رقم ( 5 )
الفصل الثانى : تراث المسلمين: وحق المرأة فى رئاسة الدولة

الفصل الثانى : تراث المسلمين: وحق المرأة فى رئاسة الدولة  

تمهيد

1- تشريع القرآن هو ما ينبغى أن يكون ،وقصص القرآن هو وصف لما كان مع التركيز على العبرة. هذا هو ما يخص القرآن فى التشريع وفى القصص ، وقد عرضنا لحق المرأة فى رئاسة الدولة فى تشريع القرآن ( الذى ينبغى أن يكون) وعرفنا أن الشورى الإسلامية تجعل القوة فى يد الشعب. وتجعل الحاكم مجرد أجير للشعب ، وحينئذ يستوى أن يكون رجلا أو امرأة طالما حاز الكفاءة ، وطالما كانت القوامة للشعب عليه . كما عرضنا لقصص القرآن فيما" كان ".

مقالات متعلقة :

فقد "كان" فرعون مصر مستبدا عاتيا تعامل بالاستبداد مع اثنين من الأنبياء وطاردهما مع شعبهما إلى أن انتهى به الأمر إلى الغرق والتدمير فأصبح عبرة لمن يخشى : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) النازعات )

أما بلقيس فقد "كانت" ملكة مستبدة فى مملكة سبأ .ولكنها بطبيعتها الأنثوية كانت تستشير ، كانت تحمل خوفا على مملكتها من استبداد الملوك ، وتصرفت بهذه الرقة ، فنجت بشعبها..

هذا ما جاء فى تشريع القرآن وفى قصص القرآن .

2 ـ تراث المسلمين ـ من قصص أو تاريخ ومن تشريع أو فقه ـ  أيضا له جانبان :

الجانب الفقهى ، أو ما ينبغى أن يكون تبعا لأمنيات الفقهاء وتصوراتهم طبقا للمنهج الصورى للفقه النظرى الذى لا بد أن يتأثر بالواقع. ثم الجانب الواقعى الذى سجله التاريخ . وهنا يبدو الجانب الواقعى التاريخى هو المؤثر الحقيقى فى تصورات الفقهاء ، فالفقيه يتأثر بظروف عصره وتسلط السلاطين ويتجاوب معها بالسلب أو الإيجاب ، وينعكس ذلك على فتاويه ورؤاه ، وإذا كان ذلك الفقيه (مشرعا) ـ بتشديد الراء ـ  أو بتعبيرهم (محدثا) ـ بتشديد الدال ، أى يروى الأحاديث ، فهو يعطى رأيه الفقهى حصانة من النقد بأن يجعله حديثا نبويا ، أى ينسبه للنبى عليه الصلاة والسلام ، بعد موت النبى بقرنين وأكثر من الزمان ، وذلك عبر سلسة من الرواة ينتهى بهم إلى الصحابة ، ثم إلى النبى ولا يجد أحدا فى عصره يناقشه أو يحاسبه فى كيفية إثبات أن أولئك الذين ماتوا بالتتابع مثله طيلة عشرات السنين قد رووا أو قالوا هذه الأخبار والروايات والأحاديث.وسلاسل الرواة لا تصمد للمنهج العلمى أو القرآنى ، ولذلك نحن نتعامل معها على أساس إنها فكر أو رأى أو ثقافة عصرها.

3- وهذا يعنى أن روايات التراث فى التاريخ والسيرة والتشريع  ليست دينا إلاهيا وحقائق مطلقة ، بل أقاويل وروايات بشرية ، يجوز فيها الخطأ والصواب والنقاش، وهى بذلك تختلف عن حقائق القرآن المطلقة . وبالتالى فإن لنا مطلق الحرية فى التعامل مع مرويات التراث وفتاويه، وفى النهاية فإن ما نقوله يدخل هو الآخر فى إطار الفكر البشرى الذى يقبل الخطأ والنقاش والصواب .ونحن نعتقد أن هذا هو الاجتهاد الدينى الذى يحتاجه المسلمون للخروج من تخلفهم الحضارى الذى استمركثيرا وآن لهم أن يودعوه أو يودعهم.

4- ولكى تصل المرأة إلى رئاسة الدولة فلا بد لها كالرجل من سلوك طريقين ، إما بالمشاركة فى صنع الدولة بالثورة والهجرة والحرب والنضال ، وإما بوراثة الحكم . وهذا ما سار فيه تاريخ المرأة داخل وخارج تاريخ المسلمين .

إلا أن المرأة امتازت عن الرجل باستغلال مهارتها الأنثوية فى السيطرة على الرجل الحاكم وسيطرت عليه من خلال "سرير" الحكم أو العرش. والغريب أن أغلب من وصلن إلى السيطرة الفعلية فى الحكم أو السيطرة الفعلية والرسمية كن من الجوارى اللاتى اتخذهن الخلفاء للمتعة ، وكن أقل منزلة من الحرائر الأرستقراطيات . ولكنهن بمهارتهن العقلية والأنثوية أمسكن بكل الخيوط السياسية وسيطرن على مراكز القوى ، واستخدمن أدوات العصر وثقافته وأساليبه السياسية فى الوصول للسلطة أو للاحتفاظ بها . وجرى عليهم ما جرى على الرجال من الصعود والهبوط ومن العز والذل . وعند السقوط لم يرحم العقاب أنوثتهن أو رقتهن ، لأن لعبة السياسة لا ترحم المهزوم الخاسر وفق الثقافة السياسة للعصور الوسطى .

5- ومن خلال التراث نتتبع وفق التسلسل الزمنى جهود المرأة للوصول إلى رئاسة الدولة ، إلى أن وصلت إليها سنة (648 هجربة- سنة 1250 م) فى سلطنة شجرة الدر . وكما أنهينا المبحث السابق بالمقارنة بين فرعون موسى وملكة سبأ ، سننهى هذا الفصل بمقارنة بين شجرة الدر وآخر خليفة عباسى فى بغداد، شاء سوء حظه أن يعترض على تولى شجرة الدر رئاسة الدولة..

وخلال هذا التسلسل الزمنى نحرص على تتبع جهد المرأة السياسى فى تاريخ المسلمين خلال موضوعات ثلاث:

المرأة والنضال فى سبيل إقامة أو توطيد الدولة ، المرأة والحكم من خلف ستار ، ثم أخيرا المرأة وهى تتصدر بنفسها الحكم ( شحرة الدر ) ، وكيف تفوقت فى ذلك على الرجل الحاكم المعاصر لها ( آخر خليفة عباسى فى بغداد )وهو ترتيب موضوعى ومنطقى ، أو نرجو أن يكون كذلك .

ونتعرض لذلك ببعض التفصيل و التدليل .

 

 

أولا : المرأة والنضال فى سبيل إقامة الدولة :

 

1- العادة أن حركة التاريخ الإنسانى على هذا الكوكب تسير على قدمين إحداهما للرجل والأخرى للمرأة . ولكن كتابة التاريخ عمل انفرد به الرجل ، لذلك جعل المرأة تتوارى بين سطور التاريخ ، وجاء الرجل الفقيه وأفرغ فيها شحنات غضبه لتنزوى داخل البيت .وهذا يجعل مهمة المؤرخ عسيرة فى تجلية دور المرأة فى صنع التاريخ داخل البيت الملكى أو خارج البيت فى ساحة المعارك وميادين الثورات .

وفى بحث موجز كهذا فإننا نكتفى بالمرور السريع على جهد المرأة المتصاعد من النضال فى سبيل إقامة الدولة إلى أن وصلت إلى صدارة الحكم كسلطانة ورئيسة للدولة.

2- وقد عرضنا من خلال القرآن لتشريع القرآن فى الشورى والتى على أساسها تكون القوة والنفوذ للشعب بكل أفراده رجالا ونساء ، ومن هنا يستوى أن يكون الحاكم رجلا أو امرأة .

وقد أشار القرآن إلى المهاجرات وبيعتهن للنبى ولجوئهن إلى دولة  المدينة وأكدت روايات السيرة ذلك ، بل إن بعض هذه الروايات تحدثت عن المرأة التى تسبق أباها فى الإيمان مثل أم حبيبة التى سبقت أباها أبا سفيان فى الإيمان وأخت عمر بن الخطاب التى سبقته فى الإيمان وتحملت تعذيبه لها هى وزوجها سعيد بن زيد ، ومنهن حواء بنت يزيد الأنصارية وقد سبقت إلى الإسلام زوجها أبا يزيد ، وكذلك أم سليم بنت ملحان زوج مالك بن النضر والد الصحابى أنس بن مالك ، بل إن أم كلثوم بنت عقبة ابن معيط هاجرت من مكة وهى فتاة فجاءت للنبى بعد صلح الحديبية تاركة أهلها ، وخرج فى أثرها أخواها الوليد وعمارة فرفضت أن تعود معهما .

ومن المؤمنات من هاجرن إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وقد ذكر أسماءهن ابن هشام فى سيرته  علاوة على كتب الأحاديث ، ويقول الإمام الزهرى " وما نعلم أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها".

 وكان يعقب الهجرة مبايعة المرأة للنبى كحاكم ونبى على الالتزام بتشريع الدولة وأحكامها ، مثلها فى ذلك مثل الرجل تماما . وجدير بالذكر أن النبى عليه السلام قبل أن يهاجر إلى المدينة عقد مع الأنصار بيعتى العقبة الأولى والعقبة الثانية . وشهد العقبة الثانية ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان أم عمارة وأسماء بنت عمر .

وكانت المرأة تشارك فى إقامة الدولة وفى الدفاع عنها ، فتقول الربيع بنت معوذ : " كنا نغزو مع النبى فنسقى القوم ونخدمهم ونداوى الجرحى ونعود بالقتلى إلى المدينة ، وكانت المرأة تشارك الرجل فى  حضور جلسات الشورى فى المسجد ، وفى حديت فاطمة بنت قيس " .. فلما انقضت عدتى سمعت نداء منادى رسول الله (ص) ينادى : الصلاة جامعة فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله فكنت فى صف النساء التى تلى ظهور القوم) (التفاصيل فى كتاب " تحرير المرأة فى عصر الرسالة: عبدالحليم ابوشقة :ج 2 : 411 -دار القلم ، الكويت . )، وهى إشارات متفرقة عن تفاعل المرأة فى عصر الرسالة القرآنية ودورها فى إقامة الدولة الإسلامية فى عصر النبى . وقد عمل الأمويون على تحويل هذه الدولة المدنية إلى حكم وراثى لصالحهم ، مما أدخل المسلمين فى حروب أهلية قادت السيدة عائشة أولى حروبها وهى حرب الجمل.

  3 ـ السيدة عائشة

وكانت السيدة عائشة  تتزعم المعارضة ضد الخليفة " عثمان بن عفان " بعد أن وقع تحت سيطرة أقاربه الأمويين . وأدت معارضتهاومعارضة الآخرين إلى الثورة على "عثمان" ومقتله ، وتولى الخلافة بعده "على " ولم ترض السيدة عائشة بهذا الاختيار فتزعمت معارضة مسلحة ضده مما أدى إلى موقعة الجمل.

والمغزى من هذه الحكاية الدامية والمؤسفة أن ما تعودت عليه السيدة عائشة من التفاعل السياسى قد جعلها تنسى الأمر الإلهى لزوجات النبى بالاستقرار فى البيت ، وذلك أمر خاص بهن ولكن إسهام المرأة فى الشئون السياسية كان وقتها شيئا عاديا بحيث أسفر فى النهاية عن قيادة السيدة عائشة لجيش ثائر ضد خليفة شرعى .

واستفاد الأمويون من هذه الحروب الأهلية فى إقامة دولتهم الوراثية ، ولكن لم يكن سهلا استئصال بقية جذور الدولة الإسلامية القائمة على الشورى والعدل ، لذلك تكلف المسلمون عدة مئات من ألوف القتلى فى سبيل أن ينعم الأمويون بإقامة دولتهم ، وتكلف المسلمون أضعاف هذا العدد من القتلى كى يوحد الأمويون دولتهم . بل إن الأمويين فى سبيل ذلك ارتكبوا ثلاث عظائم فى سبيل أن يتولى أول خليفة أموى بالوراثة ، وهو يزيد بن معاوية . فقد قتلوا الحسين حفيد النبى وأهله فى كربلاء . وغزوا المدينة وانتهكوا حرمتها حين ثارت عليهم ، وحاصروا مكة وانتهكوا حرمة الكعبة . واشترك فى الثورة على الأمويين ونظامهم الاستبدادى كل من الشيعة "والموالى " فى العراق والأقباط فى مصر ، والخوارج من الأعراب.

4 ـ غزالة الخارجية :

وشاركت المرأة فى هذه الثورات حتى فى ثورات الخوارج ، وهم بدو أعراب لا يقيمون للمرأة شأنا ، وهذه ثقافة البدو ولكن الإسلام جاء بتحول جديد فى حياة المرأة فى الجزيرة العربية ، فظهرت نماذج عجيبة فى المشاركة السياسية الحربية أهمل المؤرخون تسجيل  أغلبها اكتفاء بأقوال عامة من مشاركة نساء الخوارج مثلا فى الثورات والحروب ، ذلك أن تسجيل ذلك التاريخ تمّ بعد حدوثه وبعد فترة من الروايات الشفهية . ولم يعزز كتابته إلا حديث الشعر عنه ، ومن ذلك ما رددته الأشعار عن غزالة زوجة شبيب الخارجى الثائر على الدولة الأموية .

وكان شبيب قد هزم خمسة قواد للوالى الأموى الجبار الحجاج بن يوسف فقتلهم شبيب واحدا واحدا ، ثم قصد شبيب الكوفة ففر الحجاج أمامه وتحصن بالقلعة وقصر الإمارة ، ودخل شبيب إلى الكوفة ومعه زوجته غزالة . وكانت غزالة نذرت لله أن تدخل مسجد الكوفة فتصلى لله ركعتين تقرأ فيهما بأطول سورتين فى القرآن (سورة البقرة وسورة آل عمران).

 وأوفت غزالة بنذرها فدخلت الكوفة مع زوجها ومع سبعين رجلا إلى الكوفة ثم إلى المسجد وصلّت فيه الصبح . وفر الحجاج أمامها وتحصن بالقلعة .

 وقد قال الشاعر فى ذلك يسخر من الحجاج تلك الأبيات المشهورة :

           أسد على وفى الحروب نعامة                 فتخاء تنفر من صفير الصافر

         هلا برزت إلى غزالة فى الوغى             بل كان قلبك فى جناحى طائر

ووصف المؤرخون غزالة بأنها كانت فى الفروسية والشجاعة بالموضع الأعلى ، وكانت تقاتل فى الحروب بسيفها وفرسها .

ولما عجز الحجاج عن مواجهة شبيب وزوجته بعث الخليفة الأموى عبد المللك بن مروان بجيش جرار يقوده سفيان بن الأزد وتعاون معه الحجاج فى هزيمة شبيب ، الذى انسحب من المعركة بعد أن قتلت زوجته غزالة وأمه جهيزة ، وكانت هى الأخرى من المحاربات الشرسات . وأثناء انسحاب شبيب عبر نهر دجيل وغرق فيه . ( خليل بن ايبك الصفدى : فوات الوفيات 16 / 105:104:103)

5-على أن أم حكيم الزوجة المقاتلة هى أبرز ما يعبر عن تفاعل المرأة فى ذلك فى العصر ، سواء فى نضالها ضد الإسلام أو معه،وفى كل الأحوال فالإسلام هو الذى ملأها حماسا عظيما فأخرجها عن السلبية الأرستقراطية التى كانت تتمتع  بها سيدات قريش، ثم انضمت إلى الإسلام فاندفعت فى حماس آخر لتكفرعن نضالها السابق ضده . وتعالوا بنا نجمع شتات أم حكيم من بين سطور التاريخ .

ظهرت أم حكيم فى مكة فى عصر النبوة حيث كان عمها أبو جهل (أبو الحكم بن هشام ) يتزعم بنى مخزوم وقريش فى حرب النبى وأصحابه، وقد تزوجت أم حكيم ابن عمها عكرمة بن أبى جهل وسارت مع أسرتها فى الطريق المضاد للإسلام . وتلاحقت الأحداث من اضطرار المسلمين للهجرة من مكة إلى المدينة ، ثم نشوب أول حرب بين الفريقين فى بدر ، وكان أبو جهل ممن تزعم المشركين ، وقد لقى مصرعه ، وإنهزم جيشه . وهنا بدا دور عكرمة بن أبى جهل وزوجته أم حكيم فى الظهور والزعامة . وشهدت المعركة التالية فى" أحد"  تلك الزعامة المبكرة لعكرمة وزوجه إلى جانب أبى سفيان وزوجه هند ، وكان الجميع ينشدون الثأر لمقتل الآباء والأخوة والأعمام من سادة قريش فى بدر .

وانتهت المعركة بانتصار قريش على النبى وعادت أم حكيم وزوجها وأبو سفيان وهند وقد شفيت صدورهم ، واستمر عكرمة يؤدى دوره مع أبى سفيان فى حرب المسلمين فى غزوة الخندق "الأحزاب" واضطرت قريش لصلح الحديبية الذى لم يكن عكرمة سعيدا بتوقيعه، لذلك قام بنقض المعاهدة فأدى ذلك إلى مفاجأة النبى لقريش بجيش ، فلم يسعهم إلا التسليم بزعامة أبى سفيان ، ولكن اتفق عكرمة مع صديقه الموتور صفوان ابن أمية و آخرين على مقاومة الجيش  وتكون منهم جيش للمقاومة قام بنكث العهد ، وهاجم المسلمين فى الحرم ، ومع تجاهل رواة السيرة لأغلب تلك الوقائع إلا أن القرآن الكريم أشار اليها بل كانت تلك الأحداث الحربية المجهولة سببا فى نزول سورة براءة التى اعطت مهلة أربعة أشهر ـ هى الأشهر الحرم ـ لأولئك المتمردين الخائنين المعتدين على الحرم والمسلمين الآمنين فيه :( التوبة 1 : 28 ).

لم تذكر السيرة تفاصيل تلك الأحداث التى عقّب عليها القرآن سوى معركة إنتحارية يائسة تسمى الخندمة نتج عنها فرار صفوان وعكرمة ،وربما كان الحافز لذكرها انه تم تخليدها شعرا ، إذ قال أحد الهاربين لامرأته

                         انك لو شهدت يوم الخندمة                 إذ فر صفوان وفر عكرمة

بعد فشل التمرد هرب عكرمة من مكة بعد أن أسلمت قريش وأسلمت زوجه أم حكيم ، وقابلت أم حكيم النبى وتكلمت معه فى الصفح عن زوجها فاستجاب لها وأعطاها أمانا لعكرمة حتى يعود لأهله فى سلام ، وله البقاء على دينه إذا شاء ، وتمتع صفوان بن أمية بنفس الأمان ، إلا إن عكرمة كان قد انطلق إلى اليمن ليعبر منها إلى الحبشة. وسافرت خلفه زوجه أم حكيم لتبشره بالأمان وتعود به ، وكان رفيقها فى السفر أحد عبيدها كانت تحسبه نعم الرفيق ولكنه فى الطريق أراد الغدر بها والاعتداء عليها ، ولكنها استطاعت أن تتغلب عليه وأن تقتله .

عاش عكرمة فترة من التيه الى أن عثرت عليه زوجته أم حكيم . وعادا إلى مكة فى وقت تحول هائل مناقض لشريعة الاسلام وتاريخ النبى محمد عليه السلام ، وهذا التحول لا زلنا نشهده حتى الآن . وهو  إستغلال الاسلام فى الغزو والاعتداء والوصول للسلطة والثرة أو الاحتفاط بهما . هذا التحول الجديد والخطير بدأ بخلافة أبى بكر.  كانت قريش قد عادت لسطوتها بعد موت النبى محمد عليه السلام وتحالف المهاجرين القرشيين مع أهاليهم القرشيين ، وتولى ابوبكر خليفة معبرا عن هذا الحلف ، وثارت الأعراب على التسلط القرشى خصوصا حين طالبهم الخليفة الجديد أبو بكر بدفع الزكاة كرها ، وكانت كل قبيلة من قبل تجمعها وتفرقها على المستحقين من داخل القبيلة . كان دفع الزكاة تطوعا حتى إن رب العزة منع قبول الصدقات من المنافقين لأنهم لا يستحقون هذا الشرف (قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54)  التوبة ) . ولكن أبا بكر جعلها إلزما وأقرب الى الاتاوة والجزية وجعلها رمزا للتسلط والتحكم وتبعية القبائل لدولته القرشية . أدى هذا التطور الى إشتعال حرب الردة . وبعد إخماد حركة الردة كان لا بد من توجيه القوة العسكرية للأعراب الى الخارج فاتحدت قريش وبقية العرب فى الفتوحات ، بعد أن أقنعت قريش وقادتها الجُدّد أن قتال الفرس والروم وغير العرب هو جهاد فى سبيل الله جل وعلا ، وبذلك التأويل الفاسد تم إسباغ المشروعية الدينية على رغبتهم الدنيوية فى الثروة والسلطة ، وتحت شعار النصر والشهادة . وأصبح التفانى فى الفتوحات والاستماتة فى معارك الغزو لأمم لم تعتد على المسلمين ـ مظهرا يعبر عن قوة الايمان ، وفى نفس الوقت يتماشى ويتماهى مع نزعة العرب العسكرية وثقافتهم فى السلب والنهب.   تحولت الحروب والغارات المحلية بين القبائل الى حروب عالمية يقاتل فيها العرب مجتمعين أكبر إمبراطوريتين فى العالم وقتها ـ الفرس والروم ، وتحت تأويل فاسد للقتال فى الاسلام . ومع أنه تأويل فاسد إلا إنه تطابق مع ثقافة العرب ومع أهوائهم فى نفس الوقت ، وأتاح لهم تطبيق تلك الثقافة البدوية الجاهلية تحت شعار دينى .

 دخل عكرمة ( الاسلام ) ومعه زوجته وقت هذا التحول الجديد الذى إبتدعته قريش ، كانا صادقين فى كراهيتهما للإسلام فى عصر النبى ثم أصبحا بنفس الصدق متحمسين للغزوات التى أشعلتها قريش بعد موت النبى .  لذا أصبح عكرمة وزوجته على رأس الجيش القرشى الذى بعثه أبو بكر لحرب مسيلمة الكذاب فى اليمامة(نجد) . وبعد القضاء على حرب الردة أرسله أبو بكر مع خالد بن سعيد بن العاص لفتح الشام سنة 13 هجرية . ولم يكن خالد بن سعيد بن العاص يدانى عكرمة فى مهارته الحربية ، ولكن يبدو أن أبا بكر لم يكن يطمئن تماما إلى أن يعهد لعكرمة بن أبى جهل بقيادة الجيش ، برغم إلحاح عمر على تولية عكرمة محل خالد بن سعيد . وانهزم خالد بسبب تسرعه فهرب أمام أسوار دمشق وثبت عكرمة فى المؤخرة وحمى الجيش ، وكانت معه أم حكيم تقاتل الروم كما يقاتل الرجال . وعكرمة أثناء وطيس المعركة وهو يقاتل ينشد شعرا عن فتاته الحسناء التى تشهد بطولاته وتشد بسيفها من أزره . وأصبح  عكرمة قائدا لأحد الجيوش الأربعة التى تجمعت لملاقاة الروم فى معركة فاصلة. لذلك أمر أبو بكر قائد الجيش العربى فى العراق ( خالد بن الوليد  ) أن يترك جيشه مع من ينوب عنه وينتقل بأسرع ما يمكن إلى الشام يؤازر جيوش العرب فيها أمام الروم. ووصل خالد فى فترة قياسية وقبل ساعة الصفر ، واتفق مع القادة على توحيد القيادة وأن يتولوها بالتتابع على أن يكون هو قائد اليوم الأول . وأعاد ترتيب الجيش الموحد على أساس جديد ثم أعطى عكرمة والقعقاع قيادة المقدمة.

وانطلق عكرمة ومعه زوجته أم حكيم بكل حماس وفدائية ليكتبا تاريخا جديدا يغطى التاريخ الماضى .

ويذكر ابن اسحق أكبر مؤرخ للفتوحات أن أم حكيم كانت مع زوجها فى المعركة وأنها شاركت بالقتال بالسيف ومعها قوة من نساء قريش يقاتلن "حتى سابقن الرجال"!!

وأثناء احتدام المعركة كان عكرمة يصرخ فى الروم قائلا :" قاتلت رسول الله فى كل موطن فكيف أفرُّ منكم اليوم " . وحين رأى وهنا بين الجيش بسبب كثرة الروم هتف بين شجعان المسلمين : من يبايعنى على الموت ؟ فتوافد إليه أشراف الفرسان ، منهم عمرو وأخوه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور وأربعمائة  من أشراف العرب ، فألقوا بأنفسهم فى هجمة انتحارية فى قلب الجيش الرومانى ، فنتج عن ذلك تخلخل الروم وإصابة الفرسان المسلمين جميعا بالجراح أو بالقتل.

وجىء إلى خالد بن الوليد بعكرمة وابنه عمر وهما ينزفان ، فوضع رأسيهما على ساقه وأخذ يمسح الدم عن وجهيهيما ويقطر الماء فى حلقيهما ، وفتح عكرمة عينيه وهو يحتضر ونظر إلى ابنه وقال لخالد بن الوليد : " إنهم زعموا أننا لا نستشهد . بلى والله " ,ثم اغمض عينيه ومات . ومات ابنه معه. ورأت أم حكيم زوجها وابنها يموتان معا فى معركة واحدة،هى معركة اليرموك الفاصلة.

وحدثت بعد اليرموك معارك صغيرة استهدفت تطهير الشام من بقايا الروم ، وشاركت فيها كلها أم حكيم . وبعد انقضاء عدتها بعد وفاة زوجها عكرمة تقدم لخطبتها اثنان من قادة المسلمين فى تلك الفتوحات ، وهما يزيد بن أبى سفيان وخالد بن سعيد بن العاص . وقد ارتضت الزواج من خالد بن سعيد بن العاص ، ودفع لها صداقا قدره أربعمائة دينار . وأراد خالد أن يدخل بأم حكيم فقالت :" لو أخرت الدخول حتى يقضى الله هذه الجموع؟ " أرادت تأجيل الزفاف إلى ما بعد النصر وكانا على وشك الدخول فى معركة هامة فى مرج الصفراء ، فقال لها خالد : إن نفسى تحدثنى أننى سأصاب فى هذه المعركة . فرقت له ووافقت ، وأقام لها خالد وليمة ودعا أصحابه وفرسان الجيش ودخل بها ، ويبدو أن الجيش الرومانى كان يعلم  بما يحدث إذ فاجأهم بهجوم باغت وانطلق خالد من خيمته وهو يجمع عليه ثيابه يقاتل عصابة من الروم التفت عليه ، فأصيب وقتل ، وأسرعت أم حكيم وهى ترتدى ثيابها تقاتل الروم بعمود الخيمة فقتلت به سبعة من الروم ، ودخل المسلمون والروم فى معركة تصادمية رهيبة أسفرت عن إبادة الروم فى مرج الصفراء . وعادت بعدها أم حكيم وقد تمزق دروعها وقتل زوجها ،ودخلت أم حكيم فى عدة جديدة بعد وفاة زوجها الثانى ، وقضت فترة العدة  فى حروب الشام ، وبعد أن انتهت  تلك الحروب بالنصر عادت إلى المدينة تسبقها شهرتها ، فتزوجها الخليفة عمر بن الخطاب لتشارك معه فى صنع التاريخ ، مع أن التاريخ ظلمها ، فلم يذكرها إلا بين السطور .( ابن هشام السيرة النبوية ج 2 /  410 ، ابن عبد البر : الأستيعاب 4/ 1932 ، ابن الأثير : اسد الغابة 5/577 ، ابن حجر : الإصابة فى معرفة الصحابة 4/426  ).

 

ثانيا : المرأة تحكم من وراء ستار

لم يتيسر للمرأة أن تحكم  من وراء ستار خلال الدولة الأموية ، تلك الدولة العربية ذات الإيقاع السريع فيما بين دمشق وأطراف الدولة ، من بين حدود الصين والهند إلى حدود فرنسا وحواف البحر المتوسط الأوروبية . إلا أن سطوة المرأة السياسية ظهرت فى الدولة العباسية التى سيطرت على مساحة أقل مما سيطرت عليها الدولة الأموية ، والتى كان إيقاع التاريخ فيها متمهلا مما أتاح لنساء القصور أن يلعبن دورا سياسيا حتى لو كن من الجوارى المحظيات ، بل إن أكثرهن جوارى محظيات . ومعظم الخلفاء العباسيين من أبناء الجوارى المحظيات . ومعظمهم من نسل الخيزران أم هارون الرشيد ، وهو أبو كل الخلفاء العباسيين الذين جاءا من بعده . ونتعرض لأشهر النساء فى السياسة العباسية :

 

أم سلمة

على أن هناك امرأة مجهولة كان لها الفضل فى إقامة الدولة العباسية ، وكان لها نفوذها فى هذه الدولة حين قامت ، ولكن تسجيل التاريخ وتدوينه خلال العصر العباسى أوقع المؤرخين فى حرج فاكتفوا بالإشارة إليها بين السطور ، خصوصا وقد كان زوجها هو أبو العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين.

والمؤرخ المسعودى ــ الذى عاش فى العصر العباسى وتحرر جزئيا من الخوف  ــ هو الذى أشار فى كتابه "مروج الذهب" إلى زوجة الخليفة أبى العباس السفاح ، وهى أم سلمة بنت يعقوب المخزومية  تزوجها عبد  العزيز ابن الخليفة الأموى الوليد بن عبد الملك ، ومات عنها فتزوجها بعده الخليفة هشام ابن عبد الملك . ومات عنها فورثت الأموال الطائلة وظلت عزبا . ومر بها أبو العباس فى شبابه وجماله فرغبت أن تتزوجه، وكان فقيرا مملقا صاحب طموح وعلى رأس دعوة سرية مع أخيه للقضاء على الدولة الأموية . وتزوجها واستطاع بأموالها تدعيم دعوته ، ونجحت الدعوة فى إقامة الدولة العباسية . وكانت قد اشترطت عليه ألا يتزوج عليها وألا يتخذ محظية من الجوارى . ووصلت إليه الخلافة وأصبحت له الدولة فصار لها السلطان فى خلافته . يقول المسعودى :" غلبت عليه غلبة شديدة حتى ماكان يقطع أمرا إلا بمشورتها وبتأثيرها . فلم يكن يدنو إلى النساء دونها لا إلى حرة ولا إلى أمة "   أى جارية . (مروج الذهب 2/ 207 :206 ). أى أن الخليفة السفاح الذى استأصل الأمويين وأباد البلاد وقتل العباد كان يتحول إلى قط أليف بين يدى زوجته أم سلمة.

 

 الخيزران

 

هى أم الخلافة العباسية منذ عصر الخليفة المهدى ثالث الخلفاء  العباسيين وحتى انقراض الخلافة العباسية فى القاهرة بالفتح العثمانى لمصر سنة 1517م . تزوجها الخليفة المهدى بن الخليفة المنصور . وأنجبت له الهادى ثم الرشيد وكلاهما تولى الخلافة . ومن نسل هارون الرشيد جاء كل الخلفاء العباسيين اللاحقين، ومن ثم فهى أم من جاء بعدها من الخلفاء العباسيين . وقد تحكمت فى الخلافة العباسية ردحا من الزمان كانت فيها الدولة العباسية فى أوج قوتها وإزدهارها ، وفى سبيل احتفاظها بهذا النفوذ لم تتورع عن قتل ابنها الخليفة الهادى .

وقد جئ بالخيزران فى بدايتها جارية إلى قصر الأمير ولى العهد المهدى ابن الخليفة المنصور ، وكانت العادة أن الجارية تتقلب بين أيدى الرجال منذ اختطافها من أهلها على أيدى العصابات إلى أن تتناولها أيدى تجار الرقيق من أدناهم إلى أعلاهم ، وأثناء هذه الرحلة تتعلم الجارية فنون الإغراء الأنثوى ، وكل المعارف من فقه وأدب وشعر وفلسفة وحكمة وغناء ورقص وعزف ، علاوة على خبرة بالحياة والمجتمع من أدنى مستوياته إلى أعلاها . فإذا وصلت إلى قصور الخلافة لتعرض للشراء كانت فى تمام لياقتها الأنثوية والعقلية والإنسانية . وهكذا كانت الخيزران حيث استسلمت ليد الأمير المهدى وهو يتفحص جسدها كما جرت العادة عند شراء الجوارى . وفى النهاية رغب الأمير عن شرائها قائلا لها :" والله ياجارية أنك لعلى غاية التمنى ، ولكنك خمشة الساقين  " أى خشنة الساقين ، وردت عليه الخيزران بجواب أشعل غرائزه ، إذ قالت له عن ساقيها : أيها الأمير  . إنك أحوج ما تكون إليهما لا تراهما.." فاشتراها وحظيت عنده مع أنه تزوج عليها عدة حرائر .وقد استطاعت بنفوذها أن تجعله يعتقها ويتزوجها ، ثم جعلته أخيرا يفضل أبناءها على أبناء الأخريات ، فيعقد ولاية العهد لابنيها الهادى ثم الرشيد .

إلا أن ابنها الهادى ــ ولى العهد رقم واحد ـ لم يكن يستريح لعلو نفوذ أمه السياسى فى خلافة والده المهدى ، ولم يعجبه تدخلها فى شئون الدولة وتوافد مواكب أصحاب الحوائج عليها ، وأحست الخيزران بنفور ابنها من نفوذها ، وخشيت على استمرار نفوذها إذا تولى ابنها الخلافة فى حياتها ، لذا عولت على أن تجعل ولا ية العهد لابنها الرشيد (الخاضع لسلطانها )أولا ، ثم للهادى بعده وأقنعت كالعادة زوجها المهدى بتقديم الرشيد الأصغر سنا على الهادى الأكبر سنا .

وفى محرم 169 ه , كان المهدى قد صمم على تنفيذ رغبة الخيزران ، وأعلن الهادى العصيان ، وتطورت الأمور بصورة غامضة ولقى الخليفة المهدى حتفه وتولى الهادى الخلافة برغم أنف أمه. وبدأت بوادر الأزمة بين الهادى وأمه الخيزران ، وكان الهادى شابا قوى البنية رشيق الحركة غيورا شديد البطش حازما يقظا ، ويبدو أنه قرر عقد هدنة مع والدته إذ سمح لها طبقا لما يقوله الطبرى بأربعة أشهر تمارس فيها نفوذها ،إلا أنه ما لبث أن ثار وصاح فى وجهها قائلا : إنه ليس من قدر النساء الاعتراض فى أمر المُلك.! وعليك بصلاتك وتسبيحك " إلا أن المواكب استمرت فى التوافد على بيت الخيزران ، ولجأت الخيزران إلى ابنها تسأله فى قضاء حاجة لعبد الله بن مالك ، فرفض قائلا : والله لا أقضيها له . فقالت له ، والله لا أسألك حاجة أبدا .فقال : والله إذن لا أبالى .فقامت عنه غاضبة ولكنه استوقفها صارخا :" والله لئن بلغنى  أنه وقف أحد ببابك لأضربن عنقه ولأقبضن ماله ، فمن شاء فليلزم ذلك ..ما هذه المواكب التى تغدو وتروح إلى بابك كل يوم ؟ أما لك مغزل يشغلك ؟ أو مصحف يذكرك؟ أو بيت يصونك ؟ ثم إياك وإياك إن فتحت بابك لمسلم أو ذمى "، وانتهى بذلك نفوذ الخيزران فى خلافة ابنها الهادى.

وأسرع الهادى يخطط لخلع أخيه الرشيد من ولاية العهد ليجعل ابنه جعفر بن الهادى مكانه ، وتحركت الخيزران لدرء هذا الخطرعن ابنها الرشيد الأمل الباقى لها فى استمرار نفوذها ، ولم يكن لها أن تنجح فى إيقاف الهادى إلا بطريقة وحيدة هى الاغتيال .إلا أنه ليس من المنتظر أن تقدم الخيزران على قتل ابنها لهذا السبب وحده، لذلك أتت المبادرة من الهادى نفسه إذ أقنعها بأنه عازم على قتلها وقتل أخيه الرشيد. إذ بعث لها بأوزة مشوية مسمومة ، وكانت على وشك أن تأكل منها لولا أن جاريتها خالصة حذرتها ، وجاءوا بكلب أكل من الطعام فتساقط لحمه ومات.

وتناهت إلى أسماعها أنباء مؤامرة أخرى على الرشيد ، لذا أسرعت الخيرزان فأمرت بعض الجوارى فقتلن ابنها الهادى خنقا وهو نائم سنة 170 هجرية بعد أن تولى الخلافة أربعة عشر شهرا فقط ، قتلته وهو فى قمة الصبا والشباب والفتوة، وبعثت إلى يحيى بن خالد البرمكى ليتولى عقد الخلافة للرشيد فى نفس الليلة التى مات فيها الهادى .  وفى خلافة الرشيد كانت الخيزران هى الناظرة فى الأمور بمساعدة يحيى بن خالد البرمكى وفقا لما يقوله الطبرى فى تاريخه . وظلت تتمتع بنفوذها فى خلافة الرشيد إلى أن ماتت 173 هجرية  فى مكة ، وحضر ابنها الرشيد جنازتها ومشى فيها حافيا  باكيا .!( تاريخ الطبرى8/72، 121 ،188 ، 205 ، 206 ،210 ،212 ،223 ،230، 238 ،252  ).

 

 قبيحة أم الخليفة المعتز العباسى

 

كانت قبيحة أجمل جوارى الخليفة المتوكل العباسى ، كان المتوكل مشغوفا بها لا يطيق الابتعاد عنها، وقد ارتفعت مكانتها لديه حين أنجبت له ابنه المعتز المشهور فى عصره بابن قبيحة .وكان المعتز فى صباه شديد النبوغ و الذكاء مما جعل أباه المتوكل و بتأثير قبيحة يفكر فى تقديمه فى ولاية العهد على أخيه الأكبر ( المنتصر ). وساءت العلاقات بين المتوكل وابنه المنتصر ولى العهد ، وتآمر المنتصر مع القواد الأتراك وقتل أباه المتوكل وبدأت سيوف الغلمان الأتراك بذلك تعرف طريقها إلى رقاب الخلفاء العباسيين . فكان من ضحاياهم المنتصر نفسه، ثم المستعين ، ثم المعتز وأمه قبيحة .

ولقد عاشت قبيحة أيام عزها فى كنف المتوكل وتحكمت فى الخلافة العباسية حين تولاها ابنها المعتز ، وأدّت سياستها الخرقاء إلى هلاك ابنها المعتز وإلى إذلالها فى أخريات حياتها. وما بين بدايتها محظية للمتوكل إلى نهايتها ذليلة تحت أقدام القواد الأتراك شهدت قبيحة عظمة الخلافة العباسية فى عهد المتوكل ثم انحدار شأنها فى أخريات حياتها . وربما كانت قبيحة نفسها من عوامل هذا الإنحدار .

وقد تحدث المؤرخون عن شغف المتوكل بقبيحة والحفلات الضخمة التى أقامها المتوكل حين أتم ابنه المعتزحفظ القرآن . وقالوا أن المعتز تولى الخلافة سنة 251هجرية وكان فى التاسعة عشرة من عمره ، وكان أصغر من ولى الخلافة وأول من ركب بحلى الذهب وأكثر من وقع تحت السيطرة التامة لأمه التى استخدمت القادة الأتراك فى قتل الخليفة السابق المستعين بعد أن عزلته من الخلافة ، ثم خططت لابنها كى يتخلص من منافسيه من أمراء البيت العباسى ، ثم إستغلت الشقاق بين القادة الأتراك لتحكم سيطرتها عليهم . وكانت قد استحوذت على الأموال والجواهر وحفظتها فى أماكن سرية ، وكان هناك تنافس بين الأتراك  والجنود  المغاربة والجنود الشراكسة وأثارت قبيحة المغاربة على الأتراك ، فاتهم المغاربة الأتراك بقتل الخلفاء وعزلهم ، وحدثت فتن بين الفريقين ، وقتل الأتراك زعيمى الجند المغاربة . وجربت قبيحة أسلوبا آخر فجعلت ابنها يمسك يده عن دفع مرتبات الجنود وكانت تبلغ مليون دينار سنة 252هجرية أى ما يساوى دخل المملكة سنتين . وتحقق أمل قبيحة لأن الجنود ثاروا على وصيف زعيم القواد الأتراك وقتلوه سنة 253هجرية بسبب تأخر رواتبهم، واستراحت قبيحة وابنها من سطوة وصيف ، وأعطى الخليفة المعتز مناصب وصيف إلى زميله "بغا" ليؤجج العداء بين "صالح بن وصيف" و"بغا" ، وفى نفس الوقت أرادت قبيحة أن تجرب نفس اللعبة مع" بغا" بأن تمسك الرواتب عن الجند لتثيرهم عليه .ولكن بغا فهم اللعبة فهجم بأتباعه على أموال قبيحة وأحتملها على عشرين بغلة ، منتهزا فرصة ركوب الخليفة للنزهة . ولكن حرس الخليفة كان يترصد بغا وأوقعه فى كمين وقتله ، وأمر الخليفة بإحراق جسده واعتقال بعض اتباعه سنة 254 هجرية وبذلك لم يبق أمام المعتز وقبيحة إلا صالح بن وصيف زعيم الجند الأتراك ، وخططت قبيحة للقضاء على صالح بن وصيف ، فأرسلت تستدعى موسى بن بغا إلى بغداد ليحل محل أبيه ، وفى نفس الوقت اتفقت مع الوزير احمد بن اسرائيل على ألا يعطى شيئا من الأموال إلى صالح بن وصيف ليعجز عن دفع رواتب الجند فيثور عليه الجند  ويقتلوه ، وفطن صالح بن وصيف للخطة فدخل بقوة عسكرية على الخليفة والوزير ليجعل الجنود شهودا على منع الوزير والخليفة للمرتبات وحدثت مشادة بين الوزير وابن وصيف وتأكد الجند من سلامة موقف ابن وصيف فضربوا الوزير أمام الخليفة واعتقلوا الوزير وعذبوه مع رفيقيه حتى يرشدهم إلى الأموال المخبأة . بينما انكمش الخليفة مذعورا وقد عجز عن حماية وزيره .

وأرسلت قبيحة إلى ابن وصيف تأمره بإطلاق سراح الوزير ولكنه أهمل أمرها ، ونجح فى جمع طوائف الجند حوله، وأعلمهم أن قبيحة وابنها الخليفة يمنعان الأموال عنهم ، ولأن ابن وصيف يعلم أن الخليفة لا حول له  ولا قوة وأن الخزائن السرية فى حوزة قبيحة فإنه أرسل وفدا من الجند إلى الخليفة يسأله فى صرف المرتبات ، فأرسل الخليفة إلى أمه قبيحة يطلب منها خمسين ألف دينار فقالت له ما عندى شئ . واستمهلته حتى يقدم عليها موسى بن بغا لتستعين به فى القضاء على صالح بن وصيف ولكن أسرع ابن وصيف فاعتقل الخليفة وقام الأتراك بتعذيبه وخلعوه وعينوا مكانه الخليفة المهتدى فى رجب 255هجرية وسارعت قبيحة بالاختفاء خلال سرداب يصل من حجرة نومها إلى الخارج . وقام البحث عنها فى كل بغداد،  وفى النهاية ظهرت قبيحة ووقعت فى يد غريمها صالح بن وصيف الذى عثر على كنوزها المخبأة وكانت بالملايين . ويبدو أن صالح بن وصيف قد اغتصبها وعذبها ثم نفاها إلى مكة ، وظلت فيها إلى أن اعادها الخليفة المعتمد الى سامرا وماتت سنة264هجرية(تاريخ الطبرى :9/175 ،224 ،349 ،387 ،388 ،393 ،395 ،406 ،441 ،442 ،533 تاريخ المنتظم لابن الجوزى 12/251-:تاريخ ابن كثير 11/ 11 : 160 ).

 

 "السيدة أم المقتدر" : ( شغب )

 

( السيدة ) هو اللقب الرسمى للجارية "شغب " التى أنجبت الخليفة المقتدر بالله ، والذى تولى الخلافة العباسية فى الثالثة  عشرة من عمره ، فأسلم قيادته لأمه "شغب" ، فظلت تحكمه وتحكم الخلافة إلى مقتل ابنها سنة 320هجرية أى ربع قرن من الزمان ، ثم كانت نهايتها مؤلمة وحزينة .

بدأت هذه الجارية بين سطور تاريخ الطبرى حيث ذكرها باسم ناعم ، وكانت جارية للسيدة أم القاسم بنت محمد بن عبد الله ، وقد رآها الخليفة المعتمد فأعجبته فاشتراها واتخذها محظية له لمدة قصيرة فحملت منه وولدت له ابنه جعفر الذى تولى الخلافة فيما بعد باسم المقتدر بالله ، إلا أن الخليفة سرعان ما انصرف عن جاريته ناعم إلى محظياته الأخريات.  ولم تكن ناعم الصفراء النحيفة تحتمل الغيرة ولم تكن تقدر على منافسة الجوارى الشقراوات الكثيرات اللاتى يحطن بالخليفة ، وكان عددهن أربعة آلاف ، فاستمرت مشاغباتها ومعاركها فى دهاليز الحريم العباسى ، فاشتد الخليفة فى عقابها وأطلق عليها لقب"شغب" الذى التصق بها منذ ذلك الحين .  عاشت شغب فى حلقات شجار لا تنتهى ومكائد لا تنقطع ، وعلى يديها الكريمتين لقيت جوارى محظيات حتفهن ، ومنهن العروس المصرية الرقيقة الجملية ( قطرالندى )  بنت أحمد بن طولون التى لقيت حتفها سريعا ، ومنهن دريرة التى استأثرت ردحا من الزمان بقلب الخليفة المعتضد، وقد أنشأ لها حمام سباحة ، واستحق على ذلك هجاء فاحشا من الشاعر ابن بسام ، وحين ماتت دريرة بكاها الخليفة شعرا.

ومن ضحايا  شغب أيضا كانت الجارية الأخرى التى ولدت للخليفة ابنا تولى الخلافة باسم القاهر بالله . وقد اضطرت شغب لكفالة ذلك الوليد وتربيته مع ابنها ، ولكنه لم ينس ثأر أمه فانتقم من شغب أفظع إنتقام فيما بعد .

ولم يفطن الخليفة المعتضد للموت السريع لجواريه المحظيات خصوصا من تلد منهن ذكرا له ،وحين تنبه للأمر أشارت أصابع الأتهام إلى شغب ، إلا أن الأدلة لم تكن كافية فقرر قطع أنفها ثم عدل عن الأمر إكراما لابنه منها( المقتدر بالله) وابنه الأخر (القاهر) وهما تحت رعاية شغب وكفالتها ، واكتفى الخليفة بعزلها فى بيت أصبح لها كالسجن ، تربى ولدها المعتضد من حبيبها ( الخليفة المعتضد ) القاسى القلب وتجتر فيه أحزانها وأحقادها ، ولا يؤنس وحدتها إلا رفيقتها الجارية "ثمل" التى كانت تأتى لها بالأخبار وتساعدها فى مؤامراتها.

وفى فترات العزلة هذه كانت شغب تخطط لتولية ابنها الخلافة بعد أبيه المعتضد . وبدأت خطتها بإحكام سيطرتها على ابنها بحيث أصبح لا يطيق فراقها ولا يستطيع التصرف بدون أمرها ، ثم عملت من خلال "ثمل" رفيقتها وساعدها الأيمن على التخلص من الجارية الحسناء ( جيجك أم على ) أكبر أولادالخليفة المعتضد والمرشح وليا للعهد بعده ، وماتت جيجك بهدوء بحيث لم يتنبه الخليفة المعتضد للأمر.

وكان المعتضد شديدا فى قسوته بحيث كان إذاغضب على أحد من قواده دفنه حيا . والغريب انه مع سطوته مات فجأة سنة 289 ، فهل قتلته شغب ؟ . وتولى ابنه على الخلافة باسم "المكتفى"وسمحت له شغب باعتلاء مقعد الخلافة لأن ابنها المقتدر كان لا يزال صبيا لا يصلح للخلافة . والغريب أنه فى الوقت نفسه الذى بلغ فيه ابنها المقتدر الحلم وأكمل عمره الثالثة عشرة فى نفس اليوم مات الخليفة الشاب "المكتفى " بالسم وتولى المقتدر ، أو بمعنى أخر تولت شغب مقاليد السلطة وظلت تتحكم فيها ربع قرن من الزمان .

وبدأت شغب سلطتها بتحريم النطق بلقب شغب الذى أطلقه عليها حبيبها القاسى المعتضد بالله ، وأصبح اسمها الرسمى "السيدة أم المقتدر" وكان القرار التالى هو مصادرة الجواهر التى كان المعتضد يزين بها جواريه الفاتنات من منافساتها السابقات ، وبينما انتقمت من تلك الجوارى الفاتنات فقد ساعدت شغب الجوارى الخادمات اللائى ساعدنها فى المؤامرات ، وأهمهن ( ثمل ) .

حصلت "ثمل" على النصيب الأكبر من جواهر الخلافة . بل إن شغب أصدرت قرارا بتحريم لقب "ثمل" وأعطتها لقبا جديدا هو أم موسى القهرمانة ، وجعلتها وصيفتها الخاصة ، وأوسعت لها فى نفوذها بحيث كانت تعزل الوزراء ، ثم وجهت شغب انتقامها واحتقارها للفقهاء وعلماء الدين فى عصرها ، وذلك فى سابقة لا مثيل لها فى التاريخ الإسلامى ، وذلك أنها أصدرت سنة 306هجرية قرارا بتعيين ثمل قاضيا للقضاة ، فأصبحت ثمل أو أم موسى القهرمانة تجلس فى الرصافة فى بغداد كل يوم جمعة لتنظر فى شكاوى الناس وقضاياهم ويجلس معها القضاة والفقهاء وكبار الموظفين والحجاب لتنفيذ أحكامها .  وفى هذه الآونة راج حديث " ما أفلح قوما ولوا أمرهم امرأة" ، صنع الناقمون ذلك الحديث لينتقدوا به ضمن أحاديث أخرى انفراد النساء بالسلطة.

هذا بينما التزم كبار الفقهاء الصمت ، وكبار الأئمة المقدسين كانوا يعيشون فى هذا العصر، فقد مات فى عصر المقتدر وأمه شغب محمد بن أبى داود الظاهرى وابن شريح والجنيد وأبو عثمان الحيرى والنسائى والجبائى وابن الجلاء وأبو يعلى والأستانى والرواندى والطبرى والزجاج والأخفش الصغير وأبو بكر السجستانى وابن السراج وأبو عوانة والبغوى وقدامة .

كما عاش فى عصر قبيحة وابنها المعتز أئمة مشهورون مثل البخارى ومسلم وأبى داود الترمزى وابن ماجة والمزنى وابن عبد الأعلى والزبير بن بكار والرياشى والذهلى وداود الظاهرى وابن مخلد وابن قتيبة وأبوحاتم الرازى وابن شبه وابن حنبل.

ونعود إلى شغب وهى تنتقم من خصومها ، ففى سنة299هجرية صادرت أموال فاطمة القهرمانة وعثروا على جثتها غريقة فى دجلة ، ولحقت بفاطمة القهرمانة بقية الجوارى المسنات اللاتى أصبحن وصيفات أو قهرمانات ونال بعض الوزراء اضطهاد شغب ووصيفتها أم موسى ، كما حدث للوزير ابن الجراح الذى  الذى لم يبد كبير احترام للقهرمانة فتعرض للطرد والمصادرة ، والتفتت شغب إلى كبار القوم تصادرهم وتتلاعب بهم ومنهم الوزير حامد بن العباس وعلى بن عيسى ، وكانت تتلاعب بالوزراء تعين هذا ثم تعزله وتصادره ، وهكذا ومع ذلك فقد كانت لها محاسن ، فقد أقامت مستشفى على نهر دجلة سنة 306هجرية وجهزت جيشا من أموالها للدفاع عن بغداد ضد القرامطة عام  315هجرية .

ولم تتوقف المؤامرات ضد شغب وابنها ، فقد حدث أن ثار الجند الأتراك وعزلوا المقتدر واعتقلوا شغب وعينوا القاهر خليفة ، إلا أن المؤامرة فشلت ، وعاد المقتدر للخلافة وعفا عن أخيه القاهر واستبقى حياته . ولكن نجحت الثورة التالية فى قتل الخليفة المقتدر سنة 320 بقيادة القائد التركى مؤنس الخادم، وتولى الخليفة القاهر الذى قام بتعذيب السيدة شغب بيديه حتى استخلص منها كل أموالها . كان يعذبها بتعليقها فى السقف من قدميها ، وكانت تبول فينزل البول على وجهها ، ويواصل تعذيبها إلى أن ماتت .( تاريخ الطبرى 10/139،تاريخ ابن الأثير 6/119 ـ ، تاريخ ابن كثير 11/175:169:105 ، تاريخ الخلفاء للسيوطى 604-  ، المنتظم لابن الجوزى 13/  253  ، الصفدى الوافى بالوفيات 16/167 )

اخيرا :

كانت هذه بعض النماذج لنساء حكمن الخلافة العباسية من وراء ستار ، وأدى نفوذهن السياسى إلى خنق الفقهاء فأنطلقت فتاويهم تصادر  حقوق المرأة وتجلدها بالأحاديث المصنوعة .

 

ثالثا : المرأة تتصدر الحكومة بنفسها:

  كانت هيبة الخلافة العباسية الدينية تمنع تصدر المرأة للحكم بنفسها . حيث كان يتعين وجود الخليفة الذكر الذى يمثل الدين والسلطة الدينية الزمنية وفق مفاهيم العصور الوسطى.

وهذا القيد تحررت منه نظم الحكم القادمة من المشرق والتى سيطرت على الخلافة العباسية ، أو التى أنهت الدولة العباسية ، مثل السلاجقة والبويهيين ، ثم المغول . وفى هذه الدول أتيح لبعض النساء أن يتصدرن للحكم بأنفسهن سواء مع وجود سلطان كان يسمح بذلك أو فى خلو المقعد من السلطان ونذكر بعض أمثلة سريعة..

 الترنجان أم النوشران زوجة طغرل بك:

كانت أم ولد . وكان السلطان طغرليك السلجوقى سامعا لها مطيعا ، وكانت الأمور ترد إليها ، واشتهرت بالتدين والمعروف والصدقات . وبالرأى والحزم والعقل وقد توفيت سنة 452 فى جرجان ، وحزن عليها السلطان حزنا عظيما ، وحمل تابوتها معه إلى الرى فى إيران حيث دفنها . وقبل موتها أوصت زوجها بأن يزوج ابنته الخليفة العباسى ونفذ زوجها وصيتها ( الصفدى :الوافى بالوفيات 9/352 ،353 ) .

بغداد خاتون

وهذا يذكرنا بالأميرة المغولية بغداد خاتون بعد ذلك بثلاثة قرون ، حيث سيطر المغول  على العراق وإيران وتقاسموا مناطقها . وكانت الأميرة بغداد خاتون بنت الأمير جوبان ومتزوجة من الشيخ حسن ، إلا أن السلطان المغولى الناصر بوسعيد كان يحبهاويريدها. ولذلك حارب بوسعيد الأمير جوبان وهزمه وأنتزع بغداد خاتون من زوجها وتزوجها . وحتى يرضيها أطلق نفوذها فى مملكته التى تشمل العراق وأذربيجان وجزءا من أسيا الصغرى ، وقامت بغداد  خاتون بتدعيم هذا النفوذ فطردت على باشيا خال بوسعيد ، ولم يعترض بوسعيد على ما تفعل ، وترك لها كل شئون الحكم إلى أن مات فتولى أربكون مكانه ، فقتل بغداد سنة736هجرية ( الصفدى ،نفس المرجع 10 /175 ،176 ).

4- ونعود إلى السلاجقة فى القرن الخامس الهجرى وتصدر المرأة للسلطة هناك ، ونقابل الأميرة خاتون أو صاحبة اصفهان كما يقول المؤرخون ، وهى تركان بنت طغراج الملك ، وترجع فى النسب إلى افراسياب ملك الفرس ، وقالوا أنها كانت شهمة حازمة قادت الجيوش ، وكان فى خدمتها عشرة آلاف فارس ، وقد مات زوجها ملكشاه فقامت بتدبير الأمور وحفظت الأموال وقامت بتأمين الطرقات ، فلم يكن يضيع للتجار عقال بعير . وكانت تقود الحرب بنفسها ، وظلت تباشر شئونها بنفسها إلى أن ماتت مسمومة فى الطريق عام 487 . ( الوافى : نفس المرجع 10/381،المنتظم لابن الجوزى 17/140)

صفية خاتون

  وبعدها بقرن تقريبا ولدت الأميرة الأيوبية صفية خاتون (581-640) وقدر لها أن تتصدر السلطة . فأطلقوا عليها لقب "الصاحبة" وهو يعنى الوزارة لأن الوزير هو الصاحب ولكنهم وصفوها أيضا بأنها كانت " ملكة جليلة عاقلة " . وهذه الأميرة بنت الملك العادل الكبير الأيوبى ، وتزوجها الملك الظاهر غازى بن صلاح الدين صاحب حلب ، وأنجبت له العزيز الذى حكم حلب ، وكان الملك الناصر الأيوبى حاكم الشام حفيدها ، وعندما مات ولدها العزيز حاكم حلب تصدرت بنفسها للحكم:  " وتصرفت كالسلاطين ونهضت بالملك أتم نهوض ولكن بعدل وشفقة وبذل وصدقة ، وأزالت المظالم والمكوس فى جميع بلاد حلب ،  وكانت تؤثر الفقراء وتحمل لهم الصدقات الكثيرة " . وحين ماتت " أغلقت حلب أبوابها ثلاثة أيام  حزنا عليها كما يقول المؤرخون. ( الوافى 16/328 ،  أبوالفدا: المختصر فى أخبار البشر 3/1710الذهبي:العبر فى أخبار من غبر:  5/265  )

ملكة زبيد اليمنية

  وأختلف الحال مع أم الملك الناصر سيف الإسلام الأيوبى حاكم اليمن ، والتى كانت معاصرة لشجرة الدر فى مصر، فقد توفى ابنها فقامت بأعباء الملك خير قيام إذ ضبطت أحوال زبيد وبعثت تستقدم أميرا من البيت الأيوبى ليحكم معها . وعثرت على سليمان شاه الذى كان مدعيا للتصوف فى مكة ، فاستقدمته إلى زبيد وتزوجته، ولكنه ملأ البلاد ظلما ، ثم غدر بها وتزوج عليها ، وكان يحارب مع بنى عمه الأيوبيين فأنهزم ، واستولى على اليمن الملك المسعود بن الكامل . وبعث به وبزوجته ليعيشا فى مصر (الوافي 15/391 ،392 ).

 

  شجرة الدّر

 

1 ـ   ونصل لشجرة الدر أشهر سلطانة فى تاريخ المسلمين .

فهى سيدة بدأت حياتها بين سطور التاريخ ولكنها قفزت إلى عناوين التاريخ لتحتل مركزا فريدا فى تاريخ المسلمين ، حيث إرتبط تاريخها بفترة حرجة ، إذ شهدت حملة لويس التاسع على دمياط وهزيمته وأسره فى المنصورة ، وشهدت إنتقال الحكم من الدولة الأيوبية إلى الدولة المملوكية حيث كانت أول سلطانة أو بمعنى آخر أول من تولى الحكم فى الدولة المملوكية.

بدأت حياتها جارية محظية للسلطان الصالح أيوب الأيوبى، وانتهت حياتها صريعة بنهاية مأساوية لا تتفق مع حرمة الأنثى ولكنها لعبة السياسة التى مارستها فلم ترحمها ، وماتت بنفس الكأس الذى أذاقته لغيرها.

2 ــ كان السلطان الصالح أيوب مشهورا بالسطوة والوقار ولزوم الصمت والبعد عن العبث. وشخصية بهذه الصفات يكون من الصعب عليها أن تخضع للحب أو تستغرق فى الغرام ، ويكون من الصعب على جواريه أن تمتلك إحداهن قلبه وتتمكن من إقناعه بأن يعتقها ويتزوجها ،وذلك  هو التحدى الذى نجحت فيه شجرة الدر ، دخلت قصره جارية تركية حسناء وما لبثت أن اقتحمت بجمالها وذكائها حصون قلبه  فأعتقها ثم تزوجها ، وانجبت له ولدا توفى وهو طفل اسمه خليل فصار لقبها الرسمى "أم خليل" .

3 ــ وجاءت فرصة أخرى لذكاء شجرة الدرـ  فى وقت حرج ، إذ هجم الصليبيون ين على دمياط وهربت الحامية وتركتها خاوية للفرنج وملكهم لويس التاسع ، وحينئذ اشتد المرض على الصالح أيوب ويئس الأطباء من شفائه ، وقد تحرك الصالح أيوب بالجيش إلى موقع مدينة المنصورة حيث أنشأها لمواجهة الصليبيين . وأثناء هذه المحنة نهضت شجرة الدر فاستكتبت زوجها آلاف التوقيعات على أوراق رسمية بيضاء خالية ، وكونت لجنة لإدارة البلاد  ومتابعة الأستعداد الحربى ، ومات الصالح ايوب فكتمت موته ، وبعثت لابنه الغائب توران شاه كى يأتى إلى مصر ليتولى السلطنة، وأخذت له البيعة، وواصلت جهودها حتى انتصرت على حملة لويس التاسع وأبادت جيشه وأسرته فى دار ابن لقمان بالمنصورة.

4 ـ  ووصل توران شاه ليجد العرش والنصر فى انتظاره ، وبدلا من أن يرد الجميل لشجرة الدر والمماليك البحرية ، مماليك أبيه إلا أنه أغلظ لهم وبادر بتقديم مماليكه عليهم ، وطالب زوجة أبيه شجرة الدر بالأموال ، وتربص بها شرا ، فأشارت شجرة الدرعلى المماليك بقتله فقتلوه ، وبذلك بدأت شجرة الدر طريق التآمر وطريق السلطة أيضا .

5 ــ فقد اتفق كبار المماليك على إقامتها سلطانة وأن يكون لها التوقيع على المراسيم السلطانية، وكانت علامة توقيعها" والدة خليل " ، وخطبوا لها على المنابر بقولهم " اللهم أدم سلطان الستر الرفيع والحجاب المنيع ملكة المسلمين والدة الملك خليل ". وبدأت سلطنتها يوم الخميس ، صفر 648هجرية ولبست خلعة السلطنة وهى خمار من الحرير المرقوم بالذهب ، وقام الأمراء بتقبيل الأرض أمامها حسب العادة .ولكن من وراء حجاب. وكان أول قرار لها هو التفاوض مع الملك الفرنسى الأسير ، وقد افتدى نفسه من الأسر بأربعمائة ألف دينار .

5 ــ واستنكر الخليفة العباسى المستعصم بالله تولى شجرة الدر السلطنة وبعث يعيّر المصريين ويقول لهم :"أعلمونا إن لم يكن عندكم رجال لنرسل لكم رجالا " ، فلما بلغ ذلك شجرة الدر تنازلت بنفسها عن السلطة.  وتزوجت عز الدين أيبك ليصبح أول سلطان مملوكى .

6 ــ والواقع أن تنازلها عن السلطة كان ظاهريا فقط ، إذ ظلت تحكم من وراء ستار ، وتجلى ذلك فى اختيارها عز الدين أيبك زوجا لها ليتولى السلطة بالاسم بينما تمسك هى بمقاليد الأمور فى يدها ، والواقع أنه كان أمامها مرشحان للزواج والسلطنة، وتنافسا على الفوز بها ، الأول الأمير أقطاى زعيم المماليك البحرية وحوله شجعان الفرسان المماليك ومنهم بيبرس الذى تسلطن فيما بعد، والثانى عز الدين أيبك كبير المماليك فى القصر السلطانى وأشهر أتباعه قطز الذى تسلطن هو الآخر فيما بعد.

وقد فضلت شجرة الدر وإختارت أن تتزوج أيبك إعتقادا منها أن نفوذها سيستمر معه وأنه أسلس قيادا من أقطاى . وتزوجت أيبك ، وغضب أقطاى وتآمر عليهما وسلط أتباعه يسلبون وينهبون ، فكان أن تخلص منه السلطان والسلطانة بمؤامرة أغتيال ، وصفا لهما الجو ، ولكن ضاق أيبك بنفوذ شجرة الدر ودب النفور بينهما ، ترك أيبك لها القلعة وعاد إلى زوجته القديمة أم على ابنه ، وبعث يخطب أميرة أيوبية هى صاحبة الموصل كى يسكنها القلعة بدلا من شجرة الدر .

وجن جنون شجرة الدر، ومنعتها غيرتها من التفكير السديد فاحتالت على استقدام أيبك إليها وصالحته ثم قتلته ، ونسيت أن مماليك أيبك لن يرضوا بمقتل سيدهم ، وأن المماليك البحرية من أتباع أقطاى لن يتوانوا عن الإنتقام منها إذا سنحت لهم الفرصة ، وهذا ما حدث إذ أنهم حين عرفوا بمقتل السلطان أيبك اعتقلوا شجرة الدر وسلموها إلى غريمتها وضرتها أم على ، وانتقمت منها أم على انتقاما هائلا ، إذ جعلت جواريها يضربنها بالقباقيب حتى ماتت ، ثم ألقوا بجثتها عارية خلف أسوار القلعة ، وفى النهاية حملوها فى قفة ودفنوها . !! (السلوك للمقريزى 1/361 ،  تاريخ ابن كثير 1399 ، فوات الوفيات 16 120 ، الذهبى : العبر5 222  ، أبو المحاسن : النجوم الزهراء 7p السيوطى : حسن المحاضرة 2 39 ابن العماد الحنبلى : شذرات الذهب 58 )

7 ــ  أى أن شجرة الدر هزمت الأمراء والسلاطين من الرجال ..ولم يهزمها إلا قلبها .. وضرتها .

 

أخيرا : بين شجرة الدر والخليفة المستعصم العباسى

 

1 ــ ونختم هذا الفصل بعقد مقارنة بين شجرة الدر والخليفة العباسى المستعصم بالله العباسى الذى أعترض على سلطنة شجرة الدر وبسبب هذا الاعتراض تنازلت شجرة الدر عن السلطنة .

ورأينا كيف حفظت شجرة الدر ملك زوجها وملك ابن زوجها فى وقت  شديد التعقيد. إذ أن جيوش الفرنجة كانت تتوغل فى الدلتا بعد هروب حامية دمياط ، والسلطان مريض، ثم يموت ، وهى تواجه بمفردها عدوا متحركا نحوها ، وابن زوجها غائب، ومع ذلك فقد أحكمت سيطرتها وأدارت الأزمة بإقتدار حتى انتصرت وأسرت لويس التاسع وأبادت جيشه ،وحين تنكر لها السلطان الجديد الذى جعلته سلطانا قامت بكل جسارة بنقل السلطنة عنه وعن أسرته إلى نفسها وإلى المماليك ، مماليك الأيوبيين ، وظل السلطان فى أيدى المماليك يتداولونه من بعدها حتى الغزو العثمانى لمصر سنة 921 هجرية  سنة1517 ميلادية . هذا ما فعلته المرأة السلطانة التى كانت جارية من قبل ..

فما الذى فعله الخليفة المترف الذى تربى فى أسرة حاكمة ، استمرحكمها أكثر من سبعمائة عام ؟

2 ــ إن المؤرخ ابن طباطبا يصف الخليفة المستعصم فيقول عنه" كان مستضعف الرأى ضعيف البطش قليل الخبرة بالمملكة مطموعا فيه ، وكان زمانه ينقضى فى سماع الأغانى والتفرج على المساخر ..وكان أصحابه مستولين عليه ، ولكنهم جُهّال من أراذل العوام" .

المؤرخ ابن طباطبا كان معاصرا لذلك الخليفة الذى أضاع بغداد والخلافة العباسية والمسلمين.

وقد يقال أن المؤرخ ابن طباطبا كان شيعى المذهب يتحامل على الخليفة المستعصم المشهور بتعصبه لأهل البيت .ولكن مؤرخا سنيا موثوقا فيه مثل ابن كثير يتفق مع ابن طباطبا فى رأيه ، يقول عن ذلك الخليفة " كان محبا لجمع المال، ومن ذلك استحل الوديعة التى استودعه إياها الناصر داود الأيوبى ، وكانت قيمتها نحوا من مائة ألف دينار ، فاستُقبح هذا من مثل الخليفة " .وابن كثير يشير إلى أهم نقيصة لذلك الخليفة ، وربما كان السبب الأساسى فى هزيمته أمام المغول ، وهى نهم الخليفة بجمع الأموال وأكتنازها .

3 ــ ذلك أن نهم الخليفة بالمال وحرصه عليه شأن أغلبية أسلافه أدى به إلى قطع مرتبات الجند فى وقت كان أحوج ما يكون اليهم والمغول يقتربون من بغداد ، وهنا نرجع إلى المؤرخ ابن كثير وهو يقول عنه " صرف الجيوش‘ ومنع أرزاقهم حتى كانوا يتسولون على أبواب المساجد وفى الأسواق .. وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله . " .

4 ــ على أن شح الخليفة المستعصم بالأموال على الجند فى وقت حاجته لهم يقابله فى الناحية الأخرى إسرافه الشديد فى الإنفاق على خدمه وأتباعه من الظلمة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل . وكان أولئك الخدم من أراذل العامة والعبيد المماليك الذى صعد بهم الزمن الرديء فى عصر انحلال الدولة العباسية فاحتكروا الثروة بينما عاش العلماء والأشراف يتضورون جوعا .

5 ــ ونضرب أمثلة تاريخية لبعض أثرياء الخدم فى عصر المستعصم ، منهم : علاء الدين الطيبرسى الظاهرى ، وكان دخله من أملاكه نحو 300 ألف دينار وكانت له دارلم يكن ببغداد مثلها ، وحين تزوج دفع صداقا قدره عشرون ألف دينار، ووهب له الخليفة المستنصر ليلة زفافه مائة ألف دينار وألحقه بأكابر الدولة ، ومنحه ضيعة كانت  تدر له  دخلا يزيد على مائتى ألف دينار سنويا.

ومنهم مجاهد الدويدار وكانت أملاكه يتعذر ضبطها على الحساب . وفى ليلة زفافه حصل على هدايا تزيد على ثلثمائة ألف دينار ، وفى صباح زواجه أنعم عليه المستعصم بثلاثمائة ألف دينار أخرى ، وكان إيراده السنوى من أملاكه أكثر من نصف مليون دينار .

 ومنهم ابن فاخر شيخ الفراشين فى قصر الخلافة.والدليل على ثرائه أن داره كانت تشمل عدة حجرات للنوم . وفى كل حجرة جارية محظية وخادمة وخادم ، ثم هناك جارية لطعامه ،وأخرى لعمله وأخرى لشرابه وأخرى لترتيب فراشه ، وأخرى غسالة ، وأخرى طباخة ..وهكذا..

6 ــ وفى مقابل هذا الثراء كان أعظم العلماء وقتها لا يتقاضى أحدهم أكثر من 12 دينار شهريا فحسب ..ذلك هو المرتب الذى كان يأخذه علماء المدرسة المستنصرية ، وابن القوطى وابن الساعى أشهر المؤرخين لذلك العصر كان كلاهما يأخذ راتبا شهريا قدره عشرة دنانير.!  فأين أولئك من شيخ الفراشين من قصر الخليفة.!! ؟

7 ــ وفى ذلك الوضع المقلوب لا بد أن تكتمل الصورة لأى إمبراطورية على وشك السقوط بغض النظر عن اللافتةالتى ترفعها سواء كانت إمبراطورية فارسية ،أو بيزنطية أو رومانية أو عباسية، لابد أن تتفشى الرشوة وتكثر مصادرة الأموال وتتفاقم الاضطرابات الداخلية مع الانحلال الخلقى وينشغل الناس بالتوافه عن الخطرالذي يدق الأبواب .

8 ــ ويقول الغساني صاحب كتاب "العسجد المسبوك "يصف السلطة العباسية في أواخر أيامها باعتباره شاهدا عليها، "اهتموا بالإقطاعات والمكاسب وأهملو النظر في المصالح الكلية واشتغلوا بما لا يجوز من الأمور الدنيوية ، واشتد ظلم العمال (أي الحكام والولاة ) واشتغلوا بتحصيل الأموال ،والملك قد يدوم مع الكفر ولكن لا يدوم مع الظلم ."

وقد صدق الغساني في مقولته أن الملك قد يدوم مع الكفر ولكن لايدوم مع الظلم، لأن القاعدة القرآنية تقول "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها" أى أمرناهم بالعدل " ففسقوا فيها" أى حولوا الأمرالإلهى إلى خروج وفسق" فحق عليها القول فدمرناها تدميرا.. " ولا يمكن أن يحل التدمير من الداخل أو من الخارج إلا إذا اسشترى الظلم ، والله تعالى يقول"وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".

9 ــ لم يستوعب  الخليفة العباسى ذلك الدرس فانغمس فى الفساد مع أتباعه الأراذل وأضاع جنده فأضاع ملكه . وشهد بنفسه أصنافا من الإهانة قبل أن يقتله المغول رفسا بأقدامهم بعد أن دمروا بغداد وقتلوا مليونين من أهلها.

يقول الهمدانى فى كتابه " جامع التواريخ" إن هولاكو بعد أن اقتحم بغداد دخل قصر الخلافة واحضروا له الخليفة المستعصم وهو يرتجف ، فقال له هولاكو :" أنت مضيف ونحن الضيوف..فهيا أحضر ما يليق بنا "، فأحضر الخليفة له وهو يرتعد من الخوف صناديق المجوهرات والنفائس فلم يلتفت إليها هولاكو ومنحها للحاضرين ، وقال للخليفة ،إن الأموال التى تملكها على وجه الأرض ظاهرة وهى ملك لعبيد نا ،ولكن اذكر ما تملكه من الدفائن ما هى وأين توجد" .! . فاعترف الخليفة بوجود حوض تحت الأرض مملوء بالذهب فى ساحة القصر فحفروا الأرض حتى وجدوه  ،كان مليئا بالذهب الأحمر ، وكان كله سبائك تزن الواحده مائة مثقال .

10 ـ واستحق الخليفة احتقار هولاكو السفاح الدموى ، إذ تعجب كيف يكون للخليفة  كل هذه الأموال ثم يبخل على الجند بأرزاقهم ؟!!. لذلك يقول هولاكو عن الخليفة المستعصم فى رسالته إلى حاكم دمشق التى أرسلها لينذره بالتدمير إن لم يسلم نفسه ، يقول عن خليفة بغداد : " وكان قد جمع ذخائر نفيسة وكانت نفسه خسيسة ، فجمع المال ولم يعبأ بالرجال.." .

11 ــ ونعود إلى المؤرخ الهمذانى وهو يروى مشهدا أخر بين هولاكو والخليفة فى قصر الخلافة ، وقد أستحضر هولاكو نساء الخليفة فبلغن سبعمائة زوجة ومحظية وألف خادمة ، وقد تضرع الخليفة باكيا طالبا من هولاكو أن يمُنّ عليه بأهل حرمه أى نسائه : "اللائى لم تطلع عليهن الشمس والقمر" أى دفنهن كما دفن سبائك الذهب فى قصره ، وكانت تلك نظرته للنساء ...وشجرة الدر..

12 ــ ويقول الهمذانى : " وقصارى القول إن كل ما جمعه الخلفاء العباسيون خلال خمسة قرون وضعه المغول  بعضه على بعض فكان كجبل على جبل ". !!.  وقد قام هولاكو بصهر ذلك الذهب جميعه فى سبائك ، وأقام له قلعة محكمة فى أذربيجان ( مقال: ليس دفاعا عن هولاكو . بقلم المؤلف د. أحمد صبحى منصور ، نشرته الأ خبار فى 5990 ونقله عنها الشيخ محمد الغزالى فى كتابه تراثنا الفكرى : دار الشروق :ص 108 ).

هذا هو الخليفة المستعصم . وتلك هى شجرة الدر ..وكلاهما حكم بمنطق الاستبداد فى العصور الوسطى .. فأيهما تختار إذا كان ولا بد من الرضى بالاستبداد ؟.

حق المرأة فى رئاسة الدولة الإسلامية : لمحة أصولية تاريخية
سبق نشر هذا المبحث عام 1999فى دورية ( رواق عربى ) التى يصدرها مركز القاهرة لحقوق الانسان ، وكان العدد بعنوان ( حقوق المرأة بين الدينى و المدنى )( عدد 15 & 16 ) . ( ص 64 : 99 ). وأعيد نشر البحث فى دوريات أخرى ، وتم نشره هنا بدون تغيير . ولأن المؤلف باحث أزهرى الأصل ولا يزال ينظف عقله من وساخات التراث ، ولا يزال يتعلم من القرآن الكريم فإنه يراجع كتاباته القديمة باستمرار . ولهذا أعيدت مراجعة هذا البحث ، وأعيد نشره هنا منقحا .
more