رقم ( 5 )
الفصل الثاني : القرآن والنبي والرسول

الفصل الثاني : القرآن والنبي والرسول

القسم الأول الفرق بين الرسول والنبي
 1ـــ بين الرسول والنبي
 2 ـ
ـــ بين كلام الرسول وكلام النبي ـ كلمة "قل" فى القرآن الكريم ، القرآن ذكر أقوالاً للنبي وامتدحه في بعضها وعاتبه في بعضها الآخر .

مقالات متعلقة :

3ــ ما على الرسول إلا البلاغ:
4 ــ الرسول كان يحكم بالقرآن وحده:
5 ـ  أطيعوا الله وأطيعوا الرسول:
6 ـ واتبعوا النور الذى أنزل معه:

 

1 ـ بين الرسول والنبي
يخطئ الناس في فهم الأمر بطاعة الرسول واتباع الرسول ، وذلك لأنهم يخطئون في فهم الفارق بين مدلول النبي ومدلول الرسول..
"النبي" هو شخص محمد بن عبد الله في حياته وشئونه الخاصة وعلاقاته الإنسانية بمن حوله ، وتصرفاته البشرية.
ومن تصرفاته البشرية ما كان مستوجباً عتاب الله تعالى ، لذا كان العتاب يأتي له بوصفه النبي ، كقوله تعالى ﴿
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ ؟!..﴾ (التحريم 1) . ويقول تعالى في موضوع أسرى بدر ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (الأنفال 67) ، ويقول له ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (آل عمران 161) ، وحين استغفر لبعض أقاربه قال له ربه تعالى ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ (التوبة 113) ، وعن غزوة ذات العسرة قال تعالى ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ..﴾ (التوبة 117).
وقال تعالى يأمره بالتقوى واتباع الوحى والتوكل على الله وينهاه عن طاعة المشركين ﴿
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً  وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً  وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ..﴾ (الأحزاب 1: 3). كل ذلك جاء بوصفه النبي.
وكان الحديث القرآني عن علاقة محمد عليه السلام بأزواجه أمهات المؤمنين يأتي أيضاً بوصفه النبي ﴿
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ (الأحزاب 28) ، ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً..﴾ (التحريم 3) ، وكان القرآن يخاطب أمهات المؤمنين ، فلا يقول يا نساء الرسول وإنما ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ.. يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ (الأحزاب 32، 30) ، وكان الحديث عن علاقته بالناس حوله يأتي أيضاً بوصفه النبي ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ﴾ (الأحزاب 59) ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (الأحزاب 6) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ... ) (الأحزاب 53) ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ... ﴾ (الأحزاب 13).

وهكذا فالنبي هو شخص محمد البشرى في سلوكياته وعلاقاته الخاصة والعامة ، لذا كان مأموراً بصفته النبي باتباع الوحى.
أما حين ينطق النبي بالقرآن فهو الرسول الذى تكون طاعته طاعة لله ﴿
مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ.).(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ (النساء 80، 64) والنبي محمد بصفته البشرية أول من يطيع الوحى القرآني وأول من يطبقه على نفسه.. وهكذا ففي الوقت الذى كان فيه (النبي) مأموراً باتباع الوحى جاءت الأوامر بطاعة (الرسول) أي طاعة النبي حين ينطق بالرسالة أي القرآن ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ..﴾ (النور 54). ولم يأت مطلقاً في القرآن "أطيعوا الله وأطيعوا النبي" لأن الطاعة ليست لشخص النبي وإنما للرسالة أي للرسول. أي لكلام الله تعالى الذى نزل على النبي والذى يكون فيه شخص النبي أول من يطيع ، كما لم يأت مطلقا في القرآن عتاب له عليه السلام بوصفه الرسول.

ولكلمة النبي معنى محدد هو ذلك الرجل الذى اختاره الله من بين البشر لينبئه بالوحى ليكون رسولاً ، أما كلمة الرسول فلها في القرآن معان كثيرة هي:
الرسول بمعنى النبي: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ (الأحزاب 40).
الرسول بمعنى جبريل ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ  ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ  مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ  وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ  وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ (التكوير 19: 23).
الرسول بمعنى الملائكة: ملائكة تسجيل الأعمال ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ (الزخرف 80). ملائكة الموت ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (الأعراف 37).
الرسول بمعنى ذلك الذى يحمل رسالة من شخص إلى شخص آخر، كقول يوسف لرسول الملك "ارجع إلى ربك" في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ...﴾ (يوسف 50).
• الرسول بمعنى القرآن أو الرسالة ، وبهذا المعنى تتداخل معنى الرسالة مع النبي الذى ينطـق بالوحى وينطبق ذلك على كل الأوامر التي تحـث على طاعة الله ورسوله.. فكلها تدل على طاعة كلام الله الذى أنزله الله على رسوله وكان الرسول أول من نطق به وأول من ينفذه ويطيعه.
والرسول بمعنى القرآن يعنى أن رسول الله قائم بيننا حتى الآن وهو كتاب الله الذى حفظه الله إلى يوم القيامة ، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ (آل عمران 101) أي أنه طالما يتلى كتاب الله فالرسول قائم بيننا ومن يعتصم بالله وكتابه فقد هداه الله إلى الصراط المستقيم . ينطبق ذلك على كل زمان ومكان طالما ظل القرآن محفوظا ، وسيظل محفوظا وحجة على الخلق الى قيام الساعة..
وكلمة الرسول في بعض الآيات القرآنية تعنى القرآن بوضوح شديد كقوله تعالى ﴿
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾(النساء 100).فالآية تقرر حكماً عاماً مستمراً إلى قيام الساعة بعد وفاة محمد عليه السلام. فالهجرة في سبيل الله وفى سبيل رسوله - أي القرآن - قائمة ومستمرة بعد وفاة النبي محمد وبقاء القرآن أو الرسالة.
وأحياناً تعنى كلمة "الرسول" القرآن فقط وبالتحديد دون معنى آخر كقوله تعالى ﴿
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ (الفتح 9)، فكلمة "ورسوله" هنا تدل على كلام الله فقط ولا تدل مطلقاً على معنى الرسول محمد ، والدليل أن الضمير في كلمة "ورسوله" جاء مفرداً فقال تعالى ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ والضمير المفرد يعنى أن الله ورسوله أو كلامه ليسا اثنين وإنما واحد فلم يقل"وتعزروهما وتوقروهما وتسبحوهما بكرة وأصيلا" ، والتسبيح لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى وحده ، ولا فارق بين الله تعالى وكلامه ، فالله تعالى أحد في ذاته وفى صفاته ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾.
ويقول تعالى ﴿
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾(التوبة 62)، ولو كان الرسول في الآية يعنى شخص النبي محمد لقال تعالى "أحق أن يرضوهما" ولكن الرسول هنا يعنى فقط كلام الله لذا جاء التعبير بالمفرد الذى يدل على الله تعالى وكلامه.
إذن فالنبي هو شخص محمد في حياته الخاصة والعامة ، أما الرسول فهو النبي حين ينطق القرآن وحين يبلغ الوحى ﴿
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ (المائدة 67)
وفى الوقت الذى يأمر الله فيه النبي باتباع الوحى فإن الله تعالى يأمرنا جميعاً وفينا النبي- بطاعة الله والرسول، أي الرسالة ، ولم يأت مطلقاً "ما على النبي إلا البلاغ"، وإنما جاء ﴿
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ ﴾ (المائدة 99) فالبلاغ مرتبط بالرسالة كما أن معنى "النبي" مرتبط ببشرية الرسول وظروفه وعصره وعلاقاته.

2ـــ بين كلام الرسول وكلام النبي
عرفنا أن مـدلـول (النبي) هو شخص محمد عليه السلام في حياته وعلاقاته الخاصة والعامة وسلوكياته البشرية ، أما الرسول فهو النبي محمد حين ينطق بالرسالة وحين يبلغ الوحى..
ومحمد (النبي) له كلام مع زوجاته وأصحابه ، وله تصرفات باعتباره قائداً ومعلماً ورئيساً لدولة ، ومحمد (الرسول) له كلام باعتباره رسولاً نزل عليه وحى الله ليبلغه للناس.. فما هو الفارق بين هذا وذلك؟.. نبدأ بمحمد الرسول وأقواله..


ـــ أقوال الرسول:

يلفت النظر تلك الكراهية الشديدة من المشركين للقرآن ومحاولتهم مع النبي أن يغير في كلام القرآن أو أن يبدله ، وكان النبي يرد على مطلبهم هذا بإعلان خوفه من عذاب الله العظيم ، اقرأ في ذلك قوله تعالى ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ  قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ (يونس 15: 16) كانوا يريدون منه أن يتحدث في الدين من خارج القرآن على أنه دين الله ، ولكنه رفض خوفاً من عذاب يوم عظيم..
ولم ييأس المشركون ، أحكموا الحصار والخداع حول النبي يداهنونه ويطمعون في أن يصلوا معه إلى حل وسط فحذره ربه ﴿
فَلا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القلم 8: 9) ولكنهم استمروا في سعيهم وكادوا أن يؤثروا على النبي ولكن عصمة الله للوحى كانت أسرع من كيدهم ، وتعبير القرآن في وصف ما حدث أقوى مما يمكن قوله ، يقول تعالى : ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً  وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً  إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾ (الإسراء 73: 75)
ونرجو من القارئ أن يتمعن في تدبر هذه الآيات ليصل إلى أي حد حاول المشركون مع النبي أن يتكلم في الدين خارج القرآن على أنه كلام الله ، وفشلوا لأن حفظ الله تعالى الوحى القرآني فوق إمكانات البشر وفوق كيد المشركين.. وفى القرآن شهادة للنبي تبرئه وتثبت أنه لم يتحدث في دين الله إلا بالقرآن كلام الله ، وأنه لم يتقول على الله شيئاً ، وهى قوله تعالى ﴿
تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ  وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ  ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ  فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة 43: 47) فلو تقوّل النبي على الله شيئاً لم يقله رب العزة لعاقبه الله تعالى عقاباً شديداً يشهده الناس في عصر النبي ولا يستطيعون دفعه وحماية النبي منه ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ وحيث أن هذه العقوبة الهائلة لم تحدث فهي شهادة للنبي بأنه بلغ الرسالة كاملة في عصره ولم يتقوّل على الله شيئاً..
إن الدين هو لله ، فالله تعالى هو الذى ينزله وحياً ، وعلى الناس أن يخضعوا لهذا الوحى مهما تعارض مع أهوائهم ، والرسول هو الذى يتلقى هذا الوحى ويبلغه بحـذافـيـره ولا يملك أن يزيد أو ينقص منه شيئاً ، والله تعالى قال عن خاتم النبيين عليه السلام ﴿
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ..﴾ ليبرئ ساحة النبي من التحدث في دين الله من كلامه البشرى، وفى نفس الوقت أمره أن يقول كذا وكذا.. وهذا سر تكرار كلمة "قل" في القرآن الكريم.

كلمة "قل"وكلمة "قل" من أهم الكلمات القرآنية وقد وردت في القرآن 332 مرة ، وهى تعنى أن هناك أقوالاً محددة أمر الله تعالى رسوله أن يقولها للناس ، وتميز القرآن الكريم بكثرة ورود كلمة "قل" على نحو يختلف به القرآن عن التوراة والإنجيل اللذين بين أيدينا.
وقد بشرت التوراة التي بين أيدينا بخاتم النبيين الذى يأتي من بنى إسماعيل "يقيم الرب إلاهـك نبياً من وسطك من إخوتك مثلى له تسمعون.. أقيم لهم نبياً من وسط أخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به: سفر التثنية 18/5، 18".
والشاهد هنا أن الكتب السماوية السابقة نبأت بخاتم النبيين الذى ينزل عليه الوحى يقول له قل كذا ، ويصبح هذا جزءاً من الوحى المكتوب ، أو بتعبير التوراة "واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به".
وباستقراء المواضع القرآنية التي جاءت فيها كلمة "قل" نضع الملاحظة السريعة الآتية:
• أكثر ورود كلمة "قل" كان في الحوار مع شتى الأنماط البشرية والدينية.
هناك حوار مع المشركين مثل ﴿
قُلْ : سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ (الروم 42)
وهناك حوار مع أهل الكتاب ﴿
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾(آل عمران 64)
وهناك حوار مع المنافقين ﴿
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ: لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ﴾ (النور 53)
وهناك حوار مع المؤمنين ﴿
قُلْ: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..﴾ (الأنعام 151)
وهناك حوار مع كل البشر ﴿
قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ (الأعراف 158)
• وهناك "قل" في الإجابة عن أسئلة المؤمنين للرسول
(وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ: الْعَفْوَ(البقرة 219)
• وهناك "قل" في تشريع الدعاء والعقائد والعبادات ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ (الأنعام 161)
• وهناك تكرار لكلمة "قل" في الآية الواحدة ﴿
قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ...﴾ (الأنعام 14)
• وتأتى "قل" لتؤكد معنى قرآنياً ورد في آيات أخرى لم تأت فيها كلمة "قل" فالله تعالى يقول ﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ  إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (لقمان 33: 34)
ومضمون الآيتين السابقتين تكرار في آيتين جاءت فيهما كلمة قل ﴿
يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ  قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأعراف 187: 188)
وبالتوقف مع كل آية وردت فيها كلمة "قل" نتأكد أن القرآن كان يتابع النبي بإجابات مستفيضة ومتكررة عن كل شيء يحتاجه بحيث لم يكن لديه مجال أو متسع أو تصريح لأن يتكلم في دين الله من عنده خصوصاً وأن الله تعالى منع أن يتحدث النبي في الدين من عنده أو أن يتقول شيئاً ينسبه لله،وهذا يعنى أن أقوال الرسول وأحاديثه هي في داخل القرآن خصوصاً ما كان فيها الأمر الإلهي"قل"وفيها كل ما يحتاجه النبي والمسلمون.
وكان الرسول ينذر بالقرآن ﴿
وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ...﴾ (الأنعام 51)
وكان يذكرهم بالقرآن ﴿
وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ (الأنعام 70) ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ (ق 45) وكان يبشرهم بالقرآن ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً﴾ (مريم 97) وكان يجاهدهم بالقرآن ﴿فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾ (الفرقان 52)
كان عليه السلام "خلقه القرآن" وحقيق به حينئذ أن يكون على خلق عظيم ﴿
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ (القلم 4) والخُـلُــق في المفهوم القرآني هو الدين.. وهل هناك أعظم من دين الله.؟!.
وخارج نطاق الرسالة كانت للنبي أقوال وتصرفات في حدود بشريته وتعاملاته الخاصة والعامة ومسئولياته وعلاقاته.. فهل هذه الأقوال والأفعال تعتبر جزءاً من الدين.؟

أقوال النبي:محمد عليه السلام في حياته خارج الوحى كان حاكماً وقائداً عسكرياً وزوجاً وصديقاً لأصحابه وجاراً في المسكن ، وكان مثلاً أعلى في ذلك كله ، وكان فصيح اللسان وقد نجح في إبلاغ الدعوة وتكوين الأمة وإقامة الدولة ، وقد واجه في حياته مشاكل سياسية وشخصية وقد تغلب عليها ونجح في النهاية بمهارته ولباقته وكياسته، وبالطبع انعكس عليه أحياناً ضعف الإنسان في داخله أو من المحيطين به ، وأقواله وأفعاله خارج الوحى القرآني كانت تعكس ذلك..والقرآن ذكر أقوالاً للنبي وامتدحه في بعضها وعاتبه في بعضها الآخر

ونعطى أمثلة:
* في غزوة بدر خرج المسلمون بعدد قليل ليواجهوا قافلة ففوجئوا بقدم جيش ضخم يفوقهم عدداً وعدة، وكره المسلمين دخول الحرب خوفاً، والقرآن يصور ذلك الموقف فيقول ﴿
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ  يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ (الأنفال 5: 6)، وفى هذا الموقف انبرى القائد نبي الله يشجع أصحابه ، وسجل الله له هذا "القول" وذكر مقالته في هذا الشأن في معرض المدح ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ (آل عمران 124)
قال لهم النبي في ذلك الموقف: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة. إذن هذا حديث للنبي القائد في معركة بدر ذكره القرآن في معرض المدح.
* وفى غزوات ذات العسرة تثاقل المنافقون عن الخروج بينما جاء بعض فقراء المسلمين يريدون الخروج ولكن ليس معهم راحلة ولا مئونة فاعتذر لهم النبي قائلاً "لا أجد ما أحملكم عليه" ونزل القرآن يروى الحادثة ﴿
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ (التوبة 91: 92)
قال لهم النبي في ذلك الموقف: "
لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ " فهذا حديث مرتبط بظروفه المكانية والزمانية شأن ما سبق في غزوة بدر.
* وفى قضية زواج زيد وتطليقه زوجته التي أصبحت زوجة للنبي عليه السلام يقول تعالى ﴿
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ (الأحزاب 37)
أمر الله تعالى النبي أن يجعل زيداً يطلق زوجته ثم يتزوجها النبي فيما بعد لكى يقضى النبي عملياً على عادة الجاهلية في اعتبار زوجة الابن بالتبني وطليقته مثل زوجة الابن الحقيقي ، وحتى لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا.
وكان ينبغي على النبي أن "يقول" لزيد "طلق زوجتك" ولكنه تحرج وقال العكس تماماً فنزل القرآن يؤنب النبي ويحكى القول الذى قاله واستحق بسببه التأنيب من ربه ﴿
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ..﴾ إذن هنا حديث للنبي هو ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ قاله النبي لزيد بن حارثة ، وذلك الحديث أيضاً مرتبط بظروفه الزمانية والمكانية ، ولكنه حين قاله النبي لم يحالفه التوفيق فيه.

والمراد أنه كان للنبي في تحركاته وعلاقاته المتعددة أقوال وأحاديث ، وهذه الأحاديث كانت مرتبطة بظروفها الزمانية والمكانية التي قيلت فيها والتي يستحيل أن تتكرر في أي عصر لاحق بنفس الأحداث والأشخاص والظروف، لأنه تاريخ مضى وانتهى بانتهاء أبطاله وموتهم ولم يبق منه إلا العبرة والعظة.
وسيرة النبي فيها الكثير من الأحداث والأقوال المنسوبة للنبي في الفترة المكية وفى الفترة المدنية ، وهى تاريخ يجوز عليه الصدق والكذب وليس داخلاً في دين الله تعالى بأي حال. أما ما أورده القرآن من قصص يخص النبي محمد فهو القصص الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والإيمان بهذا القصص يدخل في إطار الإيمان بالقرآن.

والخلاصة :
• إن أقوال (النبي) خارج الوحى القرآني والتي أوردها القرآن هي قصص للعبرة نؤمن بها ضمن إيماننا بكل حرف نزل في القرآن.
• وأقوال (النبي) خارج الوحى القرآني والتي كتبها الرواة في السيرة بعد وفاة النبي هي تاريخ فيه الحق والباطل والصحيح والزائف وليست جزءاً من الدين على الإطلاق.
• أما أقوال (الرسول) فهي الرسالة أو القرآن أو دين الله ، وقد أبلغه الرسول دون زيادة ولا نقصان ، وفيه الكفاية وفيه التفصيل وفيه البيان ، وكان (النبي) أول الناس طاعة لهذا الوحى وعملاً بما جاء فيه ، وهذه هي العظمة الانسانية الحقيقية لمحمد النبي البشر عليه السلام.

3ــ ما على الرسول إلا البلاغ:
هذه الجملة القرآنية أصبحت مثلاً يقال على اللسان، هذا مع أننا قليلاً ما نتفكر فيها فيما يخص ديننا. فالنسق القرآني هنا يأتي بأسلوب القصر والحصر الذى يحصر مهمة الرسول في إبلاغ الرسالة فحسب ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ﴾ (المائدة 99) ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ ﴾ (آل عمران 20) ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ (المائدة 92) ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ ﴾ (الشورى 48)
وتبليغ الرسالة معناه توصيلها كما هي دون زيادة أو نقص ويؤكد ذلك أن أسلوب القصر والحصر في "ما على الرسول إلا البلاغ" يؤكد أكثر من مرة أن مسئولية الرسول هي تبليغ الرسالة بحذافيرها كما هي.
والبلاغ أو توصيل القرآن للناس يغنى أن يعرف الناس ما في القرآن من تبشير وإنذار وهداية ونور:﴿
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً : وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ﴾ (الأحزاب 45: 46) وأوصاف الشاهد والمبشر والنذير والداعي كلها تندرج تحت مفهوم التبليغ ، والرسول إذا بلغ الرسالة أصبح شاهداً على قومه.
"وشهد على" عكس "شهد لـ" فإذا "شهدت على فلان" أي كنت خصماً له أما إذا "شهدت لفلان" فقد صرت مدافعاً عنه شفيعاً له.
والنسق القرآني يجعل من الرسول يوم القيامة "شاهداً على" قومه أي خصماً لمن عصى منهم واقرأ في ذلك الآيات الكريمات الآتية: ﴿
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ ﴾ (المزمل 15) ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً﴾ (النساء 41) ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ (النحل 89)
وقد جاءت شهادة الرسول على قومه يوم القيامة في قوله تعالى ﴿
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾ (الفرقان 30) فمسئوليته أن يبلغ الناس القرآن وحين هجروا القرآن وتمسكوا بكتب أخرى معه استحقوا أن يتبرأ منهم الرسول يوم القيامة.
ومن معالم هجرهم للقرآن اتهامهم له بأنه ليس مُبـِيـناً يحتاج الى كلام البشر لشرحه وتوضيحه ، وأنه فرَّطـَ في التبيين وما جاء تبيانا لكل شيء مستحق للتبيين. من هنا ستكون شهادة الرسول يوم القيامة شهادة خصومة تؤكد أن القرآن نزل تبيانا لكل شيء:{
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ (النحل 89)
وبعض آيات التبليغ كانت تقصر مهمة التبليغ والإنذار على الرسول وتجعل مهمة الحساب على الله يوم القيامة ﴿
فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ (الرعد 40) ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ ﴾ (الشورى 48) ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ  إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ  فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ  ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ (الغاشية 21: 26)
وقد أدى رسول الله مهمته والقرآن معنا نقرؤه ، ولكن لا نتدبره ، وأكثرنا يهجره.. نرجو من الله تعالى لنا الهداية.

4ــ الرسول كان يحكم بالقرآن وحده:
كان النبي حاكما مسئولاً عن دولة ، وكان قائداً للأمة ، وكانوا يحتكمون إليه في أمورهم وقضاياهم ، وكان يحكم بينهم بصفته الرسول الذى ينطق بحكم الله كما هو.
والقاعدة القرآنية أن الحكم لله في أمور النزاع والاختلاف وينبغي على كل فريق أن يرضى بحكم الله.
يقول تعالى ﴿
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ ثم يقول تعالى ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (الشورى 7، 10)
ويقول تعالى ﴿
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ﴾ (الأنعام 114)
فالحكم إلى الله في كتابه الذى نزل مفصلاً ، والذى كان ينطق بهذا الكتاب ويبلغه للناس كان رسول الله عليه السلام ، لذا تقول آية أخرى تفصل في القول ﴿
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ (النساء 59)
وحتى لا يقول قائل أن الرسول محمد عليه السلام قد مات وترك لنا غير القرآن كلاماً نحتكم إليه فإن القرآن الكريم أوضح لنا أن الرسول كان في حكمه ينطق بالقرآن وحده ، وبعد موت النبي وغيابه عنا فإن القرآن لا يزال بيننا لمن أراد الهدى والاحتكام إليه، وهذا ما نفهمه من موقف المنافقين من الرسول عليه السلام، المنافقون كانوا يحتكمون للرسول إذا كان الحق في جانبهم ، أما إذا لم يكن الحق معهم أعرضوا عن حكم الرسول مع أنهم يدعون أنهم مسلمون ينبغي أن يدينوا بالولاء لله ورسوله ،ويفصل القرآن موقفهم هذا فيقول ﴿
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ  وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ  وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ (النور 47: 49)
ويقول تعالى ﴿
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ﴾ (النساء 61)
وقد كانوا يصدون لأن الرسول يحكم بينهم بما أنزل الله فقط ، فقوله تعالى ﴿
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ﴾ لا تفيد وجود مصدر آخر مع ما أنزل الله ، لأن الرسول هو الذى ينطق بما أنزل الله وهو الذى يحكم بما أنزل الله.
ويؤكد ذلك آيات سورة النور ﴿
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا..﴾ (النور 48، 51) فلو كان الرسول شيئاً آخر منفصلاً عن كلام الله لجاء الفعل مثنى ولقال تعالى "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكما بينهم" ولقال "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكما بينهم.."
ولكن لأن الله هو الحكم وحده ولأن الرسول هو الذى ينطق بكلام الله وحده جاء الفعل مفرداً يعود الضمير فيه على واحد لا إله إلا هو فقال تعالى "  ليحكم بينهم". وصدق الله العظيم ﴿
وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ  وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾ (النحل 51: 52)
والنبي - غير الرسول كما عرفنا - وباعتبار النبي بشراً فقد استطاع بعض المنافقين أن يخدعه ، حدث ذلك حين سرق أحدهم درعاً وشاع بين الناس أمره وأحس أهل اللص بالعار مما ارتكبه ابنهم فتآمروا بالليل على أن يضعوا الدرع المسروق في بيت شخص يهودي برئ وفى الصباح جاءوا للنبي يبرئون ساحة ابنهم المظلوم.. وانخدع النبي وصدقهم ودافع عن ابنهم ، وبذلك أصبح اللص بريئاً ، وأصبح البريء لصاً.. وهى قصة تتكرر في كل زمان ومكان ، موجزها أن ينجو المجرم صاحب النفوذ وأن يدخل البريء السجن ظلماً ، والقرآن الكريم ذكر القصة وحولها من حادثة تاريخية محددة بالزمان والمكان والأشخاص إلى قضية إنسانية عامة تتكرر في كل عصر ، وفى البداية عاتب الله تعالى النبي ووجه نظره إلى أن يحكم بالكتاب وحذره من أن يكون مدافعاً عن الخائنين ﴿
إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾ أي أنزل الكتاب الحق ليحكم بين الناس بما أراه الله في ذلك الكتاب ، فالاحتكام للكتاب. ولأنه نسى فقد جاء الأمر بالاستغفار ﴿وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾ ثم جاءه النهى عن الدفاع عن أولئك الخونة الذين تآمروا لتبرئة المجرم واتهام البريء ﴿وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً  يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
ثم يقول تعالى ﴿
هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً؟﴾ يعنى هل يستطيع أحد أن يدافع عنهم يوم القيامة أو أن يشفع فيهم؟ ثم جاءت الآيات التالية تضع قواعد المسئولية الفردية ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً . وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ﴾ أي كل إنسان مسئول عن سيئاته ، وإذا استغفر غفر الله له وإلا فهو مؤاخذ بما كسبت يداه ولن يجادل عنه أحد أو يشفع فيه يوم القيامة ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾(غافر 18)
ثم يقول تعالى للنبي ﴿
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾ (النساء 105: 113) أي حاولوا خداع النبي ولكن نزل الوحى فـفـضحهم وأعاد الأمور إلى نصابها العادل، وعلى هذا كانت أقضية الرسول تسير وفق القرآن لأنه كان يحكم بالقرآن وينطق بالقرآن ولا شيء غير القرآن.

5 ـ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول:

يقول تعالى ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (آل عمران 132) ويقول ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ (النساء 59) فهل الطاعة في الدين لواحد أو لاثنين أو لثلاثة؟ المطاع واحد هو الله في أوامره التي ينطق بها الرسول أو من يقوم بالأمر بعد موت النبي ، والقاعدة الشرعية المأخوذة من القرآن أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وقد كانت طاعة النبي - وهو في حياته - في إطار طاعة الله فقط ، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ﴾ (الممتحنة 12)
والشاهد في الآية الكريمة هو قوله تعالى "
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّفلو قال "يا أيها الرسول" لكانت طاعته مطلقة لأنها طاعة للرسالة أي كلام الله ، ولكنه لأنه تعالى خاطبه بوصفه النبي فقد جعل طاعته مقيدة بالمعروف فقال "وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ  ".
فالطاعة للرسول هي طاعة لله صاحب الوحى ، والنبي أول الناس طاعة للرسالة ، وكذلك أولو الأمر ينبغي أن يكونوا أولى الناس بطاعة الله وإلا لا طاعة لهم في معصية الخالق جل وعلا..
ويقول تعالى ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (النساء 64، 80) ولذلك فإن كل نبي كان يأتي لقومه برسالة كان يخاطبهم بوصف الرسول ويطلب منهم أن يطيعوه على أساس هذه الرسالة ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ  فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ (الشعراء :{ (107 ، 108) ، (125 ، 126) ، (162 ، 163) } ولم يقل لهم "إني لكم نبي أمين..".
ومع أن القرآن حـث على الإحسان بالوالدين إلا أنه أوجب أن تكون الطاعة لله إذا حاول الوالدان إضلال الأولاد ﴿
وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ﴾ (العنكبوت 8)
إن طاعة الرسول هي طاعة القرآن الذى أنزله الله على الرسول ، ولا يزال الرسول أو القرآن بيننا.

6 ـ واتبعوا النور الذى أنزل معه:
الإيمان ليس بشخص محمد عليه السلام وإنما الإيمان بما نزل على محمد ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ..﴾ (محمد 2)
ونحن لا نتبع محمداً عليه السلام كشخص وإنما نتبع النور الذى أنزل معه أي القرآن فهذا ما جاء في كلام الله ﴿
...فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (الأعراف 157)
كان النسق اللغوي يقتضى أن يقال "فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوه.." ولكن الاتباع ليس للشخص الآدمي وإنما للوحى الإلهي.
ومحمد عليه السلام هو أول الناس تمسكاً بالوحى واتباعاً للهدى، وبهذا أمره به تعالى فقال ﴿
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ (الأنعام 106) ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ﴾ (يونس 109) ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ (الأحزاب 2) ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ (القيامة 18) ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾ (الجاثية 18)
وأمره ربه أن يعلن أنه يتبع الوحى ﴿
إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَي﴾ (الأنعام 50)﴿ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف 203)
وإذا كان النبي متبعاً للوحى فنحن أولى الناس بعده باتباع الوحى ، يقول تعالى يخاطبنا ويخاطب النبي ﴿
كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ  اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ (الأعراف 2: 3)
وهذه الآيات الكريمة هي بداية سورة الأعراف، وفيها ينهى الله تعالى النبي عن التحرج من تبليغ القرآن وأن ينذر به ،وهو تعليم لنا نحن المؤمنين وذكرى :﴿
كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ، ثم جاءت لنا نحن المؤمنين أوامر محددة بالاتباع للقرآن فقط :﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ونهى واضح محدد عن اتباع غير القرآن:﴿وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ فالقضية واضحة لا تقبل الجدل ، وهى اتباع القرآن دون غيره.
ويأتي السؤال التقليدي: إذن فأين الاتباع للنبي؟ والجواب الوحيد: إنه الاتباع للقرآن الذى يتبعه النبي ، أو هو اتباع الرسول أي الرسالة أي القرآن.
وقوله تعالى ينهانا ﴿
وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ فيه إعجاز خفى ، فاتخاذ مصادر أخرى من القرآن والانحياز لمن كتبها وألفها معناه وضعهم في موضع المقارنة بالله تعالى وكتابه في نفس المستوى أو أقل قليلاً، وذلك وقوع في اتخاذ أولياء مع الله، مع أن المؤمن يكتفى بالله ولياً وبالقرآن كتاباً.
وقوله تعالى ﴿
وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ يضع حقيقة إنسانية ثابتة وهى أن أكثر البشر تتبع الأهواء والضلالات:﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام 116)
ولكن هذه الكثرة العددية التي تتبع الظن والهوى ينبغي ألا تكون حجة على الحق القرآني.. ﴿
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾(المائدة 100)
ومن عادات البشر السيئة أنهم قليلاً ما يتذكرون﴿
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ (ص 24)

الفصل الثاني : القرآن والنبي والرسول

القسم الثانى :  هل كان للنبي أن يجتهد في التشريع؟

1 ـ ليس للنبي أن يجتهد في التشريع أو أن يعلم الغيب:
2ـ  اجتهاد النبي في التطبيق وليس في التشريع
 3ـ  حدود اجتهاد الناس في تشريع القرآن:
4 ـ  سُــنـّة الرسول هي القرآن فقط:
5 ـ ( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ)

 6ـ وهذا ما جاء فى أحاديثهم هم ..ونستشهد بها للرد عليهم بكتبهم وأحاديثهم :


1ـ ليس للنبي أن يجتهد في التشريع أو أن يعلم الغيب:
المؤمن بالقرآن عليه أن يؤمن بأن الأنبياء هم أصلح البشر لتحمل مسئولية الرسالة وإلا لما اختارهم الله جلّ وعلا :﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(الأنعام 124) على أن مسئولية الرسالة تنحصر في النهاية في التبليغ فقط ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ﴾ (المائدة 99)
ومن اقتصار مهمة النبي على التبليغ للرسالة كما هي دون زيادة أو نقصان يمكن أن نستنتج أن تدبر الكتاب والاجتهاد في فهم معانيه هو مسئولية الناس بعد أن أوصل لهم النبي الرسالة ، وهذا الاستنتاج العقلي قد أثبته القرآن قبلنا ، فالله تعالى يقول ﴿
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ (ص 29) فالنسق اللغوي في الآية كان يقتضى أن يقال للنبي: كتاب أنزلناه إليك مبارك لتتدبر آياته ، ولكن التدبر في الكتاب مسئولية الناس كما أن التبليغ مسئولية الرسول.
ويؤكد القرآن على مسئوليتنا نحن في التدبر في الكتاب ، فيقول تعالى بتعبير الاستفهام الإنكاري ﴿
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ (النساء 82) ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ.؟ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد 24)
ويوم القيامة سيكون ندمهم شديداً لأنهم لم يتدبروا القرآن ، فسيقال لهم ﴿
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ (المؤمنون 68)
ووصف الله تعالى القرآن بأنه بصائر للناس ، أي دعوة لهم لأن يتبصروه وأوضح لهم أنه لا شأن للنبي بهم بعد أن أدى مهمته في التبليغ ، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ (الأنعام 104)ويقول تعالى للنبي ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ  وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ (الأعراف 203: 204) فلابد من الإنصات للقرآن حتى نتبصره ونتدبر آياته.
والذى لا شك فيه أن النبي عليه السلام بعقليته كان أصلح الناس للاجتهاد ، وكان منتظراً أن يبادر بالإجابة على من يسأله ويستفتيه في أمور الدين ، ولكن الواقع القرآني يؤكد أن النبي كان إذا سُئـِلَ في شيء كان ينتظر نزول الوحى ليأتي بالإجابة ، وينزل قوله تعالى ﴿يسألونك عن﴾ كذا ﴿قل﴾ كذا..
وكلمتا ﴿يسألونك﴾ و ﴿يستـفـتونك﴾ مع كلمة {قل} من كلمات الله في القرآن الكريم ، ومنها نتأكد أن النبي كان مطلوباً منه فقط أن يبلغ الرسالة كما هي ، لقد كانوا يستفتون النبي ولكن النبي كان ينتظر نزول الوحى ، وتنزل الفتوى من رب العزة ﴿
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ ﴾ ﴿النساء 127) لم يقل له ويستفتونك قل إني أفتيكم ، وإنما قال: ﴿قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ ﴾ وفى المواريث استفتوا النبي في الكلالة فانتظر الفتوى من الله تعالى فنزل قوله تعالى ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ..﴾ (النساء 176) لم يقل أنا أفتيكم.
ومن مراجعة كلمة "يسألونك" في القرآن نتعرف على الحقائق الآتية:
* كانوا يسألون النبي عن أشياء جديدة في التشريع ، وكان النبي ينتظر معهم الحكم التشريعي الجديد الذى ينزل به القرآن ، مثال ذلك سؤالهم عن الأنفال أو الغنائم ﴿
يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ.... ﴾ (الأنفال 1)
* وكانوا يسألون النبي عن إيضاحات جديدة في أمور تحدث عنها القرآن من قبل ، وكان بإمكان النبي أن يجيب عنها بالاستنتاج والقياس ، ولكنه عليه السلام لم يفعل ، فقد نزل قوله تعالى في مكة ﴿
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ (الأعراف 33) فالإثم كان محرماً في مكة ، ثم سُئـِلَ النبي في المدينة عن حكم الخمر ومعلوم أنها من الآثام ، ولم يجتهد النبي في التوضيح والقياس والاستنتاج ، وهو بلا شك أقدر الناس عليه ، ولكنه انتظر حتى جاءت الإجابة من الله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ (البقرة 219) وطالما أن في الخمر إثماً كبيراً فإن تحريمها قد نزل إجمالاً في مكة ثم جاء تفصيلاً في المدينة.
* بل كانوا يسألون النبي عن أمور تكرر حديث القرآن عنها، ومع ذلك فالنبي كان لا يتلو عليهم الإجابة من الآيات التي نزلت من قبل ،وإنما كان ينتظر نزول الوحى فينزل بإجابات تؤكد ما سبق بيانه ، فقد نزلت آيات مكية تحض على رعاية اليتيم ، ومنها ﴿
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ﴾ (الضحى 9) ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ  فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ (الماعون 1: 2) ﴿كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ (الفجر 17) ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ  يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ (البلد: 14 ، 15) ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ (الأنعام 152، الإسراء 34)
ثم نزلت آيات في المدينة تؤكد على رعاية اليتيم منها ﴿
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ (الإنسان 8) ، ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ..﴾ (البقرة 177)
ومع ذلك سألوا النبي عن اليتامى ، وانتظر النبي الإجابة ولم يقرأ عليهم الآيات الكثيرة عن رعاية اليتيم وحقوقه ، ونزل قوله تعالى يجيب السؤال ﴿
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ (البقرة 220) وهذه الإجابة تؤكد ما سبق بيانه من رعاية اليتيم ، وسُئـِلَ النبي مرة أخرى عن يتامى النساء ونزل الوحى يؤكد ما سبق بيانه من وجوب رعايتهن ورعاية اليتيم ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ (النساء 127) والإجابة هنا تشير إلى ما نزل في الكتاب وكانوا يتلونه ويقرأونه من رعاية اليتامى والمستضعفين من الولدان.
* وأكثر من ذلك فهناك حقيقة قرآنية مؤكدة وكررها القرآن ، وهى أن النبي لا يعلم الغيب ولا يعلم موعد قيام الساعة ولا ما سيحدث له أو للناس ، واقرأ في ذلك قوله تعالى ﴿
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ (الأنعام 50) ﴿قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ..﴾ (الجن 25: 27) ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ﴾ (الأنبياء 109) وهل هناك أوضح من قوله تعالى ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ..﴾ ؟(الأحقاف 9)
ومع ذلك فهناك آيات أخرى كثيرة تؤكد أن علم الساعة عند الله وحده ﴿
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ (لقمان 34) ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ (فصلت 47) ﴿وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (الزخرف 85)
كلها آيات تؤكد أن النبي لا يعلم الغيب وأن علم الساعة لله وحده وكانت تكفى آية واحدة ولكنهم سألوا النبي مرة ومرات عن الساعة ، ومع ذلك لم يبادر بالإجابة بأن يقرأ عليهم الآيات السابقة ، وإنما انتظر الوحى ، وكان الوحى ينزل دائماً بنفس الإجابة وهى أن علم الساعة لله وحده وأن النبي لا يعلم الغيب.
سألوا النبي عن الساعة فلم يبادر بالإجابة وهو بلا شك يعلم أن القرآن لا يمكن أن يأتي بإجابة تناقض ما سبق ، وأن الإجابة ستكون نفس المعنى الذى تكرر وتأكد من قبل،.. انتظر النبي الإجابة ونزل قوله تعالى ﴿
يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ  قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ ...﴾ (الأعراف 187: 188) وهذا توضيح فيه أكثر من الكفاية.
ولكنهم سألوه أيضاً عن الساعة ونرى النبي عليه السلام أيضاً ينتظر الإجابة فنزل قوله تعالى يجيب ﴿
يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا  فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا  إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا  إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾ (النازعات 42: 45) والآيات الأخيرة ملئت بأسلوب الاستفهام الإنكاري ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا  ﴾ وجاء أسلوب القصر يقصر علم الساعة على رب العزة ﴿إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا ﴾ ويقصر وظيفة النبي على الإنذار ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾.
كان ذلك في مكة ثم في المدينة سألوا النبي عن الساعة، وانتظر النبي أيضا نفس الجواب من رب العزة ﴿
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً﴾ (الأحزاب 63)
كان بإمكان النبي أن يجيب، ولديه الكفاية من الآيات، ولكنه كان ينتظر الإجابة، وينزل الوحى بالإجابة المعروفة سلفاً، ثم يسألون النبي نفس السؤال وينتظر النبي إلى أن تأتى الإجابة.. وتأتى نفس الإجابة ثم يسأله آخرون نفس السؤال ، وأيضاً ينتظر الإجابة التي يعرفها إلى أن ينزل الوحى.. وهكذا.. ولو كان من حقه الاجتهاد لأجاب منذ السؤال الأول.
على أن هذه التأكيدات القرآنية لم تأت عبثاً- وتعالى الله عن العبث- فمع كل التأكيدات التي كانت تكرر وتكرر وتؤكد أن النبي لا يعلم الغيب ولا يعلم شيئاً عن الساعة وموعدها وأحداثها - مع ذلك فإن الناس أسندوا للنبي بعد موته عشرات الأحاديث عن علامات الساعة وأحداثها والشفاعات وأحوال أهل الجنة وأهل النار.

وهذه الأحاديث التي ملأت الكتب (الصحاح) تؤكد اعجاز القرآن لأننا نفهم الآن لماذا كرر القرآن تلك التأكيدات سلفا ومسبقا ليرد عليها سلفا ومسبقا.

هذه الأحاديث الضالة تضعنا في موقف اختبار أمام الله تعالى فإما أن نصدق القرآن ونكذبها، وإما أن نصدقها ونكذب الله وقرآنه.. ولا مجال للتوسط.. ونسأل الله السلامة والهداية..ونعود إلى قضية التشريع..
*** فقد كانوا يسألون النبي عن أشياء لا نشك لحظة في أنه عليه السلام كان يعرف الإجابة عنها من خارج القرآن ، ومع ذلك فلم يبادر النبي بالإجابة من عنده أو من معلوماته وإنما انتظر الوحى القرآني ، فقد سألوا النبي عن الأهلة - جمع هلال - ومعروف أن الأهلة هي لمعرفة المواقيت ، وهذا ما كان مشهوراً العلم به في الجزيرة العربية حيث اعتاد العرب في شهورهم العربية على الاعتماد على التوقيت القمري ، وبه كانوا يؤدون فريضة الحج قبل القرآن وفى عصر النبي عليه السلام. وهكذا فعندما سألوا النبي عن الأهلة كان ممكناً أن يجيبهم من عنده ولكنه انتظر حتى نزل قوله تعالى ﴿
يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ... ﴾ (البقرة 189). وسألوا النبي عن مباشرة النساء في المحيض ، ونحن نعتقد أن النبي بذوقه الرفيع وحسه المرهف - عليه السلام - كان يعلم أن المحيض أذى وأنه ينبغي اجتناب النساء في المحيض ، ومع ذلك فلم يصرح النبي برأيه وانتظر الوحى حتى نزل قوله تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ (البقرة 222)
* وحدث أن جاءت امرأة تسأل النبي عن حكم الظهار بعد أن ظاهر منها زوجها أي أقسم باجتنابها جنسيا أو بحرمتها مثل تحريم أمه عليه ، ولم تكن لدى النبي إجابة فانتظر كعادته الوحى ، ولكن المرأة لم تنتظر وأخذت تجادل النبي - وهذا منتظر ممن كانت في مثل حالتها - ولما لم تجد لدى النبي شيئاً رفعت يديها للسماء تشكو لله تعالى حالها ، ونزل القرآن يوضح ذلك الموقف ويفتى في الموضوع ﴿
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ (المجادلة 1)
إن صاحب الشرع هو رب العزة تعالى ، أما الرسول فهو الذى يبلغ ذلك الوحى كما هو.. ولو كان للنبي حق الشرح والاجتهاد ، لأصبح للدين مصدران ، وكان لابد حينئذ أن يحظى ذلك المصدر الثاني بحفظ الله شأنه شأن المصدر الأول ، ولكن ذلك لم يحدث لأنه ومنذ البداية فإن التبليغ هو مسئولية الرسول ، وليس الاجتهاد من مسئولياته..
ونضيف إلى ذلك أنه طالما كان الوحى ينزل والشرع لما يكتمل بعد فلم يكن هناك مجال للاجتهاد في التشريع ، وحين اكتمل الوحى نزولاً وتم الدين قرآناً انتهى دور النبي ومات بعد أن أدى الأمانة وبلّغ الرسالة.
ولو كان النبي يجتهد ويتحدث في الدين برأيه وأنشأ مصدراً آخر مع القرآن من خلال اجتهاده- لو حدث هذا ما كان لدى الصحابة والتابعين والأئمة مجال للاجتهاد بعد اجتهاد النبي أو تفسيره للقرآن. ولكن الذى حدث أن الصحابة والتابعين والأئمة قد اجتهدوا في التفسير والإفتاء والتشريع ، ثم جاء اللاحقون فأسندوا بعض الاجتهاد الذى قالوه للنبي ليجعلوا له قدسية وليضمنوا انتشاره ، ولم يفطنوا إلى أن ذلك يناقض القرآن ، وبذلك نشأ ما يعرف بالمصادر الأخرى إلى جانب كتاب الله...
2 ـ اجتهاد النبي في التطبيق وليس في التشريع

 ولكن كان عليه أن يجتهد في طاعة الله وتطبيق أوامره وتنفيذ شريعته، وحتى فى ذلك أمره الله أن يشاور المؤمنين في الأمر ، ولكن هل يصلح اجتهاده في التطبيق لمن جاء بعده من المؤمنين ؟ ان المفهوم أن اجتهاده في التطبيق للنصوص الشرعية يخضع لإمكاناته البشرية وظروف الزمان والمكان ومن حوله من البشر ، وهى مختلفة بالتأكيد عن ظروفنا وبالتالي فليس اجتهاده التطبيقي في عصره ولعصره ملزما لنا وكل من جاء بعده.
مثلا يقول تعالى : "
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ " الأنفال 60" كان اجتهاد النبي في التسليح والاستعداد العسكري طبقا للآية الكريمة محكوما بظروف عصره ، فهل نتمسك بذلك في عصرنا ؟ أم نجتهد بما يناسب عصرنا.؟
اجتهادنا في فهم القرآن فريضة دينية اسمها التدبر .
اذا تدبرنا القرآن طلبا للهداية وبمنهج علمي وبدون هوى مسبق أفلحنا ، وهذا ينسب لنا وليس لدين الله تعالى ، أما إذا اجتهدنا في الدين فأخطأنا في الاجتهاد فالخطأ يلحق بنا نحن ولا شأن للدين بنا.. وكلنا بشر يجوز علينا الخطأ ، لذا كان لابد لدين الله أن يكون بمعزل ومنجاة من أخطاء البشر وليظل ساميا فوق الهوى البشرى وقد ضمن الله تعالى حفظه الى قيام الساعة ليكون حجة على اجتهادهم الخاطئ و افترائهم على الله تعالى ورسوله.
ولأنه محفوظ بقدرة الله تعالى فلم يستطيعوا النيل من لفظه ونصه فكذبوا على الله تعالى ورسوله في التفاسير والأحاديث ، وتخيل لو لم يحفظ الله تعالى قرآنه من أهوائهم ؟ اذن كانت رقابة الشيوخ قد حذفت من القرآن كل الآيات التي تنفى عصمة النبي وشفاعته وعلمه بالغيب والآيات الأخرى التي تؤكد على القيم الاسلامية العليا من الحرية المطلقة في العقيدة والفكر و الحق المطلق في العدل وفرضية الشورى بمعنى الديمقراطية المباشرة ، وكل تلك الحقائق القرآنية المنسية الغائبة والتي اجتهدنا في توضيحها فثار علينا الشيوخ ولا يزالون مع أن كل أدلتنا من القرآن ، لو استطاعوا لأعلنوا كفرهم به ، لم يبق في استطاعتهم الا اضطهادي وسبى وشتمي ليداروا عورة جهلهم وكراهيتهم لما أنزل الله تعالى ، ذلك القرآن الذى أنزله الله تعالى لنا دينا نقياً صافياً محفوظاً بقدرته جل وعلا حتى تتم علينا حجة الله يوم القيامة.

 3 ـ 
حدود اجتهاد الناس في تشريع القرآن:

كلمة الاجتهاد بمعناها الاصطلاحي من مبتكرات العصر العباسي ونحن مضطرون لاستعمالها لشيوعها على الألسنة ، والاصطلاح القرآني المماثل هو "التدبر" ومعناه أن يظل القارئ للقرآن خلف الآية يتتبعها في القرآن حتى يستوعب المراد ، لأن القرآن مثاني وفيه التشابه وتكرار المعنى وتفصيلها ، وآياته تفسر بعضها بعضاً ولا يناقض بعضها بعضاً ، لذا فإن الأمر بتدبر القرآن يشير إلى هذه الحقيقة فيقول تعالى ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ؟ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ (النساء 82)
والتدبر عملية عقلية فكرية يقوم بها القارئ للقرآن متشجعاً بآياته التي تحث على التفكر والتعقل والنظر والعلم و التـفـقه.
على أن القرآن استعمل بعض المشتقات القريبة من كلمة "الاجتهاد" مثل ﴿
وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ (التوبة 79) والجهد هنا يعنى الإمكانات المالية والمادية ، وقريب منه قوله تعالى ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ (النور 53) وقد يكون الجهد مجهوداً عضلياً أما التدبر فهو تفكير عقلي علمي بحت ، وذلك يجعل من أسلوب القرآن أرقى وأدق من اختراع العصر العباسي : "الاجتهاد" ــ الذى لا يزال مسيطراً على تفكيرنا حتى الآن.
والسؤال الآن: ما هي حدود الاجتهاد في شرع الله.؟ ومتى يكون مباحاً ومتى يكون محظوراً؟ إن الله تعالى يقول ﴿
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ؟﴾ (الشورى 21) ومع نبرة الهجوم والتخويف في الآية من ذلك التشريع الذى لم يأذن به الله فإن في الآية تصريحاً بوجود تشريع يرضى عنه الله لأنه جاء في الحدود التي يأذن بها الله ، ومن أسف فإنهم لم يعرفوا تلك الحدود فاجتهدوا في المحظور وربما توقفوا حيث ينبغي الاجتهاد ، ولقد قالوا أنه "لا اجتهاد مع وجود نص" مع ان النص القرآني يحتاج ــ كأي نص تشريعي ــ الى اجتهاد في تطبيقه على الواقع. انهم أضافوا نصوصاً منسوبة للنبي وجعلوها ــ مع أخرى ــ مصادر أخرى للإسلام مع القرآن ، وأصبحت تلك النصوص موانع للاجتهاد لا وجود له معها بما جعلوا لها من قدسية مع أنها تخالف القرآن ، ونضرب لذلك مثلاً:
فالمحرمات في الزواج جاءت في نص قرآني جامع مانع في قوله تعالى ﴿
وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً  حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ (النساء 22: 24)
فالمحرمات هنا بالنص القرآني كالآتي "الأم" "البنت" الأخت" "العمة" "الخالة" "بنت الأخ" "بنت الأخت" "الأم من الرضاعة" "الأخت من الرضاعة" "أم الزوجة" "بنت الزوجة التي دخل بها زوجها" "زوجة الابن من الصلب" "أخت الزوجة في وجود الزوجة على ذمة زوجها وفى عصمته" ثم "المرأة المتزوجة بزوج آخر إلا إذا فسخ عقد زواجها بملك اليمين" فهنا خمس عشرة امرأة محرمة في الزواج عندما نضيف "زوجة الأب".
وقد حرص القرآن الكريم على توضيح التفصيلات والاستثناءات والمحترزات لتتضح الصورة كاملة ، فأجاز على سبيل الاستثناء أنواع الزواج الباطل الذى كان موجوداً قبل نزول الآية وأقره بصفة مؤقتة ولكن حرم أن ينشأ بعد تلك الحالات الموجودة حالات أخرى، ففي تحريم زواج أرملة الأب أو طليقة الأب قال تعالى ﴿
وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ وفى تحريم الجمع بين الأختين في الزواج قال تعالى ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ومع أنها كانت حالات فردية معدودة وقت نزول القرآن إلا أن القرآن الكريم الذى فصل كل شيء تفصيلاً والذى نزل تبياناً لكل شيء أفسح لها مجالاً للتوضيح طالما يستدعى الأمر ذلك.
وأوضح القرآن بأفصح بيان معنى البنت الربيبة بالتفصيل ﴿
وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾.
وأوضح معنى زوجة الابن المحرمة ﴿
وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ﴾ أي لابد أن يكون الابن من صلب أبيه وليس ابناً بالتبني ولذلك أمر الله تعالى أن يطلق زيد بن حارثة ــ الذى تبناه النبي ــ زوجته زينب بنت جحش ليتزوجها النبي فيما بعد.
وأوضح حرمة الزواج من المرأة المتزوجة التي لا تزال في عصمة زوجها إلا إذا فقدت حريتها وأصبحت مملوكة وحينئذ ينفسخ عقد زواجها وبعد انتهاء عدتها يمكن لها الزواج ﴿
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾.
وبعد أن حصر القرآن المحرمات وفصّل القول فيهن تفصيلاً قال تعالى ﴿
كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ أي أن تحريم هؤلاء النسوة مكتوب ومفروض عليكم، فهنا حكم جامع مفصل بالتحريم، وبعده قال تعالى ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ أي أنه من بعد المحرمات المنصوص عليهن في الآيات الثلاث فكل النساء أمامكم حلال للزواج الشرعي ولسن محرمات بأي حال.
ومعناه أن القرآن الكريم أحاط النساء المحرمات بسور تشريعي جامع مانع، وما بعد ذلك السور فكل النساء حلال للزواج.
وبمعنى أدق فلا يجوز هنا أن نجتهد إلا في تطبيق هذا النص كما هو خصوصا وهو نص تشريعي جامع مانع لا يجوز الاضافة له أو الحذف منه حتى لا نعتدى على تشريع الله ، ولكن الفقهاء أعملوا القياس فحرموا الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها قياسا على حرمة الجمع بين المرأة وأختها ، وحرموا الخالة والعمة من الرضاع قياساً على تحريم الأم من الرضاع والأخت من الرضاع ، ثم صاغوا في ذلك أحاديث هي أشبه بمتون الفقه وأحكام الفقهاء فقالوا "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وقالوا "لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها".
وهنا يقع التناقص مع كتاب الله..
فإذا أراد رجل أن يتزوج عمة زوجته أجاز له القرآن ذلك لأن عمة الزوجة ليست من المحرمات في نص القرآن ولأنها تدخل في الحلال من النساء للزواج ضمن قوله تعالى ﴿
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ ولكن كتب الفقه تجعل ذلك الحلال القرآني حراماً.
وإذا أراد رجل أن يتزوج خالته من الرضاع أحلها له القرآن وحرمها عليه الفقه..!! وذلك يعنى بوضوح أنهم يحرمون ما أحل الله وينسبون ذلك للرسول ، والرسول عليه السلام برئ من ذلك..
إن النساء كلهن حلال للزواج ماعدا المنصوص عليهن بالتحديد والتعريف الدقيق ولكنهم لم يكتفوا بذلك التحديد الجامع المانع فأضافوا محرمات أخريات وضربوا بقوله تعالى ﴿
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ عرض الحائط. وقالوا لنا "لا اجتهاد مع وجود نص" واخترعوا نصوصاً أكسبوها قدسية مع أنها تعارض كتاب الله ومنعونا من مناقشتها..
وذلك مجرد مثل للاجتهاد المحظور الذى وقع فيه السابقون وأكسبوه قدسية، وهناك أمثلة أخرى لذلك الاجتهاد في المحظور الذى يعتدى على النصوص القرآنية الجامعة المانعة، ولكن الإسهاب في ذلك يخرج عن موضوع هذا الكتاب.
كان ينبغي أن يتوجه اهتمام الفقهاء إلى الاجتهاد في المناطق المباح فيها الاجتهاد. فمن الملاحظ أن آيات التشريع القرآني محدودة ومحددة فهي أقل من مائتي آية أي ما يعادل حوالى 1/30 من القرآن الكريم ، ومع ذلك فقد اكتفى رب العزة بهذه الآيات ، وبها اكتمل الدين وتمت نعمة الإسلام بتمام القرآن ﴿
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً ﴾ (المائدة 3) وليس ممكناً بعد هذه الآية أن يقال أن كتب الفقه والحديث تكمل نقصاً في القرآن ، فتعالى الله العزيز الحكيم أن ينزل لنا كتاباً ناقصاً يحتاج للبشر في استكماله ، وآيات التشريع القرآني على قلتها ومحدوديتها تعنى أن تشريع القرآن ترك هامشاً للحركة الإنسانية في الاجتهاد والتطور وفق المتغيرات ولكن ينبغي أن يكون ذلك في الإطار العام لتشريعات القرآن التي تهدف لإقرار العدل والمساواة والقسط والتيسير وحفظ الحقوق والدماء ، إن التشريع القرآني جاء بنصوص جامعة مانعة في أمور محددة كالمحرمات في الزواج والحرام في الطعام وجاء بأنصبة محددة في الميراث، ومطلوب منا أن نجتهد في تطبيق هذه النصوص التطبيق الأمثل، لا أن نجتهد في الاعتداء عليها وتغييرها بالإضافة والتشويه.
ثم جاء التشريع القرآني يحتكم للعرف أو المعروف في التطبيق لأحكامه التفصيلية و لأن تصاغ من العرف والمعروف قوانين اسلامية في اطار القيم الاسلامية الانسانية العليا المتعارف عليها في كل زمان ومكان من العدل والحرية والسلام والاحسان والتسهيل والتخفيف والرحمة والرفق والعفو.
بالعرف وبالمعروف يمكن مثلا تطبيق تلك القيم الاسلامية العليا في المجتمع ــ وفق العرف السليم ومواءمته للعصر الذى يعيشه الناس ــ في كل ما تركه القرآن للتقنين البشرى ، وهذا يدخل فيه كل شيء من قوانين الاسكان الى المرور والاستيراد والتصدير والهجرة ...الخ ..الخ . وكل قانون يشرى روعـيت فيه تلك القيم السامية فهو تشريع إسلامي أذن به الله تعالى ، كما يمكن أيضا تطبيق التفصيلات التشريعية القرآنية نفسها حسب العرف أو المعروف المتعارف عليه في كل عصر ، وذلك لكى يتيح القرآن الكريم المجال للتطور الاجتماعي والإنساني وتظل تشريعات القرآن فوق الزمان وفوق المكان ، وما كان يصلح للعصر العباسي مثلاً لا يصلح لعصرنا.
ومثلاً يقول تعالى ﴿
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ (البقرة 233) فلم يحدد القرآن مبلغاً من المال بالدرهم والدينار وإنما قال "رزقهن" ليشمل الجانب النقدي والجانب العيني واحتكم للمعروف أي القيمة الانسانية العليا في القسط والعدل وتطبيق ذلك بالعرف السائد من النقد والعملة وسائر أحوال المعيشة ومدى المناسب لحال المرضعة والوالدة ووضعها ووضع المجتمع ، وينبغي هنا أن يقوم الناس بوضع القوانين التي تناسب عصرها في اطار ذلك العرف الذى اشار اليه القرآن الكريم في تلك التفصيلات التشريعية ، وهنا يكون الاجتهاد في خدمة النص القرآني.
ويلاحظ أن الاحتكام للعرف والمعروف يتكرر كثيراً في حديث القرآن عن الزواج والأحوال الشخصية باعتبارها أقدم "عرف" تعارف عليه بنو آدم ولا يزال الزواج هو الصيغة الشرعية التي يباركها دين الله ، وحين نزل القرآن كان رسول الله محمد قد تزوج زواجاً شرعياً وفق عرف الجاهلية، فالعرب قبل الإسلام لم يكونوا محرومين كلية من التشريعات الصالحة، ولذلك فإن القرآن الكريم لم يوضح لنا مثلاً كيفية عقد الزواج ، ولكن نزلت آيات كثيرة تصحح بعض الأخطاء الشائعة في الزواج وعلاقات الزوجين والشقاق بينهما وعدة المطلقة وحقوقها، واحتكم في ذلك للعرف.
والتفصيل في مواضع الاحتكام للعرف والمعروف في تشريع القرآن يخرج عن موضوعنا وموعدها كتاب خاص عن فلسفة التشريع القرآني ، ولكن يلفت النظر عناية القرآن بالشورى وأمر النبي بها وهو الذى ينزل عليه الوحى ، وجعلها من سمات المجتمع المسلم ، وبها يمكن للمجتمع صياغة قوانين في اطار العرف والمعروف سواء في تطبيق التفصيلات التشريعات القرآنية وتنزيلها على الواقع المعاش وفق المتعارف على أنه الأكثر عدلا ويسرا ، أو في استخلاص قوانين جديدة فيما ينفع الناس فيم تركه القرآن للبشر للتقنين وما أذن الله تعالى لهم في تشريعه في اطار وضوابط القيم الاسلامية العليا المشار اليها .
لقد قامت حياة النبي عليه السلام على أساس تبليغ القرآن كما هو وجاهد حتى بلّغ الرسالة وحين اكتملت الرسالة مات النبي وترك لنا الرسالة أو القرآن أو الرسول المقروء بيننا.. وفى حياة النبي كانوا يسألونه ويستفتونه فينتظر الإجابة من الوحى ، وبعض هذه الأسئلة كان يمكنه الإجابة عنها ولكن الدين دين الله، والله وحده هو صاحب الحق في التشريع وليس للنبي أن يفتى وما كان يفعل. ولكنه عليه السلام كان يجتهد في تطبيق النصوص القرآنية وكان يستشير لكى يصل للصيغة المثلى في التطبيق.
وهناك بالنسبة لنا نحن بعد النبي مجالات حددها القرآن للتطبيق الحرفي بلا أدنى تغيير أو تبديل مثل المحرمات في الزواج وعدم تحريم الحلال في الطعام، والأنصبة المحددة في الميراث.
ثم هناك مجالات أباح فيها القرآن للاحتكام للعرف منها ما يخص السلطة الاجتماعية ومنها ما ينفذه المسلم في ضوء تقواه وخشيته من الله مثل الوصية والصدقة..
ثم هناك المشورة في غير وجود النص، والنصوص القرآنية التشريعية محددة ومحدودة مما يعطى فرصة كبرى للتطور الاجتماعي لتحقيق العدالة والقسط والتيسير، وذلك يعطى تشريع القرآن إمكانية الاستمرار في كل مكان وزمان ، وهناك أيضاً المشورة في كيفية تطبيق النص أو في تقنين العرف، وأي تشريع يصل إليه المجتمع بالمشورة مستلهماً روح القرآن بهدف تحقيق العدالة والمساواة ومنع الظلم فهو تشريع إسلامي أذن الله تعالى به.
فالهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتاب كان إقامة الناس للقسط وفى ذلك يقول تعالى ﴿
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..﴾ وصدق الله العظيم (الحديد 25)

 4 ـ سُــنـّة الرسول هي القرآن فقط:

السُنّة هي الشرع وهى الطريقة والمنهاج ، وبهذين المعنيين جاءت كلمة السنة في القرآن منسوبة لله ولشرعه ولطريقته في التعامل مع البشر مشركين ومؤمنين..
كانت سنة أو طريقة المشركين هي الاستكبار عن الحق والمكر بالمؤمنين ، وكانت طريقة الله معهم أو سنته أن يحيق مكرهم السيئ بهم ﴿
اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ (فاطر 43)
كان المشركون يرغمون المؤمنين على الهجرة لذا كانت طريقة الله إهلاكهم أو تعذيبهم، يقول ﴿
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً  سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴾ (الإسراء 76: 77)
وكانت سنة الله أو طريقته أن يهزم المشركين أمام المؤمنين إذا صدقوا في إيمانهم ﴿
وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً  سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ (الفتح 22: 23)
وتآمر المنافقون في المدينة على النبي والمسلمين وهددهم الله بأن يجرى عليهم سنته في التعامل مع المشركين ﴿
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً  مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ﴾ (الأحزاب 60: 62)
هذه هي السنة بمعنى الطريقة والمنهاج وهى تنسب لله وطريقته في الرد على المشركين.
وتأتى السنة أيضاً بمعنى الشرع ، وبهذا الاستعمال نتحدث نحن في لغتنا العادية فنقول "سنّ قانوناً" أي شرّع قانوناً ، وحين يسن القانون يكون ملزماً للناس ولابد من طاعته ، ونفس المعنى للسنة جاء في الآية الكريمة ﴿
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾ (الأحزاب 38) ففي الآية تجد ﴿سنة الله﴾ مرادفة لكلمتي "فرض الله" و"أمر الله" الذى جعله الله قدراً مقدورا. إذن سنة الله بمعنى الشرع هي الفرض والأمر الإلهي واجب التنفيذ.
وهذا يذكرنا بمعنى السنة الآخر وهو المنهاج والطريقة وكان تعبير القرآن عنها أنه لا تبديل ولا تحويل لسنة الله.
والنبي كان عليه أن ينفذ سنة الله أي شرع الله وأوامره حتى لو كان فيها حرج، وقد نزلت آية ﴿
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾ في موضوع زيد بن حارثة وزواجه وطلاقه من زوجته ، فقد تحرج النبي من تنفيذ سنة الله أو شرع الله فنزلت هذه الآية ، ونستفيد منها أن السنة هي شرع الله ، وأن النبي هو أول من ينفذ هذه السنة ، ونحن بالتالي نقتدى بالنبي في طاعة سنة الله أو شرعه وأوامره ، وينبغي على المؤمن أن يعلم أنه لا فارق بين السنة والفرض لأنهما شرع الله الواجب التنفيذ، فالصلاة والزكاة والحج للمستطيع كلها سنن الله وفرائضه.
وعلماء التراث أطلقوا "السنة العملية" وهى الصلاة ــ على ما توارثناه من كيفية للصلاة عن النبي وقالوا بوجوبها وضرورة الالتزام بها وثبوتها بالقطع واليقين ــ وهذا صواب في الرأي . إلا أنهم أخطأوا حين نسبوا للرسول أحاديث قولية وقالوا بأنها السنة القولية ، فالسنة القولية للرسول هي فقط في القرآن وحديث القرآن وما تكرر فيه من كلمة "قل" . وأخطأوا أيضاً حين ناقضوا أنفسهم وجعلوا فارقاً بين السنة والفرض ، فجعلوا الفرض واجب التنفيذ مثل الصلوات الخمس وجعلوا السنة هي ما يزيد من نوافل على الصلوات المفروضة ، وقد تبين لنا أن السنة هي الفرض ولا فارق بينهما في حديث القرآن ولا في لغتنا العادية حين نقول "سنّ قانوناً".
وبعد هذا التوضيح سيستمر التساؤل: أليست للرسول سنة.؟ ويستدرك السائل حين يتذكر عنوان البحث "سنة الرسول هي القرآن فقط" فيُحَـوِّر السؤال "أليست للرسول سنة خارج القرآن؟؟".
والإجابة في القرآن يقول تعالى ﴿
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (الأحزاب 21) فلم يقل الله تعالى: "قد كان لكن في رسول الله سنة حسنة" وإنما قال "أسوة حسنة".
فالسنة لله لأنها شرع الله وأوامر الله ، أما الاقتداء والتأسى فبالرسول في تطبيقه العلمي لسنة الله وشرع الله.
على أنه من المفيد أن نستزيد فهماً للآية الكريمة والسياق الذى جاءت فيه ، فقد نزلت الآية في التعليق على غزوة الأحزاب وفى سورة الأحزاب ، وقد كان أهل المدينة عند حصار الأحزاب لهم فريقين: المنافقون وأشياعهم وقد تخاذلوا ﴿
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ (الأحزاب 12) ثم المؤمنون الذين تماسكوا وثبتوا ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ (الأحزاب 22) وكان رسول الله عليه السلام هو القدوة لهم في الشجاعة والثبات لذا يقول تعالى عن موقفه هذا ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ وكان هناك من المؤمنين من تأسى بالنبي في هذه الشجاعة وفاق أقرانه فقال عنهم رب العزة ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب 23)
إذن فالتأسى بالرسول في هذه الآية كان في سياق قصة وفى موقف محدد. ويؤكد ذلك أن الله تعالى أمر الرسول محمداً والمؤمنين بالتأسى بإبراهيم والذين معه حين تبرءوا من قومهم ﴿
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... ﴾.. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ..﴾ (الممتحنة 4، 6) فقال تعالى يحدد الموقف الذى ينبغي التأسى بهم فيه ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ ﴾ ولم يجعل التأسى بهم مطلقاً..
إن الاقتداء والتأسى يعنى الاتباع ، ولا يكون الاقتداء والتأسى على إطلاقه إلا بكتاب الله ،والله تعالى كما أمرنا بالتأسى برسول الله محمد في موقف معين فإنه أمر النبي نفسه بالاقتداء بهدى الأنبياء السابقين فقال ﴿
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾(الأنعام 90) فلم يقل تعالى "فبهم اقتده" وإنما قال﴿فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾.
ولم يأمر الله خاتم النبيين بالاقتداء والاتباع لإبراهيم وإنما أمره باتباع "ملة إبراهيم" والملة هي دين الله ﴿
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾ (النحل 123)
إن الاقتداء والتأسى إنما يكون بشرع الله وسنة رسوله ، وهكذا كان يفعل النبي.. والأنبياء هم القدوة الذين نقتدى بهم في مواقف حكى عنها رب العزة وهو وحده الأعلم بهم وبأسرار حياتهم.
إن سنة الرسول هي القرآن شرع الله..
والله تعالى نسأل أن نعيش على سنة الرسول وأن نموت عليها..

5 ـ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ

 يحلو لبعض الناس أن يسئ  ـــ عــن عـمـد  ـــ فهم هذه الآية ليلوى معناها ويقطعها عن السياق ليستدل بها على مشروعية المصادر الأخرى التي أضافوها للقرآن الكريم ، وحتى نفهم المدلول الحقيقي لقوله تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ..﴾ ينبغي أن نقرأ الآية من أولها ونراها تتحدث عن الفيء - أو ما يفئ إلى بيت المال بلا حرب ولا قتال ، يقول تعالى ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ  لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً..﴾ (الحشر 7: 8)
فالآية تتحدث عن الفيء وتوزيعه على الفقراء والمحتاجين دون الأغنياء وتقول للمؤمنين: وما آتاكم الرسول من هذا الفيء فخذوه وما نهاكم عنه من التطلع إلى ما ليس من حقكم فانتهوا عنه ، ثم تبين الآية التالية استحقاق الفقراء المهاجرين لهذا الفيء بعد أن تركوا أموالهم وديارهم.
وقد كانت عادة سيئة للمنافقين في المدينة أن يربطوا رضاهم عن الإسلام بمدى استفادتهم المالية منه مع أنهم أغنياء نهى الله النبي عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم (التوبة 55، 85) ومع هذا الغنى كانوا يزاحمون الفقراء في الحصول على الصدقات وقال تعالى عنهم ﴿
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ  وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ  إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ..﴾ إلى آخر الآية (التوبة 58: 60)
وهذه الآيات من سورة التوبة توضح المعنى المقصود لقوله تعالى ﴿
وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ فشأن المؤمن أن يرضى بما آتاه الرسول ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ..﴾.
وشأن المنافق أن يطمع فيما ليس حقاً له وألا ينتهى عن طمعه.
وقد أبان رب العزة مستحقي الفيء في سورة الحشر ﴿
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾.
وأوضح بالتحديد مستحقي الصدقات في سورة التوبة ﴿
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ..﴾ (الآية 60) وفى الموضعين كان الحديث عما يؤتيه الرسول للمؤمنين وعليهم أخذه والرضا به والانتهاء عما نهى عنه ، ولنتذكر هنا أنه عليه السلام كان يحكم بالقرآن بين الناس ، وهذا يدخل فيه توزيع الفيء والغنائم والصدقات طبقا لما جاء في الكتاب الحكيم.
وقد يقال في الرد علينا أن القاعدة الأصولية تقطع بأن خصوص السبب لا يمنع عموم الاستشهاد ، فإذا كانت الآية تتحدث عن الفيء فإن قوله تعالى فيها ﴿
وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ عامة في وجوب الأخذ بما آتانا به الرسول وبوجوب الانتهاء عما نهانا عنه..
ومن السهل الرد على هذا الاحتجاج بما تعنيه كلمة الرسول في القرآن وبوجوب طاعته لأنه في أقواله يقرأ القرآن ، والرسول ــ كما سبق بيانه ــ هو نبي الله حين ينطق بالقرآن أو هو القرآن بعد موت النبي. إذن فقد جاءنا الرسول بالقرآن وعلينا التمسك به ، والله تعالى يقول ﴿
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ..﴾ (الزمر 41) فهذا الكتاب هو الذى نزل على الرسول لنا، وهو ما آتانا به الرسول وعلينا أخذه والتمسك به.
وأما ما نهانا عنه الرسول ﴿
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ فهو كتابة غير القرآن ومحو كل مكتوب في الدين خارج كتاب الله.

6 ـوهذا ما جاء فى أحاديثهم هم ..ونستشهد بها للرد عليهم بكتبهم وأحاديثهم :
روى أحمد ومسلم والدارمي والترمذي والنسائي عن أبى سعيد الخدري قول الرسول "لا تكتبوا عنى شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنى غير القرآن فليمحه" وأخرج الدارمي- وهو شيخ البخاري- عن أبى سعيد الخدري أنهم "استأذنوا النبي في أن يكتبوا عنه شيئاً فلم يأذن لهم". ورواية الترمذي عن أبى سعيد الخدري تقول: أستاذنا النبي في الكتابة فلم يأذن لنا.
وروى مسلم وأحمد أن زيد بن ثابت- أحد مشاهير كتاب الوحى- دخل على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنساناً أن يكتبه فقال له زيد: "أن رسول الله أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه ، فمحاه معاوية".
وقد وردت أحاديث تفيد الإذن بكتابة بعض الحديث مثل "اكتبوا لأبى شاه" وما ورد أن لابن عمرو بعض كتابات وأدعية في الحديث ، ولكن المحققين من علماء الحديث رجحوا الأحاديث التي نهت عن كتابة الحديث خصوصاً وأنه لا يعقل أن ينهى النبي عن شيء ثم يأمر بما يناقضه ، ثم ــ وهذا هم الأهم ــ فإن النبي عندما مات لم يكن مع الصحابة من كتاب مدون غير القرآن الكريم.
وبعضهم حاول التوفيق والمواءمة بين الأحاديث التي تنهى عن كتابة غير القرآن وبين الحديث الذى يفيد كتابة بعضهم بقوله بأن المراد حتى لا تلتبس الأحاديث بالقرآن.
وهذه حجة لا تستقيم مع إعجاز القرآن الذى يعلو على كلام البشر والذى تحدى به الله العرب فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، وذلك القرآن المعجز للعرب كيف يخشى أحد عليه من أن يختلط به شيء آخر؟..
إن الثابت أن رسول الله لم يترك بعده سوى القرآن.
والبخاري يعترف في أحاديثه بأن النبي ما ترك غير القرآن كتاباً مدوناً. يروى ابن رفيع: "دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال له شداد بن معقل: أترك النبي من شيء؟ قال ما ترك إلا ما بين الدفتين. أي القرآن في المصحف". قال "ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين" (البخاري 6/234. ط. دار الشعب).
ويؤكد أن النبي نهى عن كتابة غير القرآن أن الخلفاء الراشدين بعده ساروا على طريقه فنهوا عن كتابة الأحاديث وعن روايتها..
فأبو بكر الصديق جمع الناس بعد وفاة النبي فقال: "إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافاً فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه" وهذا ما يرويه الذهبي في تذكرة الحفاظ. ويروى ابن عبد البر والبيهقي أن عمر الفاروق قال "إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً. ورواياته البيهقي "لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً" وروى ابن عساكر قال "ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق.. فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟.. أقيموا عندي لا والله لا تفارقوني ما عشت.. فما فارقوه حتى مات".
وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ أن عمر بن الخطاب حبس أبا مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري فقال: "أكثرتم الحديث عن رسول الله"، وكان قد حبسهم في المدينة ثم أطلقهم عثمان.
وروى ابن عساكر أن عمر قال لأبى هريرة: "لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس- أرض بلاده- وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول ــ أي أبى هريرة ــ أو لألحقنك بأرض القردة" وكذلك فعل معهما عثمان بن عفان.
وأكثر أبو هريرة من الحديث بعد وفاة عمر إذ أصبح لا يخشى أحداً وكان أبو هريرة يقول "إني أحدثكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة ــ وفى وراية لشج رأسي ــ ويروى الزهري أن أبا هريرة كان يقول: "ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله حتى قبض عمر، ثم يقول أبو هريرة: أفـكـنـت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذن لأيقنت أن المخفقة ــ العصا ــ ستباشر ظهري فإن عمر كان يقول: "اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله".وقال رشيد رضا في المنار يعلق على ذلك "لو طال عمر (عمر) حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة".
ونكتفى بهذا لإثبات أن النبي أتانا بالقرآن ونهانا عن غيره، وأن كبار الصحابة ساروا على نهجه في التمسك بالقرآن وحده، وأن تدوين تلك الأحاديث المنسوبة للنبي كان ولا يزال معصية للنبي ومخالفة لأمره حسب ما يروون هم في كتبهم ، وأن ذلك التدوين المخالف لشرع الله تعالى ووصية نبيه الكريم لم يبدأ إلا في القرن الثالث، بعد وفاة النبي بقرنين من الزمان.

وهنا نتساءل..إذا كانت تلك الأحاديث جزءاً من الإسلام كما يدّعون وقد نهى النبي عن كتابتها أليس ذلك اتهاماً للنبي بالتقصير في تبليغ رسالته؟ وهل يعقل أن تكون الرسالة الإسلامية ناقصة وتظل هكذا إلى أن يأتي الناس في عصر الفتن ليكملوا هذا النقص المزعوم؟
إن الذى نعـتـقـده أن النبي عليه السلام قد بلغ الرسالة بأكملها وهى القرآن ونهى عن كتابة غيره، أما تلك الأحاديث فهي تمثل واقع المسلمين وعقائدهم.. وتمثل في النهاية تلك الفجوة الهائلة بين الإسلام وبين المسلمين..