رقم ( 5 )
الفصل الرابع : أسلوب ( الإلتفات ) فى خطاب التنزيل المكى

الفصل الرابع : أسلوب ( الإلتفات ) فى خطاب التنزيل المكى  :

 ( معنى الإلتفات ـ أمثلة لاسلوب الالتفات فى السور المكية فيما يخص الدعوة الى ( لا إله إلا الله )ـ أمثلة لاسلوب الالتفات فى السور المكية فيما يخص القصص القرآنى  ــ إستعراض لخطاب الالتفات فى آيات سورة ( النحل ) المكية ــ  فى  سورة النور ـ  فى سورة الأنفال ــ فى سورة آل عمران ـ  فى سورة البقرة ـ  فى سورة الاحزاب )

مقالات متعلقة :

 

أسلوب ( الإلتفات ) فى خطاب التنزيل المكى   

معنى الإلتفات :

1 ــ عند النحويين ينقسم ( الضمير ) الى بارز ومستتر  والبارز ينقسم الى متصل ومنفصل . ومن حيث الخطاب تنقسم الضمائر كلها الى ثلاث نوعيات : ضمير المتكلم ( "أنا ": للمفرد المذكر والمؤنث ، " نحن " للجمع  المذكر والمؤنث ) ثم ضمير المخاطب  : ( "أنت" ( بفتح التاء ) للمفرد المذكر ، و " أنت "  بكسر التاء للمفرد المؤنث ، "أنتما ": للمثنى مذكرا ومؤنثا ، "أنتم " للجمع المذكر ، " أنتن "  للجمع المؤنث ) ثم ضمير الغائب ( "هو"  للمفرد المذكر ، "هى " للمفرد المؤنث ، " هما " للمثنى مذكرا ومؤنثا ، "هم" للجمع المذكر ، "هُنّ"  للجمع المؤنث ). فى ( علم البلاغة العربية ) توجد الدرجات الثلاث فى الخطاب : المتكلم والمخاطب والغائب ، ولكنها لا تقتصر على الضمائر السابقة بل تشمل ( الظاهر ) وهو ما يقابل ( الضمير ) أى الكلام العادى ، كقولك ( محمد كان هنا ) فإسم ( محمد ) هنا غائب حسب المفهوم من السياق ، ويساوى ( هو كان هنا ) .

2 ــ حين ينتقل الخطاب من المتكلم الى المخاطب أو الى الغائب ـ مثلا ـ  يقال هنا ( إلتفات  ) أى إلتفت من المتكلم الى الغائب .أو من المخاطب الى الغائب والعكس ، ومن المتكلم الى الغائب والعكس ..الخ . وهذا هو معنى الالتفات فى علم البلاغة العربية.

3 ـ اسلوب ( الإلتفات ) فى القرآن الكريم يختلف عنه فى التراث العربى والبلاغة العربية ، مثلا :

3 / 1 : كلمة ( هو ) عندهم تفيد الغائب مطلقا . ولكن كلمة ( هو ) وإن كانت تفيد الغيبة بالنسبة للبشر فهى تفيد تأكيد الحضور لرب العزة ، يقول جل وعلا : (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)المجادلة )، ( يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ) النساء ). والتفاصيل فى القاموس القرآنى عن كلمة ( هو ) .

3 / 2  ـ  إن اسلوب الالتفات فى القرآن يعلو ويسمو فى روعته عن أساليب الالتفات فى التراث العربى ( الأدبى ) ، ليس فقط لأنه بالغ التعقيد والتركيب ولكن أيضا لأنه ميسر للذكر ، أى يجمع بين العمق والبساطة . وهذه ناحية تستحق بحثا مستقلا ،لا محل له الآن .

3 / 3 ــ ونعطى مثالا بالفاتحة : فالآيات الأربع الأولى :( بسماللهالرحمنالرحيم (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) لا يُقال عنها إنها تتحدث عن غائب بل عن أسماء رب العزة الحسنى ، وبعدها إنتقال أو إلتفات الى المُخاطب وهو رب العزة : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)) ولكن الالتفات هنا مركب ، لأنه يحوى فى داخله المخاطب والمتكلم معا : المخاطب وهو رب العزة ، نقول له ( إياك ) والمؤمنون المتكلمون هم الذين يقولون ( نعبد )و( نستعين )  ثم إنتقال أو إلتفات للحديث عن الغائب ( الغائبين )  : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)).

3 / 4 : ومن روعة ما دعا به ابراهيم عليه السلام أنه بدأ بقوله عن ربه جل وعلا :( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)) الإلتفات المركب هنا أنه يتحدث عن نفسه وعن ربه جل وعلا .  ثم قال عن نفسه باسلوب المتكلم : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) لم يقل وإذا أمرضنى فهو يشفين ) ثم بعدها يتحدث عن رب العزة بنفس الالتفات المركب : ( وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) ثم بعدها يتحدث عن رب العزة داعيا بطريق  غير مباشر:( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) ثم يدعو ربه جل وعلا صراحة ومخاطبا إياه عن نفسه ( نفس ابراهيم ) فى إلتفات مركب : ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) الشعراء  )

4 ـ. ونكتفى بلمحة سريعة ومبسطة عن الالتفات فى التنزيل المكى تبعا لأغراضه وموضوعاته : 

أمثلة لاسلوب الالتفات فى السور المكية فيما يخص الدعوة الى ( لا إله إلا الله ):

1 ـ فى أول سورة مكية ، نراها تبدأ بالمخاطب وهو الرسول محمد عليه السلام : ( اقْرَأْ ) وبعدها الحديث عن رب العزة (  بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ) ثم العودة للمخاطب مع الحديث عن رب العزة أيضا ( هنا إلتفات مركب ) : ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ثم إلتفات الى الغائب وهو الانسان ، أى عن الانسان :( كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)) ثم توجيه الخطاب للنبى / أى مخاطب : ( إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)) ثم إلتفات ( مركب ) للمخاطب وهو النبى : ( أَرَأَيْتَ) وعن الغائب : (  الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10)) ويتكرر المخاطب ثم الغائب بنفس الطريقة : ( أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) ثم إلتفات ( مركب )الى المتكلم وهو رب العزة فى حديث عن الغائب ( كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)) ثم إلتفات ( مركب ) للمخاطب فى حديث عن الغائب : ( كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19))

2 ـ  فى سورة الأعلى يبدا الخطاب للمخاطب :  ( سَبِّحْ ) ثم الحديث عن رب العزة جل وعلا :  (( اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)) ثم العودة للمُخاطب : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى (6) ثم العودة للحديث عن رب العزة : (إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) ثم المخاطب : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى (9) ثم الغائب عن البشر  ( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)) ثم المخاطب من البشر : ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) )

3 ـ  وفى سورة البلد : يبدأ الخطاب بالمتكلم وهو رب العزة : ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) ثم المخطاب وهو النبى عليه السلام : ( وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) ثم الغائب :( وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) ثم عن رب العزة جل وعلا الخالق ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) ثم عن الغائب (  أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) ) الى آخر السورة .

4 ـ  فى سورة الليل : البداية برب العزة وآلائه : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى (3)ثم المخاطب  ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)ثم الغائب : ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)) ثم إلتفات الى المتكلم ، فيقول رب العزة عن ذاته : ( إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى (13)) ثم إلتفات من المتكلم الى المخاطب : (  فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14)) ثم الغائب : ( لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21))

5 ـ تبدأ سورة المُلك بالحديث عن رب العزة :( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ) ثم الالتفات الى المخاطب : (  لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) ثم العودة للحديث عن رب العزة : ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً  ) ثم الالتفات الى المخاطب (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) الملك )

6 ـ تبدأ سورة الذاريات بالحديث عن الغائب ( الملائكة ) بصفاتها ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1) فَالْحَامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً (4)ثم إلتفات الى المخاطب : ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) ) ثم الغائب ( وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)) ثم المخاطب :(  إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) ثم الغائب ( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) .. الى الآية (20) ثم إلتفات الى المخاطب :( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23)). وفى نفس السورة حديث عن الغائب :  (  كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) ثم إلتفات ( مركب ) الى المخاطب فى إشارة للغائب : ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) الذراريات ).

7 : تبدأ سورة الأنعام بحمد رب العزة : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) ثم الالتفات الى الغائب ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)) ثم إلتفات الى المخاطب ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) ( ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2))، ثم العودة للحديث عن رب العزة  ( وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِوَفِي الأَرْضِ  ) ثم إلتفات الى المخاطب :( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3))  وهناك أمثلة كثيرة للإلتفات فى سورة الأنعام نكتفى منها بهذا المثال الهام عن الأحاديث الضالة الشيطانية التى يخترعها ويروجها أعداء النبى من شياطين الانس والجن : البداية إلتفات مركب بالمتكلم فى إشارة للغائب : المتكلم هنا قوله جل وعلا : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا ) الغائب هم الأنبياء وأعداؤهم والأتباع الذين يصغون اليهم ويرتضون تلك الأحاديث الضالة :( لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) بعدها الالتفات من الغائب الى المتكلم ، وهو هنا ليس رب العزة بل النبى وكل مؤمن بالقرآن الكريم: ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً ) هنا كلمة ( قل ) محذوفة ومفهومة ضمنا من السياق ، بمعنى ( قل أفغير الله أبتغى حكما ) . وهنا أيضا إلتفات مركب لأنه متكلم يشير الى رب العزة : المتكلم فى كلمة ( أبتغى ) مع الاشارة الى رب العزة بأنه الذى أنزل الكتاب مفصلا ، ثم يزداد التركيب فى الالتفات بإضافة (غائب ) وهم  أهل الكتاب  : (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) ثم إلتفات الى المخاطب (  فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (114) بعدها الحديث عن رب العزة الذى تمت كلمته صدقا وعلا ، وهو إلتفات مركب لأنه داخله المخاطب ( كاف الخطاب فى ( ربك ) : ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)ثم المخاطب فى ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) وهو إلتفات مركب لأنه يشير الآ أكثرية أهل الأرض المُضلة ، ثم حديث عن رب العزة فى إلتفات مركب بكلمة ( ربك ) : مع إشارة الى الضالين وهم (غائب ) ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117))

8 ـ نفس الحال فى الالتفات المركب فى قوله جل وعلا :( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )99) يونس )، بداية الآية حديث عن رب العزة يتضمن كاف الخطاب ( ربك ) وفى إشارة للغائب وهم البشر فى الأرض : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ).و تكملة الآية خطاب مباشر للنبى ينهاه عن الاكراه فى الدين ويتضمن إشارة للناس : ( ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ).

9 ـ ومن سورة الأعراف نتوقف مع قوله جل وعلا : ( إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)) حديث عن آلاء رب العزة جل وعلا ، وفيه إلتفات مركب للمخاطب بكلمة ( ربكم ). الآية التالية:  ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) خطاب ( مخاطب ) مع الاشارة الى رب العزة الذى لا يحب المعتدين. ثم ( وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (56) أوامر ونواهى للمخاطب مع إشارة الى رحمة رب العالمين . ثم :( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) الاعراف).   عن رحمته جل وعلا وآلائه ثم ختم الآية بإلتفات للمخاطب من البشر  يُذكرهم بأن البعث للبشر شبيه بما يحدث للنبات .

أمثلة لاسلوب الالتفات فى السور المكية فيما يخص القصص القرآنى

 1 ـ  فى سورة الفجر : يأتى الكلام للمخاطب ثم عن الغائب : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)) (أَلَمْ تَرَ ) للمخاطب ، ثم ما بعدها عن الغائب: ( كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) ) ثم عن الغائب : ( فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) ثم للمخاطب ( كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                         (20))

2 ـ فى التعليق على بعض الأحداث التاريخية فى سورة ( عبس ) بدأت السورة بخطاب الغائب (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2)) ثم كان الالتفات المركب من الغائب الى المخاطب وهو النبى ( فى إشارة للغائب ) فى الايات التالية : ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10))

3 ــ عن سخرية القرشيين الكفار بالنبى يأتى هذا التعليق الإلهى فى التنزيل المكى: ( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) الفرقان )هنا كلام عن الغائب ( الغائبين . يتلوه كلام للمخاطب وهو النبى عليه السلام  ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) ثم عودة الى الغائب ( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) الفرقان ) .

 

إستعراض لخطاب الالتفات فى آيات سورة ( النحل )

قلنا إن هناك آيات مدنية داخل بعض السور المكية ، ونتعرف عليها بالقرينة ، أو السياق الموضوعى فى التنزيل القرآنى كله . مثل سورة المزمل المكية ، وفيها الأية الأخيرة وهى مدنية . ونفس الحال مع سور( الأنعام والعنكبوت )   . وسورة النحل تحتوى بعض الآيات المدنية ، أغلبها فى الدعوة الى ( لا إله إلا الله ) وفى الجانب الأخلاقى الإصلاحى . ولكن آياتها المدنية فى نهاية السورة تتحدث عن تشريع الطعام وعن أهل الكتاب وتشريع القتال . وعرضنا للإلتفات فى آياتها المكية ، ونعطى لمحة هنا عن  الالتفات فى آياتها  المكية والمدنية :

  الالتفات فى التنزيل المكي فى سورة النحل

أولا : فى دعوة البشر جميعا الى ( لا إله إلا الله ) جل وعلا :

1 ـ  بدايات السورة عن إقتراب الساعة :( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1))الحديث عن أمر يخص رب العزة جل وعلا ، وهو صدور أمره بقيام الساعة : ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ). ثم إلتفات الى المُخاطب وهو البشر : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) . أى لأنه آت وفق الزمن المحدد له بالتوقيت الأرضى . بعدها إلتفات الى رب العزة :( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ).

2 ـ  (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ ) خطاب عن رب العزة جل وعلا الذى أنزل جبريل بالكتب السماوية لانذارهم ، ثم إلتفات الى المتكلم وهو رب العزة جل وعلا : ( لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2))

3 ـ  الحديث عن رب العزة وآلائه (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا ). إلتفات بعدها للمُخاطب وهم البشر : (لَكُمْ ) ثم إلتفات للغائب وهى الأنعام : ( فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا ) ثم إلتفات للمخاطب:  البشر  : (تَأْكُلُونَ (5))

4 ـ فى الآية التالية : ( وَلَكُمْ ) مخاطب ( البشر )، ثم إلتفات للغائب ( الانعام ): ( فِيهَا جَمَالٌ حِينَ ) ثم إلتفات للمخاطب ( البشر ) : ( تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6))

5 ـ  بعدها : المخاطب ( البشر ) فى : ( وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ ) ثم الغائب ( إِلَى بَلَدٍ ) ثم المخاطب  ( لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ ) ثم إلتفات مركب فى الحديث عن الخالق جل وعلا بإضافة ( كاف الخطاب : ربكم ) : ( إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7))

6 ـ الغائب ( الأنعام ) فى (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ) ثم إلتفات مركب : مخاطب مع الاشارة للغائب : ( لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ) ثم حديث عن آلاء رب العزة:( وَيَخْلُقُ )ثم المخاطب ( البشر ) :( مَا لا تَعْلَمُونَ (8)).

7 ـ  الحديث عن آلاء رب العزة جل وعلا فى توضيح الاسلام وهو السبيل المستقيم أو قصد السبيل  فى : ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) والغائب : أنواع الأديان الظالمة : ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) ثم إلتفات مركب الى رب العزة يتضمن المخاطب فى ( كاف )الخطاب ( هداكم ) : ( وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)).

8 ـ الحديث عن آلاء رب العزة جل وعلا : (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ ) ثم إلتفات الى الغائب ( مِنْ السَّمَاءِ مَاءً) ثم إلتفات الى المخاطب أى البشر : ( لَكُمْ ) ثم إلتفات الى الغائب ( مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)).

9 ـ الحديث عن آلاء رب العزة جل وعلا فى : (  يُنْبِتُ ) ثم إلتفات الى المخاطب ( البشر ) ( لَكُمْ ) ثم إلتفات الى الغائب ، وهو متنوع : غائب هو الماء : ( بِهِ ) وغائب هو الثمرات : (  الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) وغائب هو الآيات : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً )وغائب هو القوم الذين يتفكرون : ( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)) .

10 ـ الحديث عن آلاء رب العزة جل وعلا  فى : ( وَسَخَّرَ) ثم إلتفات الى المخاطب ( البشر ) : (  لَكُمْ  ) ثم إلتفات الى الغائب ، وهو متنوع : مظاهر الكون : ( اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ) القوم الذين يعقلون  ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12))

11 ـ  الحديث عن آلاء رب العزة جل وعلا فى : ( وَمَا ذَرَأَ ) ثم إلتفات الى المخاطب ( البشر ) : ( لَكُمْ ) ثم إلتفات الى الغائب ، وهو متنوع :آلاء الله جل وعلا  المختلفة فى الأرض  ( فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ) والقوم الذين يتذكرون :( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13))

12 ـ الحديث عن آلاء رب العزة جل وعلا  فى : ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ) ثم إلتفات الى الغائب وهو البحر : ( الْبَحْرَ ) ثم إلتفات الى المخاطب وهو البشر : ( لِتَأْكُلُوا  ) ثم إلتفات الى الغائب ، وهو متنوع : ( البحر ) : ( مِنْهُ ) واللحوم البحرية الطرية المختلفة عن لحوم الحيوانات البرية  : ( لَحْماً طَرِيّاً ) ثم إلتفات الى المخاطب : البشر ( وَتَسْتَخْرِجُوا ) ثم الى الغائب وهو متنوع : البحر : ( مِنْهُ ) ومن الغائب ( حِلْيَةً ) أى جواهر البحر المُباح التزين بها مع أنها أغلى وأثمن من الذهب ، والذهب أيضا حلال فى الزينة فى الاسلام بخلاف الدين السُّنّى ، ثم إلتفات الى المخاطب البشر فى ( تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ) ثم الغائب وهو متنوع :السفن أو الفلك ( الْفُلْكَ مَوَاخِرَ) والبحر : ( فِيهِ )ثم إلتفات الى المخاطب البشر : ( وَلِتَبْتَغُوا ) ثم إلتفات الى رب العزة وأفضاله : ( مِنْ فَضْلِهِ ) ثم إلتفات الى المخاطب البشر : ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14))

13 ـ الحديث عن آلاء رب العزة جل وعلا  فى : ( وَأَلْقَى  ) ثم إلتفات الى الغائب : الأرض والجبال الرواسى التى تُمسك القشرة الأرضية وتُثبتها  وبدونها يسقط البشر فى أتون الحمم الملتهبة تحت هذه القشرة :( فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ ) ثم المخاطب البشر : (  بِكُمْ ) ثم الغائب من النهار والطُّرُق  : ( وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً ) ثم المخاطب البشر  ( لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) ) ثم الغائب فى ( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)).

14 ـ المخاطب (البشر ) فى إلتفات مركب عن نعمة الله جل وعلا فى : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ) ثم الحديث عن رب العزة جل وعلا ( إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18))

15 ـ الحديث عن آلاء رب العزة جل وعلا  فى : ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ  ) ثم إلتفات للمخاطب البشر : ( مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)). ثم إلتفات للغائب المشركين وآلهتهم الموتى فى قبورها المقدسة، وأنها مخلوقة مصنوعة ولا تشعر متى بعثها :( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) ثم إلتفات الى المخاطب البشر :(إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ  ) ثم إلتفات الى الغائب المشركين المنكرين المستكبرين :( فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) ثم الحديث عن رب العزة :( لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) )

 16 ـ المخاطب وهو النبى محمد عليه السلام فى : ( إِنْ تَحْرِصْ ) ثم إلتفات الى الغائب : المشركين المُضلّين ( عَلَى هُدَاهُمْ )ثم حديث على رب العزة : ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي ) ثم الغائب وهم المضلون : (مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)).

17 : الغائب وهم المشركون منكرو البعث  فى : ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ) والرد عليهم(  بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ) والغائب ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) وحديث عن رب العزة جل وعلا ( لِيُبَيِّنَ لَهُمْ  ) والموضوع المختلف فيه  ( الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) ثم إلتفات بالمتكلم وهو رب العزة  فى : ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40))

18 ـ الغائب وهم المهاجرون المظلومون فى : ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) ثم إلتفات الى المتكلم وهو رب العزة جل وعلا : ( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ ) ثم الغائب وهم المهاجرون الصابرون المتوكلون على ربهم جل وعلا : ( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42))

19 ـ المتكلم هو رب العزة فى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا ) ،و المخاطب وهو خاتم المرسلين من رب العالمين فى : ( مِنْ قَبْلِكَ) ثم الغائب وهم الرسل السابقون : ( إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ثم إلتفات الى مخاطب آخر وهم البشر(  فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) ثم الى غائب آخر وهو الكتب السماوية السابقة ( بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ) ثم إلتفات الى المتكلم وهو رب العزة :  ( وَأَنزَلْنَا  ) ثم إلتفات الى المخاطب وهو خاتم النبيين ( إِلَيْكَ )، ثم إلتفات الى الغائب وهو الذكر أى القرآن الكريم  ( الذِّكْرَ ) ثم التفات الى المخاطب وهو الرسول محمد  ( لِتُبَيِّنَ ) ثم إلتفات الى الغائب : أهل الكتاب (  لِلنَّاسِ ) ثم إلتفات مركب الى غائب آخر وهو الكتب السماوية السابقة وأصحابها ( مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ  ) ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44))

20 ـ القائل هنا هو رب العزة جل وعلا  فى : ( وَقَالَ اللَّهُ ) ثم إلتفات الى المخاطب وهم البشر ( لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ، ثم إلتفات الى المتكلم رب العزة جل وعلا  (  فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) ثم حديث عنه جل وعلا مالك السماوات والأرض وصاحب الدين وحده ( وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً ) ثم إلتفات مركب الى المخاطب وهم البشر فيه إشارة الى رب العزة (  أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) . ثم إلتفات الى الغائب البشر الكافرين ( لِيَكْفُرُوا)  ثم التفات مركب الى المتكلم  وهو رب العزة بإشارة الى الغائب وهم الكافرون ( بِمَا آتَيْنَاهُمْ ) ثم إلتفات الى المخاطب الكافرين ( فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55))

21 : هنا الغائب وهو متنوع :المشركون ،والنذور ،والقبور المقدسة والأوثان  فى : ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً ) ثم إلتفات الى المتكلم وهو رب العزة :( مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ )، ثم إلتفات الى المخاطب وهم من يقدمون النذور إفتراءا على رب العزة: ( تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56))

22 ـ الغائب هنا متنوع : المشركون وآلهتهم فى : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنْ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) ، ثم إلتفات  مركب الى المخاطب وهم المشركون مع إشارة الى رب العزة  ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ ) ثم حديث عن رب العزة :(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74))

23 ـ هنا الغائب وهم المشركون المعاندون فى : ( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) ثم إلالتفات للرسول عليه السلام :( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) ثم إلتفات مركب الى الغائب المشركين منكرى القرآن مع إشارة الى رب العزة ورسالته التى هى النعمة ( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ (83))

24 ـ هنا المتكلم وهو رب العزة فى :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ ) ثم إلتفات الى كل البشر والشهداء عليهم :( فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ثم إلتفات الى المتكلم رب العزة جل وعلا : ( وَجِئْنَا  ) ثم إلتفات الى المخاطب وهو رسول الله عليه السلام : ( بِكَ شَهِيداً  )ثم إلتفات الى الغائب وهم قوم الرسول محمد عليه السلام  ( عَلَى هَؤُلاء ) ثم إلالتفات الى المتكلم وهو رب العزة جل وعلا : ( وَنَزَّلْنَا ) ثم الى  المخاطب وهو الرسول: ( عَلَيْكَ ) ثم إلتفات الى الغائب ، وهو الكتاب  ( الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى ) والمسلمين ( لِلْمُسْلِمِينَ (89)).

ثانيا : الاصلاح الأخلاقى

بعد الدعوة الى لا إله إلا الله جل وعلا تأتى الأوامر والنواهى الأخلاقية بأوامر مباشرة منه جل وعلا للبشر جميعا ، ويتخلل هذا الخطاب المباشر ـ كالعادة ـ اسلوب الالتفات :

1 ــ بعد الدعوة الى الايمان بالله جل وعلا وحده يأمر الله جل وعلا البشر بالعدل والاحسان وإيتاء ذى القربى وينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغى . لم يبدأ جل وعلا باسلوب المتكلم إعدلوا وأحسنوا بل قال : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ) ثم بعدها الالتفات الى المخاطب وهم البشر :( يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) ثم إلتفات الى المتكلم وهو رب العزة : ( وَلَنَجْزِيَنَّ ) ثم الغائب  ( الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97))

2 ـ ولأن الشيطان أساس الفساد ولأن القرآن أساس الهدى فقد قال جل وعلا باسلوب المخاطب للنبى ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) ثم إلتفات الى الغائب وهو الشيطان وسلطانه : ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100))

3 ـ وعن ( آية ) أو معجزة القرآن الكريمة يقول جل وعلا بأسلوب المتكلم : ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ  ) ثم جملة إعتراضية عنه جل وعلا : ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ) ثم إلالتفات الى الغائب وهم الكافرون : ( قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) ثم إلتفات الى المخاطب وهو الرسول : ( قُلْ ) ثم إلتفات الى الغائب وهو جبريل : (  نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ )ثم المخاطب  ( رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) ثم التفات الى الغائب  وهو القرآن الكريم :( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102))

الالتفات فى الآيات المدنية فى سورة النحل :

  1 ـ الطعام

يقول جل وعلا : ( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) هنا المخاطب المؤمنون فى : ( فَكُلُوا )  و( وَاشْكُرُوا ) مع إشارة الى رب العزة ، ثم نفس الحال فى المخاطب ( المؤمنون ) والاشارة الى رب العزة فى الآية التالية :  ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) ثم إلتفات الى الغائب : ( فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ ) ، ثم الحديث عن رب العزة جل وعلا : ( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) ثم إلتفات الى المخاطب : ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) ، ثم إلتفات الى الغائب : ( إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)

2 ـ عن أهل الكتاب :

من الغائب فى ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا ) إلتفات  الى المتكلم ( حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا ) الى المخاطب وهو الرسول ( عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) ثم إلتفات مركب المتكلم بإشارة الى الغائب وهم أهل الكتاب : ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)) ثم إلتفات الى الغائب ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) ثم إلتفات مركب الى المخاطب وهو النبى عليه السلام بإشارة الى الغائب : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) )

 3 ـ ملة ابراهيم

الغائب وهو ابراهيم عليه السلام مع إشارة الى رب العزة جل وعلا فى : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) ثم العكس وهو : إلتفات مركب من المتكلم وهو رب العزة بإشارة للغائب وهو ابراهيم عليه السلام : ( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (122) ثم إلتفات الى المتكلم وهو رب العزة بإشارة الى المخاطب وهو النبى عليه السلام ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً  ) ثم إلتفات الى الغائب : ابراهيم : ( وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (123))

4 ـ عن الدعوة والقتال :

المخاطب وهو الرسول مع إشارة الى رب العزة جل وعلا ، فى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) الى نفس المخاطب وهو النبى مع إشارة للغائب فى  ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) الى المخاطب وهو النبى ( إِنَّ رَبَّكَ ) الى الحديث عن رب العزة فى إلتفات مركب يشير الى الغائب وهم الضالون  والمهتدون: ( هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) ثم إلتفات الى المخاطب وهم المؤمنون فى تشريع القتال :( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) ثم إلتفات مركب الى المخاطب وهو النبى مع إشارة الى أعدائه  ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) ثم إلتفات مركب الى الحديث عن رب العزة جل وعلا بإشارة الى الغائب وهم المتقون المحسنون : ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) ).

 

 الالتفات فى سورة النور

جاءت بتشريعات جديدة لمجتمع المدينة ودولته المدنية الاسلامية ، مع إشارات تاريخية تدخل فى القصص القرآنى المعاصر لوقته . وفى هذا وذاك جاء اسلوب الالتفات :

التشريع :

1 ـ بداية السورة وعقوبة الزنى : يقول جل وعلا : ( سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) المتكلم وهو رب العزة الذى أنزل السورة وفرض تشريعها وأنزل آياتها البينات، وهى إفتتاحية الاهية فريدة ووحيدة فى القرآن الكريم كله تعطى إشارة ضمنية معجزة لنفى خرافة الرجم للزانى المحصن . ثم إلتفات من المتكلم رب العزة الى المخاطب وهم المؤمنون فى دولتهم ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) ثم إلتفات مركب الى الغائب وهو :( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي )هو إلتفات مركب لأنه فيه إشارة ضمنية الى الغائب وهو الدولة الاسلامية التى تثبت جريمة الزنا على رجل وإمراة، ثم تثبت رفضهما التوبة فيستحقان الوصف بالزانى والزانية ، ويتعين عقابهما بالجلد .  ثم بعدها إلتفات مركب الى المخاطب وهو الدولة الاسلامية لأن فيه إشارة الى الزانى والزانية  ( فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (2))

2 ـ فى الآداب الاجتماعية ، يقول جل وعلا : ( لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) هنا خطاب عن الغائب ، وهم أصحاب الأعذار ، ثم إلتفات للمخاطب : ( وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)).

3 ــ فى الاجتماعات السياسية العامة للشورى أو الديمقراطية المباشرة فى الدولة الاسلامية ، تبدأ القاعدة الايمانية فى تشريع الشورى  جزءا من الايمان ،باسلوب القصر  :(  إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) والخطاب هنا عن الغائب، ثم الالتفات المركب بعده ، فالمخاطب وهو النبى ، وفيه إشارة للغائب وهم الذين يستأذنون النبى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ثم إلتفات مركب الى المخاطب وهو النبى فى إشارة الى أولئك المستأذنين  : ( فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) ثم مخاطب آخر وهم المؤمنون : ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً )ثم الحديث عن رب العزة جل وعلا مع إشارة الى المتسللين :  ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) ثم إلتفات مركب بالحديث عن رب العزة جل وعلا  وفيه إشارة للمخاطب وهم جماعة المؤمنين : ( أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)).

التاريخ : حديث الإفك :

قلنا فى كتاب ( القرآن وكفى ) إن السيدة عائشة لا شأن لها بحديث الإفك المذكور فى سورة النور لأنه عن علاقات إستجدت مع بداية إستقرار المهاجرين والمهاجرات فى المدينة ــ  ومنهم فقراء  ــ والمؤاخاة بينهم وبين الأنصار ، وما نتج عن ذلك من عون من الأنصار والأنصاريات للمهاجرين والمهاجرات ، وهذا أحنق المنافقين فإخترعوا أكاذيب عن علاقات فاحشة هى حديث الإفك الذى يتوجه فيه الخطاب للمؤمنين وعن المؤمنين ، ويأتى أسلوب الألتفات موضحا هذا .

يقول جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) هنا المُخاطب وهم جماعة المؤمنين والاتهام من رب العزة الذى يخاطبهم هو لعصبة من المؤمنين ، بعده إلتفات من المخاطب الى الغائب ، وهم أفراد تلك العصبة وقائدهم : ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) ثم إلتفات بالمخاطب وهم جماعة المؤمنين الذين تناقلوا الاشاعات السّامة ، والخطاب لهم بالتأنيب والوعظ والتهديد من رب العزة ( أى إلتفات مركب ) فى : ( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)، ثم إلتفات من المخاطب الى الغائب وهم الذين يحبون بقلوبهم أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) ثم إلتفات الى المخاطب وهم جماعة المؤمنين : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)).

( الإلتفات ) فى خطاب التنزيل المدنى فى سورة الأنفال :

مقدمة

1 ــ أخرجت قريش المؤمنين من ديارهم وصادرت أموالهم . الايلاف القُرشى فى رحلة الشتاء والصيف كان يعنى داخل قريش تكوين رأس المال للقافلة من أفراد القرشيين طبق نظام الأسهم ، ثم توزيع الأرباح لكل سهم . بإخراج النبى والمؤمنين من مكة ومصادرة ديارهم وأموالهم ورثت قريش هذه الأموال والعقارات ومنها أسهم المؤمنين فى القوافل . واستخدمت هذه الأموال والعقارات ليس فقط فى تنمية أرباح الملأ القرشى فى رحلتى الشتاء والصيف بل أيضا فى تمويل حروب خاطفة كانت تُغير على المؤمنين فى بداية إستقرارهم فى المدينة ، حيث كانوا ممنوعين ـ بسبب ضعفهم ـ من رد العدوان ، ومأمورين بكف اليد الى أن يتموا إستعدادهم للمواجهة ، وحيث كانوا فى خوف قائم من أن يتخطفهم الناس . بعد إستكمال جزئى للقتال الدفاعى نزل الإذن بالقتال الدفاعى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) (40)الحج ). وكانت مهاجمة قافلة قرشية يقودها زعيم قريش أبوسفيان . هذه القافلة هى حقُّ للمؤمنين المهاجرين فهى تجارة بأموالهم المسروقة . ونزل لهم الوعد بالفوز إما بالقافلة وإما بالانتصار . وأفلت أبو سفيان بالقافلة وجاء جيش قريش يتيه عجبا وخيلاء بثلاثة أضعاف جيش النبى لابادة جيش النبى ، أى كانت معركة كانت غير متكافئة  فى حروب يكون فيها سيف مقابل سيف ورمح مقابل رمح ، أى الأكثر عددا هو الذى يضمن النصر ، إلا إذا كان الأقل عددا هو الأكثر شجاعة وإستماتة فى القتال ، فكيف يتأتى هذا من جيش المؤمنين المرعوبين أصلا من السطوة القرشية . لذا كان لا بد من تثبيت قلوب المؤمنين فى هذه المعركة الفاصلة الحاسمة ، لأن هزيمة المؤمنين تعنى نهايتهم وألا تقوم لهم قائمة ، أما لو إنتصروا فهو الانتصار على الهيبة القرشية داخل القلوب وداخل الجزيرة العربية، وإعلاء شأن الدولة الاسلامية الوليدة.

2 ــ وإنتصر المؤمنون ، وجاء الانتصار على قريش بمستجدات هى الأنفال ( الغنائم ) و الأسرى ، ووفود مؤمنين جدد هاجروا الى المدينة ، ودخول مؤمنين جدد الى الاسلام مع بقائهم فى أماكنهم دون هجرة الى المدينة ، وحتمية الاستعداد العسكرى لجولات قادمة لردع و(ارهاب) العدو المعتدى حتى لا يعتدى، وردع و ( إرهاب ) عدو آخر محتمل ( من شر الدواب ) لا يعلمه المؤمنون ، وأن يصاحب هذا الاستعداد العسكرى ( اللوجيستى ) تحريض على القتال والصبر لرفع ( الروح المعنوية )، وعقد معاهدات ،وهناك من ينكث العهد . كل هذه المستجدات تستدعى تشريعات جديدا ، جاءت بها سورة الأنفال التى إحتوت بجانب التشريع على قصص تاريخى معاصر للنبى والمؤمنين فى هذا الوقت المبكر فى تاريخ الدولة الاسلامية المدنية . وفى داخل التشريع والقصص كان أسلوب الالتفات ، وهو الذى يعطى حيوية فى السرد القصصى وفى الأسلوب التشريعى أيضا .   

أولا : التشريع :

فى الغنائم ( الأنفال )

1 ـ بدأت السورة بالاجابة على أسئلة تتعلق بالأنفال أو الغنائم ، من الأحق بها ؟ هل الذين سلبت قريش أموالهم وموّلت بها القافلة ؟ أم المقاتلون فى المعركة . ثار جدل تطور الى خصومة . سألوا النبى ، وهو ليس له أن يجيب لأنه ليس صاحب الشرع ، الله جل وعلا هو صاحب الشرع ، وليس للنبى أن يتكلم فى دين الله أو أن يجتهد أو أن يُفتى أو يتقوّل على الله جل وعلا ، لأنه رسول مُبلّغ عن ربه جل وعلا . لذا عندما سئل عن الأنفال إنتظر النبى حتى نزل الوحى القرآنى يقول للنبى فى خطاب مباشر : ( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ) هنا النبى هو المُخاطب ، وهو يحوى إلتفاتا مركبا بالاشارة الى الغائب وهم الذين يسألون ، ثم الالتفات من المخاطب وهو النبى الى مُخاطب آخر ، وهو المؤمنون الذين جاءهم الخطاب الالهى المباشر يأمرهم بالتقوى وإصلاح ما نشب بينهم من نزاع ، وأن يطيعوا الله ورسوله إن كانوا فعلا مؤمنين  : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)  ثم إلتفات الى الغائب فى صفات المؤمنين الحقيقيين : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) ثم إلتفات الى المتكلم رب العزة مع إشارة للمؤمنين حقا ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)). 

2 ـ ثم نزل تشريع توزيع الغنائم فى خطاب الاهى مباشر للمؤمنين وقتها، يقول جل وعلا لهم:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ) هنا المخاطب وهم المؤمنون ، ثم التوزيع بالإلتفات  الى المستحقين : ( فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ )أى أن خُمس الغنام يكون فى الانفاق فى سبيل الله جل وعلا ورسالته ، وفى الصدقات لأقارب المقاتلين واليتامى والمساكين ، وبقية الغنائم للمقاتلين . واستمرار الخطاب للمخاطبين : ( إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ) ثم إلتفات الى المتكلم وهو رب العزة مع إشارة الى الغائب وهو الرسول وما أُنزل عليه يوم الفرقان يوم معركة بدر، يوم إلتقى الجمعان ،: ( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) ثم إلتفات الى الحديث عن رب العزة : ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41). وفى الآية التالية نفس المُخاطب وهم المؤمنون ومكانهم مع إشارة الى العدو ومكانه:( إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ) ثم إلتفات بالحديث عن رب العزة جل وعلا : ( وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)).

الأسرى :

1 ـ وهى قضية مُلحقةُّ بالغنائم ، وهما من النتائج الإيجابية لانتصار موقعة بدر، ولم يكن للمؤمنين معرفة بهما من قبل . وقد تصرف النبى فأخذ من الأسرى فداءا ماليا .ونزل التأنيب للنبى لأنه ممنوع إفتداء الأسرى بالأموال ، ولكن بالتبادل أو بالمنّ وإطلاق السراح بلا مقابل كما جاء فى قوله جل وعلا : (حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا )(4) محمد ) وكما جاء لاحقا فى سورة التوبة عمّن يستجير وقت الحرب من المشركين المعتدين ويستأسر برغبته : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) ) فى معركة بدر لم يكن هناك تبادل للأسرى ، فأخذ النبى أموالا لاطلاق سراحهم ، فنرل مبكرا فى سورة الأنفال تأنيب للنبى ، يقول جل وعلا : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) الخطاب هنا للغائب ، ومقصود به النبى محمد ، والمعنى أن النبى لا يمكن أن يكون له أسرى إلا إذا أثخن فى الأرض حربا . ومفهوم أنها حرب دفاعية وليست عدوانية . ثم جاء الإلتفات من الغائب الى المُخاطب وهم المؤمنون بما يشير الى أنهم أصحاب الاقتراح بأخذ الفدية من الأسرى مقابل إطلاق سراحهم ، وربما كان ذلك لتغطية متطلبات ومطالبات من الطامعين فى الغنائم ، قال تعالى لهم : ( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا  ) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا بأن الله جل وعلا يريد لهم الفوز فى الآخرة  : ( وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ ) ثم إلتفات الى المُخاطب بالتهديد : ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) ) ثم استمرار فى المخاطب بتشريع يبيح الأكل من الغنائم حلالا طيبا مع الأمر بتقوى الله جل وعلا : ( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69). ووضع أكل الغنائم حلالا طيبا وسط الحديث اللائم عن أخذ فدية مالية من الأسرى يشير الى المقارنة بين الغنائم الحلال و الفدية الحرام من الأسرى ،ثم تأتى الآية التالية بإلتفات الى مُخاطب آخر وهو النبى أن يقول رسالة للأسرى الذين دفعوا الفدية ، وهى إن الله جل وعلا سيعوضهم خيرا عمّا أُخذ منهم إن كان فى قلوبهم خير ، وأن يغفر لهم  ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وخطاب آخر للنبى  إنهم إن أرادوا خيانته فسينتقم الله جل وعلا منهم : ( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)). معلوم أن السيرة المصنوعة للنبى تتناقض مع هذا جملة وتفصيلا . ولو آمنت بها فقد كفرت بالقرآن الكريم .!

فى التعامل مع المشركين الكافرين سلوكيا بالاعتداء :

1 ـ جاء لهم عرض الاهى لهم بالانتهاء عن العدوان مقابل أن يغفر لهم ما سبق من عدوان ، وإذا رفضوا العرض فالأمر بقتالهم لوضع حد للفتنة أو الإكراه فى الدين ، يقول جل وعلا فى إلتفات مركب ، المُخاطب فيه هو النبى مع إشارة الى الغائب وهم الكافرون : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38) ثم إلتفات مركب بمخاطب هو المؤمنون مع إشارة الى غائب وهم الكفار المعتدون الذين يرتكبون الاضطهاد الدينى أو الفتنة فى ( الدين ) الذى ينبغى أن يكون حرا ، المرجعية فيه لرب العزة يوم الدين : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) ثم إلتفات الى المشركين  ( فَإِنْ انتَهَوْا ) ثم إلتفات الى الحديث عن رب العزة جل علا : ( فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)، وإلتفات فى الآية التالية من الغائب وهم المشركون :(  وَإِنْ تَوَلَّوْا ) الى المخاطب وهم المؤمنون : ( فَاعْلَمُوا  ) الى الحديث عن رب العزة جل وعلا : ( أَنَّ اللَّهَ ) الى المخاطب وهم المؤمنون :(مَوْلاكُمْ  ) الى الحديث عن رب العزة جل وعلا :( نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)  

فى التعامل مع ( شر الدواب )

1 ـ عبارة (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ ) جاءت مرتين فقط فى القرآن الكريم ، وفى سورة الانفال  تحديدا، وصفا لنوعين من الكافرين ( الكفار قلبيا فقط ) أو ( الكفار قلبيا وسلوكيا معا ) . وقلنا أن هناك الكافر بقلبه ولكنه مؤمن سلوكيا مأمون الجانب مسالما فيتمتع بلقب الذين آمنوا حسب الظاهر ، ولكن يظل محتاجا للوعظ حتى يهتدى قلبه ، ويظل أيضا محتاجا الى الوعظ والتهديد والترهيب حتى لا يتحول الى الكفر السلوكى يجمع بينه وبين كفره القلبى .وهذا كان حال بعض الصحابة من المهاجرين والذين ظلوا يعبدون الأنصاب حتى أواخر ما نزل من القرآن الكريم دون أن ينتهوا عن عبادتها ( التوبة 90 : 92 ) .  

2 ــ يقول جل وعلا للمؤمنين سلوكيا ( بمعنى الأمن والسلام ) ولكن لا يطيعون الله ورسوله ويخونون الله ورسوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) .

3 ـ ونلاحظ الآتى :

3 / 1  ـ عدم وصفهم صراحة بالكفر بل بأنهم الصُّم البكم الذين لايعقلون الذين يتولون عن الرسول معرضين عنه شأن الذين قالوا سمعنا بالأذُن وهم لا يسمعون أى لا يطيعون . وأنه لا فائدة منهم ولا خير فيهم .

3 / 2  ـ أن هذه الأوصاف جاءت فى سياق خطاب الاهى مباشر للذين آمنوا أو الصحابة المؤمنين سلوكيا ظاهريا ـ دون إيمان قلبى . أى مؤمنون مأمونو الجانب مسالمون سلوكيا ولكن قلوبهم كافرة ترفض سماع الحق،وهم متصفون بنفس صفات الكافرين الذين لا يعقلون ، وأنهم شر الدواب ، والدابة هى كل كائن حى يدبُّ ويتحرك بحركة مقصودة من الحشرة الى الفيل والخيل والبغال والحمير ..

3 / 3  ـ وجرى فى الآيات السابقة أسلوب الالتفات على النحو التالى : المُخاطب هو المؤمنون سلوكيا وليس قلبيا ، وهو إلتفات مركب بإشارة الى الله جل وعلا والرسول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا ) ثم إلتفات من المخاطب الى الغائب، وهم الكفار الصُّرحاء فى (  كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) ( وإستمرار فى وصف هؤلاء الكفار قلبيا : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23). ثم إلتفات من الغيبة الى المخاطب للذين آمنو سلوكيا فقط ، وهو إلتفات مركب لأنه يحوى إشارة لله جل وعلا وللرسول (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28).

4 ــ عبارة (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ ) جاءت أيضا فى نفس السورة وصفا للكافرين قلبيا وسلوكيا بالاعتداء ونكث العهود ، يقول جل وعلا : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56)) . كان الحديث عنهم بالغائب ، ثم بعده إلتفات الى المخاطب وهو النبى فى تشريع بالتعامل مع أولئك الكافرين المعتدين ناكثى العهود ( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ( 58 )

5 ـ الخطورة هنا أن يتعاون ( شر الدواب ) داخل المدينة مع ( شر الدواب ) خارجها . الصنفان معا يصفهم رب العزة بالخيانة (الأنفال 27 ، 58). ولو تحالف الفريقان الخائنان ( من شر الدواب ) ضد النبى والمؤمنين الحقيقيين لتم تدميرهم المسلمين ودولتهم الاسلامية ،  خصوصا وأن شر الدواب خارج المدينة موصوفون بأنهم  (يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ). لذا كان التشريع للنبى عليه السلام فى التعامل مع ( شر الدواب خارج المدينة ) أنهم إذا إعتدوا فليحاربهم بقوة تُرهب من هم خلفهم ، اى شر الدواب فى المدينة : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ  ). وإنه بسبب تكرار حنثهم ونقضهم للعهود فإذا خاف خيانتهم أعلن لهم وقف العمل بالعهد معهم بكل إستقامة كى لا يعطيهم فرصة الخداع والمكر: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ) .

فى الاستعداد الحربى لردع العدو المعتدى

1 ــ هنا المخاطب هم المؤمنون قلبيا وحقيقيا مع إشارة للغائب وهم الكفار المعتدون ، فى : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ) أولئك الذين لا يعلمونهم هم ( شر الدواب ) من المؤمنين سلوكيا بينما قلوبهم تطفح بتقديس الأنصاب والقبور المقدسة.

2 ــ قوة الدولة الاسلامية المسالمة هى التى ترهب العدو الظاهر والعدو المحتمل المستتر الذى لا يعلمونه والذى يعلمه رب العزة جل وعلا . الارهاب هنا فى مصطلح القرآن هو لحقن الدماء ، دماء العدو ودماء المسلمين أيضا . الدولة الاسلامية المسالمة التى لا تعتدى على أحد لو كانت ضعيفة فسيتشجع العدو المعتدى على غزوها ، لهذا لا بد أن تتقوى بكل إستطاعتها لتردع أو لترهب هذا العدو المعتدى .

3 ــ  وهذا الاستعداد الحربى يتطلب نفقة مالية ، لذا يستمر الخطاب للمؤمنين :( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60). 

4 ــ فماذا إذا جنح العدو المعتدى للسلام ، يستمر الخطاب للنبى عليه السلام بالجنوح للسلام متوكلا على ربه جل وعلا  فى إلتفات من المؤمنين الى النبى : ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) .

5 ــ فماذا إذا كانوا يريدون الخداع فالله جل وعلا هو الذى يكفيه والذى يؤيده بنصره وبالمؤمنين ( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)) فيما سبق إلتفات مركب للمخاطب وهو النبى مع إشارة للمخادعين .

6 ـ ويأتى حديث عن رب العزة ونصره وأنه الذى ألّف بين قلوب المؤمنين الحقيقيين بما لا يستطيعه بشر :( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ )هذا حديث عن رب العزة جل وعلا ، يليه إلتفات الى المخاطب وهو النبى عليه السلام ( إلتفات مركب ) يحوى إشارة الى المؤمنين :( لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) .

7 ـ المؤمنون سلوكيا فقط لا فائدة فيهم فى القتال لأنهم كافرون قلبيا ولأنهم مسالمون يخافون من الحرب لذا كانوا يعصون ولا يسمعون . بإستبعادهم يتبقى المؤمنون الحقيقيون ، وهم أيضا مسالمون ولكن مخلصون لرب العزة دينهم . أى يحتاجون الى التحريض على القتال ، لذا يستمر الخطاب للنبى مع حديث عن رب العزة جل وعلا وإلتفات الى الغائب وهم المؤمنون  الحقيقيون فى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ) ثم بعدها إلتفات الى مخاطب آخر وهم المؤمنون  الحقيقيون ـ ونفهم أنهم وقتها أقلية ضئيلة ضعيفة  لذا لا بد من التمسك بالصبر  لينالوا النصر ، يخاطبهم رب العزة مباشرة فيقول : ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)).  

فى الموالاة والولاء للدولة الاسلامية :

1 ــ إنتماء المسلم الحقيقى والمؤمن الحقيقى هو للقيم العليا ( الحرية والعدل والسلام ) . وإذا تعرض للفتنة فى دينه وجبت عليه الهجرة ، وإذا تخلف عنها مع إستطاعته ومات ، مات كافرا ( النساء 97 : 99 ). وكانت دولة الاسلام المدنية واحة أمن للمستضعفين المؤمنين ( إيمانا سلوكيا بمعنى الأمن ) والمسلمين ( إسلاما ظاهريا بمعنى المسالمة والسلام ) . وفى داخلها تمت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والموالاة بينهم فى إطار دولتهم . وكانت الهجرة اليها مفتوحة لكل من أراد الحرية الدينية ، يمارسها كيف شاء طالما لا يرفع سلاحا ولا يضطهد أحدا فى الدين .

2 ـ وكما جاءت الآيات الأخيرة فى سورة النور عن الشورى والديمقراطية المباشرة ، وجاءت الآيات الأخيرة من سورة الممتحنة عن البيعة الفردية حتى للنساء فى دخول الدولة الجديدة فإن الآيات الأخيرة من سورة الأنفال كانت عن تشريع المواطنة فى هذه الدولة ، والتى هى حق لمن يعيش فيها من المهاجرين والأنصار ، وهى ايضا حق لمن هاجر اليها واستقرّ فيها ، والمؤمنون خارجها ليسوا مواطنين فيها طالما لم يهاجروا ، والمستضعفون لهم حق النُّصرة إلا إذا كان هناك عهد بعدم الحرب بين الدولة الاسلامية وتلك الدولة التى يعيش فيها أولئك المستضعفون . وكما أن الكفار المعتدين يوالى بعضهم بعضا فواجب المؤمنين المسالمين أن يوالى بعضهم بعضا حتى لا يكون فساد فى الأرض وإضطهاد أى فتنة فى الدين الذين .

3 ــ فى هذا يقول جل وعلا فى خطاب للغائب : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) ثم إلتفات الى من الغائب الى المخاطب وهم المؤمنون فى دولتهم الاسلامية : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72). ثم خطاب الغائب عن الكافرين المعتدين وموالاتهم بعضهم البعض : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) ثم إلتفات الى المؤمنين : المخاطب : يقول لهم : ( إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)، وبعده إلتفات الى الغائب : (  وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) ثم إلتفات الى المخاطب أى المؤمنون (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ . ) ثم الغائب فى : ( وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)) .

 التاريخ ( القصص المعاصر )

1 ـ فى بداية الحديث عن موقعة بدريقول جل وعلا : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ  ) هنا خطاب للنبى ، أى الى  المخاطب، وبعده إلتفات الى الغائب ، وهم الفريق المعارض للقتال من ( اهل بدر) : ( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6)) ثم حديث عن رب العزة للمخاطب وهم أهل بدر المؤمنين : ( وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11)).

2 ـ وفى حديث عن رب العزة جل وعلا فى خطاب للغائب وهم كفرة قريش وجيشها : ( ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) ثم إلتفات للمخاطب وهم المشركون القرشيون وقد إستفتحوا الحرب بقطع الأرحام فقال جل وعلا لهم بأسلوب السخرية : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ ) ثم إستمرار الخطاب لهم باسلوب الوعظ  : ( وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ  ) ثم بالتهديد : التفات مركب للمخاطب مع إشارة للمتكلم : ( وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ ) والمخاطب بالتهديد ( وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) ثم إلتفات بحديث عن رب العزة جل وعلا : ( وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19))

ودائما : صدق الله العظيم .

 أسلوب ( الإلتفات ) فى خطاب التنزيل المدنى فى سورة آل عمران

مقدمة : تتركز موضوعات سورة ( آل عمران ) حول أربعة محاور : ( لا إله إلا الله ) والتشريع و التاريخ المعاصر بين موقعتى بدر وأُحُد ، ثم الحوار مع أهل الكتاب . وأسلوب الالتفات يتخلل هذه الموضوعات الأربع يعطيها حيوية فى العرض . ونعطى بعض التفصيلات :

أولا : لاإله إلا الله جل وعلا

1 ـ تبدأ السورة بالحديث عن رب العزة وكتبه السماوية : (الم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) ثم إلتفات الى المُخاطب وهو الرسول ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ) ثم إلتفات الى الغائب وهم الكافرون : (  إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (5). ثم إلتفات مركب الى المُخاطب وهم البشر جميعا مع إشارة للخالق جل وعلا : (  هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) . ثم إلتفات مركب بالمخاطب وهو الرسول مع إشارة لرب العزة جل وعلا : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) ثم إلتفات الى الغائب وهم الذين فى قلوبهم زيغ : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) والتفات الى الحديث عن رب العزة جل وعلا : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ) ، ثم إلتفات الى غائب وهم الراسخون فى العلم :  ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7) ، ثم إلتفات الى المتكلم وهم الراسخون الذين يقولون ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) )

2 ـ الحديث هنا عن الغائب وهم البشر أو الناس فى قوله جل وعلا : (  زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ) ثم إلتفات الى غائب آخر وهو متاع الدنيا : ( ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ثم إلتفات الى الحديث عن رب العزة جل وعلا : (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) ) ثم إلتفات مركب الى المُخاطب وهو الرسول والناس مع إشارة الى رب العزة جل وعلا  : ( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17))

3 ـ وردا على تقديس الأنبياء يقول جل وعلا فى خطاب عن الغائب : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ثم إلتفات الى المخاطب ( وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) ثم إلتفات مركب فى الحديث عن رب العزة مع إشارة للأنبياء : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ) ثم إنتقال بالالتفات الى المُخاطب وهم الأنبياء : ( لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) ثم إلتفات الى الغائب ، وهم الرسل : ( قَالُوا أَقْرَرْنَا ) ثم إلتفات مركب الى حديث عن رب العزة جل وعلا مع إشارة الى المتكلم وهو رب العزة : ( قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81) ثم إلتفات الى الغائب فى : ( فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (82)

4 ـ وعن الاسلام دين الله جل وعلا والذى نزلت به كل الرسالات السماوية ، يبدأ الحديث عن رب العزة جل وعلا بشهادة الاسلام الواحدة ( وهو : التشهد الحقيقى فى الصلاة ) فى : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ثم التأكيد على : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) ثم إلتفات الى الغائب وهم المختلفون من أهل الكتاب : ( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) ثم إلتفات  مركب الى المخاطب وهو الرسول مع إشارة للضالين بالرجوع الى الأصل وهو دين الله جل وعلا :( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ) ، ثم إلتفات مركب الى الغائب مع إشارة الى المخاطب وهو الرسول : ( فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20).

وعن الاسلام دين الله جل وعلا والذى نزلت به كل الرسالات السماوية يقول جل وعلا عن  الغائب من الخارجين عن دين الاسلام ، ثم إلتفات الى الحديث عن رب العزة الذى أسلم له الجميع  واليه مصيرهم : ( أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) ، ثم إلتفات الى المخاطب وهو النبى وكل مؤمن لا يفرق بين الرسل ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ) ثم إلتفات الى المتكلم وهو المؤمنون الذين يقولون :( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) ثم إلتفات الى الغائب وهو: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85).

5 ــ  ويقول جل وعلا فى إلتفات مركب يبدأ بالمخاطب وهو النبى مع إشارة عن الغائب وهو كل نفس بشرية يوم الدين : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) ثم إلتفات بالحديث عن رب العزة وتحذيره لنا : ( وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)، ثم إلتفات مركب للمخاطب وهو النبى أن يقول لهم : ( قُلْ ) ثم الى مخاطب آخر ( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ) ثم إلتفات الى المتكلم وهو الرسول : ( فَاتَّبِعُونِي  ) ثم إلتفات مركب بالمُخاطب فيه إشارة لرب العزة جل وعلا : ( يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32).

6 ــ فى الآيات التالية يبدأ الخطاب بالحديث عن رب العزة جل وعلا ، ثم إلتفات الى الغائب وهم أولو الألباب وصفاتهم : ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ ) ثم إلتفات الى المتكلم وهم أولو الألباب الذين يقولون فى مناجاتهم ربهم جل وعلا : ( رَبَّنَا  ) ثم المُخاطب وهو رب العزة فى ( مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) ثم إلتفات بالحديث عن رب العزة وإستجابته لهم : (  فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ) والتفات الى المتكلم وهو رب العزة فى قوله جل وعلا : ( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ ) ثم إلتفات الى المخاطب وهو ( مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) ثم إلتفات الى الغائب : ( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا ) ثم المتكلم رب العزة فى : ( فِي سَبِيلِي ) ثم الغائب فى ( وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ) ثم المتكلم رب العزة جل وعلا فى : ( لأكَفِّرَنَّ  ) ثم الغائب فى (عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ )، ثم إلتفات مركب فى كلمة واحدة: ( المتكلم : رب العزة ،والغائب : هم ) هى : ( وَلأدْخِلَنَّهُمْ ) ثم الغائب ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)، ثم خطاب مباشر من رب العزة للنبى وكل مؤمن،أى المُخاطب فى قول الله جل وعلا : ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) ثم الغائب ويتنوع من متاع الدنيا الى الكافرين ومأواهم الى أهل التقوى ومأواهم الى الحديث عن رب العزة جل وعلا ، كل هذا فى : ( مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ (198).

ثانيا : التشريع :

جاء فى نفس السورة بعض تشريعات فيها أسلوب الالتفات ، مثل :

1 ـ الموالاة : يقول جل وعلا : ( لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) الحديث هنا بالجملة الخبرية عن الغائب ، ولم يأت فيها خطاب مباشر بالنهى عن الموالاة ، ولكن النهى جاء فى صورة خبرية وجملة إسميه ، وهذا ـ بلاغيا ـ أقوى من النهى بالطريق المباشر ، ويعززه الجملة الخبرية التالية فى التحذير من رب العزة . بعدها يأتى الإلتفات الى الخطاب المباشر بالمخاطب وهو الرسول أن يخاطب المؤمنين فى : ( قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) وإلتفات الى الحديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) .

2 ـ نفس الحال فى فرضية الحج . لم يقل جل وعلا بصيغة الأمر ( حجوا البيت ) ولكن قال فى صيغة خبرية يتحدث بالغائب عن البيت الحرام أول بين وُضع للناس : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ) بعدها جاء الأمر بالصيغة الخبرية أكثر إيقاعا فى قوله جل وعلا للناس : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، وللتعزيز والتأكيد على وجوب الحج على المستطيع جاءت الجملة الخبرية التالية : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97) .

 ثالثا : التاريخ المعاصر :

عن موقعة بدر :

1 ــ التدبر فى سورة آل عمران يومىء الى أنها نزلت بعد موقعة ( أُحُد )، ولذا جاءت فيها إشارة الى موقعة ( بدر ) يقول جل وعلا فى خطاب للغائب وهم الكافرون المعتدون الطُّغاة السائرون على سُنّة أو ( دأب ) فرعون : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)  وهو نفس ما جاء عنهم فى سورة الأنفال ( 52 ، 54  ). بعد الغائب إلتفات مركب الى المخاطب وهو النبى والمؤمنون بكلمة : ( قُلْ )ثم مخاطب آخر : ( لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)، بعده إلتفات الى مخاطب واحد هم الكافرون مع اشارة الى المتقاتلين فى موقعة بدر :  ( قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ )ثم إلتفات بالحديث عن رب العزة جل وعلا :  ( وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ثم إلتفات الى العبرة وأولى الأبصار العقلاء : ( إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ (13).

2 ـ وعودا للحديث عن موقعة بدر ، يقول جل وعلا فى خطاب مباشر ، فالمخاطب هو النبى فى تذكير له بخروجه تاركا أزواجه خلفه ، وهو يهيىء جنوده مقاعد القتال : ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ) ثم إلتفات الى الحديث عن رب العزة جل وعلا : ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) بعدها إلتفات الى المؤمنين فهم المُخاطب هنا  ( إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ ) ، وهنا توضيح لحقيقة تاريخية مسكوت عنها ، وهى أن طائفتين من المؤمنين فى موقعة بدر كانا على وشك الفشل : ( أَنْ تَفْشَلا  ) ثم إلتفات مركب بالغائب عن هاتين الفئتين بإشارة الى رب العزة جل وعلا : ( وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (122) ، ثم إلتفات الى المُخاطب وهم المؤمنون وقتها: ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) وانتقال بالخطاب الى النبى فى تذكير له :( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) ثم إلتفات بالحديث عن رب العزة ( وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى ) ثم المخاطب وهم المؤمنون : ( لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ) ثم إلتفات مركب بالحديث عن رب العزة جل وعلا مع إشارة للكافرين المعتدين : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)ثم إلتفات للمُخاطب وهو النبى  ( لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ  ) ثم إلتفات مركب بالحديث عن رب العزة مع إشارة عن الكافرين المعتدين : ( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128).

عن موقعة أُحُد :

1 ـ يبدأ الأمر بجملة خبرية تمهيدية يقول فيها رب العزة جل وعلا : ( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وواضح فيها الخطاب للغائب ، ثم إلتفات مركب الى المُخاطب وهم المؤمنون وقتها بعد هزيمة أُحُد بإشارة الى قريش ، وإشارة الى رب العزة جل وعلا ،وعن الاسلام دين الله جل وعلا والذى نزلت به كل الرسالات السماوية ، ثم ( محمد ) فى الآيات التالية : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145).

2 ـ وهزيمة أُحُد أنتجت مواقف متعددة : فى وصف المعركة يأتى الحديث فى خطاب المؤمنين فى إنتصارهم المبدئى ، ثم تنازعهم حول الغنائم ، وهزيمتهم والاضطراب الذى حل فيهم ، ويتخلل هذا الخطاب المباشر للمؤمنين حديث عن رب العزة والكافرين ، ثم طائفة المنافقين الذين وجدوها فرصة لانتقاد المؤمنين ورد رب العزة عليهم ،وموقف شجعان المؤمنين الذين أصروا  ــ برغم جراحهم ــ على مطاردة جيش قريش  جاء هذا فى قوله جل وعلا : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)  ، وهكذا فى الآيات التالية حتى الآية (175).

رابعا : الحوار مع أهل الكتاب :

شهدت هذه السورة مع سور مدنية أخرى كالبقرة والنساء والمائدة حوارا مع أهل الكتاب وعنهم ، ومستفاد منه أن هناك تاريخا مسكوتا عنه لم تذكره السيرة عن علاقات وعن حروب فكرية وعسكرية بين المؤمنين ومعتدى أهل الكتاب فى عهد النبوة. وللعلم فلقد حفل التنزيل المكى بقصص أهل الكتاب من ابراهيم الى يعقوب وبنيه بنى اسرائيل يوسف وموسى الى المسيح ، كان القصد منه الدعوة الى ( لا إله إلا الله ) أما فى التنزيل المدنى فقد جرى إستعادة بعض هذا القصص ( موسى والمسيح ) فى إطار الحوار مع أهل الكتاب ، وعلى هامش الحوار معهم نفهم أن المقصد هو تحذير المؤمنين من الوقوع مما وقع فيه الضالون من أهل الكتاب . ومع هذا فقد وقع المحمديون فيما وقع فيه المسيحيون .

1 ـ يبدأ الحديث عنهم بتقرير أن الاسلام هو دين الله جل وعلا والذى نزلت به الرسالات السماوية ، وأن أهل الكتاب الذين ضلوا قد بغوا على العلم الالهى أو الرسالات السماوية فصنعوا أديانا أرضية وتفرقوا بها واختلفوا : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)) . وقد عرضنا لهذا من قبل . لذا جاء الأمر المباشر للمؤمنين بالاعتصام بالقرآن والنهى عن التفرق وألّا يكونوا مثل الذين تفرقوا وإختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات ، يقول جل وعلا : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)   )

2 ـ وقصة ولادة المسيح تكررت فى التنزيل المكى وبالتفصيل فى سورة مريم ، وجاءت هنا فى سورة آل عمران ، من قوله جل وعلا : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35),  وتستمر الآيات بأسلوب الغائب فى القصص الى أن يأتى الإلتفات المركب الى المُخاطب وهو النبى مع إشارة عنهم فى قوله جل وعلا له :( ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) . ويستمر الحديث عن المسيح وقومه ودعوته الى أن يقول جل وعلا فى نفس الخطاب عن الغائب : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)ثم الإلتفات الى المخاطب وهو الرسول محمد عليه السلام : ( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (60)، وفى فصل الختام يقول جل وعلا فى خطاب مباشر للنبى لمباهلة من يقول غير ذلك :( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) ثم إلتفات الى الحديث عن القصص القرآنى ورب العزة ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) .

3 ـ وغير تأليه المسيح هناك الرد على مقولات أخرى للضالين من أهل الكتاب:

3 / 1 : عن زعمهم خروج العاصى من النار يقول جل وعلا باسلوب الغائب عن أكبر عصيان لهم : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ ) ثم يتحول الخطاب الى المخاطب فى إلتفات مركب يشير اليهم فى : ( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) ، ثم إلتفات للغائب : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) ثم إلتفات مركب الى المخاطب وهو النبى فى إشارة اليهم فى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)، ثم إلتفات الى الغائب فى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) أى عقيدتهم فى خروج العاصى من النار ، وهى العقيدة التى إفتروها وإنخدعوا بها وإغتروا بها . ثم إلتفات مركب الى المتكلم وهو رب العزة جل وعلا مع إشارة اليهم  : ( فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) . جدير الذكر أنه مع الاشارة الى إفتراء أهل الكتاب فى خرافة الخروج من النار ، هنا وفى سورة البقرة ( 80 : 82 ) ، فالبخارى وغيره يفترون نفس الأكاذيب فى خروج العاصى من النار . وقد رددنا على هذا الافتراء عام 1987 بكتاب ( المسلم العاصى : هل يخرج من النار ليدخل الجنة ) وكوفئنا عليه بالسجن . والكتاب منشور هنا .

3 / 2 : يقول جل وعلا عنهم باسلوب الغائب : ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ) ثم إلتفات من الغائب الى المتكلم وهو رب العزة جل وعلا فى : ( سَنَكْتُبُ )ثم إلتفات الى الغائب فى: ( مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) ثم إلتفات من الغائب الى المتكلم وهو رب العزة جل وعلا فى: ( وَنَقُولُ ) ثم إلتفات الى المخاطب : ( ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا : ( وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)

3 / 3 : يقول جل وعلا عنهم باسلوب الغائب :(  الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ) ثم إلتفات الى المخاطب وهو الرسول فى كلمة :  ( قُلْ ) وإلتفات الى مخاطب آخر وهم أولئك القائلون : ( قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) ثم إلتفات مركب وهو المخاطب وهو الرسول  فى إشارة الى الغائب فى : ( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)

3 / 4 : فى موضوع الطعام يقول جل وعلا عنهم باسلوب الغائب ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ) ثم إلتفات الى المخاطب وهو الرسول فى كلمة :( قُلْ)   وإلتفات الى مخاطب آخر بالتحدى لهم ( فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)ثم التفات الى الغائب ( فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (94) وإلتفات الى مخاطب آخر وهو الرسول فى كلمة: ( قُلْ ) ثم الحديث عن رب العزة ( صَدَقَ اللَّهُ ) ، ثم الالتفات الى المخاطب وهم أهل الكتاب :  ( فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ) ثم إلتفات الى الغائب وهو ابراهيم عليه السلام : ( وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (95)) .

ودائما : صدق الله العظيم .!

 

أسلوب ( الإلتفات ) فى خطاب التنزيل المدنى فى سورة البقرة :

مقدمة : سورة البقرة أطول سورة قرآنية ، وموضوعاتها الأساس : التشريع والحوار مع بنى اسرائيل ، وفيهما أسلوب الالتفات . 

أولا : الحوار مع بنى إسرائيل :

1ـ تبدأ السورة بحديث عن الكتاب الذى لا ريب فيه هدى للمتقين ، وصفات المتقين ، وصفات الكافرين وصفات المنافقين ، و وخلق آدم ونزوله الأرض مع زوجه، بعدها يتوجه الخطاب مباشرة الى بنى إسرائيل ، لا ليحكى تاريخهم كما جاء فى التنزيل المكى ( سور:  الأعراف ، طه ، الشعراء مثلا ) ولكن لتذكير بنى إسرائيل فى عهد النبى عليه السلام فى المدينة فى إطار حوار معهم يدعوهم الى الايمان بالقرآن الذى نزل مصدقا لما معهم من كتاب ، ولأنهم كانوا يتوقعون نزوله على خاتم النبيين ، لذا استقروا فى يثرب إنتظار لهجرة النبى الخاتم ، وكانوا يستفتحون بهذا على سكان يثرب من الأوس والخزرج ، فلما آمن الأوس والخزرج وصاروا الأنصار كفر معظم بنى إسرائيل وقبائلهم بنو النضير وبنو قنيقاع وبنو قريظة . وهذا الحوار الذى جاء فى سورة البقرة وغيرها يعكس نوعا من الحرب الفكرية ، كانوا هم فيه يواجهون المسلمين بالتشكيك والافتراء ، بينما ينزل القرآن يرد عليهم ويعتبرهم إمتدادا لكفرة بنى إسرائيل الذين عبدوا العجل والذين كانوا يقتلون الأنبياء . كان هذا الحوار معهم أيضا لتوعية المؤمنين ، أى كان الخطاب عن بنى اسرائيل بالغائب أو بالمخاطب ، ثم يأتى الالتفات للمؤمنين بالاستفادة مما سبق . ونعطى مثالا :

2 ـ يقول جل وعلا فى خطاب مباشر لبنى إسرائيل:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا ) ثم إلتفات الى المتكلم رب العزة ( نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43))، ومنه أيضا قوله جل وعلا لهم ، بالمتكلم رب العزة جل وعلا فى : ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) ، ويستمر الخطاب لهم الى قوله جل وعلا : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)) بعدها يقول جل وعلا للمؤمنين محذرا لهم فى إلتفات من مخاطب الى مخاطب آخر:( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ) أى بعد ما سبق كيف تطمعون أن يثقوا بكم. ثم يأتى إلتفات الى الغائب ، وهم بنو إسرائيل وقت نزول هذا الوحى : ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) البقرة )

ثانيا : التشريع :

1 ـ فيه الالتفات من المخاطب ( الذين آمنوا ) الى الغائب والعكس . ونعطى أمثلة :يقول جل وعلا :

1/ 1 : البداية بالمخاطب فى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) هذا مُخاطب ، ثم الالتفات المركب الى الغائب مع إشارة للمخاطب فى : ( إِنَّهُ لَكُمْ ) ثم الغائب فى ( عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) ونفس الحال فى :( إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169)

1 / 2 : البداية بالمخاطب فى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا ) ثم إلتفات مركب الى المتكلم وهو رب العزة مع إشارة الى المخاطب فى ( رَزَقْنَاكُمْ ) ثم المخاطب وهم المؤمنون مع حديث عن رب العزة جل وعلا:( وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا مع إشارة للمخاطب  أى المؤمنون فى : ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ) ثم الغائب فى : (  فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا :(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

 1 / 3 : البداية بالمخاطب فى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ) ، ثم إلتفات الى الغائب  ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) ثم إلتفات الى المخاطب : (  ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) ثم الى الغائب : ( فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) ثم الى المخاطب : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

1 / 4 : البداية بالمخاطب فى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ ) ثم إلتفات الى الغائب :( إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

1/ 5 : البداية بالمخاطب الذين آمنوا فى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ثم إلتفات الى الغائب  فى : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ  ) ثم إلتفات الى المخاطب فى ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) ثم الغائب فى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) ثم إلاتفات الى المخاطب فى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ثم الغائب فى : ( وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ثم المخاطب فى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) ثم إلتفات الى مخاطب آخر وهو الرسول  : ( وَإِذَا سَأَلَكَ ) ثم المتكلم وهو رب العزة فى ( عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) ثم إلتفات الى المخاطب وهم المؤمنون : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187).

1/ 6 : البداية بالمخاطب وهو النبى فى إشارة للسائلين  فى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ )، ثم المخاطب وهم المؤمنون مع إشارة الى المعتدين الكفار فى : ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ) ثم الغائب :  ( فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

1/ 7 : البداية بالمخاطب وهو النبى فى إشارة للسائلين  فى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ ) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا : ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ ) ثم المخاطب وهم المؤمنون : ( لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ثم إلتفات الى مخاطب وهو النبى فى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ) ثم المخاطب وهم المؤمنون: ( وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ  ) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا : ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

1 / 8 :  البداية بالمخاطب وهو النبى فى إشارة للسائلين  فى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ) ثم مخاطب آخر وهم المؤمنون : ( فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ ) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا :( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222).

1 / 9 : البداية بالمخاطب وهو النبى فى إشارة لمستحقى الصدقة فى : ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا : ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ثم إلتفات الى المخاطب : المؤمنون :  ( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272).

 1 / 10 : وختام السورة فى العقيدة الايمانية الاسلامية ، فى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) كان هذا عن الغائب ، ثم إلتفات الى المتكلم وهم المؤمنون القائلون : (  لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) أى هنا كلمة محذوفة مفهومة من السياق وهى ( وقالوا لا نفرق بين أحد من رسله ) بعده إلتفات الى الغائب فى ( وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) ثم إلتفات الى المخاطب رب العزة مع إشارة الى المتكلم : المؤمنين فى : ( غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) ، ثم حديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ  ) ثم إلتفات الى المتكلم وهم المؤمنون الذين يدعون ربهم قائلين : ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286).

ودائما : صدق الله العظيم .

 

أسلوب ( الإلتفات ) فى خطاب التنزيل المدنى فى سورة الاحزاب  

تميزت سورة الأحزاب ـ على قصرها النسبى ـ بتعدد موضوعاتها التشريعية العامة والخاصة والتاريخية المعاصرة لوقتها والتى تشى بأمور مستقبلية  حدثت فيما بعد ، وتخللها اسلوب الالتفات ، على النحو التالى :

أولا : التشريع العام :

1 ـ  نزل تحريم الظهار ( أى أن يحرم الزوج زوجته كتحريم أمه عليه ، وكان هذا عادة سيئة فى العرب وقتها أن يقول الرجل لزوجته : أنت حرام علىّ كظهر أُمّى ) كما نزل تحريم التبنى ، فى قول رب العزة جل وعلا فى هذه الآية : ( مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) هنا حديث عن رب العزة جل وعلا الذى جعل ( قلبا ) واحدا أى نفسا واحدة فى ( القالب ) وهو الجسد البشرى . والتعبير برجل هنا لا تعنى الرجل الذكر ولكن تعنى ( المترجل بجسده ) من الذكور والاناث  . وقد أوضحنا معنى (رجل / رجال ) فى القاموس القرآنى . ثم الالتفات المركب الى المخاطب وهم المؤمنون فى إشارة الى الأزواج ( الزوجات ) فى موضوع الظهار ، والأدعياء فى موضوع التبنى  فى: ( وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ) ثم إلتفات الى الحديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ثم نفس التفات المركب الى المخاطب نفسه مع الاشارة الى الأدعياء فى : ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ) ثم الحديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5).  

2 ـ فى تحريم التبنى وكان شائعا وقتها ـ ولا يزال :

2 / 1 . والتبنى يخالف الشريعة الاسلامية التى يترتب فيها حقوق من ميراث وحُرمة فى النكاح فى موضوع النسب من ألاباء والأمهات . وكان صعبا وقتها منع التبنى ، بل كان للنبى نفسه أبن بالتبنى هو زيد بن حارثة .

2/ 2 : وننبه هنا على وجود وحى توجيهى نزلت إشارات عنه فى قصص القرآن عن نوح وموسى . وفى التاريخ المعاصر للنبى محمد عليه السلام المذكور فى القرآن الكريم نجد لهذا الوحى التوجيهى إشارات، كما فى سورة التحريم وفى الوعد بالقافلة أو النصر فى ( بدر ) . ومن خلال الايمان بالقرآن نؤمن بما اشار اليه القرآن فى هذا الوحى الشفهى ، ولا إيمان بوحى شفهى  لم ترد فيه إشارة فى القرآن الذى هو الذى نحتكم اليه والذى هو المرجعية الوحيدة فى دين رب العزة جل وعلا . وسبق أن كتبنا فى هذا الوحى التوجيهى من قبل . ومن هذا الوحى التوجيهى ما يخص تحريم التبنى الذى كان عادة راسخة ، إستلزم تحريمها أن يكون النبى نفسه أول من يطبق هذا التشريع على نفسه . إذ كان للإبن بالتبنى نفس حقوق الابن من الصُّلب ، من الميراث وألا يتزوج من تزوجها الأب ، وألا يتزوج الأب من تزوجها الابن .

2 / 3 : جاء الأمر أولا صريحا بإنتساب الابن بالتبنى الى أبيه الحقيقى ، فصار ( زيد بن محمد ) ( زيد بن حارثة ) تنفيذا لقوله جل وعلا : ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ). ثم كانت الخطوة الأصعب فى قطع الصلة الأبوية ، وهى أن يطلق زيد بن حارثة زوجه ( زينب بنت جحش ) ليتزوجها النبى ليكون النبى نفسه قدوة فى تكسير هذا التشريع الجاهلى فى موضوع التبنى . كان زيد يعانى من خلافات مع زوجته ، ونزل التوجيه بالوحى للنبى أن يجعل زيدا يطلق زوجته ثم بعد عدتها يتزوجها النبى ليؤكد بنفسه أنه ليس للدعى أى ( الابن بالتبنى سابقا ) أى حقوق الابن للصلب . هذا الوحى التوجيهى أحرج النبى فما كان يتوقعه ، وكان صعبا أن ينفذه خشية إنتقاد الناس وإحتمالات تقولاتهم عليه ، خصوصا وهو يعايش المنافقين الذين لا يتركون فرصة للنيل منه عليه السلام .

ونتوقف مع الآيات من خلال اسلوب الالتفات :

2 / 4 : فى البداية يقول جل وعلا حكما عاما باسلوب الغائب أنه لا يصح ولا يليق بمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله جل وعلا أمرا أن يختار العصيان لأن من يعصى الله ورسوله فقد ضل ضلالا بعيدا : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) الحديث هنا بالغائب ، وهو تعريض بالنبى الذى تردد وتحرّج وعصى الأمر الوارد اليه ، لذا ينتقل الخطاب من الغائب الى النيى ، أى المخاطب فيقول له ربه جل وعلا يذكره بالعصيان الذى وقع فيه ، فقد أمره ربه أن يجعل زيدا يطلق زوجته ففعل العكس وهو أن يأمر زيدا أن يصلح ما بينه وبين زوجته وأن يتمسك بها ، يقول جل وعلا للنبى :( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ) وتأنيبا للنبى يخاطبه ربه فيقول باسلوب لاذع ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) . بعد الخطاب المباشر إلتفات الى الغائب وهو زيد وزوجته : ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً ) ثم إلتفات مركب الى المتكلم وهو رب العزة فى إشارة الى المخاطب وهو النبى والى زينب فى كلمة واحدة هى : ( زَوَّجْنَاكَهَا ) والسبب  جاء باسلوب الغائب : ( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً ) أى لمنع التحرج بين المؤمنين من زواج زوجة سابقة لأدعيائهم، ثم إلتفات الى الحديث عن رب العزة جل وعلا  : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) . ثم عودة بالحديث عن النبى باسلوب الغائب كما جاء فى الآية 36 ، يقول جل وعلا يرفع عنه الحرج ( مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)، ثم حديث بالغائب فيه تعريض بعصيان النبى وخشيته من الناس دون رب الناس جل وعلا : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ ) ثم إلتفات بحديث عن رب العزة جل وعلا ( وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) أى فالناس لا يملكون لك حسابا ، لأنه كفى برب العزة حسيبا . ثم إلتفات مركب بتوجيه الخطاب للمؤمنين مع إشارة للنبى محمد عليه السلام : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) )

3 : ونضع بعض الملاحظات الإضافية  :

3 / 1  ـ  بعض أعداء النبى من أئمة المحمديين وجدوا فى هذا الموضوع فرصة لاتهام النبى بأنه كان مفتونا بزوجة زيد ، وأن هذا هو سبب تطليق زيد زوجته ليتزوجها النبى ، وقرأنا روايات حقيرة عن هذا فى تفسير النسفى الذى كان مقررا علينا فى الثانوى الأزهرى . وأولئك المفترون لم يقرأوا الآيات واضحة الدلالة وفيها التأنيب للنبى لأنه تحرج وكان يخشى ردّ الفعل من الناس .

3 / 2  ـ قوله جل وعلا : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ) يتحدث عن ( محمد ) الرجل والأبُّ ، يؤكد فيه رب العزة مقدما أنه لن يعيش لمحمد ولد من صُلبه يبلغ مبلغ الرجال . أى لن يكون أبا لرجل أبدا سواء كان من صلبه أو بالتبنى لأن التبنى مُحرّم . ولنتخيل لو أنه عليه السلام كان له ذرية من الأبناء ، أى عاش أولاده الذكور فماذا كان سيفعل بهم المحمديون ، وهم الذين عبدوا بنته فاطمة وزوجها والحسن والحسين وذريتهم ؟

3 / 3 ـ  فى القرآن الكريم فالوحيد المذكور بالاسم من بين ( الصحابة ) المؤمنين هو ( زيد )، وقلنا أن القصص القرآنى لا يركز على أسماء الأشخاص . ومن عجب أن إسم ( زيد ) تحول الى رمز فى علم النحو ، فى المثال المشهور ( ضرب زيد عمرا ) ، وحين يقال عن شخص مثالا فى علوم البلاغة واللغة يقال ( زيد )  أى ( زيد من الناس ) أى تحول من إسم (علم ) الى ( نكرة ) .!

3 / 4  ـ وضح أن العتاب واللوم جاء  صراحة و تعريضا  للنبى  الذى كان يتصرف بطبيعته كأى إنسان شريف يخشى على سُمعته من أعدائه المتربصين به . ومات النبى ولا يزال أعداؤه يزيدون على عدة بلايين (فقط ) فى عصرنا هذا .!. منهم من يزعم حب النبى كالمحمديين الذين يتبعون ( لهو الحديث ) ، ومنهم من يكرهه من أصحاب الديانات الأرضية الأخرى، لأن أعدى أعداء خاتم النبيين ينسبون جرائمهم وإرهابهم الى الاسلام ورسول الاسلام عليه السلام  . 

3 / 5 : كما قلنا فى بحث الاسناد ، فإن ( السُّنّة ) هى الشرع الالهى والمنهاج . وجاءت بمعنى الشرع الالهى حتى فيما يخص النبى محمدا نفسه فى قوله جل وعلا : ( مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)) أى إن فرض الله / أمر الله / سُنة الله هى مترادفات . أما الرسول محمد فهو الأسوة الحسنة فى تطبيق السُّنة ،وهذا ما جاء فى نفس سورة الأحزاب : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)) لم يقل ( سنة حسنة ) بل ( أسوة حسنة ) .

3 / 6 : نلاحظ وصف الابناء بالتبنى بالأدعياء تأكيدا على نفى صلة الأبوة والبنوة بين الدعى ومن تبناه . وليس فى هذا لوم أو تقريع لهذا ( الدعى ) لأن المقصود هو وصف إنتمائه المزعوم لمن ليس أبا له . بل هو الحرص على إنتسابه لأبيه ، فإن لم يكن أبوه معلوما معروفا فهو ( أخ ) فى الدين ومولى حليف، يقول جل وعلا : (( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ )

3 / 7 : مع أنه موضوع خاص بالنبى وكان مبعث تحرج له عليه السلام إلا إنه تشريع عام ، كان النبى فيه مثالا حتى لا يتحرج المؤمنون من تطبيق هذا الشرع . لذا قال جل وعلا من البداية : ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ).

3 / 8 :  والخطاب هنا للمؤمنين فى كل زمان ومكان حتى عصرنا ، ولقد جاءتنا أسئلة كثيرة فى موضوع التبنى وأجبنا عليه بالتاكيد على تحريم التبنى ، مع الاحسان للشخص دون إلحاقه بنسب مزور . ولم يكن معروفا وقت نزول هذا التشريع التأكد من نسبة فلان الى فلان ، وأصبح هذا ميسورا الآن بالحامض الوراثى( الدى إن إيه ) .

3 / 9 : معاوية هو أول من عصى هذا التشريع فى خلافته وهذا لغرض سياسى ، حين ألحق ( زياد بن أبيه ) بأبى سفيان وجعل إسمه الرسمى ( زياد بن أبى سفيان )، بعد موت أبى سفيان .. وقد تعرضنا لهذا بالتفصيل فى سلسلة مقالات ( وعظ السلاطين ) وسننشرها فى كتاب قادم بعون الله جل وعلا.

ونستكمل غدا بعون الله جل وعلا .

 

 ثانيا : ـ  من التشريع الخاص الى التشريع العام :

 التقوى هى المقصد الأعلى من مقاصد التشريع .

1 ــ وقد بدأت السورة بالتقوى أمرا للنبى محمد عليه السلام . وقلنا إن مصطلح (النبى ) هو ما يتعلق بشخص النبى وعلاقاته بمن حوله فى عصره . وهذا خلاف ( الرسول ) الذى يعنى الرسالة وتبليغه عليه السلام للرسالة . لذا تأتى الطاعة لله والرسول حيث أن المُطاع هو الله جل وعلا فى رسالته التى ينطق بها الرسول، وتظل الرسالة او الرسول أو القرآن هى المُطاع بحفظ الله جل وعلا لهذا الكتاب الى قيام الساعة. أما ما يأتى لمحمد من تأنيب فهو بصفة ( النبى ) وما تأنيه من أوامر ونواهى فهى بصفته النبى ، ومنه قوله جل وعلا له فى بداية سورة الأحزاب : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) النبى هنا هو المُخاطب بهذه الأوامر والنواهى ، يليه إلتفات بالحديث عن رب العزة : ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) ثم التفات الى نفس المخاطب وهو النبى ( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) ثم إلتفات بالحديث عن رب العزة جل وعلا : (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) .

2 ـ ومن الخاص الى العام ، فإن التقوى مأمور بها الناس جميعا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) النساء) ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) الحج ) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) لقمان ) ومأمور بها المؤمنون:( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) الزمر) ومأمور بها أهل الكتاب (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ ) (131)  النساء )

الميثاق الالهى :

1 ـ وعن الميثاق الذى أخذه رب العزة على جميع الأنبياء قبل الوجود الحسى قال جل وعلا باسلوب المتكلم ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ )ثم إلتفات الى المخاطب وهو الرسول محمد عليه السلام فى كلمة : ( وَمِنْكَ ) ثم التفات الى الغائب وهم : ( وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) ثم إلتفات الى المتكلم رب العزة جل وعلا فى كلمة : ( وَأَخَذْنَا  ) ثم الى الغائب : ( مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (7) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا فى : (  لِيَسْأَلَ ) ثم الغائب فى : ( الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ) ثم الحديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( وَأَعَدَّ  ) ثم الغائب : ( لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (8)) .

 

2 ـ ومن الخاص الى العام ، فلقد أخذ رب العزة الميثاق على البشر جميعا قبل وجودهم الحسى : (  وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)الاعراف)،ويوم القيامة سيذكرهم بهذا العهد والميثاق :( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) يس ). وقد أخذ جل وعلا العهد والميثاق على أهل الكتاب:( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)  المؤمنين  ) ، واخذ جل وعلا العهد والميثاق على المؤمنين فى عهد النبى محمد عليه السلام، يقول جل وعلا للمؤمنين وقتها يدعوهم الى الايمان القلبى الحقيقى  : (  آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)  الحديد  )

الصلاة على النبى وإيذاء الله جل وعلا ورسوله:

1 ـ قام المحمديون بتحريف معنى الصلاة على النبى فجعلوها عبادة وتقديسا للنبى ، فى نفس الوقت الذى يقومون فيه  بإيذاء النبى وإيذاء الله جل وعلا ورسوله وإيذاء المؤمنين إيمانا حقا بالله جل وعلا ورسوله ، المتمسكين بالكتاب وحده . ومنشور هنا لنا مقال مُفصّل عن ( الصلاة على النبى ). ونعطى لمحة سريعة هنا من سورة الأحزاب.

 فقد كانت لبعض الصحابة عادة سيئة هى إقتحام بيوت النبى بلا إستئذان برغم فرض آداب الاستئذان من قبل فى سورة النور . كانوا يتطفلون يآكلون ويثرثرون ، بل كان بعضهم تبلغ سماجته الى الدخول الى حجرات نساء النبى والحديث معهن وبعضهم كان يطمع فى الزواج منهن بعد النبى . وكان هذا يؤذى النبى ، وبسبب سمو خُلقه عليه السلام كان يستحى من تنبيههم ، فنزلت هذه الآيات فى تشريع خاص له إمتدادته بعد موت النبى عليه السلام .

 ونعرض للآيات الخاصة بهذا الموضوع، ومن خلال اسلوب الالتفات :

2 ـ يقول جل وعلا :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ) ، ما سبق كان خطابا مباشرا من رب العزة الى  (المخاطب ) وهم أولئك الصحابة المتطفلون. بعده إلتفات الى الغائب وهو النبى فى: ( إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ ) ثم حديث عن رب العزة جل وعلا : ( وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ ) ثم إلتفات مركب بالمخاطب وهم المتطفلون الصحابة مع إشارة الى الغائب وهنّ نساء النبى فى : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ) ثم التفات مركب بنفس المخاطب وهم المتطفلون الصحابة مع إشارة للغائب وهو الرسول عليه السلام فى : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) ثم إلتفات مركب بالخطاب المتطفلين الصحاب مع حديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54)، ثم إلتفات مركب الى الغائب وهنّ نساء النبى مع إشارة للمسموح بالدخول عليهن من أرحامهنّ فى : (  لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) ثم إلتفات الى مخاطب آخر وهن نساء النبى فى : ( وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55). ثم حديث عن رب العزة جل وعلا وملائكته مع إشارة للنبى عليه السلام : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ )ثم إلتفات مركب بالمخاطب ( الذين آمنوا ) بإشارة الى النبى محمد عليه السلام :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) ، ثم إلتفات الى الغائب مع إشارة الى العصاة فى كل زمان ومكان الذين يؤذون الله ورسوله فى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)، ثم إلتفات مركب الى النبى ( المخاطب ) مع إشارة الى النساء المؤمنات فى عهده  ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) ثم إلتفات الى الغائب وهم الصحابة المنافقون وأتباعهم الذين كانوا على وشك حمل السلاح ضد الدولة الاسلامية ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) ثم إلتفات مركب بالمتكلم وهو رب العزة مع إشارة بالمخاطب وهو النبى فى كلمة واحدة هى : ( لَنُغْرِيَنَّكَ ) ثم التفات مركب الى الغائب مع إشارة الى المخاطب وهو النبى  فى : ( بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً (60).

3 ـ ونضع بعض الملاحظات :

3 / 1 : موضوع الصلاة على النبى أى ( الصلة بالنبى ) جاء فى سياق التناقض مع إيذاء النبى . فالصحابة المتطفلون فى الآية 53 جعلوا من صلتهم بالنبى إيذاء له وكان يستحى من هذه الصلة المؤذية فنزل قوله جل وعلا لأولئك الذين آمنوا : ( إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ  وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53). ثم ثم كان المقابل للإيذاء وهو الصلاة أو الصلة الحُسنى بالنبى ، فالله جل وعلا وملائكته يصلون على النبى وبالتالى يجب على المؤمنين أن يُصلوا عليه : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)) . الصلة هنا إيمانية هى الايمان بالكتاب الذى أنزله الله جل وعلا بملائكته على النبى محمد ، وهى صلة متجددة وقائمة ومستمرة بنزول الوحى وقتها . وبالتالى فإن صلاة المؤمنين على النبى تعنى التمسك بالقرآن الذى يؤكد هذه الصلة بالنبى، وليس مجرد (التواصل الاجتماعى ) لأن الله جل وعلا يشرح معنى الصلاة على النبى فى نفس الآية فيقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً  ). لم يقل صلوا عليه وسلموا سلاما ، بل ( تسليما ) والتسليم هو الايمان  القلبى . وفى الصلة بين الايمان والتسليم القلبى يقول جل وعلا عن المنافقين مخاطبا النبى عليه السلام : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) النساء ) .

إذن كانت الصلاة على النبى فى حياته والمطلوبة من الذين آمنوا وقتها أن لا تكون إيذاءا له وجرحا لمشاعره وإنتهاكا لحُرمة بيوته ، بل أن تتحدّد بالكتاب وتشريعاته ، أى أن تكون صلة إيمانية تشريعية ، بدليل ما جاء فى الآية 53 وما فيها من تشريعات خاصة بزمانها ووقتها ومكانها تمنع الذين آمنوا من دخول بيوت النبى إلا بالإستئذان :  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ) وتفرض حجابا أو ستارة تمنع الاتصال المباشر بين الذين آمنوا ( المتطفلين ) فى : (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ  ) والتشريع الخاص الآخر الخاص بمكانه وزمانه وأشخاصه هو الاستثناء من التشريع السابق فى قوله جل وعلا  عن نساء النبى ومحارمهن :(  لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55 ).

وجدير بالذكر أن نفس الموضوع تكرر فى تشريع آخر خاص بزمانه ومكانه عن بيوت (النبى ) فى قوله جل وعلا يحرّم على الصحابة رفع أصواتهم فوق صوت النبى وأن يجهروا له بالقول كما يفعلون فى حديثهم مع بعضهم  : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)) وفى قوله جل وعلا لصحابة جاءوا ينادونه صارخين بلا ذوق ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الحجرات  ).

 هذه التشريعات هى معنى ( الصلاة على النبى ) وهى البديل لما كان يفعله بعض الصحابة فى إيذاء النبى . ونعيد التأكيد على أنها (صلة إيمانية وتشريعية ) ، وليست كما يفترى المحمديون فى جعل الصلاة على النبى تقديسا بعبارات تؤلهه ويتعبدون بها لشخص النبى معتقدين أن من يقولها فإن النبى يرد عليه من داخل قبره. فكيف يكون حيا معتقلا فى قبره فى حفرة ضيقة تحت أقدام الناس والى قيام الساعة دون إطلاق سراحه من هذه الزنزانة ؟ ثم كيف يرد على بلايين المحمديين الذين يسلمون عليه من قرون ولا يزالون ؟ خبل عقلى تدمع منه العيون .!!

3 / 2  ـ وبالتالى فإن صلاة المحمديين على النبى بتلك الكيفية هى إيذاء للنبى ، لأنها إتباع لقوم النبى الذين إتخذوا القرآن مهجورا وسيتبرا منهم الرسول يوم القيامة وسيكونون أعداءه : ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31)  )الفرقان ) أى سيُسأل يوم القيامة عن أولئك الذين اتخذوا القرآن مهجورا وصنعوا أحاديث ضالة تزعم شفاعته وحياته فى قبره ، مع إن الله جل وعلا أكّد له فى حياته أنه ميت مثله مثل خصومه وأنه سيتخاصم مع خصومه يوم القيامة : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) يقول بعدها عن أولئك المفترين الظالمين :(  فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (33) الزمر ).

3 / 3 ـ وقلنا أن ( النبى ) هو شخص ( محمد ) وعلاقاته بمن حوله ، بما فيها التشريعات الخاصة به وبأزواجه وما كان يأتيه من لوم وتأنيب . وبالتالى فإن إيذاء المتطفلين له والمقتحمين بيوته بلا إستئذان جاء الخطاب عنها بصفة النبى وبيوت النبى وإستحياء النبى .

والدليل على تعمّق الضلال لدى أئمة المحمديين أنهم إنتهكوا حُرمة بيوت النبى وخصوصياته ـ بعد موته وموت أزواجه وهدم بيوت أزواجه . سار  البخارى وغيره على سُنّة الصحابة المتطفلين فى إنتهاك حُرمة بيوت النبى فصنع أحاديث ضالة عن علاقاته الجنسية بزوجاته وعلاقاته بغيرهن على نحو ما عرضنا له فى كتابنا ( القرآن وكفى مصدرا للتشريع )

3 / 4 : وفيما سبق إنتقال من التشريعات الخاصة بالنبى الى تشريعات عامة يأتى فيها مصطلح ( الرسول ) بعد موت شخص ( محمد النبى ) . ونعطى أمثلة :

3 / 4 / 1 : يقول جل وعلا للمؤمنين فى حياة النبى : ( إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ  وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ) ، ثم يقول عنه بمصطلح الرسول  ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53). أى نكاح من صارت أرملة للنبى بعد موت النبى ، وهو بعد موته تبقى رسالته ، فيأتى التعبير عنه بالرسول . أى الذى جاء لكم بالرسالة ومات لا يصح أن تتزوجوا من مات عنها .

ولأنه الايذاء مستمر للرسول ، أى الرسالة فإن القضية تنطلق من الخاص ( النبى ) الى العام أى ( الرسول ) فيقول جل وعلا  فى حكم عام ينطبق على كل زمان ومكان :  ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) )الإيذاء لرب العزة جل وعلا ورسوله يعنى الكفر برسالته والتقول على الله جل وعلا ورسوله . ولقد تكررت الآيات التى تصف من يفترى على الله كذبا ويكذب بآياته بأنه الأظلم . وهو الأظلم لأنه يؤذى الله جل وعلا ورسوله . والذى يفعله الارهابيون الوهابيون والذى يفعله أئمة الوهابية من فُحش فى فتاويهم يصبح منسوبا الى الاسلام هو أفظع إيذاء للاسلام ولرب العزة ورسوله الكريم .

3 / 4 / 2 :  ويتبع ذلك الإيذاء للمؤمنين المتمسكين بالقرآن وحده حديثا وكتابا ، يقول جل وعلا فى الآية التالية : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)). وأولئك المؤمنون الحقيقيون مأمومورون بتحمل الأذى ، ولقد أكّد رب العزة بكل صيغ التأكيد فى اللسان العربى أن أولئك المؤمنين سيتعرضون للإبتلاء فى أموالهم وأنفسهم بما يُعدُّ ذلك الابتلاء المؤكد دليلا على أنهم على الطريق المستقيم طالما يأتيهم الايتلاء ويسمعون الأذى والاتهامات الباطلة من الضالين من أهل الكتاب والمشركين المحمديين ، ولو صبروا واتقوا فهم الفائزون ، يقول جل وعلا يخاطب المؤمنين الحقيقيين فى كل زمان ومكان : (  لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) آل عمران ).

3 / 4 / 3 : وفى الآية التالية فى موضوعنا فى سورة الأحزاب تشريع جاء بخطاب الى النبى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)) وفيه نوع من الأذى كانت تتعرض له النساء المؤمنات فى المدينة ، فجاء الأمر بالحشمة حتى لا يطمع فيهن الذى فى قلبه مرض . ومع أنه تشريع بالحشمة خاص بمكانه وزمانه إلا إن عوامله الموضوعية تجعله تشريعا سائدا لمن تريد أن تدفع عن نفسها أذى التحرش من الذين فى قلوبهم مرض ، وما أكثرهم فى بلاد المحمديين .!

 

فى التشريعات الخاصة :

هناك تقسيمات للتشريعات الاسلامية القرآنية ، منها الصالح تطبيقه فى كل زمان ومكانه ، ومنها التشريعات الخاصة التى يمكن تطبيقها فى نفس ظروفها ، وقد عرضنا لنماذج لها فى سورة الأحزاب . وهناك تشريعات خاصة لا يمكن تطبيقها لارتباطها بنفس الزمان والمكان والأشخاص ، وهى ما يتعلق بالنبى عليه السلام وأزواجه.  ونعرض لها من خلال اسلوب الالتفات :

النبى وأزواجه :

1 ـ يقول جل وعلا : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (6) ). فى الآية السابقة خطاب عن الغائب فى القسم الأول من الآية : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ) ثم إلتفات الى المخاطب وهم المؤمنون فى وقتها فى : ( إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (6) ).

التشريع الخاص هنا فى كون أزواج النبى أمهات للمؤمنين وقتئذ ، لذا لا يجوز أن ينكحهن ( النكاح هو عقد الزواج ) رجل بعد موت النبى أو بعد طلاقهن . وقد تعزز هذا التشريع الخاص بقول رب العزة فى نفس السورة : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)). هنا تشريع خاص لا يلزمنا فى شىء سوى العبرة .

2 ـ وواضح من سورتى الأحزاب والتحريم أن النبى عليه السلام عانى من أزواجه الكثير ، ففى السورتين تهديد بطلاقهن . ففى سورة التحريم يقول جل وعلا لهن : (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (5)).

3 ــ وفى سورة الأحزاب نتوقف باسلوب الالتفات مع قوله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ ) هنا مخاطب هو النبى أن يقول لأزواجه فى إلتفات الى مخاطب آخر هن نساء النبى فى : ( إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ ) ثم إلتفات الى المتكلم وهو النبى:( أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28)  ثم إلتفات الى المخاطب : نساء النبى فى : ( وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ) ثم إلتفات الى الحديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ ) ثم الى المخاطب : أزواج النبى : ( مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) ثم إلتفات بالحديث عن رب العزة جل وعلا فى :  ( وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) ثم إلتفات لهن بالخطاب : ( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً ) ثم إلتفات مركب بالمتكلم وهو رب العزة جل وعلا  مع إشارة الى الغائب وهن نساء النبى ، فى : ( نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31) ، ثم المخاطب نساء النبى فى : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) ثم إلتفات الى الغائب فى ( فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) ثم عودة اليهن فى الخطاب فى : ( وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) ثم إلتفات بالحديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ ) ثم إلتفات الى المخاطب نساء النبى فى : ( عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ )ثم إلتفات بالحديث عن رب العزة فى قوله جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)) .

3 ـ ونضع هنا بعض ملاحظات على الآيات السابقة :

3 / 1 : التشريع هنا خاص بأزواج النبى ، سواء فى الأجر المضاعف مرتين ، أو العقاب المضاعف مرتين ، وفى قوله جل وعلا لهن (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ ). وجاءت لهن تشريعات خاصة بعدم مغادرة بيوتهن ، وعدم إلانة القول مع الناس ، وقبلها فرض الحجاب أو الستارة فى الحديث مع الغرباء ، وعدم التبرج كالجاهلية الأولى .

3 / 2 : العقوبة المضاعفة لهن فى الوقوع فى الزنا يعنى أن تكون 200 جلدة ، وهذا يؤكد أن عقوبة الرجم للزانى المحصن أُكذوبة كبرى . فالرجم يعنى القتل ، وليس هناك قتل مرتين ، بل جلد مرتين فى هذه الحالة . وكما لا يمكن تضعيف الرجم كذلك لا يمكن تنصيفه ، أى جعل الرجم نصف قتل ، ذلك أن عقوبة المملوكة المتزوجة إذا زنت نصف عقوبة الحرة فى قوله جل وعلا : (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ )(25)النساء)، أى خمسون جلدة.  هذا علاوة على أن وصف العقوبة ب( العذاب ) فى كل الحالات يعنى إستمرار حياة من يتعرض للعقوبة وليس قتله .

3 / 3 : إن تعبير ( اهل البيت ) فى الآية الكريمة : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) مقصود به نساء النبى ، وليست له صلة على الاطلاق بمصطلح (آل البيت ) لدى الشيعة والذى يقصرونه على ذرية السيدة فاطمة الزهراء . العادة أن أهل بيت الرجل مقصود به الأزواج . ( الزوجات ) . هذا فى اللسان القرآنى وفى العُرف الاجتماعى حتى الآن . وفى قصة ابراهيم حين جاءته الملائكة تبشر زوجه العجوز العقيم ( سارة )بأنها ستلد ( اسحاق ) يقول رب العزة جل وعلا : (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) هود  ) لم يكن هناك سوى زوجة واحدة فى بيت ابراهيم ، ولكن خاطبتها الملائكة ب ( أهل البيت ). فالزوجة والزوجات هن اهل البيت .

3 / 4 : وهناك تساؤل يُثار دائما : هل تستحق نساء النبى أن يتنزل بشأنهن هذا الوحى القرآنى ؟ ومن السهل الاجابة بأنه العبرة والعظة . ولكن الأمر يتعدى ذلك ، حين نعرف من التاريخ أن إحدى أزواج النبى قادت أول حرب أهلية فى تاريخ المسلمين بعد موت النبى ، وهى السيدة عائشة . وبالتالى نفهم بعض الإشارات فى الايات الكريم ، ليس فقط فى وعظهن وتهديهن بالطلاق والتسريح ( الانفصال التام ) بسبب مشاكلهن وإرادتهن الدنيا على الآخرة ، بل أيضا لقوله جل وعلا فى خطاب مباشر لهن : (فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً )، أى لسن كلهن محسنات ، اى فيهن من لم تكن موصوفة بالاحسان فى العمل فى حياة النبى نفسه ووقت نزول الوحى ، فكيف بهن بعد موته وإنقطاع الوحى نزولا . ولقد جاءت لهن تشريعات خاصة بأوامر ونواهى : عدم مغادرة بيوتهن ، وعدم إلانة القول مع الناس ، وقبلها فرض الحجاب أو الستارة فى الحديث مع الغرباء ، وعدم التبرج كالجاهلية الأولى . ومستفاد منه أنهن كُنّ يفعلن ذلك .

3 / 5 : ومن الأوامر قوله جل وعلا لهن : (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ )) . ونستفيد من هذا أن الحكمة هى من أوصاف القرآن الكريم الذى كان يُتلى فى بيوتهن ، وهن مأمورات بتذكر ما يتلى من الكتاب الذى هو الحكمة .

زواج النبى بلا صداق ( مهر )

1 ــ الصداق أو الأجر أو بتعبيرنا ( المهر ) فريضة أساس فى موضوع الزواج ، بعدها يمكن التراضى على أى شىء فى عقد الزواج ، يقول جل وعلا يصف الصداق بالفريضة : ( فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (24 ) النساء)، ويقول جل وعلا عن تنازل الزوجة عن بعض صداقها بإختيارها ورضاها  : (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) النساء ).

2 ــ وسبق أن أشرنا الى الوحى التوجيهى بالأوامر والنواهى والذى تاتى عنه إشارات  لا حقة فى القرآن الكريم ، كما فى موضوع التبنى . ويدخل فى هذا الوحى التوجيهى هنا وفى نفس السورة أن الله جل وعلا أحل للنبى أن يتزوج بلا صداق ، من أرادت أن تهب نفسها له ، وفى مقابل ذلك جاء التحريم له بعدها أن يتزوج المزيد أو أن يستبدل زوجة بأخرى سوى المملوكة.  والآيات تشير الى الوحى التوجيهى مع التشريع الجديد .

3 ــ ونستعرض الايات باسلوب الالتفات : يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ  ) المخاطب هو النبى ، بعده إلتفات من المخاطب الى المتكلم وهو رب العزة جل وعلا فى ( إِنَّا أَحْلَلْنَا ) ثم إلتفات مركب من المتكلم الى المخاطب وهو النبى فى إشارة الأزواج فى : (  لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) ثم إلتفات الى الغائب وهم المؤمنون فى : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) ثم إلتفات الى المخاطب وهو النبى فى : ( لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ  ) ثم إلتفات بالحديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) ثم إلتفات بمخاطب هو النبى ( تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ ) الى الغائب وهن الزوجات فى : ( مِنْهُنَّ ) ثم إلتفات الى نفس المخاطب فى : ( وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) ثم إلتفات الى نفس الغائب وهن الزوجات فى : ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَين ) ثم إلتفات مركب الى نفس المخاطب مع إشارة الى الغائب أى الزوجات فى : ( بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ )ثم إلتفات بالحديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ ) ثم إلتفات الى مخطب هو البشر جميعا فى :( مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) ، ثم إلتفات مركب الى المخاطب وهو النبى مع إشارة للغائب وهن النساء فى :  ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) ثم إلتفات بالحديث عن رب العزة جل وعلا فى : ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)).

4 ـ ونضع بعض ملاحظات :

4 / 1 :  كان معروفا وقتها ملك اليمين، وكانت هناك مصادر شتى للإسترقاق ، كلها مُحرمة طبقا لتحريم الاسلام للظلم . ولكن وجود الدولة الاسلامية مُحاطة بمحيط هائل من البشر والأمم تستخدم الرقيق وتجيز الاسترقاق أوجب تشريعا إسلاميا للعلاج ، وهو منع الاسترقاق من المنبع ، وبذلك لا وجود للرقيق إلا فى حالة الشراء من الخارج أو الهبة، ثم التعامل مع هذا الرقيق القادم بالحث على تحريره بالعتق أو المكاتبة والحث على حسن معاملته وجعله شريكا لمالكه فى المال ، والحث على تزويج ملك اليمين ودفع صداقها ، ومنه حق المالك أن يتزوج ما ملكت يمينه وأن يدفع لها الصداق ، وأن تكون لها كل حقوق الزوجة الحرة ما عدا العدل فى التعدد ( النساء 3 ، 25 ). ونقرأ قوله جل وعلا للنبى ( وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ )، ليس هنا سبى بل فىء ، أى هبة مثل المذكور عن السيدة مارية القبطية المصرية التى أهداها المقوقس ( قيرس ) والى مصر الى النبى . معروف بعدها أن الخلفاء ( الفاسقين ) الذين قاموا بالفتوحات إسترقوا حرائر البلاد المفتوحة وأولادهم ، وفق ما كان متبعا فى الجاهلية قبل نزول القرآن الكريم .

4 / 2 :  عن الرُّخصة الخاصة بالنبى دون المؤمنين وهى زواج الهبة قال جل وعلا : ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) أى أن المؤمنين علموا ما سبق فرضه عليهم من وجوب دفع الصداق للزوجة سواء كانت حُرّة أو ملك يمين .

4 / 3 : مقابل ذلك الذى كان من قبل بالوحى التوجيهى والذى جاءت عنه الإشارة هنا فقد نزل التشريع الخاص بالنبى وهو ألا يتزوج مجددا بعدها وحتى وفاته : ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52).

4 / 4 : قوله جل وعلا للنبى : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ  ) مستفاد منه أن النساء وقتها كُنّ سافرات الوجه ، لأن حُسن المرأة فى وجهها ، وبجمال الوجه يكون المقياس الأول الجمال للبشر. وبالتالى فإن التخلف السلفى بالنقاب ليس إلا مزايدة على شرع الرحمن ، وهذه المزايدة محرمة بقوله جل وعلا محذرا المؤمنين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) الحجرات ). وجعل النقاب تشريعا يعنى الاتهام للشرع الالهى بالقصور . وبالتالى فهو جريمة تقع فى نطاق الكفر وتشريع ما أنزل الله جل وعلا به من سلطان ، ينطبق عليه قوله جل وعلا : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) الشورى  )، وهذا النقاب هو إتباع لخطوات الشيطان فى التقوّل على الله جل وعلا وشرعه بجعل هذا النقاب دينا  ، وهذا التقول منهى عنه فى قوله جل وعلا للمؤمنين : ( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) البقرة ) ، وقد قال رب العزة  فى المحرمات إجماليا : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) الاعراف )، فجعل من الكبائر الإشراك بالله جل وعلا والتقول على الله جل وعلا وشرعه بلا علم . والنقاب تقول على رب العزة بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير .

إن التى ترتدى المايوه تكون عاصية ، مجرد عاصية ترتكب ( اللمم )  أى ترتكب ذنبا من السيئات ، ولكن التى ترتدى النقاب على أنه شرع الرحمن فهى مشركة بهذا الاعتقاد . لو إرتدته بدون هذا الاعتقاد فلا شىء عليها .

كتاب ( المكى والمدنى ) فى التنزيل القرآنى
هذا الكتاب
سأل الاستاذ ( احمد فتحى ) عن ( المكّى ) و ( المدنى ) فى القرآن الكريم ، ونعطى هنا لمحة فى هذا الكتاب ( المكى والمدنى فى التنزيل القرآنى ) نرجو أن يتابعها أبناؤنا الباحثون القرآنيون فى كتابات بحثية لاحقة.
more