محنة حسين سالم .. حين تستنسر الغربان على الصقور
دأبت الحكومات المصرية المتعاقبة، خاصة خلال الأعوام الأخيرة، على الخضوع لابتزاز "تحالف الحثالات"، الدينية والحنجورية، وحتى لا تستغرقنا التفاصيل، تكفي هنا الإحالة على موقف الأغلبية البرلمانية المخزي من قانون الطفل، خاصة الجزء المتعلق بختان الإناث، وكيف رضخت للإرهاب الفكري الذي مارسه نواب الإخوان، مدعومين من بعض نواب الحزب الحاكم المخترقين وأنصاف المتعلمين، فنجحوا في الإبقاء على ثغرة قانونية تكاد تنسف النص برمته، إذ تسمح بإجراء الختان في ظروف خاصة، ولا أدري أية ظروف تلك التي تجعل ختان الفتاة ضرورة، وكان يفترض ألا يتضمن القانون أية استثناءات تشكل ثغرة قد يفلت منها الجناة مستقبلاً، وأن يكتفي بتجريم هذه العادة الوحشية على إطلاقها .
أما الفريق الآخر ـ وهو موضوعنا الأساسي هنا ـ فهم غربان القومجية، من أبطال النكسات والنكبات، الذين يفضلون ابتزاز الجميع بطريقة أخرى، كلمة السر فيها هي "إسرائيل"، إذ يصرون على الحديث بمفردات الستينات، ولغة حقبة "اللاحرب واللاسلم"، ويتناسون أن هناك معاهدة سلام دولية، وقعت عليها مصر مع ما يطلقون عليه "الكيان"، وأن الدول ملتزمة باحترام تعهداتها، حتى لا تتحول إلى كيانات منبوذة محاصرة، مستبعدة عن التعامل مع المجتمع الدولي، خاصة في ظل التحولات الهائلة التي شهدها العالم عقب انهيار الاتحاد السوفيتي .
وخلال الأيام الماضية شن تجار الحروب حملة كراهية شرسة ضد رجل لم أشرف بمعرفته شخصياً، وإن قيضت لي خبرات سابقة أن أعرف حقيقة دوره الذي يجهله الكثيرون، وهو السيد حسين سالم، ولست في معرض الدفاع عنه هنا، بل دفاعاً عن دولة ـ وليس حكومة ـ يجري ابتزازها وانتهاكها، ولعلي هنا لست مضطراً للتذكير بأنني لم أكتب كلمة من قبل دفاعاً عن سياسات هذا النظام، بل انتقدتها بشراسة في أكثر من صحيفة وخلال عشرات المقابلات المتلفزة، فضلاً عن نشاطي اليومي في صحيفة "إيلاف" الإليكترونية.
ولست أخجل أن أقول أنني أسعى للانتصار لقدر رجل أعرف جيداً ما قدمه لوطنه، ولم يزل، فلو لم يكن لنا خير في أبناء جلدتنا الذين خدموا بلادهم في صمت، وتعففوا عن السعي للمناصب وحتى قبولها، سيتحول مجتمعنا إلى غابة، أكثر مما عليه الأمر الآن .
ولعل الشجاعة الحقيقة الآن ليست في جلد الرجل، بل في الدفاع عما تكبده في صمت، فبينما كان هواة الجعجعة يكتفون بحرق علم إسرائيل داخل شقة تصدر صحيفة تشبه المنشورات، أو مقراً لحزب ورقي تافه، أو تنظيم سري إرهابي يشيع القتل والفوضى، كان سالم يحمل سلاحه، ويقود طائرة مقاتلة دفاعاً عن أرضه وكرامة بلده، حتى استردت مصر كامل ترابها، وبعد إبرام معاهدة السلام واصل الرجل دوره، فكان أول المستثمرين في نقطة استراتيجية هامة هي "شرم الشيخ" التي تحولت بفضل جهوده وجهود آخرين، إلى واحدة من أجمل المنتجعات في العالم، شئنا هذا أو أبينا، ورحنا نعير الورد بأنه "أحمر الخدين" .
ولعلي لا أذيع سراً حين أؤكد أن الرجل لعب أدواراً لم يحن الوقت للكشف عن تفاصيلها لاعتبارات جدية تتعلق بالأمن القومي المصري، ومن ثم فرجل من هذا الطراز لا يمكن أن يخوض في وطنيته، ويقيم حجم عطائه لهذا البلد، من ارتموا عقوداً في أحضان البعث بجناحيه السوري والعراقي تارة، والنظام العبثي في ليبيا تارة أخرى، فأي ظلم فاحش هذا بحق رجل يعرف أبناء سيناء قدره ممن ذاقوا ويلات الحروب .
نأتي على قصة صفقة الغاز مع إسرائيل التي انبرى "الهتيفة" من القومجية والإخوانجية في التباكي على ما اعتبروه أنها تنطوي على غبن بحق مصر، بينما يجد حسين سالم نفسه مضطراً لالتزام الصمت، لأن حديثه سيقوده لا محالة إلى كشف تفاصيل، ليس في مصلحة الوطن أن تعلن على الملأ، فليس كل ما يعرف يقال، أو حان وقته، فهناك بالطبع اعتبارات دقيقة يعرفها جيداً رجل تربى في جهاز الأمن القومي، الذي لا تقبل المزايدة على وطنيته ونبل مقاصده، خاصة ممن وصفهم رسولنا الكريم (ص) بالرويبضة وهو "الرجل التافه يخوض في أمور العامة" .
ثم هل يتصور هؤلاء المبتلون بأمراض التنظيمات السرية كالتوجس والعدمية والشعور بالدونية، أن رجلاً بتاريخ ووزن حسين سالم يمكنه أن يتصرف خارج إطار تقديرات الأمن القومي ومن دون علمه ورضاه؟.
وهل يتخيل هؤلاء أن جهازاً وطنياً بتاريخ وسمعة جهاز الأمن القومي المصري، في حاجة لممارسة الوصاية عليه، وممن؟، من بعض الذين تلوثت ذممهم بأموال البترودولار تارة، والمتربحين من الأنظمة الشمولية تارة أخرى، ناهيك عمن تحكمهم ثقافة التطرف والتخلف، والسلوك الانتهازي كأعضاء جماعة "الإخوان المسلمين" .. ألا يبدو ذلك مثيراً للسخرية حقاً؟ .
وهل ينبغي أن يدافع الرجل عن نفسه بطريقة "شمشون" فيهدم المعبد على الجميع، ويكشف ملابسات دقيقة وحسابات سياسية معقدة، تقف خلف إبرام مثل هذه الصفقة، حتى يرتاح الرويبضة وتجار الحروب؟
وهل تعاقدت شركة الرجل مع الشريك الإسرائيلي لبيع "الخيار والفجل"، أم أن الأمر ينصّب على سلعة استراتيجية هي الغاز الطبيعي، والتي تخضع لمواءمات سياسية، جرى بالتأكيد تقييمها على أرفع مستوى، بدءاً من القيادة السياسية، ووصولاً إلى مجموعات تقييم المواقف في أجهزة الأمن القومي المختلفة .
ولماذا يريد الحنجورية أن نزايد على أصحاب القضية أنفسهم، فإذا كان الفلسطينيون يتاجرون مع إسرائيل ويعملون في مزارعها ومصانعها، وهكذا تفعل دولة أخرى وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل هي الأردن، أما ما تفعله بلدان أخرى لم توقع معاهدات مثل قطر فحدث ولا حرج، ومع كل ذلك يريد متعهدو الجنازات أن نكون ملكيين أكثر من الملك، ونعود إلى زمن كان يتندر فيه العربان علينا بالقول "سنحارب حتى آخر جندي مصري"، وقد حاربنا فارتفعت أسعار البترول وجنوا ثماره، وأبرمنا اتفاق سلام وارتفعت أيضاً أسعار النفط، ودائما لم يكن من نصيبنا إلا أن يعايرنا "الأشقاء" بالعوز والفقر، ولم نكن هكذا لولا أننا خضنا المعارك دفاعاً عنهم، وحين تسنح فرصة لتحسين أحوال مصر المتردية بصفقة هنا أو هناك، يخرج علينا أدعياء الوكالات الحصرية للوطنية، باتهامات شعاراتية زاعقة، من طراز إعانة "قال أيه العدو الصهيوني" على الفلسطينيين .
قصارى القول، إنه ينبغي على هؤلاء أن يتسقوا ولو قليلاً مع الواقع السياسي الإقليمي والدولي الراهن، ويتجاوزوا لغة الماضي الخشبية، فإسرائيل الآن دولة تربطنا بها معاهدة دولية وعلاقات دبلوماسية، وقد نختلف أو نتفق معها، كما يحدث كثيراً مع دول عربية كقطر وليبيا والسعودية وغيرها، لكن لا نعلن عليها الحرب ولا نقاطعها، فهذه الأساليب عفا عليها الدهر، وتجاوزها الزمن، وعلى من يريد العودة للماضي أن يقول للزمان "ارجع يا زمان"، كما تقول أغنية كوكب الشرق الشهيرة .
قد يبدو هذا الكلام مستفزاً، ولا بأس بذلك، فالعلاج بالصدمات متعارف عليه لمرضى الحالات الذهنية المستعصية، والركون إلى الماضي واستحلاب مخدر الكراهية الذي كثيراً ما يقف حائلاً دون إدراك المرء لمصلحته ومصالح ذويه، لأنه يكون مدفوعاً بمشاعر غشيمة غير رشيدة، كالتغني على لسان "شعبولا" بكراهية إسرائيل، بينما لا توجد كراهية ولا محبة في علاقات الدول، هناك فقط مصالح، ولا شئ غيرها، وهؤلاء الذين يرطنون بلغة الستينات هم أسرى لثقافة تلاشت من العالم، وأصبحت تصنف ضمن أيقونات الشر المعادية للإنسانية، كالنازية والفاشية وتنظيم القاعدة وغيرها .
ودائما ما يقف تحالف الأشرار هذا ـ الذي ينبغي أن ينقرض كالديناصورات ـ في وجه أي بادرة تقدم على الصعيد السياسي أو الاجتماعي، متكئين على ذريعة رفض "الإملاءات الخارجية"، و"الذود عن حياض الدين"، ولا أدري إذا كانت مهمة رجال الدين أن يخوضوا في مسائل سياسية لا يعرفون أبعادها وخلفياتها، ليتصدوا بالفتيا فيها، كما أشار لذلك زميلنا خالد صلاح قبل ايام في مقاله بصحيفة "المصري اليوم" عن فتاوى إسلامية، وأخرى مسيحية تؤثم الصفقات التجارية مع إسرائيل، وهذه غالباً ما يطلقها هواة الشهرة دون علم كافٍ بالواقع السياسي بالغ التعقيد، والحسابات التي يتداخل فيها ما هو سياسي بما هو اقتصادي بما هو استراتيجي، وكل هذا يخرج عن دائرة الإفتاء كما نعرفها، كما أن الخضوع لابتزاز هذا الفصيل أو ذاك سواء من قبل النخبة أو صناع القرار، هو مسلك سلبي بالغ الخطورة، لأنه يكرس للتخلف، ويشكل عبئاً على عاتق مجتمع يمر بمنعطف كبير، ويشهد تحولات هائلة من "ثقافة الحرب" إلى أجواء التعايش السلمي، الذي لا يعني بالضرورة ـ كما يروج البعض ـ استسلاماً أو رضوخاً لإملاءات خارجية، فلو كان السعي للاندماج في الاقتصاد العالمي، وتجاوز منطق العصاب الديني، وعدم الإذعان للإرهاب الفكري، والانطلاق نحو مستقبل أفضل لأبنائنا وأوطاننا، لو كان كل هذا "إملاءات خارجية"، فأهلا بهذه الإملاءات، ومرحباً بالمزيد منها، دون الاكتراث بهراء المزايدين وباعة الأوهام .
والله المستعان
Nabil@elaph.com
اجمالي القراءات
16827