رقم ( 4 )
الباب الأول : تأصيل مصطلحات الأمر والنهي ، والمعروف ، والمنكر قرآنيا :

 

 

الباب الأول : تأصيل مصطلحات الأمر والنهي ، والمعروف ، والمنكر قرآنيا:

 

الفصل الأول : تأصيل مفهوم الأمر قرآنياً :

 

مقالات متعلقة :

يأتي معنى (الأمر) في القرآن في ثلاثة موضوعات رئيسة : بمعنى الشأن، وبمعنى الخلق والحتميات وبمعنى الأمر التشريعي.

 

الأمر الحتمي :

 

مرتبط بالخلق والحتميات التي يخضع لها البشر، وليسوا مساءلين عنها يوم القيامة. وفي هذا يقول رب العزّة : (بَدِيعُ السَّمَوَات وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)( البقرة 117 ) ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ( يس 82 ).

 

الأمر بمعنى الشأن الخاص بالموضع المراد في السياق:

 

فعن موقف المسلمين في غزوة (أحد)  يقول جل وعلا: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ)(آل عمران 152)، ومنه (أولي الأمر)، أي أصحاب الشأن المتخصصين في الموضوع المراد. وقد جاء مرتين في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء 59)، (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(النساء 83) .

ومنه أيضا فرض الشورى في كل (أمور المسلمين)، أو كل شئون المسلمين: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)(الشورى 38) (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ )( آل عمران 159 ).

 

 

 

 

 

 

 

 

ونتوقف بالتفصيل مع الأمر التشريعي :

 

الأمر التشريعي

1 ـ وهو يشمل الامر والنهي معاً، ويأتي هذا بلا لفظ الأمر والنهي مثل ( إتبعوا ولا تتبعوا) في قوله جل وعلا ( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ )( الأعراف 3 ).

 

2 ـ  وقد يأتي الأمر والنهي معاً بلفظهما كقوله جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ) ( النحل 90 ).

 

3 ـ وقد يأتي الأمر التشريعي للنبي بلا إستعمال للفظ الأمر كقوله جل وعلا :( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ )( محمد 19).

 

4 ـ وقد يأتي الأمر التشريعي للمؤمنين بلا إستعمال للفظ الأمر كقوله جل وعلا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الأحزاب 40 : 43 ) .

 

5 ـ وقد تأتي أوامر مباشرة للناس باستعمال لفظ الأمر كقوله جل وعلا :(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا )( النساء 58)( ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ )( الطلاق 5 ).

 

6 ـ وقد تأتي أوامر مباشرة للرسل باستعمال لفظ الأمر ويعلنها الرسول مثل (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(النمل 91 ) (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (الزمر 11) (قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ )(الانعام 14) (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ َ)(الانعام  162 : 163). أو يذكّره بها ربه: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)(الشورى 15).

 

7 ـ ويأتي الأمر والنهي للرسول وقومه معاً: ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا) (هود112). ويأتي الأمر للرسول وقومه معاً: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه 132) ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا )( الاعراف 145).

 

 

8 ـ الرسل والصالحون كانوا يأمرون أقوامهم وأهاليهم بالهدى والخير والصلاة، قال رب العزة عن اسماعيل :( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ )( مريم 55 )، وقال جلّ وعلا عن اسحاق ويعقوب وذريتهم :( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (الانبياء:73). والنبي صالح قال لقومه ثمود: (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ)(الشعراء 151)، وقال جل وعلا عن الصالحين من بني إسرائيل :( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا)( السجدة 24 ).

 

9 ـ وتنفيذ شرع الله جل وعلا وأوامر الله جل وعلا وإجتناب نواهيه متروك للبشر إختباراً لهم في هذه الحياة الدنيا. وعلى أساس حريتهم في الطاعة أو المعصية في هذه الدنيا سيلقون يوم الحساب جزاءهم، إمّا خلوداً في الجنة أو خلوداً في الجحيم .

 

ومن هنا نتدبر موضوع أمر الأطفال بالصلاة، فقد كان اسماعيل يأمر أهله بالصلاة والزكاة (مريم 55)، وكان محمد مأموراً بذلك أيضاً (طه 132)، وهو أمر قولي بالنصح والارشاد والتفهيم والشرح باسلوب يحبّب الطفل في العبادة، ويجعله يعتاد عليها ويعيش ملتزماً بها شأن أي مؤمن يتقي الله جل وعلا ويلتزم بالطاعة ويصلّي خاشعاً لله جل وعلا. العبادات بالذات لا مجال فيها للإكراه، لأنها مبنية على إخلاص القلب لله جل وعلا ومسئولية كل إنسان على عمله إن صالحاً وإن فاسداً. ولا يقبل الله جل وعلا الرياء في الصلاة أو في العبادة، كما يعفو عمّن يتعرّض إلى الاكراه ليرغموه على الكفر أو العصيان. هذا يخالف الدين السّني القائم على الاكراه في الدين وقتل تارك الصلاة، وضرب الأطفال الصغار حتى يصلّوا .

 

10 ـ ومن خلال الأوامر والنواهي يأتي مصطلح الأمر بالمعروف، يقول جل وعلا محذراً من البداية من إتباع خطوات الشيطان في تحريم الطعام الحلال خارج المحرمات المنصوص عليها :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)( البقرة 168)، كما يقول أيضاً محذّراً من خطوات الشيطان الذي يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)(النور 21 ) .

 

11 ـ  إن العرف أو المعروف هو الخير الفطري داخل كل إنسان، فكل إنسان داخله ضمير يعرف به الخير والشّر، ومهما حاول ان يبرر لنفسه العصيان والظلم ويقدم لها المعاذير والحجج بالباطل فهو في داخله ميزان يبصر به الحق والعدل ـ لو أراد . يقول جل وعلا: (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة 14: 15).  ومعرفة العدل غاية في البساطة، فما يرضاه الانسان لنفسه يرضاه لغيره، وما يرفض حدوثه لنفسه يرفض حدوثه لغيره، فكما لا يرضى أن يصفعه أحد على وجهه ظلماً وعدواناً فيجب أن يرفض هو أن يصفع أحدا على وجهه ظلماً وعدواناً. هذا هو ما ينبغي أن يكون، وهذا هو المعروف أو العرف، وفوقه الاحسان أو العفو عن المسيء ـ فالعدل هو جزاء السيئة بمثلها ولكن العفو والاحسان هو العفو عن المسيء، وفي الاسلام الجانبان معاً، يقول جل وعلا (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ولتناقض العرف والعفو والاعراض عن الجاهلين مع شرع الشيطان وخطوات الشيطان فإنّ الله جلّ وعلا يقول في الآية التالية (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )، أي الاستعاذة بالله جل وعلا من نزغ الشيطان والاستعانة على الشيطان ومكائده بربّ العزة، وهذا هو حال المتقين، الذين إذا حاول الشيطان التسلل إلى قلوبهم تذكروا رب العزة واستعاذوا به من الشيطان فانتبهوا وأبصروا ونجوا من الوقوع في العصيان، يقول جل وعلا في الآية التالية (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) أما أخوان الشياطين فقد تحكم فيهم الشيطان وذريته فزيّن لهم الحق باطلاً والباطل حقاً وجعلهم يتطرّفون في الغيّ بتشريع الغيّ وجعله ليس فقط حلالاً بل فريضة مثل جهاد الارهابيين في عصرنا، يقول جل وعلا عن إخوان الشياطين (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ )(الاعراف 199: 202 ).  

 

الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف في الدين الشيطاني الأرضي:

 

1ـ البداية في رفض ابليس السجود لآدم فلعنه الله جل وعلا وطرده من الملأ الأعلى : ( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ )(الأعراف 12: 13). إستكبر ّابليس وأعلن إنه سيضلّ ذرية آدم بكل طريق :( لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي سيحرّف لهم دين الله جل وعلا بأن يوحي لأتباعه ديناً أرضياً (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف 16: 17)، وسيقرن لهم الضلال بتمني الشفاعات ليشجعهم على العصيان وإتّباع أوامرالشيطان (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ )( النساء 118 : 119 ).

 

2 ـ لذا حذّرنا رب العزة  من مكائد الشيطان حتى لا ننخدع به كما حدث لآدم وحواء فهبطا إلى الأرض (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ). ولكن خدع الشيطان بوحيه المزيف أغلبية البشر فأصبحوا أولياءه، فإذا فعلوا فاحشة عللوها بالاقتداء بالسلف أو ما وجدوا عليه آباءهم، أو ينسبونها الى شرع الله، كما يفعل الارهابيون في جهادهم المزعوم حين يزعمون أن الله جل وعلا هو الذي أمرهم بهذا، أو كما كان يفعل صوفية العصرين العباسي والمملوكي حين كانوا يقترفون الزنا والشذوذ ويجعلون الفاحشة ديناً، ولهذا يردّ عليهم مقدماً رب العزة في الآية التالية (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).

ويوم القيامة ينقسم أبناء آدم الى فريقين ( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ )(الاعراف 27 : 30 )

 

أوامر الشيطان بالمنكر:

 

1 ـ إذن هناك أوامر الشيطان ينفّذها أولياؤه، وقد حذّر رب العزة مقدماً من طاعة أوامر الشيطان فقال لنا (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )( البقرة 268 ). ولكن يعصي أولياء الشيطان أوامر رب العزة ويتبعون إبليس، ويجعلون أوامره شرعاً يأمرون به الناس، ينطبق هذا على البخلاء الذين يأمرون الناس بالبخل طاعة منهم للشيطان وولاء له، يقول جل وعلا (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قَرِينًا)(النساء 37 : 38). ويحدث هذا في كل زمان ومكان .

 

2 ـ وبتأثير منافقي الصحابة شاعت النجوى والتناجي مع إن النجوى بالمعصية من الشيطان،  قال جل وعلا ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ)، ( أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) (المجادلة 8 : 10). وإستثنى رب العزة منها التناجي بالأمر بالمعروف وتقديم الصدقة والسعي في الاصلاح ابتغاء مرضاة الله جل وعلا (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )(النساء 114 ).

 

3 ـ ومع أن التحاكم يجب ان يكون لكتاب الله فإن من الصحابة من كان يحتكم الى الطاغوت طاعة للشيطان فقال عنهم رب العزة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا) (النساء 60 ).

  

4 ـ ولذلك تخصص منافقو المدينة في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف طاعة للشيطان: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) وعلى النقيض كان مؤمنو الصحابة (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ )(التوبة 67 ، 71).

 

 

5 ـ ونفس الحال مع أهل الكتاب، كان منهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ )( آل عمران113). وبعضهم تطرّف في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف إلى درجة قتل الأنبياء وقتل دعاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتوعّدهم رب العزة هم ومن على شاكلتهم بالعذاب الأليم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)( آل عمران 21 ).

 

6 ـ  جاءتهم الكتب السماوية بالبيّنات فاختلفوا وتفرقوا وتناسوا أوامر رب العزة واتبعوا أوامر الشيطان ( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )( البينة 4: 5). وحدث هذا مبكراً في عهد موسى بعد أن أخذ الله جل وعلا عليهم العهد والميثاق ورفع فوقهم جبل الطور فما لبث أن عبدوا عجل أبيس الفرعونى ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ)(البقرة 39)، ثم تطرف بعضهم فقدسوا المسيح والأحبار والرهبان والأئمة (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة 31). وبعد الفتح العربي دخلوا في الاسلام وهم محمّلون بتراثهم غير المقدس في تقديس البشر والحجر وفي طاعة الوحي الشيطاني فما لبث أن أعادوا نفس التقديس ونفس التزييف تحت إسم الاسلام وبمجرد تغيير الأسماء والأشكال مع الاختفاظ بالمضمون.

 

7 ـ وقبلهم أطاع قوم فرعون أوامره فسيكون رائدهم في الدخول الى النار يوم القيامة ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ )(هود 96). وفي لهيب الجحيم وعذاب سقر سيلوم الأتباع المستضعفون كبراءهم الذين كانوا يأمرونهم في الدنيا بالكفر (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا)    (سبأ 33) .

 

 

 

 

 

8 ـ وشتّان بين الفريقين، يقول جل وعلا عن الفائزين يوم القيامة ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

ويقول عن الخاسرين ( وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )( الرعد 21 : 25 ).

 

 وصدق الله العظيم .!!

 

أخيرا :

 

1 ـ الاسلام أوامر ونواهي جاء موجزها في الوصايا العشر. والبشر أحرار في الالتزام بها أو في عصيانها، وسيحاسبون على حريتهم في الطاعة أو المعصية. وليس الاسلام مسئولاً عما يفعله البشر إن أطاعوا أو إن عصوا، هم إن أطاعوا فلأنفسهم وإن عصوا فعلى أنفسهم. ولكن التخلّف المزمن لدى بعض الناس يجعل الاسلام هو المسلمين ويحمّل الاسلام أوزار المسلمين لأن متخلفين آخرين يرون أنفسهم بتطرفهم وبارهابهم وبأديانهم الأرضية يمثّلون الاسلام .  

 

2 ـ والتخلّف أنواع .. وكذلك الجنون ..

ولو قمت بزيارة مستشفي المجانين ـ عزيزي القارىء ـ ستجد أقساماً متنوعة للجنون، ولكن ينسون إفتتاح أقسام لأفظع أنواع الجنون : جنون الدين ..الأرضي ..!!.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تأصيل مفهوم الأمر بين التحكم والالتزام الطوعي:

 

أوّلا :الأمر بالمعروف أمر تشريعي لا إكراه فيه ولا تسلط:

 

1 ـ سبق القول بأن الأمر التشريعي يأتي من الله جل وعلا لإختبار للناس، فلهم الحرية في الطاعة أو المعصية، وعليهم تحمل النتيجة يوم القيامة، فمن مات في طاعة دخل الجنّة، ومن مات وقد أحاطت به سيئته فقد حجز لنفسه مقعداً في الجحيم. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من الأوامرالالهية التشريعية، جاء معناه في أمر مباشر من الله جل وعلا للناس (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهي عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ )(النحل 90) ، وجاء بلفظه أمراً مباشرا للناس أن يقوموا به (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران 104). وبالتالي فلا مجال للتحكم والتسلّط في تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس لأحد من البشر أن يتخذ منه وسيلة للتسيّد وللعلو على الناس يأمرهم وينهاهم، دون أن يتعرض مثلهم لمن يأمره وينهاه .

 

2 ـ هنا يتضح التناقض بين شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تشريع الاسلام وتشريع الشيطان، هي في شريعة الاسلام تواصي بالحق وتفاعل بالخير وتناصح بين الأفراد جميعاً بحيث لا يعلو أحد على أحد، وبحيث لا يتعدّى الأمر إلى إكراه في الدين وتدخل في الحرية الشخصية وتحريم للمباح. أما في شريعة الشيطان فهي تسلط أقلية أو نظام حكم مستبد بالأمر يأمر الناس وينهاهم ويتدخل في حريتهم الدينية والشخصية في نفس الوقت الذي يكمم فيه الأفواه فلا يستطيع أحد نقده، بل لا يستطيع أن يجأر أو يجهر بالشكوى. ثم تصل الأمور إلى الحضيض حين يتم ربط هذا الظلم والاستبداد بالله جل وعلا ورسوله عن طريق تحريف تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووضع أحاديث ضالة، وإستبعاد تشريع القرآن بزعم النسخ .

 

ثانياً :تحريف الأمر والنهي ليصبح تحكماً وتسلطاً:

 

1 ـ بدأ (الأمر) بسيطاً بتحريف معنى (الأمر). فبدلاً من أن يكون أمراً تشريعياً كما جاء في القرآن الكريم أصبح (أمرا سلطوياً) يصدر من (أمير) يستبد بـ( الأمر). وتحريف معنى ( من ) في قوله جل وعلا (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ)، فقد جعلوا (من) تفيد (التبعيض) أي لتكن من بعضكم أمة تحترف وتحتكر الأمر وتأمر غيرها ولا يأمرها غيرها. وتناسوا أنّ (من) هنا هي (البيانية)، وتعني هنا ولتكونوا كلكم (أمة تدعو الى الخير فيما بينها) ويعزز ذلك أن السياق الموضعي المحلي في الخطاب قبلها وبعدها جاء لجميع الأمة وليس لطائفة منها؛ فقد بدأ السياق في الآيات واستمر بمخاطبة المؤمنين جميعاً كأمّة واحدة.

فقال جل وعلا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، إلى أن يقول جل وعلا عن نفس الأمة جميعها (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )( آل عمران : 101). كما إن السياق في القرآن كله في نفس الموضوع يؤكد على التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وعلى المساواة في الحقوق والواجبات.

 

2 ـ ويتسق هذا مع تشريع الشورى الذي يجعل إقامة الشورى بين المسلمين جميعاً بلا تميز لفرد أو طائفة، يقول جلّ وعلا يصف مجتمع المؤمنين أو (أمة المؤمنين): (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى 38)، هنا جاءت لهم أوصاف أربعة مطالب بها كل فرد، وهي الاستجابة لربهم وإقامة الصلاة والانفاق في سبيل الله جلّ وعلا، وتداول أمورهم بالشورى فيما بينهم، لا فارق بين ذكر أوأنثى وغني أوفقير بحيث لا (يعلو) أحد على أحد .

 

3 ـ ونفس الحال في ( إقامة القسط ) وهو عصب الدين الالهي، وقد جعل الله جلّ وعلا من إقامة القسط مسئولية جماعية لأفراد الأمة جميعاً ذكوراً وإناثاً وفقراء وأغنياء (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )(الحديد 25)، فالكلام هنا عن الناس أي المجتمع كله، يجب أن يتعاون كل الناس فيه في إقامة القسط والعدل فيما بينهم في نظام حكم يؤسس للديمقراطية المباشرة والعدل المطلق بين الأفراد، بحيث لا (يعلو) فرد أو طائفة على بقية  الناس.

4 ـ ولذلك لم يأت مصطلح (الحكم) في القرآن في تعامل البشر فيما بينهم إلا بمعنى التحاكم القضائي وليس الحكم السياسي، ولم  يتوجه الخطاب لحاكم في دولة الاسلام بل للمؤمنين، كقوله جلّ وعلا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)(النساء 58)، بل ورد لفظ (الحكام) مرة واحدة في إشارة للنظام المستبد الفاسد القائم على الرشوة في قوله جل وعلا (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة 188). ليس في الدولة الاسلامية حاكم، ولكن فيها أمة تحكم نفسها بنفسها حتى في وجود نبي كان قائداً لها، وعندما مات عليه السلام تركهم بنفس الطريقة ليحكموا أنفسهم بأنفسهم ولم يعيّن لهم حاكماً، فبدأ التحريف بعد وفاة النبي محمد عليه السلام بنبذ الشورى الاسلامية (الديمقراطية المباشرة).

5 ـ وهنا نتوقف مع أولى مظاهر التحريف بتعيين أبي بكر حاكماً يحمل لقب (خليفة)، أي خليفة النبي بعد موت النبي، متناسين أنه عليه السلام كان خاتم النبيين وبالتالي لا خليفة له. ثم تطوّر الأمر في العصر العباسي ليصبح الخليفة (خليفة لله) جلّ وعلا يحكم باسمه طبق ثقافة الدولة الدينية التي تتناقض مع الدولة الاسلامية وديمقراطيتها المباشرة. لقد أعلن أبو جعفر المنصور أنه يحكم باسم الله وأنه أمين الله على مال الله وأنه خليفة الله في أرضه، قال في خطبته يوم عرفة: (أيها الناس، إنّما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على فيئه، أقسمه بارادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني عليه قفلا؛ أذا شاء أن يفتحني فتحني لاعطائكم، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني، فارغبوا إليّ الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ..أن يوفقني للصواب، ويهديني إلى الرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والاحسان اليكم ويفتحني لاعطائكم وقسم أرزاقكم بالعدل إنه سميع مجيب). أي جعل الله جل وعلا واسطة بينه وبين الناس، ولم يكتف بالعلو على الناس بل أعلا من نفسه فوق رب الناس جلّ وعلا.

 

إن الله جل وعلا لم يعيّن أبا جعفر المنصور خليفة، ولم  ينزل وحياً يقول (يا أبا جعفر، إنا جعلناك سلطان الله في أرضه وخليفته على خلقه). أبوجعفر المنصور كاذب في هذا الزعم، ولقد وصل إلى السلطة بالسيف والغلبة شأن من سبقه ومن خلفه. والخلافة تعني أن تخلف ميتاً أو غائباً، ولهذا لا يقال (خليفة الله) لأن الله جل وعلا لا يغيب وهو معنا أينما كنا (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (الحديد 4) (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)(المجادلة 7)، وهو الحيّ الذي لا يموت (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً) (الفرقان58).

 

هذا الخليفة مؤسس الدولة الدينية الأول في تاريخ المسلمين أمر بقتل رجل بسبب كلمة قالها، ففي أحداث عام 141 إنه زار بيت المقدس بعد أداء فريضة الحج، ثم زار مدينة الرقة، وقتل بها منصور بن جعونة، لأن المنصور خطب فقال: إحمدوا الله يا أهل الشام، فقد رفع الله عنكم  بولايتنا الطاعون .! فقال منصور : الله أكرم من أن يجمعك علينا والطاعون . !

 

6 ـ ثم تعاظمت سلطة (الخليفة) بعد أبي بكر فأصبح (عمر) (أمير المؤمنين)، الذي (يأمر) المؤمنين وينهاهم و(يعلو) عليهم، إذ يمشي وبيده (الدرة) يستطيل بها على الناس ضرباً. ثم تطور الأمر ليصبح حق (أمير المؤمنين) الأموي ثم العباسي والفاطمي والعثماني في قتل من يشاء، والسيّاف ( مسرور) يطيح بالرؤوس، و(امير المؤمنين ) في غاية ( السّرور).

 

 

 

في عام 75 هجرية وبعد قتل عبد الله بن الزبير وتوطيد المُلك لعبد الملك بن مروان أدى عبد الملك الحج وزار المدينة وهي مقرّ المعارضة فخطب فيهم فقال (أمّا بعد، فلست بالخليفة المستضعف (يعني عثمان) ولست بالخليفة المداهن (يعني معاوية) ولست بالخليفة المأفون (يعني يزيد بن معاوية). وإلى أن قال: ألا وإني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلاّ بالسيف حتى تلين لي قناتكم .. فلن تزدادوا إلا عقوبة حتى يحكم السيف بيننا وبينكم . والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه). في (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كان بعضهم وقتها يعظ الخليفة يقول له (أتّق الله)، ليشعر الخليفة بالحرج حتى لا ينطبق عليه  قوله جل وعلا    (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ )(البقرة 206)، فجاء عبد الملك إلى المدينة التي شهدت نزول هذه الآية لينذر بقتل من يجرؤ على مواجهته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائلاً له : إتّق الله. بعدها أطلق عبد الملك يد الحجّاج بن يوسف في قتل الناس كيف شاء، وتولى الوليد بن عبد الملك فاتّسع نطاق القتل ليشمل من يتلفّظ بكلمة تأمر الخليفة أو الوالي بالمعروف. ولقد خطب الوليد بن عبد الملك فأطال في خطبته فاعترض عليه رجل فقال له الخليفة: إن من قال مقالتك لا ينبغي أن يقوم من مقامه. وفهم الحرس مقصد الوليد فبادروا فقتلوا الرجل. ولما تولى الوليد بن عبد الملك قدم المدينة فدخل المسجد فرأى شيخاً قد اجتمع الناس عليه فقال: من هذا؟ فقالوا: سعيد بن المسيب. فلما جلس أرسل إلى سعيد أن يأتي اليه، فجاء رسول الخليفة إلى سعيد فقال: أجب أمير المؤمنين.  فقال له سعيد: لعلك أخطأت باسمي أو لعله أرسلك إلى غيري؟ فرجع الرسول إلى الخليفة الوليد فأخبره فغضب الوليد وهم أن يأمر بقتل سعيد بن المسيب. يقول الراوي ـ كما جاء في (الطبقات الكبرى) لابن سعد : (وفي الناس يومئذ بقية) أي كان وقتها بقية من الفضلاء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بلين وترفق، يقول الراوي: ( فأقبل عليه جلساؤه فقالوا يا أميرالمؤمنين، فقيه أهل المدينة وشيخ قريش وصديق أبيك لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه.!! قال فمازالوا به حتى أضرب عنه). أي ترجوا الخليفة حتى أمسك عن قتل سعيد بن المسيب أشهر وأعظم علماء المدينة في القرن الأول الهجري. وكل الذنب الذي فعله سعيد هو أنه رفض أن يسعى لمقابلة الخليفة الوليد، ولقد كان سعيد بن المسيب صديقاً من قبل لأب هذا الخليفة ورفيقاً له في طلب العلم، فلما تولى عبد الملك الخلافة أمر بضرب رفيقه القديم ليخيف الآخرين من أهل المدينة ، ثم جاء إبنه الوليد يهمّ بقتل سعيد لأن سعيد قد ترفّع عن السعي للتملق للخليفة شأن الآخرين، مع أن سعيد كان مشهوراً بالعزلة واعتزال السياسة ولكن كان المفروض هو تذلل سعيد لأولئك الذين يريدون علواً في الأرض وفساداً .

هم جميعا نسوا اليوم الآخر في سبيل (العلو) في الأرض، واستهانوا بقوله جل وعلا (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(القصص 83).

 

 

 

 

 

ثالثاً : تحريف ( المعروف ) بعد تحريف الأمر:

اولاً:

1ـ وطالما إحتكر (الأمر) (أمير) فلا بد أن يزوّر مسوّغاً تشريعياً يستبيح به لنفسه أن يستبد بأمور الناس وأن يأكل أموالهم. وتوالت التحريفات والتأويلات، ووضع الأحاديث وتأليف الأقاصيص، ومنها فيما يخصّ موضوعنا تحريف وتأويل معنى المعروف والمنكر، فلم يعد (المعروف) هو المتعارف على أنه خير وعدل، ولم يعد (المنكر) هو الذي يستنكره الناس من الظلم والفواحش. أصبح تحديد المعروف والمنكر في خدمة إستبداد الحاكم والطامح للوصول إلى السلطة، فغاب العدل في التطبيق ليصبح شعاراً لخداع الناس وارتبط (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بحق المستبد في فرض سلطته باسم الاسلام كما يحدث لدى الوهابيين عندما يستحوذون على السلطة أو يقتربون منها .

 

وتناسى الجميع مفهوم المعروف القيمي الأخلاقي والتشريعي، بل تناسوا آيات القرآن في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها لا تلبي عطشهم للتسلّط والتحكم، وفضّلوا عليها الحديث الذي إخترعوه مسوغاً حركياً للتسلط والاكراه في الدين، وهو (من رأى منكم منكراً)، بالاستبداد يتحول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى تسلط جهاز الحكم على الناس يخضعهم ويقهرهم ويتدخل في حرياتهم الشخصية والدينية. والأصل أن الأمر بالمعروف لا يمكن تطبيقه إسلامياً وقرآنياً إلا في ظل دولة إسلامية حقيقية، أي دولة مؤسسة على الشورى أو الديمقراطية المباشرة والمساواة بين الناس، وتفاعل الناس جميعاً في إقامة القسط وفي حضور مجالس الشورى، وبالتالي يدخل في تفاعلهم التواصي بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحلّ الخلافات سلمياً بالتفاهم وبالعدل .

 

وطالما تتساوى الرؤوس ولا يعلو أحد على أحد وطالما يقام العدل والقسط وتتاح الحرية الدينية المطلقة في الدين وتتاح الحرية المطلقة في المعارضة السياسية السلمية وحرية الرأي والفكر فلا مجال حينئذ لتفاقم النزاع والاختلاف. ينشأ الخلاف والشقاق عندما يتحكم فرد أو مجموعة في بقية المجتمع فلا بد أن يعارضه بعض الناس، فيقابل المستبد هذه المعارضة بالقهر ليمنعها القهر من الظهور، ولكن لا يلبث أن تظهر وتتطوّر وقد تستعرّ حرباً مسلحة.

 

2 ـ والمستبد لكي يحمي نفسه مقدماً لا يقتصر فقط على إرهاب الناس وتخويفهم بالتعذيب ولكن يوجّه سياسته نحو تقسيم الأمة دينياً ومذهبياً وعنصرياً، ويستأسد بكل قوته على الطائفة الضعيفة ويجعلها عدوة للأكثرية من المجتمع، ممّا يتيح له إستعداء وتسليط معظم الشعب على أولئك الضعاف،  فيحتاج الجانب الضعيف للاستنجاد بالمستبد ليحميه، ويحتاج اليه الجانب المعتدي لينجو من العقوبة، وبهذا يشغلهم المستبد بالفتن فيما بينهم، فيعيشون في رعب ويعيش هو في أمن متسيداً عليهم جميعا.

فرعون استعمل هذه السياسة وعلا بها في الأرض (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ )(القصص 4). وإتّبع المخلوع حسني مبارك هذه السياسة، فاضطهد الأقباط والشيعة والبهائيين والقرآنيين، وسلّط عليهم المتطرفين، كما سلّط عليهم أجهزته الأمنية والإعلامية والقضائية.

 

هنا تتحوّل هذه الأقليات إلى منكر يجب إزالته أو طرده لو أمكن. وقد تعرض لهذا أهل القرآن والبهائيون وبعض الأقباط. المتطرفون يجعلون المعروف في إقصاء الآخر المختلف معهم. ويتحدون مع المستبد ضد هذا الآخر ليكتسبوا نفوذاً يريدون تطويره، بينما يستخدمهم المستبد في إرهاب الأقليات وشغلهم عنه مؤقتاً بهذه الإجرام. وفي كل هذا يصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً بالتطبيق دون حاجة إلى تقعيد .

 

ثانياً : صلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوحدة الأمة وعدم تفرقها:

 

1 ـ نتكلم هنا عن الاسلام وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه ودورها في منع تفرق الأمة في دولة الاسلام المدنية الحقوقية الديمقراطية الشورية .

 

2 ـ يلفت النظر أن الآية (103) من سورة (آل عمران) تأمر المؤمنين بالاعتصام بحبل الله جميعا وتنهاهم عن التفرق (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)، بعدها جاءت آية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ - 104) ثم بعدها جاء أيضاً النهي عن التفرق والاختلاف (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - 105). أي إن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الاسلام محاطة بالأمر بالاعتصام بحبل الله والنهي عن عدم التفرق،أي إن الأمر بالمعروف يبدأ بالأمر بالاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن النهي عن المنكر يبدأ بالنهي عن التفرق والاختلاف .

 

3 ـ والسؤال هنا عن موضوع الاعتصام بحبل الله المأمور به، وموضوع التفرق والاختلاف المنهي عنه؛ هل هو الاتفاق في العقيدة أي في (الاسلام) بمعناه العقيدي القلبي (لا إله إلا الله ) أم هو (الاسلام) بمعناه السلوكي الظاهري وهو السلام ؟ هل هو (الايمان القلبي) بالله وحده لا شريك له أم هو (الايمان) السلوكي بمعنى الأمن والأمان للجميع ؟ هل هو فرض عقيدة (لا اله إلا الله) على الجميع ؟أم هو (لا إكراه في الدين) وترك الحكم في الخلاف في (الدين) إلى الله جل وعلا (يوم الدين) ليحكم جل وعلا بين الناس فيما هم فيه مختلفون؟، وأن نعيش في هذه الدنيا مسالمين وأخوة متعاونين ؟.

4 ـ قلنا كثيراً إنّ معنى الاسلام الظاهري السلوكي هو السلام والمسالمة، وأي فرد مسالم فهو مسلم بغض النظر عن عقيدته. و لنا ان نحكم عليه لأنه سلوك ظاهر مرئي. أما الاسلام القلبي بمعنى الانقياد واسلام الوجه والجوارح لله جل وعلا وحده فمرجعه إلى الله جل وعلا يحكم فيه بين البشر فيما هم فيه مختلفون، حيث سيكون الفائز يوم القيامة هو من يجمع بين الاسلام الظاهري والاسلام الباطني. وللإيمان نفس المعنيين: إيمان ظاهري بمعنى أن تكون مأمون الجانب، وإيمان قلبي بالله جل وعلا وحده لا شريك له كما نصّت عليه آية (أمن الرسول) في  سورة البقرة. والمؤمن الفائز هو من يجمع بين الايمان الظاهري والايمان القلبي. ولنا الحكم على الظاهر وهو السلوك  المسالم الآمن المأمون .

 

وقلنا إن الشرك والكفر مترادفان (التوبة 1 :3،17)،(الزمر1: 3)،(غافر42). وأنهما معاً ينقسمان إلى: كفر أوشرك سلوكي بالعدوان (التوبة:10،12،13)،(البقرة 190، 286)،(الحج 38 : 40) ولأنه كفر بالسلوك فلو تخلى عن العدوان سقط عنه الاتهام بالكفر (الأنفال 39:38)، (البقرة 192، 193)(التوبة 5 ،11)(الممتحنة 2،9). ثم : شرك أوكفر في العقيدة: قد يكون صاحبه مسالماً لا يعتدي فيجب التعامل معه بالبر والقسط (الممتحنة 8). وقد يجتمع الكفر أو الشرك العقيدي بالسلوكي، وهو الذي ساد في قريش حين اضطهدت المسلمين واخرجتهم من ديارهم، تكذيباً بالقرآن ( الممتنحنة 1 ). وعلى سنتهم يسير الوهابيون .  

 

5 ـ وأسّس خاتم المرسلين عليهم جميعاً السلام في المدينة دولة إسلامية تسير بالعدل والقسط والمساواة والشورى والتفاعل في الخير. وفي الدولة الاسلامية فإن كل الأفراد مؤمنون طبقاً للإيمان الظاهري، وهم مسلمون مسالمون بالاسلام السلوكي الظاهري، وهم جميعاً مأمورون بالتمسك بالسلام الظاهري السلوكي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (البقرة 208)، أي أنهم مأمورون بالاعتصام بحبل الله الذي هو السلام والقسط وعدم الاكراه في الدين.  وتحيتهم في الدنيا (السلام عليكم) وفي الآخرة لو دخلوا الجنة تحيتهم فيها سلام (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ  دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)( يونس 9 : 10) .

 

6 ـ أي إن قوله جل وعلا (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) مقصود به الاسلام الظاهري أي إلتزام السلام بين أفراد المجتمع ـ أو المواطنين في داخل الدولة، بدليل أن بقية الآية تتكلم عن سلوك عدواني ظاهري كان موجوداً قبل ذلك فانمحى، فقد كانوا من قبل أعداء متشاكسين فأصبحوا داخل دولة الاسلام أخوة متآلفين (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً- 103).

 

7 ـ أما الاسلام القلبي أو الهداية للحق فليس من مسئولية الدولة إدخال الناس إلى الجنة، فهي مسئولية فردية، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعلى نفسه. إن مسئولية الدولة هي توفير الأمن والسلام والعدل والحرية للأفراد، ثم كل منهم يكون مسئولاً أمام الله جل وعلا يوم الدين عن إختياره الديني والعقيدي في الايمان القلبي أو الكفر القلبي والعبادات. وإلى أن يأتي يوم القيامة فأمامهم متسع في هذه الحياة الدنيا ليعيشوا في سلام مع إختلاف عقائدهم .

 

 8 ـ والحرية في الدين هي التي تضمن هذا السلام. ومن حرية الدين حرية الدعوة إلى الحق أو إلى الباطل، وحرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحرية الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. وقد تنافس المؤمنون والمنافقون في دولة الاسلام في المدينة في هذا المجال، فكان المنافقون والمنافقات يوالي  بعضهم بعضاً في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وكان المؤمنون والمؤمنات يوالي بعضهم بعضا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ  وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ  وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )،َ   (التوبة 67 ، 71). وكفلت دولة الاسلام للمنافقين الحدّ الأقصى من حرية الدين والمعتقد وحرية المعارضة بالقول والحركة حتى حرية التآمر وحرية التقاضي خارج نطاق الدولة. كل ذلك مسموح به طالما يدور في إطار العمل السلمي بلا لجوء الى السلاح. ولهذا لم تحدث حركات تمرد داخل دولة الاسلام في عهد خاتم النبيين. كان الاختلاف الديني والسياسي قائماً ومحتدماً، ولكن جرى ترشيده بالحرية المطلقة في الدين وفي العبادة وفي المعارضة السياسية ، وبالتزام العدل والاحسان .

 

9 ـ في هذا الجو أثمرت دعوة المؤمنين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفشلت دعوة المنافقين للأمر بالمنكر والنهي عن المعروف. وهي حقيقة لا جدال فيها: أن الحق يفوز في وجود الحرية الدينية ولا يحتاج إلّا إلى مجرد التعريف به، ومجرد التعريف به ينعش العقل ويحفزه للتفكير. أمّا الباطل فهو محتاج الى سلطة تجبر الناس على الايمان به، وتخيفهم من نقده ومناقشته. ولذلك فقد انتشرت دعوة الاسلام بالقرآن فقط خارج المدينة ، واستطاع القرآن بحجته القوية إقناع العرب بعبثية تقديس الموتى والأصنام والأنصاب فدخلوا في دين الله أفواجاً، حتى إضطروا قريش والأمويين إلى الدخول في الاسلام حتى لا تسبقهم الأحداث وتتجاوزهم.

 

10 ـ ومع هذا فلقد تلاشت بالتدريج دولة الاسلام بفعل السياسة . بدأ الأمر ببيعة السقيفة وتعيين حاكم يعلو على الناس يبايعه الناس على السمع والطاعة المطلقة، ثم دخل الصحابة في الفتوحات والفتنة الكبرى فتأكّد التناقض بينهم وبين الاسلام، وتلاشت معالم الشورى والديمقراطية لتتحول إلى حكم وراثي استبدادي عسكري قبلي (نسبة للقبيلة) في الدولة الأموية، ثم تحولت إلى دولة دينية كهنوتية في الخلافة العباسية. وعلى هامش ذلك كله انتشرت النزاعات والانشقاقات وقامت الأحزاب سياسية في البداية، ثم تحولت إلى تعزيز موقفها دينياً فتولدت ـ مبكراً ـ أديان أرضية للمسلمين، وحدث ما حذّر رب العزة منه، وهو التفرّق في الدين بعد الصراع الحربي السياسي.

 

لقد قال رب العزة في الوصية الأخيرة من الوصايا العشر ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام 153). أي أمر بالتمسك بالقرآن وحده ونهى عن إتباع الأحاديث لأنها تقوم على التفرق والاختلاف والمذاهب. وهذا ما حدث فعلا (شفوياً) في الفتنة الكبرى والعصر الأموي، ثم تمت كتابته في العصرين العباسي والمملوكي حيث ظلّوا يؤلفون الأحاديث وينسبونها للنبي بعد موته بقرون. وقد أعلن رب العزة مقدماً براءة خاتم النبيين من هؤلاء الذين سيصنعون أحاديث ينسبونها لخاتم النبيين بعد موته وتجعلهم تلك الأحاديث المصنوعة يختلفون في دينهم، فقال جل وعلا في نفس سورة الأنعام المكية (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)(الأنعام 159)، وقال جل وعلا أيضاً للمؤمنين في سورة مكية أخرى (وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )( الروم 30 : 32 ).

 

أي إن الاختلافات السياسية الناتجة عن الاستبداد والفساد تتحول إلى أحزاب متصارعة وطوائف متحاربة، وينتهي بهم الاختلاف السياسي إلى كفر وتفرق في الدين. وهذا هو موجز تاريخ المسلمين. فلا عجب حينئذ تحول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى سوط عذاب يتسلط به الظالمون على ظهور الناس.!!

 

أخيراً:

 

الظالمون نوعان : نوع إيجابي يمارس الظلم أو يؤيد الظالم ويقنّن له الظلم، ونوع سلبي هو ذلك المظلوم الذي يركع للظالم مستكيناً خاضعاً فيشجّع الظالم على أن يركبه وأن يعذّبه..

 

لو إنتفض المظلوم لكرامته إنتهى الظلم. هذا المظلوم الظالم لنفسه هو السبب الأساسي في قيام الظلم واستمرار الظلم. هذا الشعب السّاكت عن الحق الراضي بالظلم العاجز عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي يخلق من داخله فرعوناً. وبعونه جل وعلا سننشر حلقات عن (صناعة الفرعون) بعد هذا الكتاب، فمصر والمنطقة العربية تتأهب الآن لصناعة فرعون وهابي بعد خيبة الربيع العربي .!!!

الباب الأول ـ الفصل الثاني : تأصيل مفهوم المنكر:

 

1 ـ ( المنكر) نقيض المعروف، فما يتعارف الناس عليه على أنه خير وعدل هو (المعروف ) وبالتالي فإن ما تنكره الفطرة الانسانية ـ في حالة صفائها ـ يكون هو المنكر. ولكن يختلف المعروف أو العرف عن المنكر في أن مفهوم المعروف ثابت في الأغلب لا يتعدد بينما تتعدد وتتداخل مفاهيم المنكر حسب إشتقاقاته .

 

2 ـ وإشتقاقات (المنكر) تتنوع حسب السياق، ومنها التعبير عن مشاعر متطرفة من الخوف والاستغراب والاستنكار والاستفظاع والاستقباح ..الخ :

 

2/1 : الاستغراب الممزوج بالخوف - يقول جل وعلا ( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ) (هود 69 : 70). جاءت الملائكة لزيارة ابراهيم متجسدة في شكل بشر فأسرع يقدم لهم عجلا مشوياً، فلما رآهم لا يأكلون إستغرب وخاف منهم، أو بالتعبير القرآني ( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً  ).

 

وبنفس المعنى جاء قوله جل وعلا في نفس القصّة ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ )(الذاريات 24 : 25). وتكرر الموقف عندما رآهم لوط   ( فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ )( الحجر 61 : 62 ).

 

2/2 : الاستفظاع، ويأتي هذا في وصف الإهلاك والتعذيب الذي يصعب التعبير عنه باللسان العادي، يقول جل وعلا عن إهلاك الأمم السابقة الظالمة (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا) (الطلاق 8)، وفي وصف عذاب الآخرة ( قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا) (الكهف 87 )، وفي وصف هول يوم البعث ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ ) (القمر 6). ويلاحظ هنا إستعمال صيغة المبالغة، فلم يقل ( عذابا منكرا ) أو ( شيء منكر) بل قال ( نكر).

 

2/3 : ونفس الإشتقاق ( نكر) يفيد أيضاً الاستنكار والاحتجاج والتنديد، فموسى عندما رأى الرجل الصالح يقتل الفتى صاح مستنكرا (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا) (الكهف 74). (شَيْئًا نُّكْرًا ) أي جريمة نكراء .! والاستعمال هنا أيضاً بصيغة المبالغة التي تعكس التنديد والاستنكار الشديد .

 

2/4 : الاستقباح، مثل قوله لقمان لابنه وهو يعظه (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)( لقمان 19). وهذا بالطبع رأي لقمان، وقد إستعمل صيغة (أفعل التفضيل) للتعبير عن المبالغة فقال عن صوت الحمير (أنكر الأصوات). ولو سمع بعض مطربي عصرنا ربما كان سيغيّر رأيه ويمتدح صوت الحمير .!

 

3 ـ ومن إشتقاقات المنكر ما يأتي تعبيراً عن تغيير الشيء المتعارف عليه كقول سليمان عن عرش ملكة سبأ (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا) (النمل 41)، أي تغيير شكله، ومنه (التنكر) أي تغيير الملامح .

 

4 ـ ويأتي بنقيض المعرفة العادية، فلو رأيت صديقك متنكراً فلن تعرفه بينما هو يعرفك، وكان هذا حال إخوة يوسف حين دخلوا عليه وهو عزيز مصر، ولم يخطر ببالهم إنه أخوهم يوسف، بينما كان يوسف يعرفهم، يقول جل وعلا (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ )( يوسف 58 ).

 

5 ـ وفي مجال العقيدة والإيمان تتعدد استعمالات واشتقاقات (المنكر) ليفصح عن مراد العقائد المتناقضة :

 

5/1 : فالكافرون يكذّبون بالحق، أو ينكرون الحق ،أي يرونه منكرا:

 

5/ 1/ 1 : فهم ينكرون القرآن الكريم وهو الحق (وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ) (الانبياء 50)، بل يعلو الاستنكار على وجوههم حين يتلى عليهم القرآن الكريم ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) (الحج 72)، ويقول جل وعلا عن نعمة القرآن الكريم وإنكارهم لها ( فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ )( النحل 82 : 83 ).

  

5/ 1 / 2 : وعن إنكارهم لآيات الله جل وعلا (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ) (غافر81 ).

 

5 / 1 / 3 : وهم ينكرون الرسل ويكذبونهم، حدث هذا من قريش (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ )( المؤمنون 69 ).

 

5/ 1/ 4 : وفي النهاية هم ينكرون الله الواحد جل وعلا (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ)(النحل 22 ).

5/ 1/ 5 : وقد يقترن إنكارهم لله جل وعلا الواحد بإنكارهم القرآن الكريم (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ )( الرعد 36 )

 

5/ 2 : وفي المقابل فهناك إنكار الاهي على المؤمنين حين يقول بعضهم منكراً من القول وزوراً، مثل الظهار ( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الَّلائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ )( المجادلة 2 ).

 

أخيراً

 

1 ـ  ليس كل إشتقاقات المنكر السابقة داخلة في التحريم. أي ليس كل منكر محرماً. هناك المحرم الذي هو من الكبائر مثل القتل، وهناك المنكر الواقع في دائرة الكفر مثل الذي (ينكر) القرآن وأنه لا اله إلاّ الله . وهناك منكر من أكبر الكبائر كالبغي والظلم وقتل المستبد لأحرار الشعب وسرقة المستبد لأموال شعبه وتهريبها الى الخارج، ومجهودات كاهنة الفلول فايزة أبو النجا بطلة فضيحة التمويل الأجنبي التي تكاسلت عن مهمتها في إسترداد بلايين الدولارات التي نهبها أسيادها في نظام المخلوع مبارك وقاموا بتهريبها إلى الخارج ، ولكنها في نفس الوقت إستأسدت في وجه تمويل شرعي قليل يأتي من الخارج ليساعد المصريين المناضلين على نجاحهم في التخلص من الفساد والاستبداد. ومن المنكر المحرّم والذي هو من أكبر الكبائر إستخدام السلفيين والاخوان المسلمين الوهابيين لاسم الاسلام العظيم في الوصول للحكم .

 

ولكن هناك منكراً لا يدخل في دائرة الحلال والحرام مثل صوت الحمار وأصوات مطربي عصرنا البائس. وهناك منكر (نص نص) مثل جهل السلفيين في السياسة وأكاذيبهم المضحكة. أما ( المنكر ) خفيف الظّل فهو تصريحات المشير طنطاوي ومجلسه العسكري .

 

2 ـ ونتأهب لبحث المنكر بين الحلال والحرام والبغي والفواحش .

 

 

 

 

 

 

 

 

تأصيل المنكر بين الحلال والحرام والفحشاء والمكروه:

 

المنكر والحرام والحلال:

 

1 ـ تخيّل إنك رأيت شخصاً يأكل الدود أو الحشرات أو الكلاب أو الحمير، فستتأفف منه، وهذا (لا غبار عليه) ولا عليك. ستستنكر وتحتجّ بأن ما يفعله منكر. هنا يكون (الغبار عليك). ليس من حقك أن تحتج عليه أو أن تتصور عمله منكراً منهياً عنه. فهو يأكل ممّا أحلّ الله جل وعلا ، أو بالتعبير القرآني من (الطيبات)، فالطيبات هي الطعام الحلال الذي هو مذكور إسم الله عليه بالحلّ . أما الحرام في الطعام فهو الخبائث، وهو إستثناء محدد ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(البقرة  173)، وتكرر تحديدها، ثم نزل شرحها (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) (المائدة 3). وخارج هذه المحرمات المحددة فهو حلال وطيّب. وقد منع رب العزة تحريمه، واعتبر تحريمه إعتداءاً على حق الله جل وعلا في التشريع (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(المائدة 87 )، (فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ )( النحل 114 : 116 )، (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ )(يونس 59) .

 

2 ـ إنّ لكل مجتمع عاداته في الطعام، وله ما يشتهيه وما يستقذره. وهناك شعوب تأكل الضفادع والكلاب والحمير والدود وانواعاً من الحشرات، وهناك شعوب تستفظع ما نأكله. هذا كله (لاغبار عليه). يهطل (الغبار علينا) حين نصدر قراراً بتحريم ما لا نستسيغ أكله. تحريم ما أحلّ الله جل وعلا من أكبر الكبائر لأنه إعتداءاً على حق الله جل وعلا في التشريع. بالتالي ليس لك أن تنكر ما يأكله غيرك من الطيبات. أمّا إن أكل لحم الخنزير أو إمتصّ دم حيوان حي أو أكل من حيوان ميت أو من طعام مقدم لوثن أو ضريح فهنا هو (لا غبار) من الانكار عليه. والخلاصة أنه لا إنكار على من يفعل المباح الذي لا يتعدى ولا يبغي على حقوق الآخرين .

 

 

 

 

3 ـ إن التحريم الالهي في الطعام وفي الفواحش ليس أساسه الضرر. قد يكون الزنا بالتراضي بين ذكر وأنثى مع استعمال موانع الحمل، وبالتالي لا ضرر هنا. ولا ضرر محققاً حتى الآن من أكل الطعام المحرم. بل يوجد من الطعام الحلال ما هو ضار بالصحة. ولم يأت مثلا تحريم المخدرات وهي الأشد ضرراً بينما جاء تحريم الخمر، وهي أخف ضرراً من المخدرات المدمرة للجسد والعقل والمجتمع. التحريم الالهي في الطعام والعلاقات الجنسية خارج الزواج أساسه هو الاختبار في الطاعة وليس الضرر. وبدأ هذا في إختبار آدم وحواء بتحريم شجرة واحدة من الجنة مع إباحة الأكل من كل الأشجار غيرها. ورسب الاثنان في الاختبار، ثم تابا. وقبلهما كان الاختبار للملائكة بالسجود لآدم، ليس تقديساً لآدم وإنما هو الطاعة للآمر الخالق جل وعلا. ونجح الملائكة ما عدا ابليس الذي ابى واستكبر فلعنه الله جل وعلا وطرده. ونزلت الرسالات السماوية على بني آدم فيها تحريم لأشياء محددة في الطعام وتحريم مطلق للفواحش والظلم، مع حريتهم في الطاعة أو العصيان إختباراً لهم. وأسهل طريق للعصيان وأفظعه أيضاً أن تحرّم الحلال وأن تستحل الحرام، فبذلك تعتدي على حق ربك في التشريع. والشيطان ـ الذي خدع أبوينا من قبل ـ يمارس معنا نفس الخداع ، فيجعل بعض الفقهاء يستعمل القياس في التحريم، فيبحث عن علّة في تحريم الطعام ويقول إنه الضرر، ثم يقيس على ذلك بأن كل ما يضر فحرام أكله، فيضيف محرمات هي من الطعام الحلال الذي منع رب العزة تحريمه. والسائد في الدين السّني بالذات هو الاعتداء على حق الله جل وعلا في التشريع باستحلال الحرام (كقتل المرتد والزاني المحصن وتارك الصلاة) وتحريم الحلال (في الطعام). ولكن من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن التعامل مع ما فيه ضرر، وفي دولة اسلامية حقيقية فإن من حقها حظر ومنع ما فيه ضرر وما هو منكر، وهنا يكون تشريع فيما يأذن به الله جلّ وعلا طالما لا يستعمل مصطلح الحرام والحلال. أما البغي والظلم والاعتداء فكله محرم، وعلة التحريم فيه واضحة . وكله منكر يستحق أن نتوقف معه .

 

المنكر والبغي :

 

1 ـ تخيل شخصاً يدخّن بعيداً عن الناس. لا يصحّ لك أن تنكر عليه، فالتدخين ليس حراماً، ولقد كتبنا في هذا أبحاثا منشورة، وليس لنا أن نحرّم الحلال المباح ، ثم إنّ هذا المدخّن لم يبغ ولم يعتد على أحد بتدخينه بعيداً عن الناس. ومن حق السلطة المنتخبة انتخاباً نزيهاً وتعبر عن رأي الشعب أن تصدر قوانين للتنظيم وللحماية، تمنع وتجيز بدون إستعمال مصطلح الحرام والحلال لأنها حق الله وحده. لهذه السلطة أن تمنع التدخين في وسائل المواصلات وفي المؤسسات والأماكن العامة، ولها أن تضع عقوبة مالية على من لا يلتزم. ولك أن تنكر على من يدخن ويؤذى الناس بتدخينه. ولكن ليس لك أن تنكر على من يدخّن بعيداً عن الناس. وهكذا في سائر الحريات الشخصية في المرور وقيادة السيارات وأحوال البناء والسكن والاسكان ..

 

 

2 ـ المقياس هنا هو مقدار (البغي). فالبغي كله حرام ومنكر. ولكن في التعامل بين الناس هناك فرق بين بغي قليل كمن يرفع صوت الراديو أو بوق السيارة فيؤذي الناس، ومن يهجم على الناس معتدياً بسلاح. وهنا مجال الانكار مفتوح لأننا في مجال محرم كله وهو البغي. وقد أنزل الله جل وعلا عقوبة في الدنيا لبعض أنواع هذا البغي على الناس، مثل عقوبات القتل والجروح والسرقة والقذف وقطع الطريق (أو الارهاب بتعبير عصرنا). وهذه العقوبات لا تمنع الانكار على الباغي أيضاً .

3 ـ وأفظع البغي عقوبته مؤجلة إلى يوم القيامة، وهو البغي على الله جل وعلا بإتخاذ آلهة وأولياء معه وبالاعتداء على حقه في التشريع، وبالكذب عليه في الوحي وتأسيس دين أرضي يرتكب المحرمات ثم ينسب هذا التشريع لله جل وعلا ظلماً وعدوناً كما كانت تفعل قريش قبل ثم بعد نزول القرآن (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) وجاء الرد عليهم : ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) وهناك مهتدون مخلصون وهناك ضالون خدعهم الشيطان فجعلهم يحسبون أنفسهم مهتدين (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ). وينكر رب العزة على من يحرّم الحلال في الزينة واللباس والذهب والفضة (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). ويوضح رب العزة المحرمات ومنها الفواحش والاثم والبغي فيما يخصّ حقوق الناس، ثم البغي على رب العزة باتخاذ شركاء معه في ملكه والكذب عليه والاعتداء على حقه في التشريع (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ  )( الأعراف 28 :33 ).

 

4 ـ ومن أسف أننا ننكر ما يخصّ حقوق الناس. فلو رأيت شخصاً يعتدي على آخر أنكرت عليه، وهذا شيء محمود. ولكن حق الله جل وعلا ضائع بيننا، مع إنه هو الأولى بالاهتمام، فالاعتداء على الخالق جل وعلا تتنفسه القنوات الفضائية فيما تتقيأه من أحاديث مفتراة، وفيما يجترّه الخطباء والوعاظ من إفك وبهتان في مساجد الضرار. يسمع الناس هذا الكفر فيهللون مستبشرين، ثم يشمئزون عندما تنكر على باطلهم وتعطي الله جل وعلا حقه وتذكره وحده مستحقاً وحده التقديس (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) عليك ـ إن كنت مدافعاً عن رب العزّة منكراً على خصومه ـ أن تجهر بالحق، ثم تعرض عنهم وتنتظر الحكم عليك وعليهم يوم القيامة إمتثالاً لقوله جل وعلا (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

 

 

يكفيهم ما ينتظرهم من عذاب الآخرة حين يفاجأون بما لم يكونوا يحتسبون (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ) (الزمر45 : 48).

 

المنكر والآداب العامة:

ليس من البغي وليس من المحرمات المنصوص عليها أن تقطّب جبينك وأنت تتكلم مع الناس، أو أن تشيح بوجهك وتنظر بتعال واستكبار لغيرك، أو أن تتجاهل ابتسامته لك أو ترحيبه بك. هنا يكون (الغبار عليك) وتستحق الانكار لأنك أخللت بالآداب والسلوكيات الفاضلة. وهنا أيضاً تتدرج الحالات، تبدأ بالتصرفات السلبية مثل إهمال تحية الناس وإهمال مساعدة المحتاج مثل أن تقع سيدة عجوز فلا تلتفت اليها. ويتعاظم خرق الآداب العامة لتصل إلى إرتكاب أفعال سيئة مثل تناول الطعام بطريقة مقززة أمام الناس والبصق و التبول في الطريق  العام. هنا لا نتحدث عن حلال وحرام. ولكن نتحدث عن آداب عامة، ميدانها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبعضها يستحق الانكار، وبعضها من حق الدولة أن تضع له تنظيما وعقوبات مالية . 

 

المنكر والفواحش:

 

1 ـ من أروع ما قاله امير الشعراء أحمد شوقي يصف مراحل الحب والغرام بين الذكر والأنثى:

نظرة فابتسامة فسلام  فكلام فموعد فلقاء

 

لنا في هذا البيت قراءتان حسب ضمير الذكر أو الأنثى. إذا كان الجنس هو الذي وراء النظرة فالابتسامة فالسلام فالكلام فالموعد فاللقاء فالمنتظر إكمال بيت الشعر إلى القبلة وما بعدها إلى الوقوع في الزنا. والله جل وعلا حرّم مقدمات الزنا وحرّم الاقتراب من الفواحش، وقال ضمن الوصايا العشر (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )( الانعام 151)، (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً )( الاسراء 32 )، وبالتالي فإن من يقصد الفاحشة ويفعل ما قاله أحمد شوقي فهو يمهّد الطريق للزنا فيكون حراماً. وبالتالي يستحق الانكار عليه.

 

وهناك قراءة أخرى لبيت أحمد شوقي، فليس العلاقة بين الذكر والانثى كلها في إطار النصف الأسفل. هناك علاقة احترام ومودة وعطف وإحسان بسبب الجيرة والقرابة والزمالة. وهنا تختلف النظرة والابتسامة والسلام والكلام والموعد واللقاء. وينتهي الأمر عند اللقاء في زيارة أو في عمل . لو قمت بالانكار هنا يكون الغبار عليك.

 

 

 

2 ـ إن رب العزة يقول لنا مباشرة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهي عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل 90)، فهو جل وعلا يأمرنا بالعدل ولاحسان وإيتاء ذي القربى. يأمرنا جميعاً وليس الأمر للسادة الحكام، فوجود حاكم يعلو على الناس مناقض للعدل في الأساس. وينهانا جميعاً عن الفحشاء والمنكر والبغي. ويعظنا حتى نتذكر هذه الأوامر والنواهي، وبالتالي نتناصح فيما بيننا ونتواصى بالحق ونتواصى بالصبر ونتناهى عن المنكر. والنهي عن الفحشاء سبق النهي عن المنكر. فالفواحش من أكبر المنكرات. ولارتباطها بغريزة الجنس والتكاثر فهي المدخل المناسب للشيطان، لذا يكون سهلا عليه أن يأمرنا بالفحشاء والمنكر فنطيع. والشيطان لا يتمثل لنا مباشرة، بل يتسلل لنا في وحيه الكاذب لأوليائه من شياطين الإنس الذين يكذبون على الله ورسوله في أحاديث يجعلونها وحياً مثلما يسير عليه أرباب الدين السّني. ويبدأ الأمر خطوة خطوة، لذا يأتي التحذير الالهي من إتباع خطوات الشيطان الذي يأمر بالفحشاء والمنكر ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)(النور 21). وأفظع من الفحشاء هو أن نتقول الكذب على الله جل وعلا ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )( البقرة 168 : 169 ).

 

3 ـ ولأن الفواحش مرتبطة بغريزة الجنس الذي لا غنى عنه للانسان فإن من رحمة الله جل وعلا أن يغفر لمن يجتنب كبائر الفواحش، ويقع في (اللمم) أي ما يلمّ به الانسان من مقدمات الزنا بخواطره ونظراته وجوارحه دون الغوص في الفاحشة نفسها. هذا ليس تشجيعاً على الوقوع في مقدمات الزنا، ولكنه تنبيه على النهي عن إتباع خطوات الشيطان، فمنها تلك المقدمات، ومنها تبريرها أو استحلالها إلى أن يصل إلى استحلال الفاحشة نفسها. لا بد للمؤمن أن يعرف أن تلك المقدمات سيئات وذنوب، فلا يزكّي نفسه بل يتهمها، أي أن يدخل مع نفسه في (مونولوج داخلي) أي حوار منفرد مع الذات، يمارس فيه الانكار على نفسه، و ينهى النفس عن الهوى كما جاء في صفات الفائزين يوم القيامة (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات 40 : 41). وبهذا نفهم قوله جل وعلا عن المحسنين ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى )( النجم : 32 ).

 

4 ـ إن أعظم الإنكار هو أن تنكر على نفسك قبل أن تفكر في ارتكاب المنكر، فهذا أفضل من أن تنكر على نفسك وتندم بعد الوقوع في المنكر. وفي كل الأحوال فمن التدرج في صفات المتقين أن تجد الدرجة العليا في منع النفس من الوقوع في المعصية وأن ينجو مقدماً من وسوسة الشيطان: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) ( الأعراف  201).

 

هذا للسابقين المقربين يوم الدين. وهناك درجة أقل للتقوى وهي الندم بعد الوقوع في المعصية لأصحاب اليمين (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران 133 : 135). وفي النهاية فكل المتقين ـ من أنبياء ومؤمنين وسابقين وأصحاب اليمين ـ مصيرهم إلى الجنة بعد أن يتقبل الله جل وعلا توبتهم ويكفّر عنهم (أسوأ) الذي عملوه في الدنيا (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الزمر 33 : 35 ).

 

 المنكر و المكروه:

 

1 ـ مدارات التشريع الاسلامي ثلاث في الأساس : الواجب الفرض كالعبادات، والحرام ، وهما (الفرض والحرام إستثناءات قليلة محددة وموضحة) أما الأغلب الأعم والأصل فهو الحلال المباح. كل من الواجب المفروض والحرام المحظور ينقسم داخلياً. في الفرض الواجب هناك درجات في العمل الصالح وفق تكافؤ الفرص المتاحة للجميع (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (النساء 95 : 96). ولهذا فإن أصحاب الجنة فريقان: الفريق الأعلى هم السابقون المقربون، والدرجة الأقل هم أصحاب اليمين كما جاء في بداية ونهاية سورة الواقعة. وفي المقابل فهناك السيئات الصغيرة وهناك الكبائر وأكبر الكبائر، ومن يجتنب الكبائر يغفر الله جل وعلا له السيئات ويدخله الجنة (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) (النساء 31)، ويكون من أصحاب اليمين. ومن الكبائر الاعتداء على حقوق الانسان مثل حق الحياة وحق الملكية والشرف في جرائم القتل والسرقة والاغتصاب والزنا والقذف. أما أكبر الكبائر فهي الاعتداء على حق الله جل وعلا في العقيدة  ( لا اله إلا الله ) وفي التشريع . والجحيم دركات ، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار (النساء 145 ).

2 ـ مؤسسو الدين السّني إعتدوا على حق الله جل وعلا في التشريع، وأسّسوا لهم دينهم بمصطلحاته وقواعده ومدارته التي تخالف الاسلام. وعرضنا لمدارات التشريع في الاسلام. ونوجز هنا في لمحة مدارات التشريع السّني. فقد قسموها الى خمس : الفرض الواجب والحرام والمباح الحلال. ثم التفتوا إلى الحلال المباح فألحقوا جزءاً منه بالحرام وسمّوه (المكروه) وجعلوه حلالا ولكن مكروهاً، وأقتطعوا جزءاً آخر من الحلال المباح وألحقوه بالفرض الواجب كدرجة ثانية أو زيادة على الفرض، وأسموه المستحب أو المندوب أو المسنون .

هنا وقعوا في تناقض مع القرآن الكريم الذي يجعل أكبر الكبائر من الكفر والفسوق والعصيان من المكروهات ويجعل الايمان الواجب من المستحب (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ )( الحجرات 7 ).

 

والله جل وعلا ذكر أوامره ونواهيه بدءاً من (لا اله إلا الله ) في سورة الاسراء ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) إلى إيتاء الحقوق ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) والنهي عن الاسراف والتبذير (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) والنهي عن قتل الأبرياء وعن الزنا وعن أكل مال اليتيم بالباطل، والأمر بالوفاء بالعهد والكيل والميزان بالقسط والنهي عن تتبع ما لايعنيك والنهي عن الغرور، ثم قال عن كل تلك الكبائر (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)(الاسراء23: 38). أي إن الكفر والزنا والقتل مكروه . وكل مكروه منكر .!!

 

الإنكار الجميل:

 

1 ـ ولكن يجب أن يكون إنكاراً هيناً جميلا، ليس بالشدة ولكن بالنصح والحكمة والموعظة الحسنة كما سبق قوله في بداية اللمحة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. في البداية فالمؤمن مطالب بأن يقول للناس حسنا (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً )(البقرة  83 ). والدرجة العليا لعباد الرحمن أن يقولوا التي هي أحسن وليس مجرد الحسن (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ( الاسراء 53 ). وبالتالي فإن إنكارهم لا بد أن يكون بالحسنى وبـ التي هي أحسن. ولو نصحت أحدهم بالحسنى منكراً على ما يفعله آمراً إياه بالمعروف ناهياً عن المنكر فما كان منه إلا إن تعدّى عليك بالسّب والشتم. هنا يجب عليك أن ترد عليه بالتحية والسلام ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان 63) مع الاعراض عنه (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ )(القصص 55) والصفح (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف 88 : 89) والغفران ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ  مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(الجاثية 15). والقاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي عدم التسلط ، فطالما لا فائدة من هداية المرتكب للمنكر فالاعراض عنه في لطف وصفح هو الأجدى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ( المائدة 105 ).

 

 

 

2 ـ هنا الجمال في الانكار. هذا الانكار يستلزم صبراً. ليس صبراً غاضباً حاقداً مكشراً عن أنيابه متوعداً خصمه، بل صبر جميل (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ) (المعارج 5). وهو صبر جميل لأنه مؤسس على صفح جميل ( وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر 85). وحتى حين الاعراض عنهم وهجرهم فليس هجراً فاحشاً فاجراً بل هو هجر باسم رقيق جميل   ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) ( المزمل 10 ).

 

أخيراً

 

هل تريد رؤية القبح في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ؟ إذهب إلى مملكة آل سعود ..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباب الأول ـ الفصل الثالث : تأصيل المعروف قرآنياً:

 

مفهوم المعروف القيمي الأخلاقي

 

 المعروف والخير:

1 ـ مصطلح (الخير) في القرآن متعدد ومتداخل، ومنه الخير بمعنى الصلاح الذي يشمل إخلاص الدين والعبادات لله جل وعلا وحده وحسن التعامل مع الناس. كقوله جل وعلا في سورة البقرة: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ (110) (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158). (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180). (أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)، (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (197)، (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) .

 

2 ـ ونتوقف مع صلة المفهوم القيمي الأخلاقي للخير بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

 

 الدعوة للخير هي دعوة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

1 ـ يقول جل وعلا يخاطب الأمة الاسلامية بجميع أفرادها ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ) ( آل عمران104). فالدعوة للخير ( يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) جاءت سابقة وبعدها (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ) وطبقاً لبيان القرآن فإن العطف يأتي غالبا في الشرح والتفصيل، وبالتالي فإن الدعوة للخير تعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالمعروف يتضمن في ثناياه النهي عن المنكر، والعكس صحيح .  

 

2 ـ ولكن يلفت النظر هنا قوله جل وعلا للأمة الاسلامية (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)، فالسياق اللغوي يقتضي ان يقال (ولتكن منكم أمة تدعو إلى الخير) أي أن يجيء فعل (يدعو) مفرداً مؤنثاً ليطابق لفظ (أمّة) وهو مفرد مؤنث. على خلاف السياق جاء الخطاب بالجمع المذكر في مخاطبة الأمة المؤمنة كالشأن في الأوامر التعبدية مثل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ )(البقرة 183 )،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة 9 )،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )،    ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)،    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(المائدة 1، 87 ، 90 ). فالذين آمنوا يشمل جميع الأفراد ذكوراً وإناثاً، وكذلك قوله جل وعلا ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)، فهو يشمل جميع الأمة ، بل ويجعل ميدان الدعوة موجهاً للداخل أساساً. لأنه لو قيل (ولتكن منكم أمة تدعو الى الخير) لكان المفهوم أن هذه الأمة تدعو غيرها من الأمم الى الخير، وليس هذا أساس السياق الذي يخاطب أفراد الأمة من داخل الأمة أن يعتصموا بحبل الله جميعاً وألّا يتفرقوا وأن يدعو بعضهم بعضاً إلى الخير ويتواصون بالأمر بالمعروف ويتناهون عن المنكر.

 

مجيء لفظ المعروف بمعنى فعل وقول الخير:

 

1 ـ قول المعروف أو الأمر بالمعروف لا يكون بالتسلط ورفع الصوت، ولكن بالنصح الهاديء الجميل أي  التناجي بالخير. وقد أشاع منافقو الصحابة في المدينة التناجي بالسوء، فقال جل وعلا في التناجي بالخير (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء 114).هنا جاء صريحاً الأمر بالمعروف ضمن أفعال الخير (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ). ومثله قوله جلّ وعلا لنساء النبي (وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا) (الاحزاب 32) وقوله جلّ وعلا تعقيباً على بعض الصحابة (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ)( محمد 21 ) فالطاعة وقول المعروف والصدق هو الخير لهم .

 

2 ـ وقد تأتي بعض ملامح الخير تحت بند فعل المعروف للمستحقين، كقوله جلّ وعلا ( وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا )(الاحزاب 6 ).

 

معنى المعروف القيمي ( الخير بمعنى العدل والاحسان ):

 

1 ـ يقول جل وعلا ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )( النحل 90 ). هذا هو الأصل المحكم الذي ينبع منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ) يعني : إن الله جل وعلا يأمر بالمعروف. فالعدل والاحسان مع الجميع ومع ذوي القربى هو غاية المعروف، أو هو المعروف القيمي، أو المعروف كقيمة عليا تعني فعل الخير.

 

2 ـ ويقول جل وعلا في صفات المجتمع المسلم ودولته الاسلامية (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي لهذا المجتمع أن يتمتع بنعم الله جل وعلا في الدنيا ولكن يدرك أن ما عند الله من نعيم الجنة خير، أي أفضل. وهنا تأتي كلمة خير بمعنى التفضيل، وهو الأكثر في ورودها في القرآن الكريم. ويوصف هذا المجتمع بالايمان وبالتوكل على الله، وفي الآية التالية يوصف أفراده بإجتناب كبائر الاثم وكبائر الفواحش، وإذا غضبوا فهم يغفرون ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) وتأتي بقية صفاتهم؛ من الطاعة والاستجابة لأوامر رب العزة جل وعلا وإقامة الصلاة و إقامة الشورى بينهم والتصدق والانفاق في سبيل الله (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، ومع أنهم مسالمون لا يعتدون على أحد إلّا إن باستطاعتهم رد البغي ومواجهة العدوان والانتصار عليه (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ). وأمامهم خياران في التعامل مع من يعتدي عليهم أو يسيء اليهم : إمّا بالعدل فالنفس بالنفس والسيئة بمثلها، وإمّا بالاحسان وهو العفو عند المقدرة إبتغاء مرضاة الله جل وعلا (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(الشورى 36). فالإحسان أعلى قيمة من العدل. العدل أن تنتقم بالمثل، أمّا الاحسان فهو العفو عن المسيء والعطاء للمحتاج دون أن تنتظر منه أجراً .

 

3 ـ ويقول رب العزة للداعية المؤمن والذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فالدعوة بالحكمة والموعظة (الحسنة) وبالتالي فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يكون بالحكمة والموعظة (الحسنة). ويقول رب العزّة في الآية التالية للمجتمع المؤمن ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ)، هنا أيضاً التخيير بين العدل (المعاقبة بالمثل) أو الصفح والصبر وهو الأفضل أو الخير. ويؤكد رب العزّة في الآية التالية على خيار الصبر (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ)، والله جل وعلا مع الصابرين ومع المتقين ومع المحسنين كما جاء في الاية التالية ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ )(النحل125 : 128).

 

4 ـ بل يأتي الأمر بمقابلة السيئة ليس فقط بالحسنة ولكن بـ التي هي أحسن، يقول جلّ وعلا: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ )(المؤمنون 96)، وفي مجال الدعوة والوعظ بالذات لا بد أن يتم التعامل بـ التي هي أحسن في الجدال مع أهل الكتاب لنزع فتيل التعصب (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت 46).

وما أروع قوله جل وعلا ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) ( فصلت 33 : 35).

 

أخيراً

وكان عليه السلام أروع مثال بشري في الاحسان وفي العفو والصفح عمّن كان يؤذيه من المنافقين. كان رحمة للمؤمنين ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ). كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة 61، 128). كان لينّاً سهلاً (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)( آل عمران 159 ).

 

 وهذه هي سنته الحقيقية القرآنية، وليست السّنة الحنبلية الوهابية السعودية حيث الغلظة والفظاظة .

 

المعروف في التشريع الإسلامي:

 

 لمحة عن المعروف بين التشريع الإسلامي والتشريع الغربي:

  

1 ـ  قلنا إن العرف أو المعروف يعني المتعارف على أنه خير وحق وعدل. أي أنه القيم العليا في الاسلام من العدل والاحسان والحرية وحفظ الحقوق. هذه القيم العليا (وخصوصاً العدل والقسط) كانت الهدف من ارسال الرسل والأنبياء والكتب السماوية. وبالتالي فيجب ـ أؤكد : يجب ـ أن تكون تلك القيم العليا هي المرجعية الحاكمة لأي تشريع بشري في الدستور والقوانين . ولو روعي ذلك في سنّ القوانين فهو تشريع الاهي يرضى عنه رب العزة .

 

2 ـ وأوربا في نهضتها قامت بسنّ قوانين تستلهم العدل والحرية وكرامة الانسان، ووضعت في بنود محددة معدة للتطبيق القضائي. وليس مثلما إعتاد فقهاء المسلمين في ثرثرتهم الفقهية النظرية  التي تدخلت في كل شيء، بل حتى إفترضت وقائع خيالية وجعلت لها أحكاماً، ثم اختلفوا في كل شيء وجعلوا إختلافهم رحمة. وابتعد هذا الفقه النظري التصوري التخيلي عن الواقع القضائي بحيث كان لا يلتزم به القاضي مع تبعيته لمذهب ما من المذاهب الفقهية .

 

 

3 ـ الأهم من هذا هو إتفاق التشريع الغربي مع التشريع الإسلامي القرآني في مبنى التشريع ومصدره. لم تجعل القوانين الغربية مما هو كائن في المجتمع مصدر التشريع ، بل جعلت مصدر التشريع هو ما ينبغي أن يكون. وهي نفس المبنى الذي يقوم عليه التشريع القرآني. وهذا يحتاج توضيحاً. هناك عادات سيئة في المجتمع وأمراض إجتماعية، وهناك أيضاً قيم عليا متعارف عليها. لم تستلهم القوانين الغربية قوانينها مما هو سائد من عادات وتقاليد بل استلهمتها من كتابات الفلاسفة الباحثين عن المدينة الفاضلة والقيم العليا. القرآن الكريم له الدرجة العليا في هذا المضمار. فمن ناحية يؤكد أن أكثرية البشر ضالة مضلّة، ومن ناحية أخرى يوجّه لهم رسالته الاصلاحية الداعية إلى القسط والحرية والسلام والاحسان والعطاء والرحمة ..الخ. لم يجعل التشريع الإسلامي من واقع العرب مصدراً للتشريع، بل على العكس ندّد به ونقده وقام باصلاحه .

 

4 ـ لقد نزل القرآن الكريم في مجتمع ( جاهلي) يحترف التقاتل والسلب والنهب ويفخر بالظلم ، وكان إصلاحه عسيراً. ولكن نجح الاصلاح القرآني، بل أقام دولة اسلامية ديمقراطية حقوقية كانت جملة إعتراضية في ثقافة العالم وقتها. وكان من الطبيعي وهي دولة تخرج عن المألوف في محيطها العربي والعالمي أن تتآكل وتتوارى شيئاً فشيئاً. وتوارت وغابت الدولة الاسلامية ولكن أسسها التشريعية لا تزال محفوظة في القرآن الكريم المحفوظ من لدن الله جل وعلا. ومن أسسها التشريعية المعروف أو القيم العليا المتعارف عليها من العدل والاحسان والحرية وكرامة الانسان .

 

ومنهج القرأن في التربية بدأ بالفترة المكية بالتركيز على الاصلاح الديني والاخلاقي معاً، هذا الجانب الأخلاقي الذي أهمله أئمة الأديان الأرضية المسلمين. في الفترة المكية نزل التوجيه الأخلاقي ليس فقط في قصص الأنبياء ولكن ايضاً في الوصايا العشر (الأنعام 151 : 153) وفي سور (النحل 90 ـ 97) و(الاسراء 22 : 39) و(المؤمنون 1 : 11) و(الفرقان63 : 76) و(لقمان 12 : 19) و (الشورى 36 : 43) و(المعارج 19 : 35)، وفي عشرات الآيات الأخرى . مع إشارات مجملة لمبادىء وعموميات التشريع كما في سورة (الأعراف 28 : 33 ).

ثم جاءت تفصيلات التشريع في المدينة تبنى على أساس خلقي سبق توضيحه، وتواصل إنتقاد المجتمع داخل الدولة الاسلامية من منافقين ومؤمنين ، بل كان خاتم النبيين يتعرض للوم والتأنيب والعتاب .

5 ـ أوروبا في نهضتها بدأت بالكتابات الاصلاحية في مواجهة ثقافة مختلّة تعاون فيها الدين الأرضي السائد (البابوية) مع الاستبداد والفساد. بدأ الاصلاح الديني محتجاً على فساد الكنيسة وتطور معه إصلاح مدني وتعانق معه في رفض الواقع واستلهام القيم العليا بدرجات مختلفة. إلى أن وصل التشريع الغربي في أوروبا وأمريكا إلى المواثيق الدولية لحقوق الانسان، وهي أقرب كتابة بشرية للتشريع الإسلامي الحق الذي أضاعه أئمة الأديان الأرضية من المسلمين في العصور الوسطى .

6 ـ وحين أراد مصلحو المسلمين السير على الطريق الأوروبية للتخلص من تخلف الأديان الأرضية إذا بالوهابية تعيد أشد نوعيات التدين الأرضي تخلفاً وتزمتاً وتحجراً وتعصباً ودموية، وهي السنية الحنبلية التيمية الوهابية السعودية . ثم بقطار النفط السريع وفي ظروف مواتية محلية واقليمية وعالمية نجحت الوهابية في تسميم العقل العربي والمسلم ، وهي الآن على وشك اختطاف الربيع العربي .

7 ـ ولقد نجحت الوهابية المصرية من خلال الاخوان المسلمين والسلفيين في مشاركة العسكر في السلطة، وهم يتطلعون الى تأليف دستور مصري يؤسس التشريع الوهابي. والمستشار طارق البشري المفكّر الوهابي يتبنى رأيا مخالفا للقرآن والتشريع الغربي، وهو أن ما تقوم عليه ثقافة الأكثرية من المجتمع يكون هو المصدر للتشريع. إن أكثرية المجتمع المصري جرى تغييبها وتسميمها بالثقافة الوهابية وبالتعصب ضد الأقباط وبالنفاق الديني والتدين السطحي المظهري وتبرير الفساد وتعلية قيمة المال والثروة بغض النظر عن مصدرها. حدث هذا التجريف الأخلاقي في العقلية المصرية، فلم يعد الناس هم الناس بعد جيلين. وحتى على فرض أن أكثرية المصريين لا تزال فيهم الشهامة والنخوة والطيبة التي كانت من أربعين عاماً، فإن الثابت والذي لا خلاف فيه أن الأغلبية الصامتة من الناس هي الأقل حظاً في التعليم والثقافة، وهي التي تحتاج إلى التعليم والتثقيف والتحضر .. فكيف تكون هذه الأغلبية الصامتة مصدراً للتشريع ؟ .

 

إن المستبد دائماً يحلو له ركوب هذه الأغلبية الصامتة، ويحلو له أن يزعم إنه الذي يعبّر عنها. فعل هذا عبد الناصر في تخصيص نصف مقاعد البرلمان للعمال والفلاحين، ولا يزال هذا سارياً. ثم يأتي المستشار البشري ويجعل من الأغلبية مصدراً للتشريع. وبالتالي فلا بد للدستور والتشريع أن يعبّر عن حال الأغلبية المصرية التي تتبنى الحجاب والنقاب وترفض بناء الكنائس وترفض مساواة القبطي بالمسلم ومساواة المرأة بالرجل. بسبب سيطرة الوهابية على الاعلام والتعليم والأزهر والمساجد، تراجعت القيم العليا وحلّ محلها الفساد الخلقي والديني. ويأتي طارق البشري ليجعل هذه المرض مصدراً للتشريع. هو يقف ضد مفكري النهضة الأوروبية الذين رفضوا فساد عصرهم وفساد كنيستهم ونادوا بالاصلاح واستلهام القيم العليا للانسانية. لم يكن لديهم القرآن يستلهمون قيمه العليا وتشريعاته. ولكن المستشار طارق البشري الذي بلا شكّ يعرف بوجود القرآن يهجر القرآن وينادي باستلهام التشريع الدستوري من (قاع المجتمع ).

 

8 ـ صلة هذا الكلام أنه للردّ مقدماً على من يقول إن ما يدور في المجتمع المصري الآن هو العرف أو هو المعروف السائد، وبالتالي يكون مصدراً للتشريع. ونؤكد مجدداً على ان العرف والمعروف هو القيم العليا كمبادىء للتشريع وكمعيار للتطبيق، وكل إنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره وتباريره (القيامة 14 : 15). تلك القيم العليا ضمن الفطرة داخل كل إنسان. ولو كنت تدخّن السجائر عزيزي القارىء فإنك ستفزع حين ترى إبنك الصغير يقلدك ويدخّن السجائر.

 

هنا الفارق بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. الكائن أنك تدخّن، والذي ينبغي أن يكون هو ما تتمناه لابنك ؛ أن يكون خيراً منك، لذا تفزع إذا وقع في الخطأ الذي تقع فيه أنت. والتشريع يجب إستمداده مما ينبغي أن يكون وإلا كان تقنيناً لسيئات المجتمع وفساده، فإذا كانت الرشوة هي السائدة فلا باس أن تصبح قانوناً، وإذا كان الغشّ في الامتحان هو الأصل في النجاح وإذا كانت الواسطة هي أساس الحصول على الوظائف والخدمات فلتكن هذه المفاسد تشريعاً، وإذا كان الاكراه في الدين وحجر الرأي وتجريم الفكر أساس الدين السّني الوهابي لتحصينه من النقد فلا بد أن يتصدّر هذا التشريع .. هذا ما يريده الوهابيون المصريون ..وغيرهم .!!

 

 لمحة عن التشريع الإسلامي وتطبيقه:

 

‏1 ـ  ‏آيات‏ ‏التشريع‏ المدني ‏في ‏القرآن‏ ‏حوالي ‏مائتي ‏أية‏ ‏بما‏ ‏فيها‏ ‏من‏ ‏تكرار‏ ‏وتفصيل‏ ‏وتأكيد‏.. ‏ومعنى ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏قدراً ‏هائلا‏ ‏قد‏ ‏تركه‏ ‏القرآن‏ ‏لاجتهاد‏ ‏البشر‏ ‏فيما‏ ‏يقع‏ ‏فيه‏ ‏التطور‏ ‏واختلاف‏ ‏الظروف‏، ‏وبذلك‏ ‏يكون‏ ‏تشريع‏ ‏القرآن‏ ‏صالحاً ‏لكل‏ ‏زمان‏ ‏ومكان‏.‏

 

2 ـ ونعطي لمحة سريعة عن ‏تشريعات‏ ‏القرآن‏ ‏والمواضع‏ المتروكة لاجتهاد البشر في التقنين والتطبيق ‏:

‏* ‏فهناك‏ ‏تشريعات‏ ‏قرآنية‏ ‏خاصة‏ ‏بزمانها‏ ‏ومكانها‏ ‏ولا‏ ‏مجال‏ ‏لتطبيقها‏ ‏في ‏عصرنا‏، ‏مثل‏ ‏حديث‏ ‏القرآن‏ ‏عن‏ ‏التشريعات‏ ‏الخاصة‏ ‏بالنبي ‏وبيوته‏ ‏وزوجاته‏ ‏وعلاقاته‏ ‏بأصحابه‏.‏

 

‏* ‏وهناك‏ ‏تشريعات‏ ‏قرآنية‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏تطبيقها‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏توفرت‏ ‏ظروفها‏. ‏فإذا‏ ‏لم‏ ‏تتوفر‏ ‏ظروفها‏ ‏فلا‏ ‏حاجة‏ ‏بنا‏ ‏لتطبيقها‏، ‏مثل‏ ‏احكام‏ ‏الرقيق‏، ‏اذ‏ ‏لا‏ ‏ضير‏ ‏في ‏أن‏ ‏يذكرها‏ ‏القرآن‏، ‏فشأن‏ ‏التشريع‏ ‏أن‏ ‏يذكر‏ ‏كل‏ ‏حالة‏، ‏أما‏ ‏التطبيق‏ ‏فلا‏ ‏يكون‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏وجدت‏ ‏حالات‏ ‏صالحة‏ ‏للتطبيق‏، ‏وعلى ‏سبيل‏ ‏المثال‏ ‏فالقانون‏ ‏يتحدث‏ ‏عن‏ ‏نفقة‏ ‏الزوجة‏ ‏المطلقة‏ ‏ولكن‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏يتم‏ ‏تطبيقه‏ ‏على ‏الأعزب‏ ‏الذي ‏لم‏ ‏يتزوج‏ ‏ولم‏ ‏يطلق‏.. ‏فإذا‏ ‏تزوج‏ ‏وطلق‏ ‏زوجته‏ ‏أصبح‏ ‏خاضعاً ‏بحالته‏ ‏تلك‏ ‏للقانون‏. ‏وهكذا‏ ‏فتشريع‏ ‏القرآن‏ ‏عن‏ ‏الرق‏ ‏لا‏ ‏تسري ‏إلا‏ ‏في ‏عصر‏ يكون ‏فيه‏ ‏الاسترقاق‏ ‏شائعاً ‏اجتماعياً. ‏مع‏ ‏ملاحظة‏ ‏إنه‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏القضاء‏ ‏تماماً ‏على ‏ظاهرة‏ ‏الرق‏، ‏وإن‏ ‏تشريعات‏ ‏القرآن‏ ‏قد‏ ‏قصدت‏ ‏في ‏المقام‏ ‏الأول‏ ‏تحرير‏ ‏الرقيق‏.. ‏وتلك‏ ‏قضية‏ ‏أخرى‏.‏

 

* وهناك الثابت والمتغير في تشريعات الجهاد، وهو موضوع شرحه يطول، يدخل فيه التدرج في التشريع في العلاقات بين المسلمين المسالمين و المشركين المعتدين، وعلى المسلمين مراعاة ذلك التدرج في التشريع أو التقنين، وأيضاً في التطبيق. وقد تحدثنا عن ذلك في بحث (النسخ في القرآن الكريم يعني الاثبات والكتابة وليس الحذف والالغاء).

 

* وهناك تشريعات قرآنية لا تحتاج إلى تقنين بشري لأنه لا دخل لسلطة الدولة فيها لأن مناط تطبيقها موكول للفرد وتعامله مع ربه جل وعلا، ويدخل في هذا الاطار الأخلاقي للقرآن الكريم في تعامل الفرد مع نفسه وأسرته ومن حوله، ومنها بعض الوصايا الأخلاقية المذكورة في السور المكية (الاسراء 22: 39) (الفرقان 63) (الأنعام151 : 153) (النحل 90: 95) وفي السور المدنية (البقرة 44: 46، 83، 109، 153، 177، 261 : 274) (النساء 36).. مجرد أمثلة..

 

‏* ‏وهناك‏ ‏تشريعات‏ ‏قرآنية‏ ‏جامعة‏ ‏مانعة‏، ‏والاجتهاد‏ ‏يكون‏ ‏في ‏تطبيقها‏ ‏كما‏ ‏هي ‏دون‏ ‏زيادة‏ ‏أو‏ ‏نقصان‏، ‏والمثال‏ ‏الواضح‏ ‏في ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏المحرمات‏ ‏في ‏الزواج‏ (‏النساء‏ 22: 24) ‏مع‏ ‏ملاحظة‏ ‏أن‏ ‏تشريع‏ ‏الفقهاء‏ ‏لم‏ ‏يلتزم‏ ‏بهذا‏ ‏التحريم‏ ‏الجامع‏ ‏المانع‏، ‏فأضاف‏ ‏للمحرمات‏ ‏في ‏الزواج‏ ‏ما‏ ‏أحله‏ ‏الله‏ ‏تعالى، ‏مثل‏ ‏قولهم‏: ‏يحرم‏ ‏من‏ ‏الرضاع‏ ‏ما‏ ‏يحرم‏ ‏من‏ ‏النسب‏، ‏وقولهم‏: ‏يحرم‏ ‏الجمع‏ ‏بين‏ ‏المرأة‏ ‏وعمتها‏ ‏والمرأة‏ ‏وخالتها‏. ‏فالقرآن‏ ‏يجيز‏ ‏ذلك‏، ‏والفقهاء‏ ‏يحرمونه‏ ‏أي ‏يحرمون‏ ‏ما‏ ‏أحل‏ ‏الله‏. ‏

 

وهناك‏ ‏مثال‏ ‏آخر‏ ‏للمحرمات‏ ‏الجامعة‏ ‏المانعة‏، ‏كتحريم‏ ‏أكل‏ ‏الميتة‏ ‏والدم‏ ‏ولحم‏ ‏الخنزير‏ ‏وما‏ ‏أهل‏ ‏لغير‏ ‏الله‏ ‏به‏، ‏وقد‏ ‏فصل‏ ‏القرآن‏ ‏القول‏ ‏فيها‏ ‏وحذر‏ ‏من‏ ‏تحريم‏ ‏ما‏ ‏أحل‏ ‏الله‏، ‏ولكن‏ ‏الفقهاء‏ ‏حرموا‏ ‏الكثير‏ ‏من‏ ‏الحلال‏ ‏بالمخالفة‏ ‏لتشريع‏ ‏القرآن‏.

 

‏وينطبق‏ ‏ذلك‏ ‏أيضاً ‏على ‏القواعد‏ ‏التشريعية‏ ‏الجامعة‏ ‏المانعة‏، ‏مثل‏ ‏تحريم‏ ‏قتل‏ ‏النفس‏ ‏إلا‏ ‏بالحق‏ ‏أي ‏بالقصاص‏، ‏وقد‏ ‏خالف‏ ‏الفقهاء‏ ‏هذه‏ ‏القاعدة‏ ‏التشريعية‏ ‏فحكموا‏ ‏بالقتل‏ ‏للمرتد‏ ‏والزاني ‏المحصن‏ ‏وأسباب‏ ‏أخرى ‏كثيرة‏ ‏أي ‏أحلوا‏ ‏ما‏ ‏حرم‏ ‏الله‏.‏ أي ‏أن‏ ‏الفقهاء‏ ‏اجتهدوا‏ ‏في ‏الحكم‏ ‏بغير‏ ‏ما‏ ‏أنزل‏ ‏الله‏ ‏تعالى ‏في ‏تشريعاته‏ ‏الجامعة‏ ‏المانعة‏ ‏الملزمة‏، ‏و التي ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏الاجتهاد‏ ‏فيها‏ ‏إلا‏ ‏بتطبيقها‏ ‏كما‏ ‏هي‏.‏

 

‏* ‏وهناك‏ ‏تفصيلات‏ ‏تشريعية‏ ‏احتكم‏ ‏فيها‏ ‏القرآن‏ ‏للعرف‏ ‏أو‏ ‏المعروف‏، ‏وهنا‏ ‏نحتاج‏ ‏إلى ‏قوانين‏ ‏وتشريعات‏ ‏لتقنين‏ ‏ذلك‏ ‏العرف‏ ‏حسب‏ ‏أحوال‏ ‏العصر‏. ‏ومثلا‏ ‏يقول‏ ‏تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ) "‏البقرة‏ 233" ‏فالتشريع‏ ‏البشري ‏يتدخل‏ ‏هنا‏ ‏في ‏تقنين‏ ‏نفقة‏ ‏الرضيع‏ ‏على ‏أبيه‏ ‏بحسب‏ ‏العملة‏ ‏السائدة‏ ‏وظروف‏ ‏العصر‏، ‏والقاضي ‏يقوم‏ ‏بتقدير‏ ‏تلك‏ ‏النفقة‏ ‏على ‏الحالة‏ ‏المعروضة‏ ‏أمامه‏ ‏حسب‏ ‏فقر‏ ‏الأب‏ ‏وغناه‏.‏ ونحو ذلك قوله جل وعلا في التعامل مع الزوجة المطلقة وحقها في العيش في سكن ملائم ونفقة ملائمة واجبة على الزوج (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) (الطلاق 6). هنا نجد المعروف هو المعوّل عليه في سن القانون بمعرفة الهيئة التشريعية، وفي تطبيقه على يد القاضي.

ولقد كان خاتم المرسلين نفسه مأموراً بإتباع المعروف أو العرف (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف 199). وبالتالي فإن التزام العرف يكون في جانبين: سنّ قوانين في المباحات المسكوت عنها، وفي تطبيق الأوامر التشريعية في القرآن الكريم.

 

‏* ‏وقد‏ ‏جاءت‏ ‏تشريعات‏ ‏القرآن‏ ‏في ‏رعاية‏ ‏الأسرة‏ ‏وحقوق‏ ‏الإنسان‏ ‏أو‏ ‏حقوق‏ ‏العباد‏ ‏وتنمية‏ ‏الأخلاق‏ ‏وركزت‏ ‏على ‏تفصيل‏ ‏المحرمات‏ ‏بينما‏ ‏تركت‏ ‏المباح‏ ‏الحلال‏ ‏مفتوحة‏ ‏أبوابه‏ ‏لأنه‏ ‏هو‏ ‏الأصل‏. ‏وهذا‏ ‏المباح‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏اجتهاد‏ ‏تشريعي ‏في ‏تنظيمه‏ ‏في ‏إطار‏ ‏المقاصد‏ ‏التشريعية‏ ‏العامة‏ ‏وهي ‏العدل‏ ‏والتيسير‏ ‏ورفع‏ ‏الحرج‏ ‏ورعاية‏ ‏المصالح‏ ‏والإحسان‏ ‏وعدم‏ ‏إيقاع‏ ‏الضرر‏ ‏وحفظ‏ ‏حقوق‏ ‏العباد‏، ‏وكل‏ ‏القوانين‏ ‏في ‏ذلك‏ ‏الإطار‏ ‏تكون‏ ‏تشريعاً ‏إسلامياً، ‏وهذا‏ ‏حق‏ ‏البشر‏ ‏في ‏التشريع‏ ‏وفق‏ ‏ما‏ ‏أنزل‏ ‏الله‏ ‏تعالى‏.‏

وكل‏ ‏ما‏ ‏يدور‏ ‏في ‏إطار‏ ‏القوانين‏ ‏المستحدثة‏ ‏في ‏المرور‏ ‏والمساكن‏ ‏والتنظيم‏ ‏والإدارة‏ ‏والصحة‏ ‏والتعليم‏ ‏والخدمات‏.. ‏إلخ‏.. ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏في ‏إطار‏ ‏التشريع‏ ‏البشري ‏المسموح‏ ‏به‏ ‏إسلامياً ‏لأنه‏ ‏متروك‏ ‏لاجتهاد‏ ‏البشر‏ ‏فيما‏ ‏سكت‏ ‏عنه‏ ‏القرآن‏ ‏وتركه‏ ‏للعرف‏ ‏والمعروف‏، ‏والمهم‏ ‏أن‏ ‏يراعي ‏المقاصد‏ ‏التشريعية‏ ‏الكبرى ‏مثل‏ ‏العدل‏ ‏والتيسير‏ ‏ورعاية‏ ‏المصالح‏ ‏وحفظ‏ ‏الحقوق‏ ‏بالنسبة‏ ‏للعباد‏.

 

*حقوق‏ ‏الله‏ ‏تعالى ‏في ‏العقيدة‏ ‏وفي ‏العبادات‏ ‏فليس‏ ‏لأحد‏ ‏أن‏ ‏يتدخل‏ ‏فيها‏ ‏لأن‏ ‏مرجع‏ ‏الحكم‏ ‏فيها‏ ‏لله‏ ‏تعالى ‏يوم‏ ‏القيامة‏، ‏وهي ‏مسألة‏ ‏هداية‏ ‏يتوقف‏ ‏الأمر‏ ‏فيها‏ ‏على ‏كل‏ ‏إنسان‏ ‏إذا‏ ‏اهتدى ‏فلنفسه‏ ‏وإن‏ ‏ضل‏ ‏فعلى ‏نفسه‏.

 

أما‏ ‏حقوق‏ ‏العباد‏ ‏أو‏ ‏حقوق‏ ‏الإنسان‏ ‏فهي ‏مسئولية‏ ‏المجتمع‏ ‏لحفظ‏ ‏حقوق‏ ‏الأفراد‏، ‏ولذلك‏ ‏فإن‏ ‏العقوبات‏ ‏المدنية‏ ‏إنما‏ ‏تكون‏ ‏فيما‏ ‏يخص‏ ‏حقوق‏ ‏العباد‏ ‏فقط‏. ‏حقهم‏ ‏في ‏الحياة‏ ‏والأموال‏ ‏والأعراض‏ ‏وحق‏ ‏المجتمع‏ ‏كله‏ ‏في ‏الأمن‏، ‏وتتحدد‏ ‏العقوبات‏ ‏هنا‏ ‏في ‏جرائم‏ ‏الزنا‏ ‏والقذف‏ ‏والقتل‏ ‏وقطع‏ ‏الطريق‏ ‏والسرقة‏. ‏ولسنا‏ ‏في ‏موضع‏ ‏التفصيل‏ ‏للشروط‏ ‏الموضوعية‏ ‏لتطبيق‏ ‏هذه‏ ‏العقوبات‏، ‏ولكن‏ ‏نشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏تشريعات‏ ‏الفقهاء‏، ‏غيرت‏ ‏المصطلح‏ ‏إلى ‏الحدود‏، ‏وكلمة‏ ‏الحدود‏ ‏تعني ‏الحق‏ ‏والشرع‏ ‏في ‏القرآن‏، ‏وبعد‏ ‏تغيير‏ ‏المصطلح‏ ‏أضافوا‏ ‏عقوبات‏ ‏جديدة‏ ‏كالرجم‏ ‏والردة‏ ‏وعقوبة‏ ‏شرب‏ ‏الخمر‏ ‏وغيرها‏. ‏وبهذا‏ ‏اتسع‏ ‏التناقض‏ ‏بين‏ ‏تشريع‏ ‏القرآن‏ ‏وتشريع‏ ‏الفقهاء‏.‏

 

نؤكد ثانياً أنه ليس للتشريع المصرح به للمسلمين أن يتدخل في العقائد والعبادات من واجبات مفروضة ومن محرمات محظورة، وأمامه الباب واسعاً في المباح المسكوت عنه وفق القيم العليا للاسلام المشار اليها، و التي تحمل مصطلح (العرف) و (المعروف).  

 

 

والنظام القضائي في الاسلام يستلزم أولي الأمر أو أصحاب الشأن والاختصاص من الراسخين في العلم بالقرآن وتشريعاته، وما يمكن منها تشريعه وتطبيقه سواء كانت تفصيلاته منصوصاً عليها في القرآن، أو كانت مرجعيتها القرآنية للعرف والمعروف، أي القيم العليا في الاسلام.

 

والتقنين هنا يكون تحت مناقشة واقرار الشورى الاسلامية وديمقراطيتها المباشرة، فاذا تم إقرار القانون فعلى الجميع الالتزام به باعتباره تشريعاً اسلامياً أذن به الله جل وعلا. وهذا الالتزام مرده إلى العقد أو العهد الذي تبايع به الناس على السمع والطاعة لأولي الأمر، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (النساء 59) لاحظ أنهم (أولي الأمر) أي ليس (ولي الأمر) أي تشكيلات ومجموعات من العاملين في الخدمة العامة المختارين بحكم التخصص والخبرة، وليس مجرد ولي أمر حاكم فرد مستبد.

 

ومن بنود العقد الذي تقوم على اساسه دولة الاسلام عدم العصيان للمعروف، وهذا ما جاء في عصر النبي محمد في بيعة النساء المهاجرات للدولة الاسلامية ليكنّ مشاركات أصلاء فيها (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الممتحنة 12).  

 

 المعروف في تفصيل التشريعات الاسلامية :

 

هناك أوامر تشريعية تعلوها مقاصد التشريع. والمعروف من مقاصد التشريع كمبدأ عام وقيمة عليا في التعامل مع الناس، يقول جلّ وعلا ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف199). والمعروف كقيمة عليا هو حاضر دائماً في كل أوامر التشريع الإسلامي  مقصداً من مقاصد التشريع من العدل والاحسان، و التي تعلو على أوامر التشريع.

 

والمعروف كأساس في تطبيق الأوامر التشريعية ورد ذكره ضمنياً، وورد ذكره باللفظ في التفصيلات التالية :

 

1 ـ في الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وخلافه :

- في الصداق لملك اليمين: أي يجب إعطاؤها مهراً بالمتعارف عليه وعلى أنه عدل (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) (النساء 25 ).

- وفي معاشرة الزوجة بالمعروف ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا )( النساء 19 ).

- في الطلاق والانفصال وحق الزوج في إعادة زوجته خلال مدة العدة ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )( البقرة 228 ).

- وبانتهاء عدتها وهي في بيت الزوجية إمّا أن يمسكها الزوج بالمعروف وإمّا ان يفارقها نهائياً بالمعروف ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ)(البقرة 229 ، 231) ( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ )( الطلاق 2 ).

 

- وأثناء بقاء المطلقة في بيت الزوجية لها كل حقوق الزوجة في السكن والنفقة ورضاعة المولود بالمعروف ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)(الطلاق 6) ويجب مراعاة المعروف في الرضاعة ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )( البقرة 233 ).

 

- ولها حق المتعة، ويمكن تقديرها بالمعروف بالعدل وبما يوافق حال الزوج (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).  (لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)(البقرة 241 ، 236). ولو طلقها قبل الدخول بها ولها مؤخر صداق فلها نصف المؤخر إلّا أن تتنازل عنه هي أو ولي أمرها في عقد النكاح . والعفو هو الاحسان وهو الأقرب للتقوى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )( البقرة237 ).

 

- وبعد خروجها من بيتها وانفصالها عن زوجها السابق فمن حقها أن تتزوج بمن تشاء، بالمعروف (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ )(البقرة 232.)

 

 

- ونفس الحق للأرملة في المتعة بالبقاء عاماً داخل بيت زوجها المتوفي، مع حقها في الخروج وفي الزواج بعد انتهاء عدتها ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). وعن حقها في الزواج بالمعروف يقول جل وعلا ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، وقبل الزواج حقها في الخطبة وحديثها مع خطيبها بالمعروف في خلوة ( وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ )(البقرة 240 ، 234 : 235 ).

 

 المعروف في حقوق الناس :

- في تقدير دية القتيل بدلا عن القصاص ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )( البقرة 178 ).

 

- في الوصية عند الموت للوالدين والأقربين بالمعروف ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة 180 : 182 ).

 

- و حق اليتيم في الأكل وفي النفقة من ماله بالمعروف إذا وصل مرحلة البلوغ وكان سفيهاً   (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا). أما إذا بلغ النضج وتبين صلاحيته للتصرف في ماله فمن حقه التصرف، وأثناء مرحلة صباه وقبل النضج يرعاه وصي عليه الذي يأخذ أجراً بالمعروف لو كان فقيراً (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا ).

 

- وحق الأقارب واليتامى والمساكين في أخذ جزء من التركة ـ بالمعروف ـ لو حضروا القسمة ( لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء 5 : 9 ).

الأمـر بالـمـعــروف والـنـهـي عــن الـمـنـكــر في الاسلام
كتاب (الأمـر بالـمـعــر وف والـنـهـي عــن الـمـنـكــ ر بين الاسلام والمسلمين) يتناول فى دراسة تحليلية أصولية تاريخية التناقض بين الأمـر بالـمـعــر وف والـنـهـي عــن الـمـنـكــ ر بين الاسلام والمسلمين. وهذا الجزء الأول يتعرض فى لمحة عامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فى الاسلام بتأصيل مفهوم المعروف والمنكر قرآنياً وتشريعياً ومدى تطبيقه في الدولة الاسلامية في إطار الحرية الدينية المطلقة للفرد، ثم تعقبه ـ فيما بعد بعون الله جلّ وعلا ـ الأجزاء التالية تتبع مسيرة الأمـر بالـمـعــر وف والـنـهـي عــن الـمـنـكــ ر في تقعيدات وتنظيرات فقهاء المسلمين وفي تاريخهم من عصر الرسالة والصحابة
more

اخبار متعلقة