رقم ( 4 )
الباب الثانى : مذبحة كربلاء

    

الباب الثانى : مذبحة كربلاء

الفصل الأول : مفاوضات قبيل الاشتباك الحربى فى كربلاء

مقدمة

لم يستمع الحسين لنصح الناصحين ، وحين وقع فى مخالب أعدائه بدأ يتنازل فى المفاوضات معهم لينجو بحياته ، ولكنهم لم يترفقوا به ، فطالبوا باستسلامه بلا قيد ولا شرط . فرفض ، فكانت المذبحة . ونتعرض هنا لمراحل التفاوض وظروفه حسبما رواه الطبرى فى تاريخه.

مقالات متعلقة :

 

 أولا : المفاوضات والمواجهة مع جيش الحُرّ بن يزيد التميمي:

1 ـ أرسل ابن زياد بجيش يقوده الحُرّ بن يزيد التميمى ، لا ليقاتل الحسين ولكن ليقبض عليه ويحضره الى ابن زياد . وهذا يعنى القتال لأن الحسين لم يكن ليستسلم لابن زياد . وكان الحُرّ بن يزيد رجلا نبيلا يؤمن بقلبه بأفضلية الحسين بدليل أنه رضى أن يصلى خلف الحسين بما يعنى قبوله بإمامة الحسين ، وكان يتحاشى مسئولية قتال الحسين ، فكان بين نارين ، كونه قائدا لجيش يأتمر بأوامر الوالى ابن زياد ، وتعاطفه مع الحسين.  لذا لم يبادر بالدخول فى حرب الحسين ، ولم يحاول إعتقال الحسين ، بل كان بارّا به ، باحثا عن حلول وسط ، يتفاوض معه فى طريقة يتجنب بها القتال ، فنصح الحسين أن يأخذ طريقا لا يدخل به الى الكوفة ولا يعيده الى الحجاز ، الى أن يستشير الوالى ابن زياد .

 تقول الرواية عن جيش الحُرّ بن يزيد : ( ..وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي ثم اليربوعي فوقفوا مقابل الحسين وأصحابه في نحر الظهيرة.. فلم يزل مواقفًا الحسين ( أى مواجها له )، حتى حضرت صلاة الظهر ، فأمرالحسين مؤذنه بالأذان ، فأذن ، وخرج الحسين إليهم ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ " أيها الناس إنها معذرة إلى الله وإليكم . إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن اقدم إلينا  فليس لنا إمام لعل الله أن يجعلنا بك على الهدى. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم أقدم مصركم وإن لم تفعلوا أو كنتم بمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه‏.".‏فسكتوا ، وقالوا للمؤذن‏:‏" أقم . " فأقام . وقال الحسين للحر‏:‏" أتريد أن تصلي أنت بأصحابك ؟ " فقال‏:‏ " بل صل أنت ونصلي بصلاتك‏".‏ فصلى بهم الحسين،  ثم دخل ، واجتمع إليه أصحابه . وانصرف الحر إلى مكانه،  ثم صلى بهم الحسين العصر ، ثم استقبلهم بوجهه،  فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ " أما بعد،  أيها الناس . فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله،  ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين، ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان.  فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقنا وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم ورسلكم انصرفت عنكم‏." . ‏فقال الحر‏:‏" إنا والله ما ندري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر‏" .‏فأخرج خُرجين مملوءين صحفًا ، فنثرها بين أيديهم‏ .‏ فقال الحر‏:‏ " فإنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أمرنا أنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد‏.‏" فقال الحسين‏:‏ " الموت أدنى إليك من ذلك‏!‏ " . ثم أمر أصحابه فركبوا لينصرفوا ، فمنعهم الحُرّ من ذلك‏. ‏فقال له الحسين‏:‏ " ثكلتك أمك‏!‏ ما تريد ؟ " قال له‏:‏  أما والله لوغيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذكر أمه بالثكل كائنًا من كان ، ولكني والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يُقدر عليه‏.‏".  فقال له الحسين‏:‏ " ما تريد.؟ ".  قال الحر‏:‏ " أريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد "‏.‏قال الحسين‏:‏ " إذن والله لا أتبعك."‏. ‏قال الحر‏:‏ " إذن والله لا أدعك‏." . ‏فترادا الكلام . فقال له الحر‏:‏ " إني لم أؤمر بقتالك ، وإنما أمرت أن لاأفارقك حتى أقدمك الكوفة . فإذا أبيت فخذ طريقًا لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد ، وتكتب أنت إلى يزيد أو إلى ابن زياد ، فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك‏.".).

2 ـ فى الطريق تنحى الحُرّ بن يزيد ، وترك الحسين يسير ، فقابل الحسين بعض شيعته القادمين من الكوفة الذين نصحوه بعدم دخول الكوفة ، قال له (  مجمع بن عبيد الله العائذي وهو أحدهم‏:‏" أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم فهم ألبٌ واحدٌ عليك ، وأما سائر الناس بعدهم فإن قلوبهم تهوي إليك وسيوفهم غدًا مشهورة إليك‏." ) وحذّره أحدهم وهو الطرماح بن عدي، بألا يدخل الكوفة لأن أهلها أجمعوا على حربه ، ونصحه أن يلجأ الى جبل طىء واسمه ( أجأ )‏ ويتحصّن به ، ووعده أن يجمع له أنصارا من قبائل سليم وطىْ.  وكالعادة ( العلوية ) لم يأخذ الحسين بنصيحته . 

نستكمل الرواية وفيها يقول الطرماح بن عدي للحسين محذّرا :‏ " والله ما أرى معك كثير أحدٍ ، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم . ولقد رأيت قبل خروجي من الكوفة بيومٍ ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي جمعًا في صعيد واحد أكثر منه قط ليسيروا إليك .! فأنشدك الله إن قدرت على أن لا تقدم إليهم شبرًا فافعل. ) ثم يقول له ناصحا : ( فإن أردت أن تنزل بلدًا يمنعك الله به حتى ترى رأيك ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتى أنزلك جبلنا أجأ ، فهو والله جبل امتنعنا به من ملوك غسان وحمير والنعمان بن المنذر ومن الأحمروالأبيض . والله ما إن دخل علينا ذل قط ، فأسير معك حتى أنزلك القرية ، ثم تبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسليم من طيء ، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى يأتيك طيء رجالًا وركبانًا . ثم أقم فينا ما بدا لك ، فإن هاجك هيجٌ فأنا زعيمٌ لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم ، فوالله لا يوصل إليك أبدًا وفيهم عين تطرف‏") ورفض الحسين : (  فقال له‏:‏ " جزاك الله وقومك خيرًا‏!‏ إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول ،  لسنا نقدر  معه على الانصراف ، ولا ندري علام تتصرف بنا وبهم الأمور‏.‏") ، وبعد رفض الحسين لنصيحة الطرماح سار الطرماح سار لأهله بالمؤن التى كان يحملها ، ثم رجع لنصرة الحسين ، فعلم فى الطريق بمقتل الحسين فرجع الى اهله، تقول الرواية  : (  فودعه وسار إلى أهله ووعده أن يوصل الميرة إلى أهله ويعود إلى نصره ففعل ، ثم عاد إلى الحسين،  فلما بلغ عذيب الهجانات لقيه خبر قتله فرجع إلى أهله‏. ).

3 ـ وجاءت الأوامر من ابن زياد للحُرّ بن يزيد بأن يمنع الحسين الماء وأن يحيله الى العراء ، وجعل ابن زياد من رسوله عينا يراقب الحُرّ فى تنفيذ أوامره .

 تقول الرواية: (.. فلم يزالوا يتياسرون ( أى يسيرون يسارا ) حتى انتهوا إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين ، فلمانزلوا إذا راكب مقبل من الكوفة ، فوقفوا ينتظرونه ، فسلم على الحُرّ ولم يسلم على الحسين وأصحابه . ودفع إلى الحُرّ كتابًا من ابن زياد ،  فإذا فيه‏: ‏" أما بعد فجعجع بالحسين حتى يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصين وعلى غير ماء . وقدأمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري . والسلام‏.‏"  فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر‏:‏ " هذا كتاب الأمير يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه ، وقد أمر رسوله أن لا يفارقني حتى أنفذ رأيه وأمره‏.‏".وأخذهم الحر بالنزول على غير ماء ولا في قرية  ، فقالوا‏:‏ دعنا ننزل في نينوى أو الغاضرية أو شفية‏. ‏فقال‏:‏ لا أستطيع هذا الرجل قد بعث عينًا علي .)

ثانيا : جيش عمربن سعد بن أبى وقاص ومفاوضات ما قبل الحرب:

1 ـ ثم أرسل ابن زياد جيشا يقوده عمر بن سعد بن أبى وقّاص .

 كانت البصرة تتبعها ولايات فى المشرق الفارسى ، ولوالى البصرة أن يعين ولاة تتبعه فيها ، وكان ابن زياد قد أصدر قرارا بتعيين عمر بن سعد بن أبى وقاص واليا على منطقة الرى ، وجهز له حملة لإسترجاع إقليم الرى ، وكان الديالمة قد إستولوا عليها . ثم حين اضيفت الكوفة لابن زياد لمواجهة أزمة الحسين غيّر ابن زياد رأيه وقرر أن يكون عمر بن سعد بن أبى وقاص قائدا للجيش المكلف بقتال الحسين ، وإن لم يفعل فلن يكون واليا على الرى . فجاء ابن سعد بن أبى وقاص بجيش ليقاتل الحسين حتى لا تضيع منه إمارة اقليم الرى الفارسى . تقول الرواية :  ( فلما كان الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف . وكان سبب مسيره إليه أن عبيد الله بن زياد كان قد بعثه على أربعة آلاف.... وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها . وكتب له عهده على الري فعسكربالناس في حمام أعين . فلما كان من أمر الحسين ما كان ، دعا ابن زياد عمر بن سعد ، وقالله‏:‏  " سر إلى الحسين فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إلى عملك‏" .‏ فاستعفاه‏. ‏فقال‏:‏ " نعم على أن ترد عهدنا "‏.‏ فلما قال له ذلك قال‏:‏ " أمهلني اليوم حتى أنظر‏" .‏فاستشار نصحاءه فكلهم نهاه . وأتاه حمزة بن المغيرة بن شعبة ، وهو ابن أخته فقال‏:‏ "  أنشدك الله يا خالي أن تسير إلى الحسين فتأثم وتقطع رحمك ، فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض لو كان لك خير من أن تلقى الله بدم الحسين‏!‏ " فقال‏:‏ " أفعل‏." ‏وبات ليلته مفكرًا في أمره . فسُمع وهو يقول‏:‏

أأترك ملك الري والري رغبةً أم أرجع مذمومًا بقتل حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها حجابٌ وملك الري قرة عين.

ثم أتى ابن زياد فقال له‏:‏ " إنك قد وليتني هذا العمل وسمع الناس به فإن رأيت أن تنفذ لي ذلك فافعل وابعث إلى الحسين من أشراف الكوفة من لست أغنى في الحرب منه. " وسمى أناسًا‏. ‏فقال له ابن زياد‏:‏ " لست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث . فإن سرت بجندنا،  وإلا فابعث إلينا بعهدنا‏ " .‏قال‏:‏  " فإني سائر‏ ". ).

2 ـ  ودارت مفاوضات بين الحسين وبين عمر بن سعد بن أبى وقاص.

وعرض الحسين أن ينصرف عائدا ، وكتب عمر ابن سعد بهذا الى ابن زياد ، فرفض ابن زياد ، وطلب أن يبايع الحسين ليزيد أولا ثم يرى رأيه فيه فما بعد ، وشدّد على منع الحسين من الماء .  تقول الرواية : ( فأقبل  ( أى عمر بن سعد بن أبى وقاص ) في ذلك الجيش حتى نزل بالحسين ، فلما نزل به بعث إليه رسولًا يسأله ما الذي جاء به . فقال الحسين‏:‏ " كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم عليهم ، فأما إذ كرهوني فإني أنصرف عنهم‏."  ‏فكتب عمر إلى ابن زياد يعرفه ذلك . فلما قرأ ابن زيادالكتاب قال‏:‏ " الآن إذ علقت مخالبنا به يرجو النجاة .! . ولات حين مناص ." ثم كتب إلى عمريأمره أن يعرض على الحسين بيعة يزيد ، " فإن فعل ذلك رأينا رأينا " ، وأن يمنعه ومن معه الماء‏.‏ فأرسل عمر بن سعد ، عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين الحسين وبين الماء‏.‏ وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيام ) .. فلما اشتد العطش على الحسين وأصحابه أمر أخاه العباس بن علي فسار في عشرين راجلًا يحملون القرب وثلاثين فارسًا فدنوا من الماء فقاتلوا عليه وملؤواالقرب وعادوا.).

3 ـ وجرت مفاوضات أخرى بين الحسين وعمر بن سعد ، يتضح من بعضها أن المال فيها كان سيّد الموقف .  تقول الرواية أن الحسين بعث لابن سعد يقول له :(  " أن القني الليلة بين عسكري وعسكرك‏.‏ " فخرج إليه عمر، فاجتمعا وتحادثا طويلًا ،  ثم انصرف كل واحد منهما إلى عسكره . وتحدث الناس أن الحسين قال لعمر بن سعد‏:‏ "اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين‏.‏" فقال عمر‏:‏ " أخشى أن تهدم داري‏.‏"  قال‏:‏ " أبنيها لك خيرًا منه‏.‏"  قال‏:‏ " تؤخذ ضياعي‏.‏"  قال‏:‏ " أعطيك خيرًا منها من مالي بالحجاز‏.‏"  فكره ذلك عمر‏.‏) . وهناك رواية تضيف أن الحسين قال له : ( اختاروا مني واحدة من ثلاث ‏:‏ إما أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه ، وإما أن تسيروا بي إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلًا من أهله لي ما لهم وعلي ما عليهم‏.‏). وواضح هنا أن الحسين يقدم تنازلات كل مرة ، وواضح أيضا أن ابن زياد لا يأخذ بها .

وهناك رواية أخرى وحيدة تنكر هذا ، يقول الطبرى : (  وقد روي عن عقبة بن سمعان أنه قال‏:‏ صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق ولم أفارقه حتى قتل ، وسمعت جميع مخاطباته للناس إلى يوم مقتله . فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس أنه يضع يده في يد يزيد ولا أن يسيروه إلىثغر من ثغور المسلمين ، ولكنه قال‏:‏ دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس‏.‏ فلم يفعلوا‏.‏) .

والأرجح انهما وصلا لاتفاق بعث به عمر ابن سعد لابن زياد فرفضه ابن زياد بتأثير صديقه شمّر بن ذى الجوشن . تقول الرواية : (ثم التقى الحسين وعمر بن سعد مرارًا ثلاثًا أو أربعًا . فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد‏:‏ " إما بعد فإن الله أطفأ الثائرة وجمع الكلمة وقدأعطاني الحسين أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه ، أو أن نسيره إلى أي ثغر من الثغورشئنا، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده. وفي هذا لكم رضى وللأمة صلاح‏.‏"   فلما قرأ ابن زياد الكتاب قال‏:‏ " هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه. نعم قد قبلت‏" .‏ فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال‏:‏" أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك ؟ والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز . فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن.  ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه ، فإن عاقبت كنت ولي العقوبة وإن عفوت كان ذلك لك ولله . لقد بلغني أن الحسين وعمر يتحدثان عامة الليل بين العسكرين‏". ‏فقال ابن زياد‏:‏ " نعم ما رأيت . الرأي رأيك.  اخرج بهذا الكتاب إلى عمر فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي ، فإن فعلوا فليبعث بهم إليّ سلمًا ، وإن أبوا فليقاتلهم ، وإن فعل فاسمع له وأطع . وإن أبى فأنت الأمير عليه وعلى الناس ، واضرب عنقه وابعث إلي برأسه‏.‏ " . وكتب معه إلى عمر بن سعد‏:‏ " أما بعد فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتمنّيه ولا لتطاوله ولا لتقعد له عندي شافعًا . انظر. فإن نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليّ سلمًا ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم ، فإنهم لذلك مستحقون . فإن قُتل الحسين فأوطىء الخيل صدره وظهره ، فإنه عاقٌّ شاقٌّ قاطع ظلوم . فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل جندنا .وخلّ  بين شمر وبين العسكر. والسلام‏ .‏ " ).  وأطاع عمر بن سعد بن أبى وقاص الأوامر ، وبعث بها للحسين يطلب منه الاستسلام بلا قيد ولا شرط . فرفض الحسين وانتهت بهذ المفاوضات ، وتحتمت الحرب.

ثالثا : خطابات قبيل الاشتباك الحربى

1 ـ فى البداية طلب الحسين من أنصاره أن يرحلوا ويأخذ كل واحد منهم بفرد من أهل الحسين ويختفوا بهم ، وان يتركوه يواجه وحده مصيره ، فرفضوا جميعا .

تقول الرواية أنه قال لهم :( " قد أذنت لكم جميعًا فانطلقوا في حلّ ليس عليكم مني ذمام . هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملًا ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي . فجزاكم الله جميعًا ، ثم تفرقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فإن القوم يطلبونني ولو أصابوني لهُوا عن طلب غيري‏.‏"  فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء إخوته وابناء عبد الله بن جعفر‏:‏ " لن نفعل هذا لنبقى بعدك‏!‏ لا أرانا الله ذلك أبدًا‏!‏ ". فقال الحسين‏:‏ " يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم . اذهبوا فقد أذنت لكم‏.‏" قالوا‏:‏ " وما نقول للناس؟! نقول‏:‏ تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن منهم برمح ولم نضرب بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ؟ لا والله لا نفعل . ولكنا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك. فقبح الله العيش بعدك‏!‏ " . وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال‏:‏ " أنحن نتخلى عنكولم نعذر إلى الله في أداء حقك‏ ؟ .‏أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمة بيدي . والله لو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك‏. ‏وتكلم أصحابه بنحو هذا ‏.‏)

2 ـ وعبأ الحسين جيشه . وكذلك عمر بن سعد بن أبى وقاص :

تقول الرواية :  ( وعبى الحسين أصحابه وصلى بهم صلاة الغداة ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون راجلًا . فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن مطهر في ميسرتهم .وأعطى رايته العباس أخاه ، وجعلوا البيوت في ظهورهم ، وأمر بحطب وقصب فألقي في مكان منخفض من ورائهم ، كأنه ساقية عملوه في ساعة من الليل ، لئلا يؤتوا من ورائهم. وأضرم نارًا تمنعهم ذلك‏.‏) .

وعبأ عمر بن سعد جيشه يتقسيم قبلى ( من القبيلة ) . تقول الرواية : (  وجعل عمر بن سعد على ربع أهل المدينة عبد الله بن زهير الأزدي ، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس ، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرةالجعفي ، وعلى ربع تميم وهمدان الحر بن يزيد الرياحي . فشهد هؤلاء كلهم مقتل الحسين إلا : الحر بن يزيد ،  فإنه عدل ( أى إنضم ) إلى الحسين  وقُتل معه . وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي ، وعلى ميسرته شمر ابن ذي الجوشن . وعلى الخيل عروة بن قيس الأحمسي ، وعلى الرجال شبث بن ربعي اليربوعي التميمي . وأعطى الراية دريدًا مولاه‏. ) . ويلاحظ أن شبث بن ربعى هذا وغيره كانوا من شيعة الحسين الذين كتبوا له يستقدمونه .!!

3 ـ وخطب فيهم الحسين قبل القتال  ، ونادى :( :‏ يا شبث بن ربعي‏!‏ ويا حجار بن أبجر‏!‏ ويا قيس بن الأشعث‏!‏ ويا زيد بن الحارث‏!‏ ألم تكتبوا إلي في القدوم عليكم ؟ قالوا‏:‏" لم نفعل‏ " .‏ثم قال‏:‏ " بلى فعلتم‏ " .‏ثم قال‏:‏ " أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض‏.‏ فقال له قيس بن الأشعث‏:‏ " أولا تنزل على حكم ابن عمك"  ، يعني ابن زياد ، " فإنك لن ترى إلا ما تحب " ‏.‏فقال له الحسين‏:‏ " أنت أخو أخيك ( يعنى يفعل مثل أخيه محمد بن الأشعث ) أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل .! لا والله ولا أعطيهم بيدي عطاء الذليل ولا أقر إقرار العبد‏.‏)  .

وخطب زهير بن القين يعظ أهل الكوفة فردوا عليه بالسباب . تقول الرواية : ( وخرج زهير بن القين على فرس له في السلاح فقال‏:‏ " يا أهل الكوفة نذار لكم من عذاب الله نذار. إن حقًا على المسلم نصيحةالمسلم . ونحن حتى الآن إخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف. فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنا نحن أمة وأنتم أمة."...فسبّوه وأثنوا على ابن زياد، وقالوا‏:‏ " والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله بن زياد سلمًا‏.‏" فقال لهم‏:‏ " يا عباد الله إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية ( يعنى عبيد الله بن زياد )  ، فإن كنتم لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم. خلوا بين الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية ، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين‏.‏"  فرماه شمرٌ بسهم وقال‏:‏" اسكت اسكت الله نأمتك أبرمتنا بكثرة كلامك‏!‏ " . فقال زهير‏:‏ " يا ابن البوال على عقبيه‏!‏ ما إياك أخاطب ، إنما أنت بهيمة‏!‏ والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم‏.‏".فقال شمر‏:‏ "إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة‏.‏". قال‏:‏ " أفبالموت تخوفني؟!  والله للموت معه ( أى مع الحسين ) أحب إلي من الخلد ( أى الجنة ) معكم‏!‏. ).

4 ـ  وانشق الحر بن يزيد عنهم ، وانضم الى الحسين وقاتل معه.

 تقول الرواية  : (  ولما زحف عمر ( ابن سعد بن أبى وقاص ) نحو الحسين أتاه الحر بن يزيد فقال له‏:‏" أصلحك الله‏!‏ أمقاتل أنت هذا الرجل؟ " قال له‏:‏ " إي  والله قتالًا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي‏.‏"  قال‏:‏ " أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضىً ؟ " فقال عمرابن سعد‏:‏ " والله لو كان الأمر إلي لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى ذلك‏.‏ " . فأقبل ( الحُرّ ) يدنو نحو الحسين قليلًا قليلًا ، وأخذته رعدة . فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر بن أوس‏:‏ " والله إن أمرك لمريب‏!‏ والله ما رأيت منك في موقف قط ما أراه الآن‏!‏ ولو قيل من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك‏.‏".!  فقال له‏:‏ " إني والله أخيّر نفسي بين الجنة والنار ، ولا أختار على الجنة شيئًا . ولو قُطّعت وحُرّقت‏. " . ‏ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين فقال له‏:‏ " جعلني الله فداك يا ابن رسول الله‏!‏ أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان .! ووالله ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدًا ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبدًا . فقلت في نفسي‏:‏ لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولايرون أني خرجت من طاعتهم . وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه . ووالله لو ظننت أنهم لايقبلونها منك ما ركبتها منك . وإني قد جئتك تائبًا مما كان مني إلى ربي ، مؤاسيًا لك بنفسي، حتى أموت بين يديك .! أفترى ذلك توبة ؟ قال‏:‏ " نعم يتوب الله عليك ويغفر لك‏." .‏وتقدم الحر أمام أصحابه ثم قال‏:‏ " أيها القوم . ألا تقبلون من الحسين خصلةً من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله ؟ فقال عمر‏:‏ " لقد حرصت لو وجدت إلى ذلك سبيلًا‏.‏"  فقال‏:‏ " يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر‏!‏ أدعوتموه حتى إذاأتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ؟ أمسكتم بنفسه وأحطتم به ، ومنعتموه من التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته فأصبح كالأسير لا يملك لنفسه نفعًا ولا يدفع عنها ضرًا ، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه .! وها هووأهله قد صرعهم العطش‏!‏ بئسما خلفتم محمدًا في ذريته‏!‏ لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه‏!‏ ".  فرموه بالنبل فرجع حتى وقف أمام الحسين‏. .) .

ونأتى لتفاصيل القتال فى كربلاء.

 

 

الفصل الثانى  :  وقائع مذبحة كربلاء    

 

مقدمة عن روايات المعركة / المذبحة

 كنت ـ ولا زلت ـ أبكى كلما قرأت روايات موقعة كربلاء . وكنت ـ ولا زلت ـ أمنع عواطفى كباحث تاريخى من التدخل فى عملى ، فالبحث التاريخى عمل عقلى بارد لا يعرف العواطف، وبه نقرر التالى: .  

 1 ـ الروايات عن مذبحة كربلاء تمتلىء بغيبيات ومعجزات لا يأخذ بها البحث التاريخى ، كمزاعم بأن من فعل كذا بالحسين عوقب بكذا ، وأن رأس الحسين نطقت وقالت كذا وأن النور إنبعث منها ..الخ .. ومنها كلام وضعوه على لسان الحسين ، فى خضم حدة المعركة وأعداؤه تقترب سيوفهم منه يقتلون أهله ، وليس من المتصور وقتها أن يجد الحسين وقتا أو مجالا لكى يتكلم بكلام طويل ويخطب خطبا عصماء ، ومنه كلام يعبّر عن العصر العباسى ، وليس عن عصر الحسين . ومنه كلام عن جور يزيد وطغيانه ، مع أن يزيد وقتها كان فى بداية عصره ، ولم يكن قد أرتكب بعد ما يوصف بالطغيان . وبعض الروايات تشير للحسين بالعدل ، ولم يكن الحسين قد تولى الحكم حتى يقال عنه هذا . والواضح أن تلك الروايات قد تم صُنعها بأثر رجعى تأثر بالتاريخ اللاحق لبنى أمية . ولم يكن كذلك بنفس الدرجة فى عصر معاوية والشهور الأولى من حُكم يزيد.

2 ـ عن المسئولية فى مأساة كربلاء وانتهاك الأشهر الحرم فيها  : نقرر الآتى:

2 / 1 : أحداث كربلاء تمت فى الشهر الحرام ، من ذى الحجة الى يوم المذبحة يوم العاشر من محرم .تقول الرواية  ( قُتل الحسين بن علي سنةإحدى وستين وهو يومئذ ابن ست وخمسين سنة في المحرم يوم عاشوراء‏.)، ومأساة كربلاء بدأت بمخرج مسلم بن عقيل ( بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجة .) . بينما خرج الحسين  من مكة متوجها للكوفة:(.. لثمان مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية في اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل . ).أى إنّ  المذبحة وما قبلها حدثت خلال الأشهر الحرم . والحسين يعرف أن خروجه يعنى الحرب ، وأن الحرب لا تجوز فى الشهر الحرام إلا فى رد الاعتداء الواقع فعلا . والحسين هو الذى سعى الى هذه الحرب بنفسه برغم نصائح الكثيرين . لا نعرف إذا كان قد أدى مناسك الحج فى مكة وقت موسم إفتتاح الحج الأكبر ، أم لا .. ولكن المذكور فى الروايات أنه قرر التحرك ليحارب فى الشهر الحرام . وبناء عليه قرّر يزيد بن معاوية أن يواجهه . أى إنّ هذا الانتهاك للشهر الحرام تقع مسئوليته على الحسين لأنه الذى بادر بالخروج المسلح على خليفة شرعى متمكن من الحُكم والسلطة ، وليس متصورا أن يتنازل عن حكمه إلا بهزيمته حربيا.  

2 / 2 :   : وقد خالف الحسين كل النصائح والتحذيرات من غدر شيعته به ، وتحقّق كل ما حذّروه منه ، فرأى بعينيه عامة جُند عبيد الله بن زياد من أهل الكوفة ، وبعض قادة الجيش الذى قاتل الحسين كانوا من معارفه ومن كبار الشيعة . وهم الذين غدروا من قبل بمسلم بن عقيل.

2 / 3  : ونتذكر بكاء مسلم بن عقيل قبيل قتله ، وهو يقول : (" ما أبكي لنفسي ، ولكني أبكي لأهلي المنقلبين إليكم .! أبكي للحسين وآل الحسين‏.‏.!! ثم قال لمحمد بن الأشعث‏:‏ " إني أراك ستعجز عن أماني ، فهل تستطيع أن تبعث من عندك رجلًا يخبر الحسين بحالي ويقول له عني ليرجع بأهل بيته ولا يغره أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذين كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل؟ " فقال له ابن الأشعث‏:‏ " والله لأفعلن‏!‏ " ثم كتب بما قال مسلم إلى الحسين ، فلقيه الرسول بزبالة ( مكان اسمه زبالة ) فأخبره ، ( أى أخبر الحسين ) فقال‏( الحسين ) :‏ " كلما قدر نازلٌ عند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا‏.‏".!  

2 / 4 : المستفاد هنا : أولا : أن الحسين أعدّ العدة للحرب بجيشه أوبأتباعه الذين بايعوه ينتظرونه فى الكوفة ، وقد جاء ليحارب بهم الأمويين ، ويأخذ منهم الكوفة والعراق . وقد سار الحسين بجيش صغير معتمدا على ما سبق أن أرسله اليه مسلم بأن أنصاره بلغوا 18 ألفا . وثانيا : أن مسلم بن عقيل بعث يحّذر الحسين يناشده أن يرجع بأهله ، فرفض الحسين .. وتكرر الرفض بعدها.

 2 / 5 ـ تقول الرواية فى الطبرى أن ابن زياد  بعث برأسى مسلم بن عقيل وهانىء الى يزيد بن معاوية ، فكتب له يزيد : ( وقد بلغني أن الحسين قد توجه نحو العراق ، فضع المراصد والمسالح واحترس واحبس على التهمة وخذ على الظنة ، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك‏.‏ واكتب إلي في كل ما يحدث من الخبر . ) . المراسلات فى هذا العصر لم تكن بالايميل والتليفون الخلوى والفاكس، بل بالبريد المسافر بالخيول . أى إن رسالة يزيد الى عبيد الله بن زياد بألا يقاتل إلا من قاتله قد وصلت ابن زياد بعد قتل الحسين وآله ، فلم نر لها أثرا فى الأحداث ، بل كان ابن زياد يدير الأمور بما يراه . وبالتالى تتضاءل مسئولية يزيد بقدر ما تتعاظم مسئولية الحسين ومسئولية عبيد الله بن زياد.

3 ــ نقول هذا لعلّه يكفكف بعض دموعنا . ونسرد الأحداث مرتبة بعد تمحيصها من تاريخ الطبرى.

أولا  :  بدء القتال:واحتدامه

1 ـ بدأه عمر بن سعد بن أبى وقاص :

( ثم قدم عمر بن سعد برايته وأخذ سهمًا فرمى به وقال‏:‏ اشهدوا لي أني أول رامٍ‏!‏ ثم رمى الناس . ).

وكالعادة وقتها بدأت الحرب بالمبارزة ، وانتصر فيها المبارزون من جيش الحسين مما جعل عمر بن سعد يوقفها: (..وقاتل الحر بن يزيد مع الحسين قتالًا شديدًا ، وبرز إليه يزيد بن سفيان فقتله الحر . وقاتل نافع بن هلال مع الحسين أيضًا ، فبرز إليه مزاحم بن حريث فقتله نافع ‏.‏) ( فصاح عمرو بن الحجاج بالناس‏:‏ أتدرون من تقاتلون ؟ فرسان المصر ، قومًامستميتين لا يبرز إليهم منكم أحد . فإنهم قليل وقلّ ما يُبقون . والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم‏...فقال عمر‏:‏ الرأي ما رأيت‏.‏ومنع الناس من المبارزة‏.‏ )  .

2 ـ واحتدم القتال ، وغلب فرسان الحسين مع قلتهم ، فاستعان عليهم خصومهم بالنبل يرمونهم فعقروا بالنبل خيول فرسان الحسين ، وإضطروهم للقتال مترجلين : ( وقاتل أصحاب الحسين قتالًا شديدًا ، وهم اثنان وثلاثون فارسًا ، فلم تحمل على جانب من خيل الكوفة إلا كشفته‏. ‏فلما رأى ذلك عروة  بن قيس وهو على خيل الكوفة بعث إلى عمر فقال‏: ‏ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة ؟ ابعث إليهم الرجال والرماة )، و ( .. دعا عمر بن سعد الحصين بن نمير فبعث معه المجففة وخمسمائة من المرامية ،  فلما دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصاروا رجالة كلهم . ) .

3 ــ ومع ذلك استمات جُند الحسين فى القتال مترجّلين : ( وقاتل الحر بن يزيد راجلًا قتالًا شديدًا.  فقاتلوهم إلى أن انتصف النهار أشد قتال خلقه الله . لا يقدرون يأتونهم إلا من وجه واحد لاجتماع مضاربهم‏. ‏فلما رأى ذلك عمر أرسل رجالًا يقوضونها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوابهم ، فكان النفر من أصحاب الحسين الثلاثة والأربعة يتخللون البيوت فيقلتون الرجل وهويقوض وينهب ويرمونه من قريب أو يعقرونه . فأمر بها عمر بن سعد فأحرقت ، فقال لهم الحسين‏:‏ " دعوهم فليحرقوها ." ..وخرجت امرأة الكلبي تمشي إلى زوجها، فجلست عند رأسه تمسح التراب عن وجهه وتقول‏:‏ " هنيئًا لك الجنة‏!‏ " فأمر شمر غلامًا اسمه رستم فضرب رأسها بالعمود فماتت مكانها‏.‏ وحمل شمر حتى بلغ فسطاط الحسين ونادى‏:‏ " عليّ بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله‏" .  ‏فصاح النساء وخرجن ، وصاح به الحسين‏:‏ " أنت تحرق بيتي على أهلي حرقك الله بالنار‏!‏ ." فقال حميد بن مسلم لشمر‏:‏ " إن هذا لا يصلح لك.  تعذب بعذاب الله وتقتل الولدان والنساء؟  والله إن في قتل الرجال لما يرضى به أميرك‏!‏ " . فلم يقبل منه . فجاء شبث بن ربعي فنهاه فانتهى ، وذهب لينصرف ، فحمل عليه زهير بن القين في عشرة فكشفهم عن البيوت . وقتلوا أبا عزة الضبابي وكان من أصحاب شمر‏.‏ وعطف الناس عليهم فكثروهم ، وكانوا إذا قتل منهم الرجل والرجلان يبين فيهم لقلتهم ، وإذا قتل في أولئك لا يبين فيهم لكثرتهم‏.‏). أى بسبب قلة عدد جُند الحسين كان القتل يظهر واضحا فيهم بينما كانت كثرة الجيش الأموى لا تُظهر فيهم عدد قتلاهم. .

4ـ وفى شدة القتال لم ينس جُند الحسين الصلاة حتى مع إقتراب جيش يزيد من مكان الحسين : (ولما حضر وقت الصلاة قال أبو ثمامة الصائدي للحسين‏:‏ " نفسي لنفسك الفداء‏!‏ أرى هؤلاء قد اقتربوا منك والله لا تُقتل حتى أقتل دونك، وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة‏!‏ " فرفع الحسين رأسه وقال‏:‏ " ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين . نعم . هذا أول وقتها . " ثم قال‏:‏ " سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي‏.‏"  ففعلوا . فقال لهم الحصين‏:‏ " إنها لا تقبل‏.‏ " فقال له حبيب بن مطهر‏:‏ " زعمت لا تقبل الصلاة من آل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتقبل منك يا حمار‏!‏ .)  . المهم هنا أنهم كانوا يحافظون على الصلاة المكتوبة حتى فى أحلك المواقف ، وقد تكرر هذا كثيرا بين سطور الروايات التاريخية ، ضمن تسجيل الأحداث ، بما يؤكد أن الصلاة وصلت لنا بالتواتر عبر القرون ، بالرغم من كل الأحداث الجسام.

5ـ وفى النهاية غلبت الكثرة الشجاعة :

(..‏.‏وحمل الحر وزهير بن القين فقاتلا قتالًا شديدًا . وكان إذا حمل أحدهما وغاص فيهم حمل الآخر حتى يخلصه . فعلا ذلك ( أى الحّر وزهير ) ساعة . ثم إن رجّالة ( أى مقاتلين مترجّلين ) حملت على الحر بن يزيد فقتلته . وقتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدوه . ثم صلوا الظهر.  صلى بهم الحسين صلاة الخوف،  ثم اقتتلوا بعد الظهر، فاشتد قتالهم . ووصلوا إلى الحسين ، فاستقدم الحنفي أمامه ، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل وهو بين يديه حتى سقط‏ .‏ وقاتل زهير بن القين قتالًا شديدًا ، فحمل عليه كثير ابن عبيد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه.  ، وكان نافع بن هلال الجملي قد كتب اسمه على أفواق نبله،  وكانت مسمومة ، فقتل بها اثني عشر رجلًا سوى من جرح ، فضُرب حتى كسرت عضداه ، وأخذ أسيرًا، فأخذه شمر بن ذي الجوشن ، فأتى به عمر بن سعد والدم على وجهه ، وهو يقول‏:‏ " لقد قتلت منكم اثني عشر رجلًا ، سوى من جرحت. ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني ‏." .‏فانتضى شمرٌ سيفه ليقتله ، فقال له نافع‏:‏ " والله لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا ، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه ‏!‏"  فقتله شمرٌ.  .

6ـ  ووصلت الكثرة الى الدائرة الضيقة حول الحسين.

 وحملوا عليهم بقيادة شمر بن ذى الجوشن ، فتنافس أصحاب الحسين فى الدفاع عنه ، وأن يُقتلوا بين يديه :

( ثم حُمل على أصحاب الحسين‏ .‏ فلما رأوا أنهم قد كثروا وأنهم لا يقدرون يمنعون الحسين ولا أنفسهم تنافسوا أن يقتلوا بين يديه . فجاء عبد الله وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاريان إليه فقالا‏:‏ " قد حازنا الناس إليك‏". ‏فجعلا يقاتلان بين يديه . وأتاه الفتيان الجابريان ، وهما سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع ، وهما ابنا عم وأخوان لأم ، وهما يبكيان ، فقال لهما‏:‏ " مايبكيكما ؟ إني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري عين" ‏.‏ فقالا‏:‏ " والله ما على أنفسنا نبكي . ولكن نبكي عليك .! نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن نمنعك‏!‏ " فقال‏:‏ " جزاكما الله جزاء المتقين‏!‏ " . وجاء حنظلة بن أسعدالشبامي فوقف بين يدي الحسين  ..وتقدم وقاتل حتى قتل‏.‏ وتقدم الفتيان الجابريان فودعا الحسين وقاتلا حتى قتلا‏. ‏وجاءعابس بن أبي شبيب الشاكري وشوذب مولى شاكر إلى الحسين فسلماعليه ، وتقدما فقاتلا ، فقتل شوذب ، وأما عابس فطلب البراز فتحاماه الناس لشجاعته فقال لهم عمر‏:‏ ارموه بالحجارة فرموه من كل جانب فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفرته وحمل على الناس فهزمهم ..‏.‏وجثا أبو الشعثاء الكندي وهو يزيد بن أبي زياد بين يدي الحسين ، فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم ، وكلما رمى يقول له الحسين‏:‏ اللهم سدد رميته واجعل ثوابه الجنة‏!‏ . وكان يزيد هذا فيمن خرج مع عمر بن سعد ، فلما ردوا الشروط على الحسين عدل إليه فقاتل بين يديه ..‏.‏ )

7ـ  وفى هذه الملحمة المأساوية قُتل جميع الهاشميين الذين صحبوا الحسين ، ما عدا إبنه ( على زين العابدين ) الذى كان شابا مريضا ، وقد ذكرت الروايات أسماء أولئك القتلى من الصغار والشباب والكبار ، من ابناء على واحفاده ، واسماء من قتلهم . ونكتفى ببعض أمثلة إختصارا : (. وكان أول من قتل من آل بني أبي طالب يومئذٍ علي الأكبر ابن الحسين ..وذلك أنه حمل عليهم وهو يقول‏:‏ " أنا علي بن الحسين بن علي     نحن ورب البيت أولى بالنبي     تالله لا يحكم فينا ابن الدعيّ " ( يقصد عبيد الله بن زياد ، لأن أباه هو زياد بن أبيه الذى كان مجهول الأب ، وزعم معاوية أنه ابن لابى سفيان ). ففعل ذلك مرارًا ، فحمل عليهم ُرّة ابن منقذ العبدي ، فطعنه فصرع ، وقطّعه الناس بسيوفهم.!!

ثانيا  ـ مقتل الحسين :

1 ــ وتتابع القتل فى آل أبى طالب حتى لم يبق سوى الحسين يقاتل بنفسه .( ‏.‏ومكث الحسين طويلًا من النهار ، كلما انتهى إليه رجل من الناس رجع عنه، وكره أن يتولى قتله وعظم إثمه عليه.  ثم إن رجلًا من كندة يقال له مالك بن النسيرأتاه فضربه على رأسه بالسيف فقطع البرنس وأدمى رأسه وامتلأ البرنس دمًا .  ودعا الحسين بابنه عبد الله ، وهو صغير فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد فذبحه. ).

2 ــ  (  ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بن علي بسهم فقتله. وقال العباس بن علي لإخوته من أمه عبد الله وجعفر وعثمان‏:‏ " تقدموا حتى أرثكم فإنه لا ولد لكم‏.‏"  ففعلوا فقتلوا . وحمل هانىء بن ثبيت الحضرمي على عبد الله بن علي فقتله، ثم حمل على جعفر بن علي فقتله . ورمى خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي ، ثم حمل عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله وجاء برأسه . ورمى رجل من بني أبان أيضًا محمد بن علي بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه‏.‏ وخرج غلام من خباء من تلك الأخبية فأخذ بعود من عيدانه وهو ينظركأنه مذعور فحمل عليه رجل قيل إنه هانىء بن ثبيت الحضرمي فقتله‏.‏ واشتد عطش الحسين فدنا من الفرات ليشرب فرماه حصين بن نمير بسهم فوقع في فمه فجعل يتلقى الدم بيده. ) ...

3 ــ ‏(  ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر نحو عشرة من رجالهم نحو منزل الحسين ، فحالوا بينه وبين رحله ، فقال لهم الحسين‏:‏ " ويلكم‏!‏ إن لم يكن لكم دين ولاتخافون يوم المعاد فكونوا أحرارًا ذوي أحساب . امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم‏.".!‏ فقالوا‏:‏ "ذلك لك يا ابن فاطمة‏" . ‏وأقدم عليه شمر بالرجالة منهم‏:‏ أبو الجنوب واسمه عبد الرحمن الجعفي والقشعم بن نذير الجعفي وصالح بن وهب اليزني وسنان بن أنس النخعي وخولي بن يزيد الأصبحي ، وجعل شمر يحرضهم على الحسين ، وهو يحمل عليهم فينكشفون عنه . ثم إنهم أحاطوا به‏. )

4 ـ ( ‏وأقبل إلى الحسين غلام من أهله فقام إلى جنبه ، وقد أهوى بحر بن كعببن تيم الله بن ثعلبة إلى الحسين بالسيف ، فقال الغلام‏:‏ " يا ابن الخبيثة أتقتل عمي‏!‏ " ، فضربه بالسيف فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلى الجلدة، فنادى الغلام‏:‏ " ياأمتاه‏!‏ " فاعتنقه الحسين... ‏ ثم  ضارب الرجالة حتى انكشفواعنه‏. ‏)

5 ـ  ( ولما بقي الحسين في ثلاثة أو أربعة ..‏.‏وحمل الناس عليه عن يمينه وشماله . فحمل على الذين عن يمينه فتفرقوا،  ثم حمل على الذين عن يساره فتفرقوا ، فما رؤي مكثور ( أى تكاثر عليه الناس عددا ) قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أرط جأشًا منه ولا أمضى جنانًا ولا أجرأ مقدمًا منه،  إن كانت الرجالة لتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى ( المعيز ) إذا شد فيها الذئب ‏.‏.. ومكث طويلًا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لقتلوه، ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض ، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء ، فنادى شمر في الناس‏: ‏"ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل ؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم‏!‏ " ، فحملوا عليه من كل جانب ، فضرب زرعة بن شريك التميمي على كفه اليسرى وضرب أيضًا على عاتقه ، ثم انصرفوا عنه ، وهو يقوم ويكبو ، وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع . وقال لخولي بن يزيد الأصبحي‏:‏ " احتز رأسه " . فأراد أن يفعل فضعف وأرعد،  فقال له سنان‏:‏ " فت الله عضدك‏!‏ : ونزل إليه فذبحه ، واحتز رأسه ، فدفعه إلى خولي ).

6 ــ ( ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربةغير الرمية‏.‏ ). ( وأما سويد بن المطاع فكان قد صرع فوقع بين القتلى مثخنًا بالجراحات فسمعهم يقولون‏:‏ قتل الحسين‏!‏ فوجد خفةً فوثب ومعه سكين وكان سيفه قد أخذ فقاتلهم بسكينة ساعة ثم قتل ، قتله عروة بن بطان الثعلبي وزيد بن رقاد الجنبي . وكان آخر من قتل من أصحاب الحسين‏. ).

وحتى تهدأ النفوس ، وتجفّ الدموع نبادر بالقول بأن كل من شارك فى قتل الحسين قد تم الانتقام منه بعدها ومات مقتولا شرّ قتلة . الان كفكفوا دموعكم.!

  ثالثا :  السلب بعد القتل

1ـ وطبقا لعادة العرب فى السلب والنهب بعد القتل فقد فعلوا هذا فيما يعرف بالفتوحات ، وفعلوا هذا مع عثمان حين مقتله ، ومع الحسين أيضا ، سلبوا ما على جثته ، وسلبوا متاعه وفسطاطه ، وسلبوا ما على نسائه من ثياب ومن حُلىّ : ( وسُلب الحسين ما كان عليه . فأخذ سراويله بحر بن كعب ، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته وهي من خز ، فكان يسمى بعد قيس قطيفة. وأخذ نعليه الأسود الأودي ، وأخذ سيفه رجل من دارم . ومال الناس على الفرش والحلل والإبل فانتهبوها ، ونهبوا ثقله ومتاعه ، وما على النساء ، حتى إن كانت المرأة لتنزع ثوبها من ظهرها فيؤخذ منها‏.‏.‏) .

2 ــ  ثم كادوا أن يقتلوا عليا زين العابدين بن الحسين : (ثم انتهوا إلى علي بن الحسين زين العابدين فأراد شمر قتله ، فقال له حميد بن مسلم‏:‏ سبحان الله أتقتل الصبيان‏!‏ وكان مريضًا . وجاء عمر بن سعد فقال‏:‏"  لا يدخلن بيت هذه النسوة أحد ولا يعرضن لهذا الغلام المريض ومن أخذ من متاعهم شيئًا فليرده " فلم يرد أحد شيئًا. )

ولنتذكر أن قيس بن الأشعث بن قيس كان مع أخيه محمد بن الأشعث من كبار الشيعة ، ومعهما شبث بن ربعى . وكلهم كان من معارف الحسين ورفاقه فى خلافة أبيه ( على بن أبى طالب ) . ولكنه المال الذى أجاد الأمويون استعماله فى شراء النفوس ، حتى إشتروا به جعدة بنت الأشعث بن قيس فقامت بقتل زوجها الحسن بن على بالسّم.

  رابعا : التمثيل بجثة الحسين بعد قطع رأسه وحمل بقية أهله الى ابن زياد

1ـ التمثيل بجثة الحسين بعد قطع رأسه:

 (  ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه : " من ينتدب إلى الحسين فيوطئه فرسه؟ " فانتدب عشرة ، ..فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضّوا ظهره وصدره‏.‏) ( وكان عدة من قتل من أصحاب الحسين اثنين وسبعين رجلًا‏. ‏ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد  ، بعد قتلهم بيوم‏.‏) أى ظلت جثث الحسين وآله فى العراء يوما بعد المعركة حتى ورارهم أعراب الغاضرية . ( وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلًا سوى الجرحى فصلى عليهم عمر ودفنهم‏.‏)).

2ـ إرسال رءوس الحسين وأصحابه الى عبيد الله بن زياد فى الكوفة :

 ( ولما قُتل الحسين أرسل رأسه ورؤوس أصحابه إلى ابن زياد . مع خولي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي . ...   وقيل‏:‏  بل الذي حمل الرؤوس كان شمر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعروة بن قيس . فجلس ابن زياد ، وأذن للناس ،  فأحضرت الرؤوس بين يديه،  وهو ينكت بقضيب بين ثنيته ساعة ، فلما رآه زيد بن الأرقم لا يرفع قضيبه قال‏:‏ " أعل هذا القضيب عن هاتين الثنيتين ، فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هاتين الشفتين يقبلهما‏!‏ " ، ثم بكى ، فقال له ابن زياد‏:‏ " أبكى الله عينيك‏!‏ فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك‏.‏"  . فخرج وهو يقول‏:‏"  أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة،  فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فرضيتم بالذل ، فبعدًا لمن يرضى بالذل‏!‏. )

3ـ أهل الحسين عند ابن زياد فى الكوفة :

حملهم عمر بن سعد الى قصر ابن زياد . ( فأقام عمر بعد قتله يومين ثم ارتحل إلى الكوفة ، وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان ، وعلي بن الحسين مريض. فاجتازوا بهم على الحسين وأصحابه صرعى ، فصاح النساء ولطمن خدودهن . وصاحت زينب أخته‏:‏ " يا محمداه ..صلى عليك ملائكة السماء‏!‏ هذا الحسين بالعراء مرمل بالدماء مقطع الأعضاء وبناتك سباياوذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا‏!‏ ) .. (..‏.‏فلما أدخلوهم على ابن زياد لبست زينب أرذل ثيابها ، وتنكرت وحفت بها إماؤها . فقال عبيد الله‏:‏ " من هذه الجالسة ؟ " فلم تكلمه ، فقال ذلك ثلاثًا ،  وهي لا تكلمه. فقال بعض إمائها‏:‏ "هذه زينب بنت فاطمة‏." ‏فقال لها ابن زياد‏:‏ " الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم‏!‏ " فقالت زينب‏:‏ " الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيرًا لا كما تقول أنت . وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر‏.‏"فقال‏:‏ " فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟ " قالت‏:‏ " كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده‏.‏"  فغضب ابن زياد وقال‏:‏ " قد شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردةمن أهل بيتك‏.‏"  فبكت ..  ولما نظر ابن زياد إلى علي بن الحسين قال‏:‏ "ما اسمك ؟ "قال‏:‏ "علي بن الحسين‏."‏قال‏:‏ "أولم يقتل الله علي بن الحسين؟ " فسكت‏.‏فقال‏:‏ "ما لك لا تتكلم ؟" فقال‏:‏ كان لي أخ يقال له أيضًا عليٌّ فقتله الناس"‏.‏فقال‏:‏ " إن الله قتله‏.‏" .فسكت عليٌّ‏ .‏ فقال‏:‏ ما لك لا تتكلم  ؟ "أنت والله منهم‏.‏"  ثم قال لرجل‏:‏ " ويحك‏!‏ انظر هذا هل أدرك ؟ إني لأحسبه رجلًا‏.‏" .( أى يسأل إن كان قدبلغ مبلغ الرجال ) .‏ فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري فقال‏:‏ نعم قد أدرك‏. ‏" ( أى بلغ مبلغ الرجال ). قال‏:‏"اقتله‏.".  ‏فقال علي‏:‏ " من توكل بهذه النسوة؟ " وتعلقت به زينب فقالت‏:‏ " يا ابن زياد حسبك منا ؟ أما رويت من دمائنا ؟ وهل أبقيت منا أحدًا‏!‏ " واعتنقته . وقالت‏:‏ " أسألك بالله إن كنت مؤمنًا إن قتلته لما قتلتني معه‏!‏ " وقال له علي‏:‏ " يا ابن زياد إن كانت بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلًا تقيًا يصحبهن بصحبة الإسلام‏.‏"  فنظر إليها ساعة ، ثم قال‏:‏ " عجبًا للرحم‏!‏ والله إني لأظنها ودت لوأني قتلته أني قتلتها معه . دعوا الغلام ينطلق مع نسائه‏.‏" .   وأمر ابن زياد برأس الحسين فطيف به في الكوفة . وكان رأسه أول رأس حُمل في الإسلام على خشبة في قول . والصحيح أن أول راس حمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق‏.‏.) .

  ونلاحظ هنا أن عبيد الله بن زياد يعتنق عقيدة الأمويين فى الجبرية السياسية ، وهى أن كل ما يرتكبونه من ظلم هو بقدر الله وقضائه ومشيئته ، وبالتالى فالله هو الذى قتل الحسين وآله ، ولا يصح الاعتراض على قدر الله بزعمهم . ولهذا قال عبيد الله بن زياد  : (‏ الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم ‏!‏ ( فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟ ) ( قد شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردةمن أهل بيتك‏.‏) ( أولم يقتل الله علي بن الحسين؟  فسكت‏.‏فقال‏:‏ "ما لك لا تتكلم ؟" فقال‏:‏ كان لي أخ يقال له أيضًا عليٌّ فقتله الناس"‏.‏فقال‏:‏ " إن الله قتله‏.‏" ). ولقد شرحنا هذا فى بحث ( حرية الرأى بين الاسلام والمسلمين ) وفى مقال بحثى عن الجبرية السياسية فى الدولة الأموية، وكيف عارضها أحرار المسلمين المعروفون بالقدرية لقولهم : ( لا قدر وإنما الأمر أنف ) أى إن الظلم الأموى ليس قدرا الاهيا ، وإنما هو ظلم بشرى يقوم برغم أنوف الناس . وكان القدرية هم أول المفكرين الأحرار فى تاريخ المسلمين ، ولقد تعقبهم الخلفاء الأمويون والعباسيون بالاضطهاد ، وتبعهم فقهاء السلاطين بالتكفير

 . خامسا : أهل الحسين عند يزيد فى دمشق ..

1 ـ  ( ثم أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع عروة بن قيس إلى الشام إلى يزيد ومعه جماعة.  وقيل‏:‏ مع شمر وجماعة معه . وارسل معه النساء والصبيان وفيهم علي بن الحسين.  قد جعل ابن زياد الغل في يديه ورقبته ، وحملهم على الأقتاب . فلم يكلمهم علي بن الحسين في الطريق حتى بلغوا الشام .) وهناك رواية تقول إن يزيد عندما رأى رأس الحسين دمعت عيناه : ( وقال‏:‏ كنت أرضى من طاغيتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن زياد .) وتقول رواية أخرى إن يزيد قال ( ..عجل عليه ابن زياد فقتله . قتله الله‏!‏ ) ( ..  ثم أدخل نساء الحسين عليه والرأس بين يديه،( أى رأس الحسين )،  فجعلت فاطمة وسكينة ابنت الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس ، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس‏.‏فلما رأين الرأس صحن ، فصاح نساء يزيد وولول بنات معاوية‏. ‏فقالت فاطمة بنت الحسين وكانت أكبر من سكينة‏:‏ " أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟ " فقال‏:‏ " يا ابنة أخي أنا لهذا كنت أكره‏.‏" قالت‏:‏ " والله ما ترك لنا خرص‏.‏"  فقال‏:‏ " ما أتى إليكن أعظم مما أخذ منكن‏.‏". فقام رجل من أهل الشام فقال‏:‏ "هب لي هذه " يعني فاطمة ،( يعنى يعتبرها من السبايا ويريد من يزيد أن يهبها له )،  فأخذت (فاطمة ) بثياب أختها زينب وكانت أكبر منها، فقالت زينب‏:‏ " كذبت ولؤمت .! ما ذلك لك ولا له‏.‏"  فغضب يزيد وقال‏:‏ " كذبت والله ، إن ذلك لي ، ولو شئت أن أفعله لفعلته‏.‏". قالت‏:‏"  كلا والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا‏.‏"  فغضب يزيد واستطار ثم قال‏:‏ " إياي تستقبلين بهذا ؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك‏!‏ " قالت زينب‏:‏ " بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك‏.‏" قال‏:‏ " كذبت يا عدوة الله‏!‏ " قالت‏:‏ " أنت أمير تشتم ظالمًا وتقهربسلطانك. " فاستحى وسكت . ثم أخرجن وأدخلن دور يزيد ، فلم تبق امرأة من آل يزيد إلا أتتهن وأقمن المأتم ، وسألهن ( يزيد ) عما أخذ منهن فأضعفه لهن . فكانت سكينة تقول‏:‏ "ما رأيت كافرًابالله خيرًا من يزيد بن معاوية" ‏. ‏ثم أمر بعلي بن الحسين فأدخل مغلولًا فقال‏ (على ) :‏ " لو رآنا رسول الله ـصلى الله عليه وسلم ـ مغلولين لفك عنا‏. "‏قال‏:‏ "صدقت‏."  ‏وأمر بفك غله عنه‏...)  .

2 ــ ( وقيل‏:‏ ولما وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسرّه ما فعل ، ثم لم يلبث إلا يسيرًا حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبّهم ، فندم على قتل الحسين ، فكان يقول‏:‏ " وما علي لو احتملت الأذى وأنزلت الحسين معي في داري وحكمته فيما يريد وإن كان علي في ذلك وهنٌ في سلطاني حفظًا لرسول الله ـ صلى الله عليهوسلم ـ ورعاةً لحقه وقرابته . لعن الله ابن مرجانة ، فإنه اضطره وقد سأله أن يضع يده فى يدي أو يلحق بثغر حتى يتوفاه الله فلم يجبه إلى ذلك فقتله ، فبغضني بقتله إلى المسلمين،  وزرع في قلوبهم العداوة ، فأبغضني البر والفاجر بما استعظموه من قتلي الحسين. ما لي ولابن مرجانة ؟ لعنه الله وغضب عليه‏ !‏) .

 لو كانت هذه الرواية صحيحة لكان من المنتظر أن يقوم يزيد بعزل عبيد الله بن زياد لأنه إفتأت وتصرف بعكس ما كان يريده يزيد . ولكن الذى حدث مناقض لذلك ، فقد استمر ابن زياد يحكم البصرة والكوفة متمتعا بثقة يزيد ، بل بعث يزيد بجيش أخمد ثورة المدينة وبجيش آخر يواجه ثورة ابن الزبير فى مكة . أى بلغ يزيد نهاية المدى فى الدفاع عن سلطانه .

وأعتقد أن ما حدث من تعاطف ليزيد مع نساء الحسين يتّصل بالتعصّب الأموى لنساء بنى عبد مناف ، ومنهم بنو عمهم الهاشميون . فلم يكم مسموحا فى العصر الأموى التعرض لنساء بنى هاشم ، ليس إكراما لبنى هاشم ، ولكن لأنهن بنات عم من نسل عبد مناف.

سادسا : أهل الحسين من دمشق الى المدينة .  

1 ــ  ( ولما أراد أن يسيرهم إلى المدينة أمر يزيد النعمان بن بشير (والى الكوفة السابق )  أن يجهزهم بما يصلحهم ويسير معهم رجلًا أمينًا من أهل الشام ومعه خيل يسير بهم إلى المدينة .

2 ــ  ودعا عليًا ليودعه وقال له‏:‏ " لعن الله ابن مرجانة‏!‏ أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلةً أبدًا إلا أعطيته إياها ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولوبهلاك بعض ولدي ولكن قضى الله ما رأيت‏.‏ يا بني كاتبني حاجةً تكون لك‏." ‏وأوصى بهم هذا الرسول فخرج بهم ، فكان يسايرهم ليلًا ، فيكونون أمامه بحيث لا يفوتون طرفه ، فإذا نزلوا تنحى عنهم هو وأصحابه، فكانوا حولهم كهيئة الحرس . وكان يسألهم عن حاجتهم ويلطف بهم حتى دخلوا المدينة‏. ‏فقالت فاطمة بنت علي لأختها زينب‏:‏ " لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشيء؟ " فقالت‏:‏ " والله ما معنا ما نصله به إلا حلينا . "فأخرجتا سوارين ودملجين لهما فبعثتا ها إليه واعتذرتا ، فرد الجميع وقال‏:‏ " لو كان الذي صنعت للدنيا لكان في هذا ما يرضيني ولكن والله ما فعلته إلا لله ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏" .

خاتمة:

وتنتهى هنا مأساة الحسين فى كربلاء . ولكن ذيولها استمرت متفجرة فى العصر الأموى ، ثم من العصر العباسى حتى وقتنا هذا .  

مذبحة كربلاء : دراسة بحثية تاريخية ( ترفع ضغط الدم .!! )
هذا الكتاب كان مقالات فى مذبحة كربلاء ، تبحثها موضوعيا من الناحية التاريخية ، معتمدا على أشهر المصادر التاريخية فى التراث السنى . وتم تنقيحها وتجميعها فى هذا الكتاب .
more