرتبة أو المكانة مثلا) وعلاقة أخرى بينهم وبين من هم أعلى منهم. وكانت العلاقتين شكلية نفاقية من الدرجة الأولى على الصعيدين المطاق منه والغير مطاق. وتحكم العلاقتين قاعدتين أساسيتين كما سبق وقلنا "الخوف" وإضافة عليه "الضرورة". وإن إستوعبنا ذلك على نحو أكمل فيمكن لنا أن نفهم بشكل ما الغطاء السميك من المجاملات التى تعكس الخوف الكامن بجانب الجمل المعسولة التى لا تحصى فى التراث المصرى القادم من المماليك رأسا وبشكل هائل. ومنها على سبيل المثال لا الحصر طبعا: "عينية ليك" "أفديك بروحى" "منستغناش عنك يا أمير" "ده انت نوارتنا" "مش عارفين لولاك كنا هنعمل إيه"... وهلم جرا! وهذا يؤول إليه التعاملات القائمة على المنفعة والحاجة والخوف طبعا. ثم نأتى فى حالة الغيرة والمزاحمة إلى كلمات أخرى كـ "إصبر على جار السو يا يرحل يا تجيله مصيبة" أو "الإحترام واجب" أو "السلام بتاع ربنا".

 

الجدعنة:
وعلى هذا الصراع كان يطلق على من يصل لفظ "جدع" و"الأجدع" وهما لفظان مملوكيان أصيلان. وهى كلمة تصف شخصها النهاية وليست الوسائل. فلك أن تحصل على لقب "الجدعنة" إن قدرت على الوصول إلى مكانة ما إثر النجاح فى الفوز فى صراع إستخدمت فيه كل الأساليب بعيدا عن الأخلاقيات. وعلى هذا تم إصدار فتوى "لتقنين الأساليب والجريمة" فى عصر العثمانيين عن طريق الفقهاء مبنية على حديث يقول "إن تنازع إثنان على السلطة وجب قتل أحدهما". أى نعم سيدى القارئ "قتل" هكذا! وتلك مقولة وفتوى وحدها تستطيع تفسير كمية القتل العائلى فى عهد العثمانيين والتى قتل فيها آباء ملوك أبناءهم ، وقتل فيها أخ أخيه ، وإبن أبيه ، وذوى قرابة الدم من أجل الحكم تحت مظلة الشرع والشريعة. وبعد إنهيار الأخلاقيات والقانون واللوائح نجد هنا إنهيار الطبيعى وكل العلاقات المندرجة تحته لصالح الغير طبيعى.

 

نزاهة:
وفى عصر المماليك ننوه أن لفظ "نزاهة" أو "نزيه ونزيهة" لم تكن لتستخدم كألفاظ كما هى معروفة فى المعجم اللغوى. وإنما كانت تستخدم بطريقة ورثناها فى المجتمع المصرى بمعان أخرى تكاد تنفرط فى عقدها عن المعقول. كرجل مسرف مثلا او يصرف دون النظر إلى القيمة فيطلق عليه "ده راجل نزيه". أو عندما يشتغل أحدهم بعمل لا يهم كنيته وإنما ليس تحت إمرة أحدهم فيقال "ده شغلانته نزيهة". وأحيان كثيرة أخرى على عاطل بلا عمل ولكن لديه مال "ده راجل نزيه مش بتاع شغل". وهنا نرى لغة دارجة طغت على لغة المثقفين. ويمكن لنا أن نفهم لم دائما إنتخاباتنا "نزيهة"!!

 


إن الثقافة المملوكية فى مصر متجذرة وأصيلة فى وعى المجتمع المصرى تمتد من النشأة وأسلوب التربية فى البيوت ، مرورا بالتعليم والعمل والحكم. ثقافة أعادت تشكيل المجتمع المصرى بشكل كبير. من الصعب تصور مرحلة كتلك مهدرة من الناحية السيكولوجية ولم يتم دراستها بشكل سليم ومفصل كإجتماع سياسى ، وهو ما يعد أمر تحيط به علامات الإستفهام ، بل ويدل على القصور فى البحث الإجتماعى لمرحلة حاسمة فى التاريخ المصرى أثرت فى التكوين والعقلية والسلوك والدين.


يتبع

اجمالي القراءات 14110

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2007-02-28
مقالات منشورة : 52
اجمالي القراءات : 758,275
تعليقات له : 110
تعليقات عليه : 154
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State