رقم ( 2 )
الكتاب كاملا

( بنو إسرائيل فى مصر الفرعونية ... فى رؤية قرآنية ) : الكتاب كاملا

هذا الكتاب :

يتناول من رؤية قرآنية تسجيل حياة بنى اسرائيل فى مصر وعلاقة موسى بفرعون فى إطار الجدل بين الحق والقوة ، ويستمر مع بنى اسرائيل بعد هلاك الفرعون ونظام حكمه ، الى دعوة موسى لهم بدخول الأرض المقدسة . ويتضمن فصولا أخرى للوعظ والتذكير .

 الفهرس

مقدمة 

الفصل الأول: جدل الحق والقوة بين موسى والفرعون

( 1 ) جدل القوة والحق  فى رؤية قرآنية : (  أولا : جدل الحق والقوة بين الدنيا والآخرة ثانيا : جدل الحق والقوة  ( على الأرض  ) فى قصص الأمم التى أهلكها الله جل وعلا )

(2 )فرعون موسى إحتكر القوة وإحتكر الزعم بالحق : أولا : إحتكار فرعون للقوة و ( الحق ) من وجهة نظره  . ثانيا : فرعون استخدم الارهاب ليؤكد زعمه بإحتكار الحق :ثالثا : إحتكار فرعون موسى للحق والقوة جعله خبيرا فى أهمية الدعاية والإعلام )

 (3 ) رد على تعليقات على المقال السابق

( 4 ) موسى الخائف الذى يحمل الحق فى مواجهة فرعون المتوحش

( 5 ) ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه )  مقدمة : كيف تعامل موسى ( ومعه الحق ) مع فرعون ( ومعه القوة ) ؟  أولا : مدى قوة موسى :ثانيا : مدى معرفة فرعون بالحق الالهى  ثالثا : خطاب موسى الليّن لفرعون  )

الفصل الثانى : الوعد الالهى والاستخلاف

(1 )  تحقق الوعد : بنو اسرائيل يرثون مصر بعد فرعون  

( 2 )  بنواسرائيل  وموسى فى مصر بعد  فرعون : قارون بين الحق والقوة 

(3 )  إبتلاء الاستخلاف  فى فرعون وبنى اسرائيل 

الفصل الثالث :  بنواسرائيل وموسى فى مصر بعد  فرعون :

( 1 ) ميقات موسى فى جبل الطور : أولا : الميقات الأول : ثانيا : الميقات الآخر : 

(2 ) عصيان بنى اسرائيل فى غياب موسى عند جبل الطور :   

( 3 ) ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْغَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..)

( 4 ) : أخذ الميثاق على بنى اسرائيل تحت جبل الطور  

(5 ) خروج بنى اسرائيل من مصر نحو الأرض التى كتبها الله جل وعلا لهم  

الفصل الرابع : بين الاسرائيليين والمحمديين

( 1 )  لماذا هذا التركيز على بنى اسرائيل فى القرآن الكريم ؟   

( 2 ) بنواسرائيل و المحمديون بين التفضيل والتحقير

الخاتمة : العظة من قصة موسى وفرعون: أولا : ( بين الحق والاستحقاق ) 

 

 

مقدمة :   قصة فرعون موسى فى التأريخ للعصر الفرعونى

1 ـ ذكرت التوراة قصة موسى وفرعون ، ثم تكررت فى القرآن الكريم موصوفة بالحق لقوم يؤمنون ( القصص 3 ) جاءت إشارات وتخمينات فى التأريخ لمصر الفرعونية كتبها بعض علماء المصريات . وبعضهم تجاهل الموضوع لأن ما وصلوا اليه من آثار فرعونية لا يوجد من بينها ما هو منسوب لهذا الفرعون . وهم يستقون معلوماتهم من المكتشفات الفرعونية وما هو مسجل من أوراق البردى . هؤلاء علماء يستحقون الاحترام ، فهم يكتبون طبقا للمادة التاريخية المتاحة لديهم حتى هذا الوقت .

2 ـ الذين لا يستحقون الاحترام هم أولئك الذين يقطعون بعدم وجود فرعون موسى وعدم وجود موسى لأنه لم يتم العثور على دليل مادى من الآثار يثبت هذا . ليس هؤلاء بعلماء ولا باحثين ، لأنهم يتصورون أنه قد تم الكشف عن كل الآثار الفرعونية ، وأنه قد تم تنظيمها وفهرستها كما لو كانت فى متحف ، وأنه لم تعد هناك فجوات بين تلك العصور ، ولم يعد هناك جديد يضاف أو جدبد يمكن إستكشافه . تصورهم هذا دليل على جهل فادح .

3 ـ إن العمران المصرى الحالى يرقد فوق طبقات من الآثار ، يعلو بعضها فوق بعض خلال تاريخ بلغ حوالى سبعين قرنا من الحضارة ، نصفه تقريبا قبل توحيد مصر على يد الفرعون مينامارمر من حوالى 3000 سنة قبل الميلاد . لقد بدأ إستقرار المصريين حول النيل وبناء بداية حضارتهم من حوالى 7000 سنة قبل الميلاد ، وبدأ مشوار التعمير والتحضر الى قيام دولتين فى الدلتا ثم فى الصعيد ، ثم توحيدهما فى دولة مركزية ، ولا زالت تلك الدولة الفرعونية قائمة حتى الآن بنفس الاستبداد والفساد والحكم المركزى والدولة العميقة. ظلت محافظة على هذا مع إختلاف الفراعنة من مصريين وغير مصريين ، من حكم مصرى وحكم أجنبى. 

4 ـ المكتشف من الآثار المصرية هو نسبة ضئيلة ، والبحث لا يزال جاريا ، وكل حين يتم الكشف عن جديد ، وتتم إضافة معلومات جديدة ، وكل حين يتأكد للباحثين الجادين أن ما يعرفونه من هذا التاريخ المصرى قليل من كثير ، خصوصا وأن الاكتشافات عشوائية ، تأتى مرة من تاريخ الرعامسة وحينا من عصر سابق أو من عصر لاحق حسب الظروف . فى مثل هذا لا يقول أحد بنفى قصة فرعون موسى ، إلا إذا كان خارج دائرة العلم .

5 ـ على أن رب العزة جل وعلا أخبر مقدما بالحقائق التاريخية التى تجعل من الصعب العثور على أدلة مادية ( آثار مادية ) تنتمى الى فرعون موسى :

5 / 1 : فرعون موسى غرق فى البحر الأحمر بكل جنده وحكومته . أى لم يوجد بعده من يسجل تاريخه .

5 / 2 : ما تركه خلفه من قصور ومعابد تم تدميرها ، قال جل وعلا : ( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف ). كانت له عمائر عالية ، فقد وصفه رب العزة بأنه صاحب الأوتاد ، أى المبانى العالية الراسخة :( وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ (12) ص ) (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الفجر ). ومنها ذلك الصرح الذى أمر هامان ببنائه : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ (38) القصص ) . ولكن صروح فرعون و ( ناطحات السحاب التى بناها ) كانت من الطوب الحجرى الذى لا يزال يبنى منه المصريون بيوتهم . فالمصريون يبنون بيوتهم من نوعين من الطين : الطين النيىء ، وكان هو الأغلب ، والطين المحروق الذى يتحول الى ما يشبه الحجارة ولكنه ليس بالحجارة . ونرى من الآية الكريمة السابقة أن فرعون كان يستخدم نفس الطريقة المتبعة حتى الآن فى مصر ، وهى ( القمائن ) حيث يتم تجميع الطوب المصنوع من الطين ، وبعد جفافه يتم حرقه فى قمائن فيتحول الى ما يسمى عند المصريين بالطوب الأحمر ، وهو أساس البناء فى المدن والقصور المصرية .

5 / 3 : لم يكن صعبا تدمير عمائر فرعون ، خصوصا عندما نتذكر أن بنى اسرائيل عادوا الى مصر يبحثون عن كنوز فرعون وقومه فى كافة منشئاتهم . بالتالى لم يبق شىء من آثار فرعون موسى . ولولا القرآن الكريم ما عرفنا هذه الحقائق التاريخية عن هذا العصر المنسى .

5 / 4 ـ عموما فإن الآثار الفرعونية التى يتم إكتشافها معظمها  معابد وتمائيل حجرية صلبة فوق سطح الأرض كانت الرمال قد غطتها  مثل الكرنك والرمسيوم أو مدافن تحت الأرض . وليس هذا أو ذاك لفرعون موسى وقومه ، فلم يموتوا فى قصورهم بل غرقوا .

6 ـ نحن نؤمن بالقرآن الكريم حقيقة إلاهية مطلقة ، فيه الصدق المطلق فيما يذكره من قصص وتشريع وموعظة وهدى وإشارات علمية . ولكن ما نفهمه هو الذى يقبل النقد والنقاش ويجوز عليه الخطأ والصواب . وبهذا نقدم هذا البحث عن بنى اسرائيل فى مصر فى عصر موسى عليه السلام .

الفصل الأول: جدل الحق والقوة بين موسى والفرعون

( 1 ) جدل القوة والحق  فى رؤية قرآنية : (  أولا : جدل الحق والقوة بين الدنيا والآخرة ثانيا : جدل الحق والقوة  ( على الأرض  ) فى قصص الأمم التى أهلكها الله جل وعلا )

(2 )فرعون موسى إحتكر القوة وإحتكر الزعم بالحق : أولا : إحتكار فرعون للقوة و ( الحق ) من وجهة نظره  . ثانيا : فرعون استخدم الارهاب ليؤكد زعمه بإحتكار الحق :ثالثا : إحتكار فرعون موسى للحق والقوة جعله خبيرا فى أهمية الدعاية والإعلام )

 (3 ) رد على تعليقات على المقال السابق

( 4 ) موسى الخائف الذى يحمل الحق فى مواجهة فرعون المتوحش

( 5 ) ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه )  مقدمة : كيف تعامل موسى ( ومعه الحق ) مع فرعون ( ومعه القوة ) ؟  أولا : مدى قوة موسى :ثانيا : مدى معرفة فرعون بالحق الالهى  ثالثا : خطاب موسى الليّن لفرعون  )

جدل القوة والحق  فى رؤية قرآنية : ( 1 )

أولا : جدل الحق والقوة بين الدنيا والآخرة :

1 ـ خلق الله جل وعلا الانسان ليعيش فى هذا الكوكب الأرضى ، ومنحه حريته المطلقة فى المشيئة وحريته النسبية فى الحركة ، والحصول على قوة نسبية ومتنقلة . الفرد مخلوق من ضعف يعقبه قوة يعقبها ضعف : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) الروم ) ثم موت : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) النحل  )  . ينطبق هذا على تاريخ البشرية ، هناك دول تقوم ، تبدا ضعيفة ثم تقوى ثم يصيبها الهرم والضعف ثم تسقط ميتة وتصبح صفحة فى التاريخ .

2 ـ فى الآخرة يختلف الأمر . يفقد الفرد حريته من لحظة الإحتضار ، يموت رغم أنفه ، ثم رغم أنفه يكون بعثه هو والبشر جميها ، ثم يكون الحشر ثم العرض أمام الله جل وعلا ، ثم الحساب . الفائزون يدخلون الجنة يتمتعون فيها بحريتهم أبد الأبدين . أما الخاسرون فمصيرهم الى خلود فى جهنم ، أى يفقدون حريتهم من لحظة الاحتضار فى الدنيا الى أبد الأبدين فى جهنم . الحرية مقترنة بالقوة . كانت للفرد حرية وقوة ضاعت هذه وتلك بالموت . الذين خسروا كانوا فى الدنيا متمتعين بالقوة فأساءوا إستعمالها ، سيرون يوم القيامة أن القوة اصبحت لله جل وعلا جميعا : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) البقرة  )  . يوم القيامة يكون لرب العزة جل وعلا إحتكار القوة . إذ فقد البشر قوتهم بالموت وما بعده ، ثم ترجع لأصحاب الجنة حريتهم وقدرتهم اللامحدودة على تذوق النعيم . هذا عن القوة .

3 ـ فى الدنيا يغتر القوى بقوته . يكون فردا ذا سُلطة . تُنسيه السُّلطة أن القوة زائلة ، يغتر بالقوة وبالنفوذ ، وينسى أنها لو دامت لغيره ما وصلت اليه . نفس الحال مع الدول ، تنسى الدول القوية أن القوة مرحلة عرضية زائلة وهى أيضا نسبية ، وأنه سبقها من كان أقوى منها ، وانتهت . فى غرور القوة يزعم صاحبها المُغترُّ بها أن يملك الحق . وبمقدار قوته وضلاله يتطرف فى جعل الباطل حقا الى درجة زعم الألوهية وليس مجرد رفض الحق .

4 ـ فى الآخرة يختلف الأمر ، فكما أن القوة جميعا ستكون لله جل وعلا وحده فأيضا سيكون العدل ـ بمعنى الحق ـ مطلقا ، فلا مجال للظلم يوم الحساب ، قال جل وعلا عن البشر يوم القيامة : ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) غافر )، وعن عدله المطلق يوم الحساب يقول جل وعلا : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) الأنبياء )

ثانيا : جدل الحق والقوة  ( على الأرض  ) فى قصص الأمم التى أهلكها الله جل وعلا :

1 ـ ينقسم قصص الأنبياء الى قسمين ، قصص الأمم التى أهلكها الله جل وعلا ، وقصص الأنبياء الذين كُتب عليهم القتال ليدافعوا عن أنفسهم دون تدخل إلاهى بإهلاك تام للجبارين المعتدين . يبدأ الاهلاك العام للجبارين بقوم نوح وينتهى بفرعون وقومه ونظام حكمه .

2 ـ فى قصص الأمم التى أهلكها الله جل وعلا كان الملأ الكافر الطاغى هو الذى يحتكر القوة ( على الأرض ) ويستخدم هذه القوة فى إخضاع المستضعفين القوة وفى البغى والعدوان ورفض الحق . ونأخذ منهم مثلين : قوم عاد وقوم فرعون .

3 ـ عن قوم عاد :

3 / 1 : قال جل وعلا : ( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فصلت ). لاحظ تعبير ( الاستكبار فى الأرض ) أى إحتكروا القوة على الأرض ، وإغتروا بها الى درجة الكفر ونسيانهم أن الذى خلقهم هو الأشدُّ منهم قوة . وقد قال لهم النبى هود يكلمهم بثقافة القوة التى يعتنقونها يدعوهم الى الايمان بالله جل وعلا وحده : (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) هود ).

3 / 2 :  إستمدوا قوتهم من المطر الذى ينزل عليهم مدرارا ، وعاقبهم رب العزة بالهواء الذى ينزل المطر ، أو الريح ، وكان عقابا مُخزيا ، تحملهم الرياح ثم تضرب بهم الأرض كأعجاز نخل خاوية ، ظلوا في هذا العذاب أسبوعا يعانون الخزى قبل الموت ، قال جل وعلا : ( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) القمر) ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) الحاقة ).

4 ـ فرعون موسى إحتكر القوة فى الأرض ، أى أرض مصر . وبهذا :

4 / 1 : علا  فرعون فى أرض مصر ، فكان التعبير عن ( مصر ) يأتى بكلمة ( الأرض ) تدليلا على قوة تحكم فرعون فى (أرض مصر ) . قال عنه جل وعلا: ( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ )(83) يونس ). ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) القصص )

4 / 2 : أعلن ملكيته لأرض مصر فى مؤتمر حاشد : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ). أى كانت له قوة ( الإعلام ) التى سيطر بها على عقول الملأ فأطاعوه .

4 / 3 : جعل أهل مصر شيعا يستضعف بعضهم وهم بنو اسرائيل ، قال جل وعلا : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص ) . لم يرد ذكر للشعب المصرى الذى كان يملأ مدائن مصر ويزرع حقولها وجناتها ، لأنه كان مملوكا للفرعون يخدمه فى صمت مرعوبا من العذاب الذى كان يوقعه الفرعون ببنى اسرائيل . وقد ورث بنو اسرائيل تلك المزارع والجنات بمحاصيلها والمصريين الفلاحين العاملين فيها ، قال جل وعلا عن فرعون وقومه ونظام حكمه وجنده : (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) الشعراء  ) .

4 / 4 : زعم أنه لا إله غيره معلنا كفره بالله جل وعلا : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ (38) القصص ) ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِفَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ (37) غافر )، وفى مؤتمر آخر أعلن أنه الرب الأعلى : ( فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24) النازعات ).

4 / 5 ـ  قوته على الأرض سوّلت له قلب الحقائق ، فهو يزعم أنه هو الذى يهديهم سبيل الرشاد : (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر  ) ، وأن موسى  هو المفسد فى الأرض  : (  وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر ) ، ونفس الحال مع قوم فرعون ، رأوا فى دعوة موسى لتخليص قومه من عسف الفرعون إفسادا فى ( الأرض ) :( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ) الأعراف 127 )، ورأوا أنها وسيلة لجعل بنى إسرائيل يحتلون مكانهم فى العلو فى ( الأرض ) : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ  )(78) يونس ) .

4 / 6 : الله جل وعلا هو وحده القاهر فوق عباده : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) الانعام) (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61)  الانعام   ) وهو جل وعلا وحده الواحد القهار: (قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) الرعد ) (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) الرعد ). غرور القوة ( على الأرض ) سوّل لفرعون أنه هو وقومه القاهرون فوق بنى اسرائيل : ( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) الأعراف ) كانت عقوبته مزيجا من الألم والخزى ، إذ سلّط الله جل وعلا عليه وعلى قومه الطوفان فأخرجهم الطوفان من قصورهم ، وسلّط عليهم الجراد  ثم القمل ثم الضفادع فكانت تملأ بيوتهم وملابسهم  وطعامهم وشرابهم وفراشهم ، ثم الدم فكان ماء الشرب وماء التنظيف يتحول الى دماء ، ثم سلّط عليهم الرجز ، أى الدمامل ، فتحول وجه فرعون وجسده الى بؤر من الدمامل والقيح والصديد ، وكذلك قومه ، ومن كل هذا نجا الشعب المصرى و بنو اسرائيل . قال جل وعلا : ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)الاعراف).

وفى النهاية كان هلاكهم عبرة لمن يخشى  . قال جل وعلا :( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) النازعات ) . ولم يعتبر المستبدون  الظالمون ــ حتى الآن ـ بنهاية قائدهم فرعون . قال جل وعلا : ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) القصص ).

4 / 7 : من العبرة أنه إغترّ بإحتكاره القوة ( على الأرض ) فكان من عقابه تجريده من هذه ( الأرض ) ، وأن تكون بعده ملكا لبنى إسرائيل: ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص ) ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الاعراف ) ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف )

أخيرا :

مستبد طاغية يقتل الأطفال ويصلب المؤمنين ويقطع ايديهم وأرجلهم من خلاف ، كيف تعامل معه الرسولان موسى وهارون ؟ هما يحملان الحق ويريدان العدل ، وفرعون يحتكر القوة ويزعم إمتلاك الحقيقة المطلقة .!

 

جدل القوة والحق : ( 2 ) فرعون موسى إحتكر القوة وإحتكر الزعم بالحق

مقدمة :

1 ـ فى موضوعنا ( جدل القوة والحق ) يحتل مثال ( موسى وفرعون ) موضع الصدارة . فرعون إحتكر فى شخصه القوة فزعم فى شخصه إحتكار الحق . وموسى كان يحمل رسالة الحق . وعلى الأرض ـ فى دنيا الواقع المرئى ـ كان موسى تحت الصفر فى القوة ، لأنه جاء لفرعون لينقذ قومه من عسف فرعون ، لم يكن فقط  ضعيفا فى حد ذاته ـ بل كان فى ضعفه يحمل على كاهليه شعبا أضعف منه .

2 ـ كيف تعامل من يحمل الحق مع المستبد محتكر القوة على الأرض والذى يزعم إحتكار الحق ؟

3 ـ نبدأ بحال فرعون  :

أولا : إحتكار فرعون للقوة و ( الحق ) من وجهة نظره

1 ـ إحتكار فرعون للحق نتج عنه ـ من البداية أنه كان يذبح أطفال بنى اسرائيل عقابا لهم لأنه كان يتشكك فى إخلاصهم فى عبادتهم له . كانوا يعبدونه ، أو على حد قول فرعونه وملئه : (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) المؤمنون ) . لم تكن عبادتهم لفرعون خالصة لأن بنى اسرائيل لا تزال فيه بقايا من ملة أبيهم ابراهيم . إنتقم منهم فرعون بذبح أبنائهم الذكور . لأنه يريد الولاء له خالصا ونابعا من إيمان به وحده إلاها .

2 ـ إحتكار فرعون للقوة جعله ينشر الارهاب فى ربوع مصر ، فماذا تنتظر من مستبد مجنون يذبح الأطفال. ؟

2 / 1 : إرتعب منه أمراء بيته الحاكم ، حتى إن أميرا من أسرته آمن فكان يكتم إيمانه هلعا من إرهاب فرعون الذى لا يسمح لأحد أن يؤمن بغيره إلاها ، وقد إضطر هذا الأمير المصرى المؤمن لأن يعظ قومه عندما أعلن فرعون عزمه على ان يقتل موسى. قال جل وعلا : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر ).

2 / 2 : الارهاب الفرعونى وصل الى فراش فرعون ، فإمرأة فرعون التى آمنت كانت تدعو ربها جل وعلا أن ينجيها من فرعون وإجرامه ومن قومه الظالمين ، وقد جعلها الله جل وعلا مثلا للذين آمنوا رجالا ونساءا ، قال جل وعلا : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) التحريم ).

 ثانيا : فرعون استخدم الارهاب ليؤكد زعمه بإحتكار الحق :

فى إحتكاره للقوة إستخدم فرعون هذا الارهاب ليؤكد زعمه بإحتكار الحق ، ومن هنا رأى خطورة دعوة موسى، وخاف أن تنتشر فتقضى على أساطيره الدينية ( زعمه إحتكار الحق ) . فالتشكيك فى زعمه إحتكار الحق يؤدى الى فقدانه إحتكار القوة . وهى قضية وجود ، إما أن يكون إلاها وإما أن يفقد سلطانه وحياته . يتجلى هذا فى :

  1 ـ  تعامله مع السحرة المصريين  : الاعتقاد فى السحر كان عاما بين المصريين ، بل قد تأثر به موسى نفسه . وكانت آية موسى أن يهزم سحرة فرعون ، وكان يقين فرعون أنه سيهزم سحر موسى . وتم إستقدام السحرة من كل مدائن مصر ، وجىء بهم الى لقاء فرعون ، وطلبوا أجرا ، فوعدهم بالأجر وبالمكانة المقربة منه. ( قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (114) الاعراف  ) . آمن السحرة برب هارون وموسى لأنهم تيقنوا أن ما جاء به موسى ليس سحرا بل تحولت عصاه الى ثعبان حقيقى يبتلع حبالهم وعُصيّهم .

 كان رد فرعون دليلا على إحتكاره للحق : ( قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) الاعراف) ، ( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) طه ) . لنتفكر فى قوله لهم (آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ  ) (  آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) . أى لا بد ان يطلبوا منه الإذن أولا ، لأنه صاحب السيطرة على قلوبهم ، ضمن زعمه إحتكار الحق . ثم إن هذا العقاب الهائل ليس سببه إخفاق السحرة أمام موسى بل إعلانهم ـ أمام الملأ ـ إيمانهم بإله موسى ، وبالتالى التشكيك فى الحق الذى يزعمه الفرعون . ويتوقع فرعون بعقلية المؤامرة أنها مكيدة لتفريغ المدينة من أهلها ، أى أن ينفض الناس عن فرعون ليلحقوا بموسى ، وأن موسى هو كبير السحرة الذى علمهم السحرة . لذا كان هذا العقاب الهائل فى الصلب وتقطيع الأطراف هو لارهاب المصريين والملأ على السواء . فالتشكيك فى زعمه إحتكار الحق يؤدى الى فقدانه إحتكار القوة . وهى قضية وجود ، إما أن يكون إلاها وإما أن يفقد سلطانه وحياته .

  2 : تعامله مع بنى إسرائيل بعد موضوع السحرة : كان بنو اسرائيل الأكثر رعبا منه ، حتى بعد مجىء موسى ، وقد تطرف فرعون فى إيذائهم بعد موضوع السحرة، وأعلن أنه سيعيد قتل أبنائهم فإزدادوا رعبا ، وشكوا لموسى فأخذ موسى يهدىء روعهم وينصحهم بالصبر ، قال فرعون : (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الأعراف  ). بسبب رعبهم كان معظمهم لا يثق بموسى هلعا من فرعون ومن جواسيسه فى كل ركن فى مصر. قال جل وعلا : ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83) يونس ). هذا يؤكد خوف فرعون من التشكيك فى ألوهيته ، فالتشكيك فى زعمه إحتكار الحق يؤدى الى فقدانه إحتكار القوة . وهى قضية وجود ، إما أن يكون إلاها وإما أن يفقد سلطانه وحياته .

3 ـ حتى  لم يسمح له بأن يخرج بقومه من مصر ، بل وطاردهم الى أن انتهى بجنده وقومه الى قاع البحر . هذا لأن فرعون ـ هذا الرهيب ـ كان أيضا يخاف . يخاف من أن تتبدد اسطورته ( الوهمية ) بدعوة موسى ، اسطورته مؤسسة على الدين ، لو تبدّل هذا الدين سقط إحتكاره للحق ، وبالتالى سقط إحتكاره للقوة . وأى تشكيك فى ألوهيته يؤثر فى إحتكاره للحق وإحتكاره للقوة . من هنا قال لقومه : ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر ). فرعون خائف من تبديل الدين ـ وهو دين قائم على إحتكار الحق فى تأليه فرعون وحده . ومن وجهة نظر فرعون أنه إذا تبدل هذا الدين ظهر الفساد فى مصر . والحل هو أن يقتل موسى .

ثالثا : إحتكار فرعون موسى للحق والقوة جعله خبيرا فى أهمية الدعاية والإعلام

 يبدو فرعون موسى رائدا فى إستخدام الاعلام ، وكان له جيش اعلامى أجاد إستخدامه ليروج وليؤكد على زعمه ( الحق ) أو زعمه الألوهية المطلقة . وهنا قضية متشابكة ، فهو يستخدم قوته على الأرض ( إحتكار القوة ) فى  الزعم بإحتكاره الحق فى الالوهية بالدعاية والاعلان لزعمه أنه الرب الأعلى . يستخدمها إمكاناته اللوجيستية فى حشد الناس وفى حشرهم وفى تجميعهم وفى التلاعب بعقولهم وفى غسل أمخاخهم . وهذا فى خدمة إحتكاره الحق والألوهية .  يستخدم ( القوة ) فى ( زعم الحق ) ويستخدم ( زعم الحق ) فى تدعيم القوة . ونعطى أمثلة :

1 ـ بعد أن أذلّه رب العزة جل وعلا بتسليط الطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم والرجز عقد مؤتمرا حاشدا يؤكد فيه قوته اللوجيستية على الأرض ويتندر بموسى . قال جل وعلا  عن العذاب الذى أوقعه بهم ثم كشفه عنهم : ( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50) الزخرف ) قال جل وعلا بعدها عن مؤتمره الحاشد الذى جمع فيه جنده وقومه ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) الزخرف ) وعن تأثيره فى نفوسهم واستخفافه بهم قال جل وعلا : ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) الزخرف ) . هذا أكبر دليل على عبقرية فرعون موسى فى استخدام الاعلام فى التأثير على قومه .

2 ـ نفس الحال فى زعمه الربوبية الكبرى. قام بتجميع الناس ، وحشرهم فى مكان واحد ، وأعلن فيهم هذه الكذبة الكبرى ، أو زعمه الحق ، قال عنه جل وعلا : ( فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24) النازعات ).

3 ـ آلية التجميع للناس ظهرت أكثر فى مباراة السحر بين موسى والسحرة ، إذ إمتد تجميع السحرة من كل مدائن مصر ( تعبير مدائن هنا يعنى المدن الكبرى ) أى كانت مصر وقتها ممتلئة بالمدن الكبرى . جرى تجميعهم وحشرهم فى مكان واحد ، فى يوم واحد ، يوم عيد أو ( يوم الزينة ) وفى وقت الضحى بالذات . هنا دقة عالية فى التنفيذ الذى يعنى تمام السيطرة على العمران المصرى ووسائل المواصلات البرية والنهرية وتوزيع وتنظيم الاتصالات والمواصلات . ثم لا يقتصر الأمر على تجميع السحرة بل تجميع الناس ليأتوا أفواجا الى نفس المكان والزمان ، ثم تنتشر بيننهم جواسيس الفرعون تهمس فى آذانهم بإنتصار السحرة القادم . نفهم هذا من : ( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) الاعراف ) ( قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) طه ) ( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ (40)الشعراء ) . هذا عن الجيش الاعلامى الذى يعمل فى الدعاية لزعم امتلاك فرعون الحق .

4 ـ أما عن الجيش الحربى فيكفى إقتران هذا الفرعون بالجُند . (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) البروج ) الجنود هنا وصف لفرعون ، أى كان فرعون جنديا محاربا . وقال جل وعلا : (وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص ). وقال جل وعلا : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) القصص )، أى كان هامان هو قائد الجيش بالاضافة الى كونه المشرف على البناء ( القصص 38 ، غافر 36 ). وبقوته الحربية إغتر فرعون وجنوده واستكبروا فى أرض مصر التى وزعها فرعون عليهم اقطاعات.قال جل وعلا عنهم ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) (39) القصص ) ذلك أنه طارد موسى وهارون بجنوده ، قال جل وعلا : ،( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً  )(90) يونس ) وكان مصيره الغرق مع جنوده : ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ) (40 )القصص )، (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)الذاريات )، ( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) طه ) .

5 ـ كانت لفرعون أجهزته الأمنية التى كانت تتجسس على بنى اسرائيل . وقد أوحى الله جل وعلا لموسى بشأنهم : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) الشعراء )، وكانت العلاقة منظمة بين أجهزته الأمنية وجيشه الذى توزع فى أنحاء مصر ، مع قدرة عالية على التعبئة والحشد . وعندما عرف فرعون عن طريق جواسيسه بعزم موسى الفرار بقومه وموعد هذا الفرار أرسل منشورا فى تجميع فصائل جيشه من كل أنحاء مصر ، وحشرهم خلفه وطارد بهم بنى اسرائيل ، قال جل وعلا :  ( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) الشعراء )، أى أرسل لهم منشورا بالحشد فأتوا اليه بسرعة . وطارد هم فرعون بجيشه نحو الشرق ( فى اتجاه سيناء ) قال جل وعلا : ( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) الشعراء )، حتى أدركهم على ضفة البحر ( خليج السويس الآن )، فكان البحر أمام بنى اسرائيل ، وفرعون بجيشه خلفهم . إرتعب بنو اسرائيل ، قال جل وعلا : ( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) الشعراء )

6 ـ كان الجيش  الفرعونى هو الذى يملك ويدير المزارع ، فعصر الرعامسة الحربى تميز بتوزيع مصر إقطاعات على الجيش ، يسخر الجيش الفلاحين فى زراعة جنات مصر على ضفاف النيل وحول عيون الماء فى الصحراء ، وبخروج الجيش من تلك المزارع ثم غرقه عاد بنو اسرائيل وورثوا تلك الجنات والعيون ن قال جل وعلا : ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) الشعراء )

 أخيرا : العبرة

1 ـ ملكية الإعلام  تعبر عن طبيعة الدولة . الدولة الديمقراطية لا تتحكم فى الاعلام ولا تتملكه ، تتركه حرا فى يد الشعب ومؤسساته . المستبد لا بد أن يحتكر الاعلام ليسبح بحمده ، بهذا يحمى إحتكاره للقوة بإحتكاره زعم الحق .

2 ـ  لا يعتبر المستبد الشرقى بمصير إستاذه فرعون موسى . مع أنه يقرأ القرآن الكريم .

 

جدل القوة والحق : ( 3 ) : رد على تعليقات على المقال السابق

مقدمة : فى تعليق على المقال السابق قال الاستاذ اسامة قفيشة : ( في تصورنا لهذا المجتمع المتمدن و المتحضر بمدائنه بعناصره أيام موسى عليه السلام , لا يسعنا سوى الجزم بكثافة العنصر البشري و تعداده الهائل . يتطرق القرآن الكريم و يركز على عنصر الحكم و أدواته و على بني إسرائيل بقوميتهم و عرقهم , في حين غياب المشهد للعنصر الأهم و الأكبر و هو الشعب المصري الأصيل . و يبين لنا بأن بني إسرائيل كانوا أقلية قليله بالنسبة لباقي الشعب ( إن هؤلاء لشرذمة قليلون ) . و حتى هؤلاء القلة القليلة لم تؤمن لموسى و لم تتبعه , بل قلة القلة هم من آمن منهم ( فما امن لموسى الا ذرية من قومه ) , و هنا نلاحظ لفظ ذرية من بني إسرائيل هي فقط من آمنت بموسى عليه السلام , و نحن نعلم بأنهم اثنا عشر ذرية نسبة لأبناء يعقوب . نحن نعلم بأن موسى قد نجاه الله هو و من معه و الغرق كان من نصيب فرعون و جنوده الذين اتبعوه , و لم يردنا في كلام الله جل وعلا بأن موسى و من معه قد عاد لمصر فور غرق فرعون بل هناك إشارة لمكوثه في سيناء . و بناءاً على هذا نفهم بأن الجزء الأعظم من بني إسرائيل الذين لم يؤمنوا بموسى و لم يتبعوه استمر بقاؤهم في مصر بين الشعب المصري , و فهمي لقوله جل وعلا ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) يشير لهم , و لا يشير لمن تبع موسى . ( و فيما يتعلق بلفظ ( فاتبعوهم مشرقين ) فمن وجهة نظري تشير للوقت و لا تشير للجهة الشرقية و هذا لقوله جل وعلا ( فأخذتم الصيحة مشرقين )أي وقت الشروق و لا تعني اتجاه الجهة الشرقية ) . انتهى ) . ونرد فنقول :

أولا : منهجنا

نحن ندخل على القرآن نطلب الهداية والمعرفة وبدون رأى مسبق ، وبدون هوى شخصى أو وطنى أو قومى أو دينى . وبموضوعية باردة نسير مع ألايات نتدبرها وهى توجهنا ، وكل مرة وخلال أربعين  عاما من البحث القرآنى نزداد بالقرآن علما ، ونزداد شعورا بأننا لا زلنا على ساحل المعرفة القرآنية . إنه ذلك الكتاب العظيم الذى لم يقرأه قبلنا ـ قراءة علمية ـ أحد من المسلمين . ولهذا تتوالى إكتشافاتنا القرآنية تصدم ( المسلمين ) ويتعرفون بها لأول مرة على القرآن ، مع أنه معهم ، كما هو معنا . الفارق فى أننا نتدبره نطلب الهداية ، وهم يقرآونه بالهوى من بداية التاريخ الفكرى فى حضارة المسلمين وحتى الآن . يقرأونه بمصطلحاتهم ومعاجمهم ـ وليس بمصطلحات القرآن نفسه ، ثم ينتقون من آياته ما يوافق ظاهرها هواهم ويتجاهلون أو يؤولون ما يخالف هواهم . وعلى هذا الطريق ساروا ـ ولا يزالون .

ثانيا : يقول الاستاذ اسامة قفيشة : ( و حتى هؤلاء القلة القليلة لم تؤمن لموسى و لم تتبعه , بل قلة القلة هم من آمن منهم ( فما امن لموسى الا ذرية من قومه ) , و هنا نلاحظ لفظ ذرية من بني إسرائيل هي فقط من آمنت بموسى عليه السلام . ).

هنا خطأ ، نوضح الحق فيه كالآتى :

1 ـ ( آمن ب ) تعنى الايمان القلبى العقيدى . ( آمن ل ) تعنى : وثق وإطمأن . ونعطى أمثلة قرآنية :

1 / 1 : العادة أن الملأ لا يؤمنون ب ( الرسول ) ، وخوفا على جاههم لا يؤمنون ل ( الرسول ) أى لا يثقون به لأن أتباعه من المستضعفين . يعبر عن هذا قوم نوح وقد قال الملأ من قومه : ( أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111) الشعراء ). أى لا يمكن أن يثقوا به وقد اتبعه الفقراء الذن يرونهم أرذلين .

1 / 2 : ووثق لوط بابراهيم عليهما السلام ، وهاجر معه . يقول جل وعلا : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ  )( 26) العنكبوت ). من الخطأ أن يقال آمن لوط بابراهيم لأن الايمان القلبى العقيدى لا يكون بشخص النبى . فالمعنى هنا ( آمن لابراهيم ـ أى وثق فيه . ).

1 / 2 : وقال الكافرون من أهل الكتاب لبعضهم : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ )(73) آل عمران )، أى لا تثقوا ولا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم .

1 / 3 : ويقول جل وعلا للمؤمنين عنهم:( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ )البقرة 75) ينهى عن الثقة فيهم.

1 / 4 : وقال جل وعلا للمؤمنين عن المنافقين:( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ )(94) التوبة ). لن نؤمن لكم أى لا نثق فيكم بعد أن أخبر الله جل وعلا المؤمنين بأخبارهم .

1 / 5 : وكفار قريش كفروا بالرسول محمد ولم يؤمنوا أيضا ( له ) أى لم يثقوا به ولم يطمئنوا له لأنهم رأوه شخصا عاديا ، يأكل الطعام ويمشى فى الاسواق ليس معه جنات يأكل منها ، وليس لديه كنوز ينفق منها وليس معه ملائكة تسير فى موكبه : (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ) الفرقان ). أى من الممكن أن يطمئئوا له وأن يثقوا به أو أن ( يؤمنوا له ) لو جاء لهم بهذه الآيات . ولهذا قالوا له : ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) الاسراء )

2 ـ أما آمن ب ، بمعنى إعتقد وآمن قلبيا فهى الأكثر ورودا فى القرآن الكريم ، ونكتفى بقوله جل وعلا . ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) البقرة ) ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) البقرة )

3 ـ وقد إجتمع التعبيران ( آمن ب ) و ( آمن ل ) فى قوله جل وعلا عن خاتم النبيين : ( يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (61) التوبة ). أى يؤمن بالله جل وعلا وحده إلاها لا شريك له ، ويؤمن للمؤمنين يثق فيهم ويطمئن لهم .

 ثانيا : ( آمن ب ) و ( آمن ل ) فى قصة موسى وبنى اسرائيل وفرعون :

1 ـ فرعون وقومه لم يكن لهم أن يثقوا فى موسى وهارون ، وهما من بنى إسرائيل العابدين لفرعون وقومه : ( فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) المؤمنون ). لا بد أن ينتمى موسى وهارون الى الملأ المنافق لفرعون حتى يؤمن له فرعون أو حتى يثق فيه فرعون . وهذا يذكرنا بالملأ من قوم نوح .

2 ـ السحرة آمنوا ليس بموسى وهارون ولكن آمنوا ب ( رب موسى وهارون ) وتحملوا القتل الشنيع بسبب إيمانهم برب العالمين : ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) الشعراء ) .

3 ـ فرعون فوجىء عندما رأى السحرة التابعين له المؤمنين به يسجدون معلنين إيمانهم برب العالمين رب موسى وهارون .  رأى ان السحرة قد  (آمنوا) بموسى وقد آمنوا ل ( موسى ): ( قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ )(123 ) الاعراف ) ( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ )(49) الشعراء ) ( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ  )(71) طه ). إستعمل فرعون التعبيرين ( آمن ب ) و ( آمن ل ) .  بالنسبة لفرعون فهو يطلب من الناس أن يؤمنوا ( به ) وأن يؤمنوا (له ) أى أن يثقوا فيه . وبهذا إتهم السحرة بأنهم آمنوا بموسى وآمنوا لموسى .

4 ـ عندما عوقبوا بالإذلال بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والدمامل ( الرجز ) عرضوا على موسى أن يدعو ( ربه ) أن يكشف عنهم الرجز مقابل أن يؤمنوا ( له ) أى أن يثقوا به وأن يطمئنوا له  وأن يرسلوا معه بنى اسرائيل : ( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134 ) الآعراف ). سماحهم بإطلاق سراح بنى اسرائيل يعنى وثوقهم بموسى . أو ( إيمانهم له ) .

5 ـ  وقبل هذا إشتد عسف فرعون ببنى اسرائيل وهدد بالعودة الى ذبح أطفالهم ، وإشتدت مراقبته لهم ، فلم يطمئنوا لموسى ولم يثقوا به لعجزه عن حمايتهم ، أى لم يؤمنوا لموسى خوفا من أن يفتنهم فرعون ، والفتنة هنا تعنى الاضطهاد بسبب الدين . قال جل وعلا : ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83) يونس ) . هنا ( آمن ل ) بمعنى وثق وإطمأن . وليس بمعنى الايمان القلبى . وقد نصحهم موسى بالايمان بالله جل وعلا وحده والتوكل عليه إن كانوا فعلا مسلمين ، فاستجابوا له: ( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) يونس ).

6 ـ جدير بالذكر أن معظمهم لم يكونوا مؤمنين برب العالمين بإخلاص . بدليل أنه بمجرد أن عبر بهم البحر بعد غرق فرعون وقومه وجدوا معبدا فرعونيا ، فأخذهم الحنين الى ديانتهم الفرعونية التى نشأوا عليها ، وطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلاها مماثلا . قال جل وعلا : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) الاعراف ).

7 ـ ومعروف أنهم تأثرا بالديانة الفرعونية صنع لهم السامرى عجلا يحاكى عجل أبيس فعبدوه . أى لم يؤمنوا برب العالمين وحده . وهم أيضا لم يؤمنوا ل ( موسى ) ولم يطمئنوا له مع كل الآيات التى رأوها ، فطلبوا المزيد حتى يأمنوا موسى ويؤمنوا ( له ) . طلبوا منه أن يروا الله جل وعلا جهرة ، فإذا كان الله جل وعلا يكلم موسى تكليما فلماذا لا يرون الله جهرة . قال جل وعلا : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (55)البقرة )

ثالثا : يقول : ( و لم يردنا في كلام الله جل وعلا بأن موسى و من معه قد عاد لمصر فور غرق فرعون بل هناك إشارة لمكوثه في سيناء . و بناءاً على هذا نفهم بأن الجزء الأعظم من بني إسرائيل الذين لم يؤمنوا بموسى و لم يتبعوه استمر بقاؤهم في مصر بين الشعب المصري , و فهمي لقوله جل وعلا ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) يشير لهم , و لا يشير لمن تبع موسى . ) . وأقول :

1 ـ  سنتعرض لهذا بالتفصيل فى مقال قادم . ولكن سريعا نُذكّر بأن بنى اسرائيل حين إشتكوا لموسى ما وقع وما يقع بهم ذكر لهم وعد الله جل وعلا بأن يهلك عدوهم ويستخلفهم مكانهم فى الأرض : ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الاعراف ). هذا كلام عنهم جميعا ، فالاستخلاف يعنى أن يرثوا الأرض بعد أصحابها السابقين . وهذا ما حدث فعلا ، قال جل وعلا : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الأعراف ). وورث جميع بنى اسرائيل أرض مصر وجناتها  لمدة من الزمن ، وهذا ما جاء صريحا وواضحا فى قوله جل وعلا :(  فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) ) مع وجود النّص القرآنى الصريح عن كل بنى اسرائيل لا يجوز إلا التسليم به ، خصوصا وهو يتمشى مع سياق القصة فى سورة الأعراف وسورة الشعراء وسورة الدخان . 

رابعا : يقول : ( و فيما يتعلق بلفظ ( فاتبعوهم مشرقين ) فمن وجهة نظري تشير للوقت و لا تشير للجهة الشرقية و هذا لقوله جل وعلا ( فأخذتم الصيحة مشرقين )أي وقت الشروق و لا تعني اتجاه الجهة الشرقية ) . وأقول :

1 ـ  المشرق فى قصة موسى يعنى جهة الشرق ، لأن السياق هنا عن المكان وليس الزمان . والشرق هو سيناء ، وهى المكان الذى لا بد أن يجتازه موسى بقومه الى الأرض المقدسة التى كتبها الله جل وعلا لهم ، وسيأتى تفصيل ذلك فيما بعد . وهو المشرق المكانى الذى واجهوا فيه البحر ( خليج السويس الآن ) والذى غرق فيه فرعون وإجتازه موسى بقومه . وفى سيناء صحب بنو اسرائيل موسى بكل أسباطهم الأثنى عشرة جميعا بدليل أنه كان يستسقى لهم فتكون عين ماء لكل قبيلة منهم : (وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) البقرة  ). وجرى لهم جميعا نفس الأحداث مع موسى من رفع جبل الطور وأخذ العهد والميثاق عليهم الى أن رفضوا دخول الأرض المقدسة التى كتبها الله جل وعلا لهم . كل ذلك حدث لهم جميعا فى المشرق من النيل .

2 ـ أما المشرق المشار اليه فى قصة لوط فهو يعنى الصبح أو شروق الصبح . فالأوامر من الملائكة للنبى لوط أن يتسلل بأهله ليلا عدا زوجته الكافرة ، ثم سيحل التدمير بالقرية الظالمة صباحا : ( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) هود ). والتفاصيل فى قوله جل وعلا : ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) الحجر).

 

 

جدل القوة والحق : ( 4 ) موسى الخائف الذى يحمل الحق فى مواجهة فرعون المتوحش

مقدمة : نضع أسئلة ونرد عليها

 س 1 ـ لماذا  أرسل الله جل وعلا موسى الى فرعون وليس الى المصريين ؟

ج 1 :لأن المصريون كانوا لا حول لهم ولا قوة . جعلهم الاستبداد والطغيان الفرعونى جسدا بين الحياة والموت ، مجرد جسد تسير عليه مركبات الفرعون الحربية . ولأنه الطاغية المتحكم الذى يملك التصريح لبنى اسرائيل بالخروج مع موسى ولأن بنى اسرائيل لا يمكنهم مغادرة مصر إلا بأمره أرسل الله جل وعلا موسى لهذا الفرعون .

س2  ـ هل يعنى هذا أن الله جل وعلا إعترف بفرعون الطاغية ملكا على مصر ؟

ج 2 ـ نعم . إن الله جل وعلا إعترف بفرعون ملكا على المصريين طالما رضى به المصريون ملكا ولم يثوروا عليه . لو ثاروا عليه فالمعنى أنهم غيّروا ما بأنفسهم من خضوع وخنوع وإستضعاف ، وعندها فإن الله يؤكد هذا التغيير ، فالله جل وعلا هو القائل : (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) ( 11 ) الرعد ) . الأمر هنا مثل الهداية والضلال . إذا أراد الفرد الهداية هداه الله جل وعلا وزاده هدى. إذا أراد الضلال أضله وزاده ضلالا. هى مشييئة الانسان فى البداية ثم تعززها مشية الرحمن . سواء فى الهداية والضلال أو فى مشيئة النفس العزة والكرامة أو مشيئتها الخنوع والخضوع .

س 3 ـ الله جل وعلا هو القاهر فوق عباده . وهو جل وعلا الذى يستطيع تدمير فرعون . وقد أرسل موسى وأخاه هارون بالحق دون قوة فى مواجهة فرعون الذى إحتكر القوة . وقد زوّد موسى بآيات معجزة أبهرت فرعون ، فلماذا لم يزوده بقوة قاهرة يهزم بها فرعون ؟

ج 3 ـ  الله جل وعلا هو القائل ردا على من إتخذ المسيح إلاها : ( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً )(17) المائدة ) . وهو جل وعلا القادر على أن يستبدل قوما بغيرهم ، وهذا ما أنذر به الصحابة فقال : (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) محمد ) . تدمير فرعون وقومه أمر يسير على رب العزة . والله جل وعلا أهلك القوم الكافرين فى عصر نوح وهود وصالح وشعيب . فرعون وقومه هم آخر من أهلكهم الله جل وعلا ، وقد جعل منهم عبرة . ومن العبرة أن يكون هناك دور لموسى وهارون عليهما السلام ، وأن يعطى جل وعلا لفرعون آيات من نوعين : آيات يمكن لفرعون أن يؤمن بها لو أراد . منها آيات الترغيب ، مثل العصا التى تحولت ثعبان ويده التى تبدو بيضاء للناظرين :( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) الأعراف  )، ثم جاءت آيات التهديد عندما لم يؤمنوا : (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) الاعراف) وبعد نكثهم كانت الآية الأخيرة بفلق البحر وإغراقهم : (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67 ) الشعراء ). بهذا تكون الحجة على فرعون . ولهذا فإنه حين أعلن إسلامه عند الغرق لم يُقبل منه ، وفى هذا عبرة ودرس للناس جميعا ، قال جل وعلا : (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ (90) أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) يونس  ) . وفى نهاية الآية الكريمة نعرف الغرض والهدف ، كان جسد فرعون الذى قذف به التيار ورآه بنو اسرائيل آية لمن جاء بعد فرعون ، كما إن قصة فرعون فيها عبرة لمن يخشى كما جاء فى سورة النازعات (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)) .

س 4 :هذا بالنسبة لفرعون وقومه . فماذا عن موسى وأخيه هارون ؟

ج 4 : وعده ربه جل وعلا أن يحميه هو وأخاه هارون وجعله عضدا له . ونستشهد ببعض الآيات :

1 ـ ( قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) القصص ) هنا وعد بأن فرعون بكل سطوته فلن يصل الى موسى وأخيه .

2 ـ وفى آيات أخرى كان تأكيد الرحمن جل وعلا لموسى وهارون أنه جل وعلا معهما يسمع ويرى : ( قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46 ) طه ) ( قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) الشعراء ) . وقد طمأنه ربه جل وعلا بأنه سيحميه من فرعون فى مطاردة فرعون له : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى (77) طه ) ، لذا فإن موسى حين لحق به فرعون بجيشه واصبح محاصرا بين البحر وفرعون قال له أصحابه  : ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) الشعراء ) ، فرد عليهم قائلا : (َّ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) الشعراء ) .

3 ـ وهذا يجيب على سؤال ضخم : لماذا لم يقم فرعون بقتل موسى وهو داخل مملكته ويبدو أنه تحت سطوته وفى إمكانه أن يقتله بسهولة . بل إن فرعون هدّد فعلا بهذا : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر ) فاستعاذ موسى عليه السلام بربه جل وعلا : ( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) غافر ) وتصدى الرجل المؤمن من آل فرعون يعارض الفرعون :( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر  ). الجواب إن قدرة الله جل وعلا القاهر فوق عباده هى التى حالت بين فرعون وتنفيذ تهديده .

س 5 : نتصور النبى موسى غاية فى الشجاعة حين واجه فرعون الطاغية فى عُقر داره .

ج 5 : على العكس . كان خائفا . بل إن موسى هو النبى الوحيد فى القصص القرآنى الذى لازمه الخوف فى تحركاته . كان شخصية بشرية طبيعية متأثرة بالظروف التى نشآ فيها وصبغت شخصيته . فقد رضع لبن الخوف من أمّه ، وكانت تربيه تحت رعاية فرعون المتوحش  . وكبر وهو يعرف قومه الذين ينتمى اليه ، ووضع قومه بالنسبة لفرعون . أى نشأ فى خوف وفى وجل يتوقع الخطر فى أى لحظة ، لذا كان بدافع طبيعى يتصرف دفاعا عن النفس ، ويتصرف بالغضب ، ثم يهدأ ، وقد يستغفر . ونعطى أمثلة :

1 ـ دخل المدينة فوجد رجلا مصريا يتقاتل مع رجل من قومه ، وبالطبع يعرفه ضمن معرفته بقومه ، والرجل الاسرائيلى أيضضا يعرف موسى لذا إستجار به ، فضرب موسى المعتدى فقتله ـ بلا قصد . واستغفر ، ولازمه الخوف ، سار خائفا يترقب : ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ  ) (18)القصص ) ، وحذّره رجل من أن (الأمن المصرى ) فى المدينة يتآمر على قتله وأنه لن ينجو منهم إلا بالهرب ، فهرب من المدينة خائفا يترقب : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) القصص ).

2 ـ وحين ذهب الى الرجل الصالح فى مدين وقصّ عليه قصته كان لا يزال خائفا ، فطمأنه الرجل الصالح وقال له : ( لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) القصص ).

3 ـ وحين كلمه ربه جل وعلا بالوادى المقدس طوى فى جبل الطور أمره ربه جل وعلا أن يلقى عصاه ليُريه آية معجزة ، فتحولت العصا الى حية تسعى تهتز فى الظلام ، بلغ به الخوف أنه إنطلق هاربا دون أن يلتفت الى الخلف ، وناداه ربه جل وعلا يطمئنه : ( وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ (31) القصص )( وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلنمل ) .

4 ـ وتجلى خوفه ـ هلعا ـ حين أمره ربه جل وعلا أن يذهب الى فرعون يطلب منه أن يرسل معه بنى اسرائيل ولا يعذبهم . كان من ردّه :  ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) الشعراء ) َ(قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) القصص ). وبعث الله جل وعلا معه أخاه هارون ، فأصبح الخوف من فرعون مزدوجا : ( قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46 ) طه ).

5 ـ وفى مباراة السحر كان موسى متأثرا ببيئته المصرية التى تعتقد فى السحر . والسحر ليس قلبا للأشياء كأن يتحول القط الى فيل ، بل هو مجرد خداع بصرى يقع فيه من يعتقد فى السحر فيتصور القط فيلا . السحرة أوهموا الناس أن حبالهم وعصيهم قد تحولت الى ثعابين ، فسحروا أعين الناس واسترهبوهم : (  قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) الاعراف ) ، تعرض موسى لنفس التأثير ، وأصابه الخوف ، لولا أن تداركته رحمة ربه جل وعلا : ( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) طه )

6 ـ إندفاعه فى الغضب هو الوجه الآخر للخوف ، وقد قال عن نفسه : (  وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي ) (13) الشعراء  ) . ونتصور أن صدره كان يضيق كثيرا بأفعال بنى اسرائيل ، ومنها عبادتهم للعجل حين تركهم فى مصر وذهب الى جبل الطور حيث ميعاد ربه جل وعلا . رجع فوجدهم قد عبدوا العجل ، وقد استهانوا بهارون عليه السلام. إشتد غضبه وعصف بأخيه هارون . قال جل وعلا : ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) الاعراف ) (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) طه ) .

س 6 : كيف يتفق خوف موسى مع قوله جل وعلا عنه : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14 ) القصص )

ج 6 : الحكم والعلم هو ما يخص الرسالة والنبوة . وهذا تعليم الاهى لكل رسول. ويتجلى هذا فى:

1 ـ  توبته حين قتل خطأ الرجل المصرى (  قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) القصص )

2 ـ هدأ بعد غضبه من قومه وأخيه حين عبدوا العجل ( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) الاعراف ) ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) الاعراف ) .

3 ـ تعلمه الهدوء من النبى الصالح الذى جاءت قصته معه فى سورة الكهف .

4 ـ وفيما عدا ذلك فقد أدّى موسى عليه السلام رسالته ، واستحق أن يقول عنه ربه جل وعلا : (  وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) طه ) (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) طه ) (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (53) مريم ).

جدل القوة والحق : ( 5 ) ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه ) 

مقدمة : كيف تعامل موسى ( ومعه الحق ) مع فرعون ( ومعه القوة ) ؟ فرعون إحتكر الزعم بالحق مع إحتكاره القوة ، كان فى مواجهته موسى الذى كان يحمل رسالة الحق ، ومعززا بالقوة الالهية . كيف تعامل موسى مع فرعون وهما طرفا نقيض ؟ . هذا يستلزم التعرف على مدى (قوة موسى ) ومدى معرفة فرعون بالحق الالهى . لأن هذا هو الأساس الذى تعامل على أساسه موسى عليه السلام مع فرعون .

أولا : مدى قوة موسى :

1 ـ أعطى الله جل وعلا موسى آية العصا يفعل بها المعجزات ، ولكن لم يكن لموسى حرية إستعمالها ، كان إستعمالها بأمر من الله جل وعلا ووحى منه .

1 / 1 ـ  فى البداية أوحى الله جل وعلا له : ( وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) النمل )، كان موسى أول من شهد هذه الآية وارتعب منها .

1 / 2 : وفى مباراة السحر عندما تأثر بأفاعيل السحرة جاءه الوحى أن يلقى عصاه ، قال جل وعلا: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) الاعراف ) .

1 / 3 :  وحين حوصر بقومه بين البحر وجيش فرعون جاءه الوحى بأن يضرب البحر بعصاه، قال جل وعلا:( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) الشعراء) .

1 / 4 :  بل حين أراد قومه السقيا وهم فى سيناء فإستسقى لهم فأمره ربه جل وعلا أن يضرب الحجر بعصه فانفجرت من الأحجار إثنتا عشرة عينا ، لكل قبيلة من بنى اسرائيل العين الخاصة بها . قال جل وعلا : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ) (160) الاعراف ).

2 ـ  لم يكن حرا فى إستعماله للعصا ، ولم يكن الأمر الالهى له بإستعمال العصا كثيرا ، بل فقط فى المتطلبات الضرورية . بالتالى تعين على موسى أن يستعمل قدراته الخاصة فى التعامل مع فرعون .

ثانيا : مدى معرفة فرعون بالحق الالهى

1 ـ هذه القدرات الخاصة به يتضمنها قوله جل وعلا عنه ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) القصص ) . وضمن هذا التعليم الالهى له أمره جل وعلا له ولأخيه هارون أن يقولا لفرعون قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى :( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه ).

هذا التعليم الالهى يعنى أن فى فرعون بذرة خير ومعرفة بالحق جل وعلا ، وقد جحدها بغروره وإستبداده . وقد قال جل وعلا عنه وعن قومه : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً )(14) النمل ). أى عرفوا الحق الالهى ، ولكن جحدوه . جحدوه بسبب العلو والظلم والاستبداد الذى وصل بفرعون الى زعم الألوهية والربوبية الكبرى .

2 ـ هذا الجحد لم يمنع فرعون من أن يفلت لسانه فيعترف بالملائكة ، قال فى مؤتمر حاشد يتندر على موسى : ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) الزخرف)، اى يعرف الملائكة وبالتالى يعرف رب الملائكة جل وعلا ، وأن رب الملائكة هو الذى أرسل موسى ، وهو يريد أن يرسل الله جل وعلا ملائكة مع موسى تؤيده .

3 ـ هذا الجحد جعل فرعون يتج

( بنو إسرائيل فى مصر الفرعونية ... فى رؤية قرآنية )
يتناول من رؤية قرآنية تسجيل حياة بنى اسرائيل فى مصر وعلاقة موسى بفرعون فى إطار الجدل بين الحق والقوة ، ويستمر مع بنى اسرائيل بعد هلاك الفرعون ونظام حكمه ، الى دعوة موسى لهم بدخول الأرض المقدسة . ويتضمن فصولا أخرى للوعظ والتذكير .
more