اتهامات لـ"النقض المصرية" بتحولها من "حارسة القانون" إلى "ظهير السلطة"؟
انتقد محامون وخبراء قانونيين، مخالفة محكمة النقض المصرية، الأعلى والأرفع بالبلاد أسسا قانونية ترسخت طوال عقود، بنظرها الاثنين الماضي، 49 قضية أغلبها جنائية دفعة واحدة وبجلسة واحدة، ورفض جميع الطعون، قبل إخلاء القاعة ومنع هيئات الدفاع في 19قضية من الحضور للدفاع عن المتهمين.
الواقعة أغضبت المحامين المصريين، خاصة وأن محكمة النقض هي الأعلى بالبلاد وأحكامها غير قابلة للطعن، مؤكدين أن نظر 49 قضية من جميع أنحاء الجمهورية في يوم واحد لا يسمح بتحقيق العدالة، كما أن منعهم من حضور الجلسات يخالف القانون والدستور وحق المتهم في الدفاع عنه.وألمحوا إلى أنه جرى تأييد الأحكام في جميع القضايا المنظورة، وتم حبس الكثير من المتهمين الذين سلموا أنفسهم طوعا للمحكمة قبل نظر الطعون، دون أمل لهم الآن في تعديل الحكم الصادر بحبسهم دون دفاع، فيما تم ترحيلهم إلى السجون لتنفيذ الأحكام وبينهم محامي مصري.
مشهد عبثي.. وردود فعل غاضبة
وتساءل المحامي بالنقض، أسعد هيكل، وهو أحد حاضري المشهد ومنع الحضور أمام المحكمة: "هل من صحيح تحقيق العدالة أن تنظر النقض، ومقرها القاهرة كل هذه الطعون على مستوي الجمهورية، (جنايات وجنح)، بجلسة واحدة، وتقضي بالحبس دون حضور الدفاع أو سماع مرافعة هكذا؟".
وأكد المحامي سيد عبد الرازق، أن القضية التي يترافع فيها كانت أمام "دائرة ج"، بمحكمة النقض، وأنه جرى نظر الطعن الذي تقدم به وتم قبوله وتمت إعادة المحاكمة، بينما هو خارج القاعة، ليفاجئ بأن المحكمة أصدرت نفس الحكم ولم تغير حرفا، بينما لم يستطيع الدخول.
بعض المحامين، قالوا إن "وضع العدالة في خطر"، مشيرين لتسلط السلطة التنفيذية، ومؤكدين عدم جدارة بعض القضاة بمواقعهم وضعف نقابة المحامين، متسائلين: "كيف ستتحدث المحكمة مستقبلا عن الإخلال بحق الدفاع كسبب من أسباب إلغاء الأحكام؟"، مطالبين بوقف "المهزلة القضائية، وإهدار حقوق الدفاع، وحقوق المتهمين والمتقاضين، وتصحيح المنظومة القضائية".
واقترح البعض، "إنشاء 8 مأموريات للنقض بمحافظات أخرى -أسوة بمحاكم الاستئناف- مع الإبقاء على (دائرة توحيد المبادئ) بالقاهرة"، مؤكدين على "عدم منطقية خدمة محكمة واحدة نحو 108 ملايين مصري بالداخل".
"الشبكة المصرية لحقوق الإنسان"، وصفت هذا المشهد، قائلة إنه "يمس جوهر الحق في الدفاع، ويهز الثقة في آخر حصون العدالة، ويستدعي وقفة جادة أمام ما إذا كانت الإجراءات المتبعة ما زالت تحقق الغاية الدستورية منها".
وتُصنف مصر بمراكز متأخرة ضمن المؤشرات الدولية التي تقيس كفاءة منظومة العدالة وسيادة القانون، وذلك بسبب التداخل بين السلطات والقيود المفروضة على الحريات المدنية.
وفي "مؤشر سيادة القانون"، احتلت المركز 136 من 142 دولة عام 2024، مسجلة أدنى درجاتها في معايير، الحقوق الأساسية، التي تراجعت بسبب القيود على التعبير والتجمع، وضعف الرقابة التشريعية والقضائية على السلطة التنفيذية، ونتيجة طول أمد الحبس الاحتياطي وظروف المحاكمات.
وفي "مؤشر العدالة المدنية والجنائية"، احتلت المركز 132 عالميا، نظرا لبطء إجراءات التقاضي، وارتفاع التكاليف، وصعوبة تنفيذ الأحكام، لتتراجع بـ"مؤشر استقلال القضاء" للنصف الأخير من القائمة، ولتحتل بـ"مؤشر مدركات الفساد"، حيث قدرة القضاء على محاسبة الفاسدين، المركز 108 من 180 دولة في 2024.
موظفون لا قضاة
وفي إجابته على سؤال "عربي21": كيف تكشف تلك الواقعة عن تدهور أحوال القضاء المصري وانهيار منظومة العدالة في عهد رئيس النظام عبدالفتاح السيسي؟، قال السياسي المصري والمحامي بالنقض ممدوح إسماعيل: "لا يوجد قضاء مستقل في مصر تماما من بعد الانقلاب العسكري -ضد الرئيس الراحل محمد مرسي-".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أكد أن "ظهور رئيس المجلس الأعلى للقضاء حامد عبدالله، بمؤتمر بيان الانقلاب 3 تموز/ يوليو 2013، ضد الشرعية التي حظيت بتأييد غالبية الشعب عبر الصندوق؛ يؤكد أن القضاء منحرف عن العدالة تماما".
وأضاف: "وما سبق ذلك المشهد من مؤامرات رئيس نادي القضاة الأسبق أحمد الزند، عام 2012، -ضد السلطة الشرعية- كلها تؤكد الظهور الحقيقي لقضاة دخلوا منصة القضاء بالرشا والواسطة والمحسوبية والمجاملات في عهد حسني مبارك (1981- 2011)، ولا علاقة لهم بمنظومة العدالة".
عضو مجلس الشعب المصري سابقا، خلص للقول: "ويؤكد ذلك جميع الأحكام الصادرة منذ 2013، والمسيسة ضد المعارضين، والتي تفتقد أدنى معايير العدالة؛ وفي المقابل تتزايد مكافأة القضاة الموالين بتعينهم رؤساء، لمجلسي النواب والشيوخ، وأعضاء بالبرلمان"، ليختم مؤكدا أننا "في دولة لا قضاء فيها؛ إنما موظفون تابعون لنظام الحكم يجلسون على كراسي القضاة".
مسيسة لا حارسة على القوانين
من جانبه، قال الخبير القانوني والمعارض المصري المقيم في أمريكا الدكتور سعيد عفيفي، إن "النقض، المحكمة العليا، ولا تُعتبر محكمة موضوع بل محكمة قانون؛ بمعنى أنها تنظر في مدى تطبيق القانون وتأويله وتفسيره وانطباقه على الواقعة محل الطعن، وتنظر فيما إذا كان الحكم الصادر متوافقا مع صحيح القانون ولا يخالف القواعد القانونية المستقرة".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أكد أنه "لكي تفصل محكمة النقض بطعن على حكم بقضية ماثلة أمامها يلزمها بحث مطول في القوانين وتفسيرها وآراء فقهاء القانون؛ والأهم كذلك النظر تاريخيا بالأحكام التي أصدرتها المحكمة نفسها سابقا، والتي استقرت عليها وهي تعد بالآلاف؛ وهذا جهد كبير يتعين على قضاتها القيام به قبل الفصل بأي طعن مقدم لها".
وعن واقعة نظر المحكمة هذا العدد من الطعون في يوم واحد ومنع حضور المحامين ورفض جميع الطعون، قال عفيفي: "ليس لنا أن نتوقع من محكمة النقض التي تم تسيسها منذ عهد أنور السادات (1970- 1981) بشكل فج، لتدور في فلك السياسة، ولم تعد حارسة على التطبيق الصحيح للقانون".
ويرى المحامي المصري، أن "العيب في المنظومة القانونية والدستورية جميعها، لأن تكريس السلطات بيد واحدة أدى بنا إلى حالة من الترهل بكل مناحي الحياة في مصر بما فيها القانون".
ويعتقد أنه "لذلك لابد من بدء أعمال الهدم لتلك المنظومة وإعادة البناء الدستوري والقانوني الصحيح، كي يصبح القضاء سلطة مستقلة لا علاقة لها بالسلطة التنفيذية، وكفى لفقدان المحكمة دورها الريادي بتفسير القوانين وتأويلها عن طريق أحكامها التي تأخذ بها البلدان العربية لعراقتها وتاريخها الحافل كأقدم محكمة عليا بأفريقيا ومن الأقدم بالعالم أجمع".
الأقدم عربيا وأفريقيا
والنقض المصرية، قمة هرم القضاء العادي، والأولى من حيث التأسيس (4 حزيران/ يونيو 1931)، والريادة القانونية عربيا وقاريا، وبمرتبة متقدمة عالميا، مستمدة نظامها من نظيرتها الفرنسية (Cour de Cassation)، وأحكامها نهائية وباتة ولا يجوز الطعن عليها، وتُرسخ مبادئ قانونية تلتزم بها المحاكم الأدنى درجة.
على مر تاريخها، فصلت المحكمة بقضايا تاريخية كبرى، أبرزها قضايا الاغتيالات السياسية في الأربعينيات، وقضايا الجماعات الإسلامية في التسعينيات، وصراع القوانين في ملفات التأميم، وصولا إلى قضايا فساد عهد حسني مبارك عقب ثورة يناير 2011، والحكم على قيادات جماعة الإخوان المسلمين عقب انقلاب 2013.
تعاقب على رئاستها ومنصتها قضاة شكلوا وجدان الفقه القانوني العربي، وفي مقدمتهم عبدالعزيز فهمي (أول رئيس لها)، والفقيه الدستوري عبدالرزاق السنهوري، ويحيى الرفاعي "شيخ القضاة"، لتصبح مصدر التشريع لأغلب المحاكم العربية.
وشهدت الفترة من (2011 حتى 2025) دورا محوريا للمحكمة، فبينما خففت وألغت أحكام سجن حسني مبارك ونجليه علاء وجمال، ورموز ذلك العهد بقضايا فساد، أصدرت أحكاما نهائية (باتة) بحق قيادات الإخوان المسلمين.
على سبيل المثال: أيدت النقض إعدام 12 قياديا بالجماعة بقضية "فض اعتصام رابعة"، و20 إعداما بقضية "كرداسة"، والمؤبد بحق المرشد العام محمد بديع ونائبه خيرت الشاطر، وغيرهما بـ"أحداث مكتب الإرشاد"، والمؤبد لبديع وبعض القيادات في "اقتحام السجون"، والمؤبد أيضا بقضية "التخابر مع حماس".
وأنهت محكمة النقض أغلب قضايا رموز نظام مبارك، بالبراءة أو بانقضاء الدعوى، حيث برأت في آذار/ مارس 2017، حسني مبارك من تهمة "قتل المتظاهرين" خلال ثورة يناير، وفي قضية "القصور الرئاسية"، أيدت سجن مبارك ونجليه 3 سنوات، ما اعتبره البعض تخفيفا لاستنفاد المدة بالحبس الاحتياطي.
وقررت النقض في مراحل مختلفة قبول الطعون وإلغاء قرارات الحبس لرموز مثل: زكريا عزمي، وفتحي سرور، وصفوت الشريف، ورجل الأعمال أحمد عز بقضايا "حديد الدخيلة" و"تراخيص الحديد"، مما مهد الطريق لاحقا للتصالح مع الدولة مقابل مبالغ مالية وإغلاق الملفات.
لعبة الدعم مقابل الولاء
تحول المشهد القضائي في مصر منذ عام 2013، لدعم وتثبيت أركان النظام الحالي، حيث لعب القضاة دورا في إصدار آلاف الأحكام بقضايا سياسية، مع إدارة الهيئات القضائية بما يتناغم مع توجهات الدولة، ما قابله النظام بسلسلة من الحوافز المادية والمناصب.
برزت أسماء قضائية في هذا الإطار، منها المستشارون: أحمد الزند، رئيس نادي القضاة الأسبق ووزير العدل الأسبق، وعدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية الأسبق، الرئيس المؤقت بعد 3 تموز/ يوليو 2013، وناجي شحاتة، الملقب بـ"قاضي الإعدامات"، وشيرين فهمي، مصدر مئات الأحكام المغلظة بحق قيادات الإخوان.في المقابل منح السيسي، القضاة المكافآت والمزايا عبر (الرواتب، الصناديق، والمعاشات)، حيث شهدت رواتبهم قفزات متتالية عبر منح بدلات "منصة" و"طبيعة عمل"، لتقدر تقارير غير رسمية راتب القاضي بالدرجات العليا بين 50 و150 ألف جنيه شهريا، بخلاف المكافآت الموسمية بعيدي الفطر والأضحى، ومكافأة جهود غير عادية، والمصايف.
وفي آب/ أغسطس 2021، ساوى السيسي، المزايا المالية بين القضاء العسكري والقضاء المدني، مما رفع سقف مخصصات القضاة، ليقر مجلس النواب عام 2022، قانون "صندوق الرعاية الصحية والاجتماعية للقضاة"، يمول من رسوم خدمات يدفعها المواطنون بالمحاكم والشهر العقاري.
وإلى جانب إدراج القضاة ضمن الفئات المستفيدة من الصناديق السيادية الخاصة، رفعت تعديلات قانونية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، سن تقاعدهم ببعض المناصب، وسمحت بالاستعانة بهم كمستشارين بهيئات حكومية ومجالس إدارات شركات قابضة برواتب ضخمة، مع تخصيص أراضي بالمدن الجديدة لنوادي القضاة ولإنشاء مجمعات سكنية.
في مقابل تلك الامتيازات، التي يرى معارضون أنها "ثمن" الصمت على الانتهاكات وإصدار أحكام مسيسة؛ سحب السيسي، من القضاة سلطة تعيين قيادات الهيئات القضائية (محكمة النقض، والمحكمة الدستورية، ومجلس الدولة)، والنيابة العامة، عقب التعديلات التشريعية في نيسان/ أبريل 2019، والتي منحت السيسي، سلطة مباشرة على ميزانيات القضاة، وندبهم، وترقياتهم.
وتُعد قائمة المعينين في مجلس الشيوخ في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، (100 عضو يعينهم رئيس الجمهورية) مثالا حيا على دعم السيسي للقضاة وعدم إقحام أغلبهم في معارك انتخابية حول مقاعد البرلمان، وذلك بجانب تعيين رئيسي المحكمة الدستورية العليا السابقين حنفي جبالي، وعبدالوهاب عبدالرازق، رئيسين لمجلسي النواب والشيوخ.
ويتمتع القضاة المعينين أو المنتخبين بحزمة من المزايا المالية والبدلات حوالي 42 ألف جنيه شهريا حاليا، معفاة من الضرائب والرسوم، مع مبلغ مالي عن كل جلسة عامة لجنة نوعية، وبدل الانتقال والسكن، وعلاج طبي "ممتاز"، وجواز سفر "دبلوماسي"، بجانب المعاش القضائي.
يرى مراقبون أن هذه المزايا المالية (التي قد يتجاوز مجموعها لبعض كبار المستشارين 100 إلى 150 ألف جنيه شهريا عند جمع المعاش مع مكافأة البرلمان وبدلات اللجان) هي وسيلة لضمان "الولاء المطلق" للسلطة التنفيذية، وضمان صياغة قوانين تخدم التوجهات الأمنية والاقتصادية للنظام دون معارضة حقيقية.
اجمالي القراءات
24