رقم ( 3 )
الفصل الثانى : مواكبة التنزيل القرآنى للأحداث

الفصل الثانى :  مواكبة التنزيل القرآنى للأحداث

: ( لمحات عن مواكبة التنزيل القرآنى للمتغيرات : فى المصطلحات ـ   التذكير بوحى سابق  . فى القصص المعاصر للنبى عليه السلام . على مستوى السور : سورة النور  ــ  سورة الممتحنة  . مواكبة التنزيل القرآنى فى العلاقات بين المؤمنين والكافرين . مواكبة التنزيل القرآنى لحركة المنافقين  : البداية   ـ الوسط ـ فى أواخر التنزيل المدنى  )

مقالات متعلقة :

نبدأ بعدة ملاحظات :

1 ــ مواكبة التنزيل القرآنى  المكى والمدنى للأحداث دليل هام على ( مُعاصرته ) لتاريخ النبى عليه السلام من مكة الى المدينة وتاريخ هذه الفترة الفريدة فى تاريخ الاسلام والمسلمين ، والتى بعدها بدأ تاريخ المسلمين فى عهد الخلفاء  يتناقض مع عصر النبى عليه السلام ودولته الاسلامية الحقيقية ، ويظل ما أورده القرآن الكريم حُجة على ما كتبه محمد بن إسحاق فى ( السيرة النبوية ) وهو الذى رسم شخصية للنبى تماثل الصورة النمطية للخلفاء الفاسقين ، وتتابعت بعده كتب السيرة والأحاديث تنفخ فى هذه الصورة المغلوطة للنبى عليه السلام ، وتتناقض فيها بين التاليه والتحقير .  

2 ــ يظل المنهج القرآنى للقصص عموما مختلفا عن المنهج التاريخى. الحدث التاريخى له أضلاع ثلاثة : المكان والزمان والانسان ، مثلا الآن فى التفجيرات الارهابية التى حدثت مؤخرا فى باريس  يذكر المؤرخ الزمان : ( 13 نوفمبر 2015 ) ، واماكن التفجيرات ( المسرح ، الاستاد ، المطعم ، وبقية الأماكن )،  والانسان ، أى أبطال الحدث التاريخى ( الارهابيون ، الضحايا ، الرئيس الفرنسى وقادة فرنسا المعنيون بالأمر ) .

القصص القرآنى يركّز على العبرة من الحدث ، ولا يهتم كثيرا بالزمان والمكان وأسماء الأشخاص . أى يقطع الحدث مما يربطه بالزمان والمكان ليتحول الى عبرة وعظة للبشر فى كل زمان ومكان . ونأخذ قصة أصحاب الكهف مثالا ، فليس معروفا الزمان والمكان وأسماء الأشخاص ولا حتى عددهم . ونفس الحال فى القصص القرآنى المُعاصر لتاريخ النبى محمد عليه السلام فى مكة والمدينة ، قليل أن تأتى كلمتا ( مكة والمدينة ) ويأتى التعبير عن أبطال الأحداث بدون أسماء بل بالاسم الموصول والوصف ( الذين كفروا ، الذين آمنوا ، الظالمون ، الفاسقون ،الكافرون ، المشركون ، المنافقون ، مردوا على النفاق ، السابقون ، خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، الذين فى قلوبهم مرض ، المرجفون فى المدينة ..الخ  ) . وحتى فيما يفعلون من أفعال وفيما يقولون من أقوال محددة لا يذكر رب العزة أسماءهم إكتفاءا بالوصف : ( يقُولُونَ لَئِن َّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) المنافقون 8  )( يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ۚ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ۖ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ) التوبة 74  ). (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا )الاحزاب 23 ) . هذا يحوى إعجازا الاهيا ، لأن هذه الأوصاف تنطبق على من يفعلها بعد إنتهاء القرآن الكريم نزولا ، ونرى الآن المحمديين يكررون نفس الأقوال والأفعال للكفار  ، كما أن البشر فيهم من يكرر أقوال وأفعال المؤمنين .

3 ـ الأحداث التاريخية ليست كثيرة فى التنزيل المكى ، لأنه لم تكن هناك أحداث كثيرة فى مكة ، فالحدث الهام والرئيس هو الدعوة الى الاسلام وإضطهاد النبى والمستضعفين معه ، وانتهى هذا بالهجرة الى المدينة ، وفيها تتابعت الأحداث ، بل أصبحت ( يثرب / المدينة ) أول و ( آخر ) دولة اسلامية ، تلك الدولة التى إجتذبت إهتمام الإمبراطوريتين العُظميين وقتها ( الفُرس والروم ). هذا الزخم فى الأحداث قام التنزيل القرآنى المدنى بتأريخه وفق منهج القصص القرآنى المُشار اليه .

ونبدأ بلمحات عن مواكبة التنزيل القرآنى للمتغيرات :

  فى المصطلحات :

1 ـ  فى مواكبة المستجدات جاء التنزيل المدنى بمصطلحات جديدة مثل ( المنافقون ) والقتال  والأسرى والغنائم ، و( أزواج النبى / سورة الأحزاب ، التحريم  ) و ( اليهود ، والنصارى والمجوس ، والأحبار والرهبان والربانيون والقسيسون ) ،  و المسجد الحرام والصد عنه : (7 مرات. البقرة ، المائدة ، الأنفال ، التوبة ، الحج ، الفتح ،  ) الشهر الحرام والأشهر الحرم ( البقرة والمائدة ، التوبة ) . 

2 ــ وهناك ألفاظ جاءت فى التنزيل المكى ، ثم جاءت فى التنزيل المدنى بمعنى جديد ، مثل ( المدينة  : جاءت 14 مرة ، ومنها اربع مرات فقط عن المدينة يثرب ، فى سور : التوبة و الأحزاب و المنافقون ) وتكرر إسم فرعون كثيرا ، ولكن جاء فى موضعين فقط عن  (دأب فرعون ) فى سورتين مدنيتين ( آل عمران ، الأنفال )، بما يعنى أن كفار قريش فى كفرهم السلوكى بالاعتداء والاكراه فى الدين يسيرون على ( داب فرعون ) أو سُنّة فرعون ).  وتكررت كلمة (  يسألونك ) فى مكة والمدينة مع إختلاف فى نوعية الأسئلة فأغلبها فى المدينة عن تفصيلات تشريعية ، أما فى مكة فكانت أسئلة عن الساعة وما يتصل بها  .  .

3 ــ  وسيأتى تفصيل عن هذه السياقات القرآنية ، ولكنها لمحة عن أن التنزيل المدنى أتى بمصطلحات جديدة ، واضاف معانى وتفصيلات لمصطلحات سبق نزولها فى التنزيل المكى .

  التذكير بوحى سابق :

1 ـ فى حرصه عليه السلام على هداية الملأ الكافرين كان يتجاهل المؤمنين المستضعفين . بدأ هذا فى قوله جل وعلا :( عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ )عبس 1 ـ ). ومع هذه التذكرة فلم يتذكر ، فكان يضيق بتجمع المستضعفين المؤمنين حوله ويطيع الملأ الكافر فقال له ربه جل : (  وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) الكهف ). ولم يطع قول الله جل وعلا بل كان يطرد المستضعفين فقال له ربه جل وعلا : (وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52)  الانعام  ). هذا الانذار مترتب على وحى سابق  فى نفس الموضوع .

2 ـ وحرصا منه على التقرب اليهم كان يحضر مجالسهم التى يخوضون فيها فى القرآن الكريم لهوا ولعبا ، وتكرر له النهى ، قال له جل وعلا : (  فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) المعارج )( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)  الزخرف ) ( ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)  الأنعام ). ومع التكرار لم يُطع ، فقال له ربه جل وعلا : (  وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) الانعام ) هنا تذكير بما سبق (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) . ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) الانعام ). بعد هذه اللهجة الحاسمة أطاع النبى بينما ظل بعض المؤمنين فى المدينة يحضرون مجالس الخوض هذه فقال جل وعلا لهم محذرا ومهددا  ومذكرا بما سبق من نهى :( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)  النساء  ).

3 ـ ونزلت سورة المسد تتوعد أبا لهب وزوجه بنار ذات لهب . وبهذا تبين للنبى أنه من أصحاب الجحيم ، ومع ذلك كان يستغفر له . ونزل النهى عن موالاة الكافرين المعتدين والأمر بالتبرؤ منهم ، وهذا فى أوائل إستقرار المهاجرين فى المدينة ومعاناتهم من الغُربة. قال جل وعلا لهم : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . ) (  لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ۚ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) الممتحنة 4 ، 6 ) . ومع ذلك ظل النبى يستغفر لأبى لهب ، فقال جل وعلا يذكّره بموقف ابراهيم  السابق بالتبرؤ من أبيه حين كفّ عن الاستغفار للأبيه حين تبين له أنه عدو لرب العزة جل وعلا: ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ )التوبة 113 ـ ) .

4 ـ ونزل معظم القصص القرآنى فى مكة ليستفيد منه خاتم النبيين فى جهاده ، يقول جل وعلا فى خطاب مباشر له عليه السلام : (كُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ) هود 120  ). وفى أمر النبى خاتم النبيين بالتاسى بصبر أولى العزم من الرسل السابقين طبقا لما جاء عنهم فى القصص القرآنى يقول جل وعلا :( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ) الأحقاف 35  ). وكان عليه السلام يحزن لأن كُفار قريش كانوا يطلبون منه آية حسية ، ولا سبيل لذلك إكتفاءا بالقرآن الكريم آية وإعجازا عقليا للبشر الى قيام الساعة . ردا على حُزن النبى خاطبه ربه جل وعلا إنهم فى حقيقة الأمر لا يكذبونه ولكنهم يجحدون الحق القرآنى ، وأن الرسل السابقين صبروا على الأذى حتى آتاهم نصر الله ، ولقد سبق إنزال أنبائهم ، يقول جل وعلا :  ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ  وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِالْمُرْسَلِينَ  الانعام 33 : 34 ).

5 ـ  وفى التأسى بصبر المؤمنين السابقين فى القصص القرآنى ، يخاطب جل وعلا المؤمنين فيقول : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) البقرة 214   )، وفى التذكير بوحى سابق جاء ايضا فى موضوع التقوى :( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ  ) النساء 131 ).

6 ـ المنافقون بالذات كانوا يرتعبون من نزول القرآن الكريم يفضحهم ، ولذا تكررت آيات القرآن تُذكّر بمواقفهم وتتابع ردود أفعالهم بل وأحيانا ملامح وجوههم وحركاتهم  . ونقرأ قوله جل وعلا : ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ) التوبة 64 )( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ) التوبة 86 ) ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) ( التوبة 124 )  ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا ۚ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ) ( التوبة 127 )  (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ) ( محمد 20 ). 

7 ـ وكل الايات السابقة تستلزم تدبرا ، ننتظره من أبنائنا الباحثين القُرآنيين .

مواكبة التنزيل القرآنى فى القصص المعاصر للنبى عليه السلام على مستوى السور 

  بالتدبر القرآنى يتضح أن أوائل سور التنزيل المكى هو قصار السور ( العلق ) ( الضحى ) ( القلم ) ( المدثر ) ( المزمل ) ( القيامة ) . وأن أوائل مانزل فى المدينة سور ( النور ) ( الممتحنة ) ( الحج ) والأنفال ، ثم البقرة وآل عمران ، ثم الأحزاب ، وأن آخر التنزيل هى ( المائدة ) ( التوبة ) ( النصر ) . كما يتضح ــ من وجهة نظرنا ــ  خطأ التراثيين فى جعل هذه السور مدنية ، وهى (الرعد ، الانسان ، الرحمن ، الزلزلة ) . ويتضح بالتدبر القرآنى أن هناك آيات مدنية فى بعض السور المكية ، أى نزلت فى المدينة ثم فى الجمع الأخير للقرآن الكريم بيد الرسول عليه السلام وتوجيه من رب العزة تم إلحاق هذه الآيات بسور مكية ، ومثلا : هناك  آيات مدنية فى سورة العنكبوت : 1 : 11 ، ، 46 : 49 ، 56 : 59  ، وآيات مدنية فى سورة الانعام : 91 : 92 ، 118 : 121 ، 136 : 147 ، وآية مدنية فى سورة الزمر : 10 .

ونعرض لسورتى النور والممتحنة تأكيدا على كونهما من أوائل السور المدنية :

سورة النور

1 ـ فى سورة النور نرى ملامح تشكل مجتمع جديد فى المدينة قوامه المهاجرون والأنصار ، وما نجم عن هذا التشكل من مشاكل ، نزل بشأنها تشريعات . إستقرار المهاجرين والمهاجرات وحاجتهم الى عون أوجد موقفين متعارضين : أنصار غاية فى النبل والعطاء كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان فيهم خصاصة ، ومنافقون كارهون للوضع الجديد ومن مزاحمة المهاجرين لهم فى بلدهم . المنافقون إستغلوا عطف المؤمنين الأنصار ( رجالا ونساءا ) على المهاجرين والمهاجرات فى قذف المحصنات العفيفات من المهاجرات والأنصاريات ، وإشاعات بالزنا عن رغبة فى أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا. نزل التشريع فى سورة (النور) بعقوبات الزنا وقذف المحصنات ، والملاعنة ، وبالتحذير من ( حديث الإفك ) ، ثم وضع قواعد للإستئذان وتشريعات أخلاقية فى غض البصر و فى زى المرأة وزينتها ، وفى تشجيع زواج ( الأيامى ) أى الارامل والمطلقات ، والفقراء والفقيرات ، والمآدب والتزاور : ( النور : 1 : 33 ، 58 : 61 ) .

2 ـ ونرى فى نفس السورة ( النور ) أول إشارة للمنافقين دون إطلاق لفب المنافقين عليهم ، بل مجرد وصفهم بالعصيان وعدم الاحتكام الى السُّلطة الجديدة إلا إذا كان معهم الحق  ويريدون العدل ، أما إذا كانوا ظالمين فيرفضون الاحتكام للقضاء الاسلامى الذى يقوده النبى محمد عليه السلام ، هذا مع انهم يقسمون بالله جل وعلا جهد أيمانهم بالطاعة حتى لو قيل لهم أُخرجوا من المدينة ليخرجُنّ. ( االنور 47 : 54 ). وفيما بعد أصبح من أهم ملامح النفاق أنهم إتخذوا ( أيمانهم ) جُنّة ووقاية ، كما جاء فى سورتى ( المنافقون ) و( التوبة ).

3 ـ ونرى في سورة ( النور ) ها وعدا للمؤمنين الذين كانوا وقتها فى مرحلة خوف وضعف أن التمكين آت لهم إذا صدقوا فى إيمانهم ( النور 55 ) .

4 ـ وكانت الشورى أو الديمقراطية المباشرة مأمورا بها فى مكة فى توصيف للمجتمع المسلم في سورة الشورى ، حيث تم فرض الشورى فريضة تالية للصلاة (  36 : 40 ). تفعيل الشورى أو الديمقراطية المباشرة بدأ مع إستقرار المهاجرين فى المدينة وبدأية تأسيس الدولة الاسلامية . وهذا بآلية تجمع المواطنين كلهم فيما يشبه الجمعية العمومية ، أو بالتعبير القرآنى ( امر جامع ) . وحدث أن كان يتخلف بعضهم دون إذن أو يتسلل من الاجتماع فنزل الأمر بالحضور والنهى عن التخلف والتسلل والتحذير فى أواخر سورة النور (   62 : 64 ).

5 ـ ونلاحظ فى سورة ( النور ) إستمرار للخطاب الدّعوى الى ( لا إله إلا الله ) والحديث الى آلاء الله جل وعلا ونوره ، وإحباط أعمال الكافرين ، وإقامة بيوت يرتفع فيها إسم الله جل وعلا ،  يتخلل الموضوعات السابقة ، ويأتى فاصل بين الموضوعات بآيتين بنفس المعنى :  ( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) ( السور 34 )، ( لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) النور 46 )

 سورة الممتحنة :

1 ـ  واضح أنها نزلت تأنيبا للمهاجرين فى أول إستقرارهم فى المدينة ، كانوا ـ مع يعانون من الحنين الى مكة ، الى درجة نسيانهم أن قريش أخرجتهم من ديارهم وأموالهم ظلما وعدوانا . لذا فإن الله جل وعلا وجّه لهم خطابا مباشرا للمؤمنين المهاجرين ينهى عن مناصرة وموالاة أقاربهم الكافرين ، واصفا أولئك الكافرين بأنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، وإذن لا يصح أن يعاملوهم بالمودة، فأولئك الكافرون جمعوا بين الكفر العقيدى ـ وهو الكفر بالقرآن الكريم ـ والكفر السلوكى وهو الاعتداء على المؤمنين والنبى محمد واخراجهم من بيوتهم بسبب أنهم آمنوا بالله تعالى وحده. وعليه فاذا كان المؤمنون قد فارقوا أوطانهم جهادا فى سبيل الله وابتغاء مرضاة الله تعالى فلا يصح أن يحتفظوا سرا بعلاقات المودة مع أولئك الظالمين. والله تعالى يعلم السرائر ويعلم الظواهر، ومن يوالى أؤلئك الظالمين فقد أصبح من الضالين عن الطريق المستقيم.وأنّ واقع الأمرأن أولئك الظالمين الكافرين سيظهرون أكثر على حقيقتهم العدوانية اذا اشتبكوا مع المؤمنين فى قتال، ولن يقتصروا على المواجهة الحربية بل ستنطلق أيديهم وألسنتهم بالسوء للمؤمنين. هذا فى الدنيا.أما فى الآخرة فإن قرابتهم لأولئك المشركين الكافرين  لن تنفع المؤمنين يوم القيامة، وأن عليهم الإقتداء والتأسى بالنبى ابراهيم والمؤمنين معه حين تبرءوا من أهلهم ومن الآلهة التى يعبدها قومهم . ثم يبشر الله تعالى المؤمنين مقدما بأنه عسى أن يأتى اليوم الذى تنتهى فيه العداوة ويحل فيه الوئام .

2 ــ وتأتى  فى سورة الممتحنة مبكرا قواعد الموالاة مع القوم المخالفين فى الدين ، فلا بد من التعامل بالبر والمودة والعدل والقسط مع المخالفين للمؤمنين فى العقيدة والدين طالما لم يعتدوا على المؤمنين ولم يقاتلوهم بسبب اختيارهم الدينى ولم يقوموا باخراجهم من بيوتهم وأوطانهم. هذا لأن الله تعالى يحب المقسطين القائمين على تحقيق العدل . أما هؤلاء الكافرون المعتدون فيجب عدم موالاتهم .. ويلاحظ هنا أن الله تعالى أتى بوصف الاسلام الظاهرى بمعنى عدم الاعتداء، فكل من لم يقم بالاعتداء عليك فهو مؤمن مسلم ، وعليك أن تعامله بالبر والقسط والعدل. يسرى ذلك على الأفراد كما يسرى على الدول.أما الذين اعتدوا على المؤمنين بالقتال بسبب خيارهم الدينى ، وأخرجوهم من ديارهم أو ساعدوا الظالمين فى طرد المؤمنين من ديارهم ـ فانهم الكافرون الذين ينهى الله تعالى عن التحالف معهم وينهى عن موالاتهم. ومن يتحالف معهم وينصرهم ويؤيدهم فى عدوانهم الظالم على المؤمنين فهو شريك لهم فى الظلم.
3 ــ بعدها انتقلت الآيات الكريمة لتضع تشريعات اجتماعية فى مشاكل الزواج والطلاق التى حدثت بعد الهجرة من مكة الى المدينة وما حدث من انقطاع تام بين أهل المدينة وأهل مكة، وترتب على هذه القطيعة تفكك بعض الأسر بين زوج كافر استمر فى مكة وزوجة مؤمنة تركت زوجها لتلحق بجماعة المؤمنين ، أو العكس ؛ زوجة تمسكت بدين أهلها المتوارث وظلت فى مكة رافضة أن تتبع زوجها الذى أسلم وهاجر. ثم هناك مشكلة أخرى ، فقد تأتى احداهن تزعم الايمان وهى فى حقيقة الأمر أتت لتتجسس على المؤمنين وتساعد المشركين فى اعتداء يعدون له ، حيث عزموا على ملاحقة المؤمنين الفارين بالقتال فى موطنهم الجديد الذى لجأوا اليه. وبالتالى لا بد أن يرسلوا جواسيس للتمهيد للعدوان. والنساء أفضل من يقوم بهذه المهمة. ومن السهل أن تأتى نساء كثيرات كل منهن تزعم الايمان ، ولا يعلم حقيقة ما فى القلب الا الله تعالى. لذا نزلت الآيات مقدما تطرح الموضوع وتضع له التشريع المناسب فى الآيات 10 ، 11 ، 12.هذه الآيات تخاطب المؤمنين أنه إذا جاءتهم إمرأة مهاجرة فعليهم امتحانها ،أى سؤالها عن سبب مجيئها واختبار حالها حتى لا تكون عينا للعدو، وحتى يتأكدوا حسب الظاهر من حالها ، أما حقيقة ما فى القلب فمرجعه الى الله. وإذا عرفوا صدقها فلا يجوز ارجاعها الى الكفار الذين هربت منهم. إذ لا يحل لها أن تتزوج من كافر ولا يصح لكافر أن يتزوجها. وبالهجرة تحدد من اختار الايمان ومن اختار الكفر. واذا كانت المرأة المهاجرة زوجة تركت زوجها الكافر ولجأت للمؤمنين فعلى المؤمنين دفع المهر الذى دفعه من قبل الزوج الكافر تعويضا له ، ويمكن لها أن تتزوج مؤمنا فى موطنها الجديد ، وعليه أن يدفع لها مهرها. وبالعكس ، إذا اختارت الزوجة الكفر والبقاء فى مكة رافضة أن تصحب زوجها الى المدينة فعلى زوجها المؤمن فى المدينة أن يطلقها تماما ويفارقها حتى تتزوج من كافر مثلها مقيم فى نفس الموطن، وعلي الكفاردفع المهر الذى دفعه المؤمن من قبل.  وبعد استجواب المرأة المهاجرة واختبارها والتأكد من صدقها عليها أن تقوم بمبايعة النبى على الايمان والتمسك بالاخلاق الحميدة والطاعة فى المعروف.  وتختتم السورة بآية اخيرة تؤكد على المؤمنين ألا يناصروا أو يتحالفوا أو يوالوا قوما قد غضب الله عليهم ، وقد كفروا باليوم الآخر ، ويئسوا منه بالضبط كما سييأس الكفار يوم القيامة من الأولياء المقبورين الذين يطلبون فى الدنيا شفاعتهم ثم يفاجأون يوم القيامة بأنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا. 
4 ـ تدبر سورة الممتحنة يؤكد أنها من أوائل ما نزل فى المدينة حيث معاناة المهاجرين من الغربة ، وإستمرار الهجرة المتقطعة للافراد ومنهم أزواج وزوجات ونزول التشريع المناسب لحل هذا الانفصال بين الأزواج بين مكة والمدينة ، والحذر من مجىء جواسيس من النساء ، وبيعة النساء فى الدخول للدولة الجديدة ، وقواعد الموالاة التى لم تتضمن إشارة للقتال ، لأن السورة  نزلت قبل نزول تشريع ( الإذن بالقتال ) الذى جاء لاحقا فى سورة ( الحج ) ، ثم توالت بعدها تشريعات القتال التفصيلية مرتبطة بعلاقات معقدة بحروب عسكرية وحروب فكرية مع المشركين المعتدين واليهود والمنافقين ، وجاء هذا فى سور ( الأنفال والبقرة والنساء وآل عمران والأحزاب والصّف والحشر والمجادلة والحديد والمنافقون والجمعة  والفتح والحجرات ومحمد  والبينة)  ، الى  سور ( المائدة والتوبة وسورة النصر )، وهن من أواخر ما نزل من القرآن الكريم .
 

 مواكبة التنزيل القرآنى فى العلاقات بين المؤمنين والكافرين   

 1 ـ نبدأ بتحديد ماهية ( الذين آمنوا ) هنا . والواضح أن التنزيل القرآنى يتعامل معهم بما هو كائن  وموجود وعلى أساس الاصلاح .

وقد كررنا كثيرا ـ الى حدّ الملل ـ أن الاسلام ظاهريا وسلوكيا هو السلام ، وأن المسلم هو المسالم ، وأن لنا المرجعية فى الحكم على هذا السلوك الظاهرى ، وأن التشريعات الاسلامية تعطى السُّلطة الاسلامية التعامل على هذا السلوك الظاهرى على أساس العدل والسلام وحرية الدين . وأن الاسلام القلبى المقبول عند الله جل وعلا هو الاستسلام والانقياد طاعة له ، وهذا مرجعه لرب العزة ليحكم فيه وحده يوم القيامة . وأن الايمان القلبى هو الايمان بالله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله دون تفريق بين الرسل ، ومرجع هذا الايمان لرب العزة يحكم فيه يوم القيامة .

أما الايمان السلوكى الذى للبشر الحكم عليه فهو الايمان من ( الأمن ) ، أى من يؤثر الأمن والأمان ويكون مأمونا يأمن الناس اليه ويقون به لأنه لا يعتدى على أحد . وبالتالى فالايمان والاسلام يتفقان فى المعنى السلوكى والقلبى . وبالتالى فإن الشرك والكفر هما معا النقيض ، أى سلوكيا ( الاعتداء والإكراه فى الدين ) وقلبيا ( تقديس المخلوقات من بشر وحجر ) . ولنا الحكم على الكفر والشرك من حيث السلوك القولى والفعلى  ، لذا يترادف وصف المشركين الكافرين بالظلم والفسق والاعتداء والاجرام . اما من حيث الاعتقاد القلبى فمرجعه لرب العزة يوم الدين . إنطلاقا من هذا فإن الخطاب القرآنى للمؤمنين كان على حسب واقعهم السلوكى لاصلاحهم . 

2 ـ وفى التنزيل المكى كان واضحا أن النبى محمدا عليه السلام فى تقربه للملأ المستكبر من قريش كان يتحرج من إلتفاف المؤمنين الفقراء المستضعفين حوله ، ووصل الأمر الى أنه كان يطردهم فعوتب فى ذلك ( عبس 1 ـ  ، الكهف 28 ،  الانعام 52  ).  وبالتالى نفهم أن معظم المؤمنين فى مكة كانوا مؤمنين ظاهريا وسلوكيا ممّن كان وضعهم الاجتماعى والإقتصادى يجعلهم يدخلون فى الاسلام الداعى للحرية والعدل والرحمة خلافا للدين القُرشى العملى القائم على الظلم والسيطرة ، كانوا مستضعفين فى الأرض يريدون التحرر من تلك القرية الظالم أهلها ، لذا جاء فى بعض مسوغات التشريع للقتال الدفاعى فى الاسلام إنقاذ هؤلاء الضحايا المستضعفين فى الأرض ( وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) النساء 75  ). هذا هو المفهوم فى تحديد المؤمنين فى التنزيل المكى ( سلوكيا )

3 ـ هذا التحديد للمؤمنين ( حسب السلوك الظاهرى من الأمن وألمان وليس الايمان القلبى بدين الاسلام ) هو الذى نفهم من خلاله نوعى الخطاب الالهى لهم فى التنزيل المدنى ، فى إصلاحهم ، وفى علاقتهم بسادتهم السابقين من الملأ القرشى .

4 ـ الخطاب الاصلاحى لهم فى التنزيل المدنى كان يدعوهم الى الايمان القلبى إضافة الى إيمانهم السلوكى المُسالم، يقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا )النساء 136  ): قوله جل وعلا لهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) أى آمنوا سلوكيا بإيثار الأمن والأمان والسلام ،( آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ  ) أى عليهم أن يؤمنوا قلبيا بالله جل وعلا ورسوله وكتبه . أى كان معهم الايمان السلوكى دون الايمان بدين الاسلام فى ( لا إله إلا الله ) ، أى كانوا مشركين فى عقيدتهم بما إستلزم إصلاحهم قلبيا ليجمعوا الايمان القلبى مع إيمانهم السلوكى ، وكما يفوزون بالأمن فى الدنيا فى الدولة الاسلامية التى تضمن الحرية المطلقة فى العقيدة يفوزون أيضا بالجنة فى الآخرة أو بالأمن والسلام فى الآخرة ،وحيث يقال لهم على أعتاب الجنة (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ) الحجر 46  ).

ونفس المعنى يأمر رب العزة الذين آمنوا ( سلوكيا ) بالتقوى القلبية ليستحقوا الرحمة والغفران يوم الدين ، يقول جل وعلا لهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الحديد 28 )، ونفس المعنى فى أمرهم بالتوبة القلبية الصادقة ليكفر رب العزة جل وعلا عنهم سيئاتهم ويدخلهم مع النبى عليه السلام فى الجنة ، يقول جل وعلا :  (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) التحريم 8  ).

ولم ينفع هذا الخطاب الاصلاحى معهم فظلوا فى المدينة يعكفون على أوثانهم متمتعين بالحرية المُطلقة فى الدين لكل إنسان مُسالم ( مسلم سلوكيا ) مأمون الجانب ( مُؤمن سلوكيا ) . فى التنزيل المدنى أمرهم رب العزة بإجتناب الأوثان وإجتناب قول الزور عن خرافاتها ، قال لهم جل وعلا فى خطاب مباشر : ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِوَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) الحج 30  ). لم يجتنبوا الأوثان ولم يجتنبوا قول الزور ، فكان من أواخر ما نزل فى المدينة قوله جل وعلا للذين ( آمنوا ) سلوكيا فقط : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.) هنا أمر  للذين ( آمنوا ) بإجتناب الخمر واليسر والأنصاب أى القبور المقدسة والأزلام أى مزاعم الزور فى علم الغيب للالهة المصنوعة ، لعلهم يفلحون فى الآخرة ، وفى الآية التالية يقول جل وعلا لهم بنفس الخطاب المباشر : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ. ) ، أى أن الشيطان هو الصانع لهذه الأباطيل ليوقع بينهم العداوة والبغضاء وليصدهم عن ذكر الله جل وعن الصلاة، أى كانوا يشربون الخمر ويعكفون على الأنصاب ولا يذكرون الله جل وعلا ولا يؤدون الصلاة. ويأتى الخطاب الالهى لهم بتساؤل  شديد الدلالة : (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .!!. ثم يأتيهم فى الآية التالية تحذير إن لم يطيعوا الله جل وعلا ورسوله ، وإن لم ينتهوا فليس على الرسول سوى البلاغ وليتحملوا هم عاقبة أمرهم يوم القيامة ، يقول لهم جل وعلا : ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ) المائدة ).

5 ــ وفى علاقتهم بسادتهم السابقين من الملأ القرشى وعلاقتهم بالنبى عليه السلام تنوع الخطاب الاصلاحى للمؤمنين المهاجرين على النحو التالى :

5 / 1 : ـ  غلب عليهم حنينهم الى مكة موطنهم السابق ، وموالاتهم لسادتهم الملأ القرشى وأهاليهم الكافرين المعتدين الظالمين برغم ما نالهم من إضطهاد . وهذا كان مألوفا فى الثقافة العربية التى كان يسودها الانتماء للقبيلة والأهل والعشيرة . وفى الموازنة بين الانتماء الى الاسلام وما يعنيه من قيم عليا وتقوى لرب العزة جل وعلا والانتماء للقبيلة تغلب الانتماء للقبيلة لدى الذين ( أمنوا ) من المهاجرين . وهذا واضح فى التنزيل المدنى . وقد سبق التعرض لسورة الممتحنة فى التأنيب الالهى للذين ( أمنوا ) الذين كانوا يُسرُّن المودة للكافرين المعتدين الذين أخرجوا النبى والمؤمنين . ولقد إستمر هذا التأنيب لهم فى التنزيل المدنى فى قوله جل وعلا لهم تهديدا لهم : (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة 22  )، أى فهم آمنوا سلوكيا ولكنهم فى موادتهم للكافرين من أقاربهم لا يمكن أن يكونوا مؤمنين قلبيا برب العزة واليوم الآخر . والموالاة لا تقتصر على المودة القلبية بل الانحياز قلبيا الى عدو فى حالة الحرب .

 ولقد إستمر هذا التأنيب للذين آمنوا من المهاجرين  ــ بسبب موالاتهم الكفار المعتدين ــ  الى سورة التوبة وهى من أواخر ما نزل من القرآن الكريم . يقول جل وعلا لهم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ  ) التوبة 23 )، وفى الآية التالية نعرف أسبابا جديدة غير التعصٌّب القبلى لقريش ، وهو عوامل إقتصادية ودنيوية من تجارة مع الكفار ومساكن للذين آمنوا فى مكة ، وبسببها توارى حُبُّهم لله جل وعلا ورسوله والجهاد فى سبيله .يقول جل وعلا  يحذرهم : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) التوبة 24   ).

5 / 2 : إنعكس هذا فى تكاسلهم عن القتال الدفاعى لأنه قتال ضد ( الأهل والعشيرة ) الذين يُسرٌّون اليهم بالمودة ويوالونهم . كانت قريش قد دأبت على الهجوم على المدينة وقت أن كان القتال الدفاعى ممنوعا والأمر بكفّ اليد سائدا ، فلما نزل الإذن بالقتال الدفاعى للمؤمنين الذين ( يُقاتلون ) اى يقع عليهم القتال ( الحج 38 : 41 ) ضجّ بعض الذين آمنوا إحتجاجا يطلبون التأجيل ، وردّ عليهم رب العزة فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) النساء 77  ). ومع هذا ظلوا يكرهون فرض القتال الدفاعى ع أنه خير لهم ، لأنه بدونه سيستأصلهم الكافرون المعتدون ، يقول جل وعلا لهم يعظهم فى رفق : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة 216 ).

وكانت موقعة ( بدر ) إختبارا حقيقيا لهم ، أسماها رب العزة ( يوم الفرقان يوم التقى الجمعان )( الأنفال 41 ) . الاختبار ليس فقط فى أن المؤمنين خرجوا ليأخذوا حقهم من القافلة ، حيث صادر الملأ القرشى أموال المهاجرين وبيوتهم وإسهاماتهم فى القوافل التجارية ، وليس فقط فى أنه تحتم عليهم أن يواجهوا جيشا يفوق عددهم ، ولكن السبب الأكبر أنه يواجهون قريش بكل ما تعنيه قريش من سطوة . لذا حين تحتمت عليه المواجهة الحربية كرهوها وأخذوا يجادلون النبى فى الحق الذى تبين ،كأنما يُساقون الى الموت وهم ينظرون ، وإستلزم الأمر تثبيتهم بالملائكة لينتصروا ، ولترتفع ( روحهم المعنوية ) بتعبير عصرنا ( الأنفال 5 : 12 ) .

ولازمهم هذا التثاقل عن القتال الدفاعى الى آواخر التنزيل المدنى فى سورة التوبة ، يقول جل وعلا للذين ( آمنوا ) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ) التوبة 38  ) لاحظ هنا ( الثقل ) فى التعبير القرآنى المُعجز فى تعبيره ودلالته : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ  )، ولاحظ التأنيب القاسى : (أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ   )، ثم يقول جل وعلا لهم مهددا بعذاب أليم وأن يستبدلهم بقوم آخرين : (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) التوبة 39 ) .

5 / 3 : أى وصل التهديد الى ( إستبدالهم بقوم آخرين ) ، وهذا يعنى إهلاكهم. وقد تكرر هذا التهديد للذين ( آمنوا ) فى سورة ( المائدة ) فى موضوع موالاة أولئك الذين آمنوا ــ  سلوكيا وليس قلبيا  ــ للكفار، حين وصل الأمر الى إحتمال ردتهم عن الاسلام سلوكيا ، فقال جل وعلا يهددهم  :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) المائدة 54  ) ولأنه فى موضوع الموالاة للكافرين المعتدين قال جل وعلا ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ  وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) المائدة : 55 :56   ) . ونفهم هنا أن الاختيار هو بين حزب الله جل وعلا أوحزب الشيطان كما جاء من قبل فى سورة ( المجادلة 22 ) وأن هذا التهديد الذى جاء لاحقا فى سورة المائدة كان تحذيرا من تحول الموالاة القلبية الى موالاة بالسلاح للكافرين المعتدين ، أى أن يفقد ( الذين آمنوا ) بمعنى المُسالمة والأمن صفة المسالمة والأمن فيصبحوا كافرين بالسلوك العدوانى .

5 / 4 : ومن الطبيعى أن يبخل أولئك ( الذين آمنوا ) عن الانفاق الحربى فى سبيل الله جل وعلا . وهذا البُخل عن الانفاق فى سبيل يعنى التهلكة ، لذا قال جل وعلا بعد تشريع القتال الدفاعى يأمر بالاتفاق فى سبيل الله : (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ  ) البقرة 195 ) ، وتالت الأوامر بالانفاق فى سبيل الله ( المنافقون 9 : 11 ) ( النساء 37 )، ثم نزل التحذير بأن يستبدل الله جل وعلا قوما غيرهم لاستمرار بخلهم ، يقول جل وعلا محذرا : (  هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)  محمد 38  ).

6 ـ وهذا التهديد بالاهلاك ( الجزئى ) حدث فى عصر الخلفاء الراشدين ، بالفتوحات والفتنة الكبرى. وهنا نضع بعض الملاحظات :

6 / 1 : ( الذين آمنوا ) من المهاجرين لم يكونوا كلهم من المستضعفين ، كان منهم بعض المنتمين للملأ ، ومنهم من ( مرد على النفاق ) وحافظ على موقع الصدارة ، وعلى العكس كان منهم السابقون إيمانا وعملا ( التوبة 100 : 101 ) وهذا ضمن التقسيم الأخير لأهل المدينة قبيل موت النبى عليه السلام .

6 / 2 : ولكن الأغلبية من قوم النبى ( قريش ) كذبوا بالحق القرآنى ، يقول جل وعلا فى التنزيل المكى يحذرهم مقدما بالعذاب الدنيوى وبتقسيمهم الى شيع متقاتلة يذيق بعضهم باس بعض : (قل هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ )الأنعام 65 )، والسبب هو تكذيبهم للقرآن الكريم ، يقول جل وعلا فى الآية التالية : ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ۚ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) الانعام  66) ، ويؤكد أن هذا سيحدث وسوف يعلمونه فى أوانه : (  لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) الانعام 67 ) . وفعلا فإن الملأ القرشى هو الذى قام بالفتوحات منتهكا شريعة الاسلام ومنتهكا الأشهر الحرم ومُكذّبا للقرآن الكريم ، ثم بعدها وقعوا فى الفتنة الكبرى بسبب التنازع على غنائم وثروات الأمم المفتوحة .

6 / 3 : ومن العجيب أن هذا هو الذى حذّر منه رب العزة مسبقا فى سورة ( الأنفال ) والأنفال تعنى ( الغنائم ) . القافلة التى سار النبى واصحابه للإستيلاء عليها كانت من أموالهم ، وهم أصحاب حق فيها . وتنازع المؤمنون حول الغنائم ، فليس كل من حارب كانت له حقوق ضائعة لدى قريش ، ولذا بدأت سورة الأنفال بالتأكيد على أن الانفال لله جل وعلا ورسوله والأمر باصلاح الخلاف بينهم وتقوى الله ، ثم جاء توزيع تلك الغنائم والأكل منها حلالا طيبا ( الأنفال 1 ـ ، 41 ، 69 ). ومعنى وصف رب العزة الأكل من هذه الغنائم (حلالا طيبا) أنها كانت حقا للمؤمنين الذين أخرجتهم قريش من ديارهم وأموالهم (الحج 40 ) ، وبدليل تحريم أخذ الفداء المالى من أسرى بدر ( الأنفال 67 : 71 ) . الغنائم الحلال هنا مرتبطة بوضع خاص ، لايجوز تعيميمه إلا فيما يشابهه فقط  فى قتال دفاعى ضد عدو معتد قام بالسلب والنهب .

فى نفس السورة نتعرف على صفات سلبية للذين آمنوا ، فقد كانوا لا يستجيبون طاعة لله جل وعلا ورسوله وكانوا يخونون الله جل وعلا ورسوله فحذرهم رب العزة من فتنة لا تصيب الذين ظلموا منهم فقط ، وأعلمهم أن أموالهم وأولادهم فتنة وأن الله جل وعلا عنده الأجر العظيم، يقول جل وعلا فى سورة ( الأنفال 24 : 29): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ واعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ  يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ).

الذين آمنوا ظاهريا وكذبوا بالحق القرآنى ما لبث أن تناسوا هذا  فقرنوا الكفر القلبى بالكفر السلوكى  ووقعوا فى جريمة الفتوحات ، فحاقت بهم الفتنة التى قال عنها رب العزة فى سورة الأنفال:(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ). والتفصيل فى كتابنا عن ( المسكوت عنه فى تاريخ الخلفاء الراشدين ).

 

 

 مواكبة التنزيل القرآنى لحركة المنافقين  : البداية 

مقدمة :

1 ـ فى التنزيل المكى لم يكن فيه إى حديث عن المنافقين . كانت هناك إشارة للسماح لمن يتعرض للإكراه فى الدين أن يقول كفرا ، ويغفر الله جل وعلا له طالما كان قلبه مطمئنا بالايمان . يقول جل وعلا : (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ  ) النحل 106 )  وفى التنزيل المدنى كان هناك إشارة ( للتقية ) للمؤمن فى مجتمع معاد للاسلام ويجبر ذلك المؤمن على أن يوالى ذلك المجتمع فى عدائه وعدوانه على المسلمين المسالمين ، يقول جل وعلا : (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗوَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ  ) آل عمران ). فى الحالتين نحن أمام مجتمع تنعدم فيه الحرية الدينية  . وهذا يخالف الدولة الاسلامية التى أرساها الرسول عليه السلام ، وتمتع فيها الجميع بالحرية الدينية بلا حد أقصى ، وبحرية المعارضة السلمية ، أيضا بلا حد اقصى . هذا المناخ الحُرُّ أتاح للملأ فى يثرب أن يمارس حريته الدينية والسياسية بلا حدود ، وأطلق عليهم رب العزة لقب ( المنافقون ) .

أولئك المنافقون كانوا ( الملأ ) ، من أثرى سكان يثرب ( المدينة ) وحين تحول معظم أهلها الى الاسلام وهاجر اليها النبى عليه السلام والمهاجرون من مكة وغيرها جرفته الأحداث الجديدة ، فقدوا مكانتهم وسيادتهم وجاههم وتساووا فى المواطنة مع غيرهم من الأنصار بل من الغرباء ( المهاجرين القادمين ) ( لمدينتهم ) .! وفى نفس الوقت كانوا لا يملكون الهجرة من المدينة وهى وطنهم ومقر ثروتهم وفيها أهلهم وذووهم ، ثم مغادرتهم المدينة سيجعلهم تحت رحمة قبيلة أو قبائل أخرى تابعين لهم بلا مكانة بل فى أقل مكانة . أضطروا الى البقاء فى المدينة حيث  كانوا ينعمون فيها فى ظل الدولة الاسلامية بحريتهم الدينية والسياسية مع تآمرهم  بكل ما يستطيعون ، وهذا ما كانوا يفعلون . وكل ما كان يلزمهم هو القسم بالله جل وعلا كذبا ، أى كما قال رب العزة (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ) المجادلة 16 ) ( المنافقون 2 ).

2 ـ وروعة التنزيل المدنى هنا هو التسجيل لما كان يحدث من بداية حركة النفاق الى إشتدادها قبيل موت النبى عليه السلام . وانتهى العلم بهم بموت النبى وإنتهاء الوحى نزولا . وهذا لا يعنى أن حركة النفاق إنتهت وتم إستئصالها مرة واحدة ، ولكن يعنى العكس ، وهو بلوغها الذروة بعد غياب الوحى فلم يعودوا يخشون من نزوله يفضح ما يفعلون . بل إن البحث التاريخى للمسلمين فى الفتوحات يؤكد أن هذه الفتوحات وما تلاها من حروب أهلية قد قادها اولئك الذين مردوا على النفاق ولم يكن النبى عليه السلام يعرفهم وهم الى جانبه ، يقول جل وعلا :( و مِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) التوبة 101 ) هم يختلفون عمّن ذكرهم رب العزة فى الآية التالية ، وهم عُصاة إعترفوا بذنوبهم وعسى ان تكون توبتهم صادقة فيغفر الله جل وعلا لهم : ( و آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  ) التوبة 102 ). كلا .. هؤلاء الذين مردوا على النفاق لم يعترفوا ولم يتوبوا ، بل حافظوا على كراهيتهم للإسلام ، وأمسكوا ألسنتهم وضبطوا حركاتهم حتى لا يفضحهم الوحى  ،  وبعد موت النبى عليه السلام وإنقطاع الوحى نزولا تصدروا المشهد ( من أبى بكر وعمر وعثمان والزبير وطلحة وسعد وابن عوف ..الخ ) . أولئك الذين مردوا على النفاق حققوا لزملائهم المنافقين المفضوحين ( من الأوس والخزرج والأعراب ) ما كانوا يتمنونه . كان يجمع هؤلاء المنافقين العلنيين وهؤلاء المنافقين ( المردة ) كراهية شديدة للإسلام ، ولكن الفارق أن المنافقين القرشيين الذين هاجروا الى المدينة كانوا الأكثر دهاء ، وكانت التعليمات عندهم أن يلتصقوا بالنبى ، ولو نجح فى دعوته فتكسب قريش وتجنى الثمرة. هذا التخطيط الجهنمى الذى وصفه رب العزة بانه مكر تزول منه الجبال ( ابراهيم 46 ) أسفر عن تغيير هائل فى التاريخ العالمى ، إذ حكمت قريش بعد موت النبى وإستغلت الاسلام فى الفتوحات ، وبه ظلت تحكم قريش معظم العالم المعروف من خلافة ( الراشدين ) الى خلافة الأمويين والعباسيين والفاطميين . والتفاصيل فى كتابنا ( المسكوت عنه فى تاريخ الخلفاء الراشدين ) وهو منشور هنا . ولكن الذى يهمنا هنا أن التنزيل القرآنى المدنى حفل بتفصيلات عن المنافقين العلنيين فى المدينة ، مع إشارة الى منافقين مجهولين أخطر ، لم يكونوا وقتها قد إرتكبوا أعمالا عدائية حتى ينزل القرآن يفضحهم ، بل قدموا طاعة وإلتزاما ، وليس معقولا أن يفضحهم التنزيل بأفعال لم يرتكبوها بعد . لذا كان المناسب الإشارة الى أنهم من أهل المدينة وأنهم مردوا على النفاق وأنه النبى لا يعلمهم وأنهم سيرتكبون أعمالا فيما بعد يعذبهم بسببها رب العزة مرتين فى الدنيا ثم يموتون بكفرهم ليلاقوا فى الآخرة العذاب العظيم .

3 ـ  ونتتبع حركة النفاق ( العلنية ) من خلال رصد التنزيل المدنى لها  .

البداية : الكلام عنهم بما يعملون دون وصف ( المنافقين )

1 ـ جاء هذا فى سورة النور ضمن موضوع ( حديث الإفك ) والذى ( تولى كبره منهم ) و( الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا ) و( الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ) . نزل التأنيب والتحذير لأولئك ( المنافقين ) بدون كلمة ( المنافقين ) .( النور 11 : 26 )

2 ـ بدأ المنافقون يرفعون لواء الايمان خداعا بينما بعقدون إجتماعات سرية لهم يتندرون فيها على المؤمنين ، ونزل آيات سورة البقرة تفضحهم ( البقرة 8 : 20 ) ولكن دون وصفهم بالمنافقين .

 ذكرهم بالاسم ( المنافقون )

سورة الأنفال :

 أول وصف لهم بالمنافقين نزل فى سورة الأنفال فى الإشارة الى حقدهم على انتصار المؤمنين فى موقعة ، يقول رب العزة  : ( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ ۗ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) الانفال 49 ).

سورة ( آل عمران ): سجلت  تعاظم دورهم فى موقعة ( أحُد ) 

1 ــ فى بداية الحديث عنهم جاء الحديث عنهم بوصفهم ( بطانة ) ، ونزل التحذير للمؤمنين من إتخاذ بطانة من غيرهم كارهة لهم تبدو الكراهية على وجوههم وما تخفى صدورهم أكبر ، يفرحون إذا أصاب المؤمنين سيئة ، ويحزنون إذا حدث للمؤمنين خير ، ولا يتوانون فى الكيد للمؤمنين ، ولو تمسك المؤمنون بالصبر والتقوى لن تضرهم مكائد اولئك الكارهين (آل عمران 118 : 120  ).

2 ــ وفى سياق الحديث عن موقعة ( أحُد )، ( آل عمران 138 : 180 ) تعرض التنزيل المدنى فى السورة الى مواقف وأقوال المنافقين والرد عليها ، إذ وجدوا فى هزيمة المؤمنين فرصة لهم . حين تحرك جيش قريش للإنتقام قاصدا المدينة إستشار النبى أهل المدينة فرأى المنافقون البقاء فى المدينة وإنتظار الكافرين بينما تحمس شباب المؤمنين الى الخروج لملاقاتهم فى الطريق لدرء خطرهم عن المدينة . وهو الرأى الأصح . وأخذ به النبى ، وصدقهم الله جل وعلا وعده فانتصر المؤمنون فى البداية وكشفوا جيش قريش عن مكانه ، ولكن حدثت الهزيمة لأن فريقا من المؤمنين كان ( يريد الدنيا ) أى الغنائم ، وحدثت الفوضى ولم يسمعوا تحذير الرسول لهم ( آل عمران 152 : 153 ). وبعد الهزيمة وجدها المنافقون فرصة يلومون فيها النبى يقولون لو أطعتم رأينا ما حدثت الهزيمة  وما قُتل أولئك الناس ، ويقولون : ( ليس لنا من الأمر شىء )( لو أطاعونا ما قُتلوا )  ونزل الرد عليهم بأن كل نفس مقدر لها موعد ومكان موتها . وأن أولئك الذين قتلوا فى أحد لو ظلوا فى بيوتهم سيذهبون الى مكان المحدد لموتهم ، وأن الخير ينتظرهم عند ربهم ، وأنهم ليسوا موتى بل أحياء عند ربهم يُرزقون : ( آل عمران 154 ، 156 : 158 ،168 ،  169 : 171 ). ويفضح التنزيل المدنى موقف المنافقين فى رفضهم الدفاع عن المدينة بحجة انهم لا يعرفون القتال ( آل عمران 167 ) ،  وكان من يسارع منهم الى الكفر وكان النبى يحزن لكفرهم ولا داعى لأن يحزن بشأنهم فليس لهم حظ فى الآخرة ،( ملاحظة : لم يكن هناك ما يُعرف بحد الردة لمعاقبة أولئك الذين كانوا يسارعون بإعلان الكفر فى وجود البنى الى درجة أن يحزن بسبب ردتهم )  ومنهم من يبخل وسيتم تطويقه بما يبخل به يوم القيامة ، وان محنة موقعة ( أحد ) كانت إختبارا يتميز فيه الطيب من الخبيث ، خصوصا أولئك المؤمنين الصادقين الجرحى فى المعركة والذين صمموا رغم جروحهم على مطاردة جيش القرشيين الذين بادروا بالفرار بعد ان خطفوا نصرهم السريع . أولئك المؤمنون الأبطال رفضوا تخويف المنافقين بأن جيش الكفار قد جهز لهم وجمع لهم كمينا ، لم يترددوا فى متابعة جيش قريش ، بينما تقاعس المنافقون وقعدوا عن حراسة المدينة بعد خروج جيش النبى منها لمواجهة جيش قريش : ( آل عمران: 167 : 168 ، 172 : 180). 

المنافقون فى اواسط وأواخر التنزيل المدنى

فى سورة ( النساء ) ملامح أخرى عن المنافقين :

1 ـ رفضهم الاعتراف بالنظام القضائى لدولة المدينة ، ورفضهم الاحتكام للرسول ، والله جل وعلا يأمر النبى عليه السلام بالاعراض عنهم ووعظهم : ( النساء 60 : 70 ).

2 ــ وكانوا يدخلون على النبى يقدمون له فروض الطاعة ثم يخرجون من عنده يكذبون عليه ما لم يقل ، ويأمر الله جل وعلا النبى ان يعرض عنهم متوكلا على ربه جل وعلا ، ويعظهم رب العزة بتدبر القرآن ( النساء 81 : 82 )

3 ـ وكان هناك نوع من التنسيق بين بعض المنافقين داخل المدينة ومنافقين معتدين من الأعراب ، كانوا يدخلون المدينة على أنهم إعتنقوا الاسلام ، ويتصلون بالمنافقين داخل المدينة ، ويتعرفون على مواقع الضعف والقوة فى تحصينات المدينة ، ثم يهاجمون المدينة .

وقبلها وفى تأسيس دولة المدينة ولأن الدولة هى ( أرض وشعب ونظام حكم ) ، فقد نزل التشريع المدنى مبكرا يجعل المواطنة لأهل المدينة ومن يهاجر اليها ، حتى لو كان على غير عقيدة الاسلام ، وحتى لو كان منافقا كارها للإسلام . الشرط  هو الاقامة فى المدينة أو الهجرة اليها وله ان يتمتع بحريته المطلقة الدينية والسياسية طالما كان مُسالما ( مسلما بالسلوك لا يرفع سلاحا ضد الدولة ومواطنيها ). وفى نفس الوقت فليست لدولة الاسلام ولاية على المسلمين المؤمنين الذين يعيشون خارجها ويرفضون الهجرة اليها  ، وإن إستنصروهم وطلبوا عونهم لانقاذهم من الاضطهاد فعلى دولة الاسلام نصرتهم إلّا إذا كان أولئك المسلمون المضطهدون يعيشون فى دولة بينهم وبين دولة الاسلام عهد وميثاق ، يقول جل وعلا :(  إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ  ) الانفال  72) .

فى حالة أولئك المنافقين الأعراب المخادعين للنبى عليه السلام ودولته كان لا بد من تفعيل هذا الشرط ، بانهم لو كانوا فعلا مؤمنين فلا بد أن يهاجروا وأن يستقروا فى المدينة مُسالمين يتمتعون بحريتهم المطلقة فى الدين والمعارضة السياسية . إن رفضوا وإستمروا فى خداعهم فلا بد من قتالهم إذا جاءوا للمدينة . ووضعت الآيات ( 88 : 91 ) من سورة النساء التفصيلات التشريعية فى هذا الموضوع . وهناك إشارة الى المنافقين المحليين داخل المدينة وعملهم كطابور خامس لأولئك المنافقين الأعراب المحاربين المعتدين ، فكان المنافقون المحليون يشيعون أخبارا مُغرضة تتصل بالأمن لإرعاب المؤمنين . وكان لدولة النبى جهاز للمخابرات فيه ( أولو الأمر ) أى اصحاب الشأن الذين يقومون باستقبال الأنباء وتحليلها ، ومفروض على المؤمنين الرجوع اليهم فى هذا ( الأمر / الشأن ) لأنهم أصحاب ( الأمر / الشأن ) . يقول جل وعلا : ( وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ  ) النساء 83 ). ووردت فى نفس السورة  ( النساء 59 ) الأمر بطاعة الله جل وعلا ورسوله وأولى الأمر ( اى أصحاب الاختصاص فى الأمر أو الشأن الذى هو محل تخصصهم ) . ونفهم من سورة التوبة ان بعض الاعراب اقام حول المدينة تابعا لدولة المدينة ، وكان منهم مؤمنون وكان منهم منافقون . ونعرف من سورة الفتح وجود أعراب تابعين للدولة إستقروا حولها ، وتقاعسوا عن الدفاع عن المدينة . أى نفهم أنه بعد نزول آيات سورة النساء ( 88 : 91 ) قام النبى والمؤمون بتنفيذ هذا التشريع فى حركات عسكرية ضد الأعراب المعتدين ، ولكن السيرة لم تذكر هذا ـ وأن تلك الحملات العسكرية الدفاعية منعت دخول هؤلاء المعتدين الى المدينة بحجة الاسلام خداعا ، وألزمت من يريد الدخول فى الاسلام بأن يعيش فى كنف الدولة الاسلامية متمتعا بميزات المواطنة ، بغض النظر عن عقيدته ورأيه السياسى . ولنتذكر أن دولة المدينة كانت موقعا ثابتا مكشوفا فى صحراء تحيط بها من كل الجهات ، وهذا الموقع الثابت المكشوف يجعلها عُرضة لهجوم باغت من جماعات قليلة أو جيش ضخم ، لذا كان يتحتم على هذه الدولة المُحاطة بأعداء من الأعراب وغيرهم أن يكون لها جهاز أمنى كفء منتشر فى الصحراء بين الأعراب والقبائل وداخل مكة والطائف وغيرهما ، وأن يبادر جيش المدينة الى مواجهة العدو القادم فى الصحراء قبل أن تتعرض المدينة للحصار وإحتمال الاستئصال . لهذا يأتى التعبير عن القتال بكلمة ( أُنفروا ) و بالخروج ، أى بالخروج الى الصحراء .

4 ـ وبعضهم خدع النبى عليه السلام. سرق ابن لهم وشاع أمره ، فكان أن أخفوا الشىء المسروق فى بيت شخص برىء ، وذهبوا للنبى يشكون له كيف إتهم الناس ابنهم ظلما فصدقهم النبى وخطب يدافع عن ابنهم معتقدا انه مظلوم . ونزل القرآن يلوم النبى ويشير الى ما حدث بالمنهج القرآنى فى القصص ( عدم ذكر الأسماء للأشخاص ) لكى تتحول القصة الى موعظة تتحرر من أسر المكان والزمان لتنطبق على عادة سيئة للبشر فى كل زمان ومكان حيث يوضع البرىء فى السجن ويتمتع المجرم بالمكانة المحترمة . ولهذا كان التعليق الالهى على القصة بوضع قواعد حقوقية : أن المذنب الذى يستغفر الله جل وعلا معترفا بذنبه يغفر له رب العزة. والذى يقترف إثما يتحمل هو مسئوليته ، أما الذى يكسب إثما ثم يلفقه لغيره من الأبرياء فهو يتحمل بهتانا وإثما مبينا . ثم إشارة الى وضع النبى كبشر ممكن أن يتعرض للخداع والاضلال ، ولأنه رسول فقد علّمه الله  جل وعلا بالوحى  ما لم يكن يعلم ( النساء 105 : 113 )

5 ـ وبدأت مبكرا مجالس الشورى بإجتماعات عامة ( امر جامع ) ونزل التشريع بتحريم الغياب عنها بدون عُذر او التسلل منها ، وأضاع هذا على المنافقين موقعهم السابق فى الصدارة التى كانوا عليها قبل مجىء النبى للمدينة . وبدأ ( عوام ) أهل المدينة يتفاعلون ويشاركون فى إدارة وحُكم مدينتهم. وردّ المنافقون بالتشويش على هذا (التحول الديمقراطى ) بتكوين جماعات منهم تحترف التشاور السّرى تنشر الاشاعات ، أو ما سمّاه رب العزة ( النجوى ) . ونزل فضح هذا التناجى فى سورة ( النساء 114 : 115 ) ونزلت تفاصيله فى سورة المجادلة ( 5 : 21  ) .

6  ــ وحفلت سورة النساء بمتفرقات عن انواع من النفاق والمنافقين: ترددهم القلبى بين الايمان والكفر ثم زيادتهم فى الكفر ، وموالاتهم للكافرين المعتدين ضد الدولة التى يعيشون فى كنفها ، وعقدهم مجالس للخوض فى كتاب الله وحضور بعض المؤمنين هذه المجالس متناسين نهى رب العزة عن حضورها فيما سبق من تنزيل مكى ، وبعضهم كان يمُنٌّ على المؤمنين فى حالتى النصر والهزيمة ، وعاب رب العزة على المنافقين تكاسلهم فى الصلاة ورياءهم فيها ، وحكم الله جل وعلا بأنّ المنافقين فى الدرك الأسفل من النار إلّا  إذا تابوا واصلحوا واعتصموا بالله جل وعلا واخلصوا له دينهم، فليس رب العزة جل وعلا محتاجا لتعذيب الناس  إذا شكروا وآمنوا ( النساء : 137 : 147 ).

سورة الأحزاب :

كان حصار الأحزاب للمدينة محنة قاسية أظهرت معدن المؤمنين الحقيقيين ، كما أظهرت أنواع النفاق والمنافقين . واضح أن الأنباء جاءت للنبى بقدوم الأحزاب فكان حفر الخندق وعقد النبى مع أهل المدينة بيعة وعهدا بالصمود ، وبينما صدق المؤمنون فيما عاهدوا الله جل وعلا عليه فإن المنافقين خانوا العهد ، منهم من سخر من وعد الله جل وعلا بالنصر ، ومنهم من قام بتثبيط المؤمنين عن الدفاع عن المدينة ، ومنهم من ترك موقعه الدفاعى بحجة ان بيته ليس  آمنا ، ومنهم المعوقون والمرجفون فى المدينة بالاشاعات ومنهم الذين فى قلوبهم مرض ، وقد أوشكوا على حمل السلاح ضد الدولة الاسلامية فنزل تحذيرهم بشدة : ( الأحزاب: 12 : 20 ،  60 : 63 ) . ونزل فى نفس السورة نهى للنبى ( مرتين ) عن طاعة المنافقين ( الأحزاب 1 ، 48 ).

متفرقات  :

( سورة محمد : 16 : 17 ، 21 : 31 ) : فيها تندرهم على القرآن ، وصلتهم بالكافرين ووعظهم بتدبر القرآن بنفس ما سبق فى سورة النساء ، وتحذيرهم من اللجوء للقتال وتقطيع أرحامهم ، كما سبق فى سورة الأحزاب .

( سورة الفتح  : 11 : 16 ): عن منافقى الأعراب ، وترددهم بين المشاركة مع المؤمنين فى القتال الدفاعى  ، وقعودهم عنه . وأعذارهم الباطلة .

( سورة الحشر 11 : 12 ): عن وعد كاذب من المنافقين للمعتدين اليهود بالتحالف معهم .

( سورة المنافقون : 1 : 8 ) عن خداع المنافقين وكذبهم وإتخاذهم أيمانهم جُنة ووقاية ، ورفضهم الاعتراف بالخطأ وأن يستغفر لهم الرسول ، وإعلانهم عدم تقديم المال للدولة لأنها فى نظرهم إنفاق على أتباع النبى ، وحتى ينفضوا من حوله ، وزعمهم بأنهم سيخرجون النبى والمؤمنين من المدينة .

فى أواخر التنزيل المدنى :

( سورة المائدة : 41 ، 51 : 53 )

1 ـ فى هذه السورة نرى تماثلا وتحالفا بين منافقى المدينة ومنافقى أهل الكتاب . وهى ناحية مسكوت عنها فى التأريخ للنبى فيما يُعرف بالسيرة النبوية . فالآيات فى سورة المائدة تشير الى معارك حربية تحتم فيها الولاء للدولة الاسلامية التى تمارس القتال الدفاعى فقط ، ومحرم عليها أن تعتدى على أحد لأن الله جل وعلا لا يحب المعتدين. لذا نزل الأمر بعدم موالاة اليهود والنصارى المعتدين ، وأن من يواليهم فى عدوانهم فهو مثلهم فى ظلمهم . هذه العلاقة الحربية شجعت بعض المنافقين على المسارعة بإعلان الكفر العقيدى الذى كانوا يكتمونه.

2 ــ هذا مع وجود منافقين من أهل الكتاب يزعمون الايمان بأفواههم ، يدخلون على النبى يزعمون الايمان ، وقد دخلوا والكفر فى قلوبهم ثم خرجوا والكفر أيضا فى قلوبهم ، وهم  يقومون بالتحريف والافتراء ونشر هذا الكذب والافتراء ، ثم هم يأتون للنبى يحتكمون اليه ، وعندهم التوراة فيها حكم الله ، ثم بعد أن يحكم الرسول بالحق يتولون عنه معرضين ، والله جل وعلا يبيح للنبى أن يحكم بينهم بالحق  القرآنى  الذى نزل مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية ومهيمنا عليها ، ويحذره من ألاعيبهم وخداعهم . ويضع رب العزة البديل الاصلاحى للمؤمنين وأهل الكتاب وهو التسابق فى الخيرات ، للفلاح فى الآخرة . وهذه العلاقات بين النبى ومنافقى أهل الكتاب من المسكوت عنه فى ( السيرة النبوية ) .

( سورة التوبة : 42 : 110 )

تنوعت فيها انواع النفاق والمنافقين على النحو التالى :

1 ـ التقاعس عن القتال بحجج واهية ، والتثبيط عن القتال الدفاعى والدعوة للقعود بديلا عن الخروج لملاقاة العدو الزاحف لغزو المدينة . وعقاب أولئك المنافقين هو منعهم مستقبلا من شرف القتال الدفاعى، وألا يصلى النبى عليهم إذا ماتوا  ( التوبة 42 : 49 ، 81 : 89 ، 93 : 94 )

2 ـ إدمان القسم كذبا بالله جل وعلا .( التوبة  42، 56 ، 62 ، 95 : 96 ) 

2 ـ التشفى بأى مصيبة سيئة تحدث للمؤمنين وكراهية أى خير يأتى لهم ( التوبة 50 : 52 )

3ـ التكاسل فى الصلاة ( التوبة 54 )

4 ـ بالنسبة للإنفاق على المجهود الحربى ( الانفاق فى سبيل الله جل وعلا ) تنوعت مواقفهم : منهم من كان ينفق كارها فمنع الله جل وعلا قبولها منهم ، ومنهم من كان يطمع أن يأخذ من الصدقات مع أنه ليس من المستحقين للصدقات ، ومنهم من عاهد الله ونذر إن أصبح غنيا سيتصدق ، فلما أصبح ثريا أخلف وحنث . ومنهم من يتندر على الفقراء المؤمنين المتبرعين بالقليل مما يملكون فى سبيل الله جل وعلا ، وعقابهم أن استغفار النبى لهم غير مقبول من الله جل وعلا  ، ومنهم من يمتنع عن الانفاق فى سبيل الله جل وعلا  ( التوبة 53 : 54 ، 58 : 60 ،  75 : 78 ، 79 : 80 ، 67 ).

5 ـ إتهام النبى بأنه ( أُذُن ) أى يسمع وينصت لما يُقال له ، والسبب أنهم كانوا من قبل الملأ المسيطر أصحاب الأمر والنهى ، فجاءت الدولة الاسلامية بالشورى والديمقراطية المباشرة التى توجب على القائد أن يسمع من الجميع وأن ينتبه لآراء الجميع فى الاجتماعات العامة المُشار اليها فى أواخر سورة النور . وسكت النبى عن هذا الاتهام ونزل القرآن يدافع عن النبى بأنه أُّذُن خير ورحمة للمؤمنين ( التوبة 61 ) .

6 ـ وقوعهم فى شتى أنواع التآمر حتى ينزل القرآن بالحق يفضحهم  ( التوبة 48 ).

7 ـ الاستهزاء بالله جل وعلا ورسوله وكتابه ( التوبة 64 : 66 ).

8 ـ تسيير مظاهرات فى شوارع المدينة تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف للرد على أمر المؤمنين بالمعروف ونهيهم عن المنكر ( التوبة 67 : 72 ). وهذا مسموح به فى دولة الاسلام التى تُتاح فيها الحرية الدينية والسياسية بدون حد أقصى طالما كانت سلمية . ( أين هذا من نظم الحكم فى دول المحمديين اليوم ؟!! ).

9 ـ قول الكفر والشروع فى أعمال كفرية عدائية ، وحكم الله جل وعلا عليهم بالكفر ، وعرض التوبة عليهم :( التوبة 74 ) .

10 ـ الذين إتخذوا مسجد الضرار وجعلوه وكرا للتآمر على الدولة الاسلامية ، وإنخدع به النبى ــ الذى لا يعلم الغيب ـ فكان يقيم فيه ، الى أن نزل القرآن يفضح هذا المسجد وأصحابه وينهى النبى عن الاقامة فيه ، وخلافا لتلفيقات كتب السيرة فإن النبى لم يحرقه بل ظل بنيانه موجودا ( لا يزال ): ( التوبة 107 : 110 )

أنواع جديدة من المنافقين داخل المدينة :

1 ـ الأعراب الذين هاجروا للمدينة وأقاموا حولها ، أغلبهم كان الأشد كفرا ونفاقا ، والأبعد عن الالتزام الاسلامى ، وكانوا يتربصون بالمؤمنين ويعتبرون من المغارم إنفاقهم فى سبيل الله جل وعلا ، وهناك أعراب مؤمنون مخلصون  ( التوبة 97 : 98  : 99)

2 ــ وهناك من أهل المدينة فى داخلها ( من المهاجرين والأنصار ) طائفة مردت على النفاق وكتمت مشاعرها وكفرها حتى لا يفتضح بالقرآن أمرها ، فظل النبى لا يعرفهم / ومن المنتظر أن يكونوا أقرب الناس اليه ، وهؤلاء هم الذين قاموا بالفتوحات ( صحابة الفتوحات ). ( التوبة 101 ).

فى المقارنة بهؤلاء كان فى المدينة السابقون إيمانا وعملا من المهاجرين والأنصار وهم الذين لا يريدون عُلوا فى الأرض ولا فسادا . وهذه النوعية لا تتصارع على السلطة الثروة والنفوذ ، لذا تمسكت بدينها ، ولم تذكرها كتب التاريخ التى سجلت تاريخ الخلفاء وحروبهم وصراعاتهم . ولكنهم هم الذين رضى الله جل وعلا عليهم ، لأنهم سيأتون يوم القيامة ولم يسفكوا دما ولم ينهبوا مالا ولم يأكلوا سُحتا ، ولم يقهروا شعبا . الخلفاء الفاسقون هم الذين فعلوا هذا فأشاد بهم التاريخ . والتاريخ دائما ينام فى إحضان الظالمين .   

كتاب ( المكى والمدنى ) فى التنزيل القرآنى
هذا الكتاب
سأل الاستاذ ( احمد فتحى ) عن ( المكّى ) و ( المدنى ) فى القرآن الكريم ، ونعطى هنا لمحة فى هذا الكتاب ( المكى والمدنى فى التنزيل القرآنى ) نرجو أن يتابعها أبناؤنا الباحثون القرآنيون فى كتابات بحثية لاحقة.
more