واقع الإسلام السني.. تشتت في الرؤى وتراجع في الوعي المدني

اضيف الخبر في يوم الأربعاء ٠٤ - مايو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: العرب


واقع الإسلام السني.. تشتت في الرؤى وتراجع في الوعي المدني

واقع الإسلام السني.. تشتت في الرؤى وتراجع في الوعي المدني
  • التصور الفكري الذي قدمه الإسلام السياسي، بشكل عام، منذ لحظات المودودي وحسن البنا وصولا إلى الصيغة الإسلامية الأكثر إيغالا في الدموية (داعش)، لم يكتف فقط بكونه شكّل نموذجا مجتمعيا أصوليا ومفارقا للزمن والحداثة، بل إنه أيضا تشظى وأنتج نسخا وصيغا إسلامية متباينة ومتخاصمة؛ متخاصمة مع كل ما عداها أولا، ثم مع المذاهب المختلفة ثانيا، وأخيرا متباينة حتى داخل الفضاء السني الواحد. مفارقة تنطلق من ماهية الإسلام السياسي ذاته، المبني على إقصاء المختلف وتأثيمه، ومتصلة بانغلاق الإسلام السياسي على نفسه وسده كل منافذ الاجتهاد والتجديد، ما أدى في المحصلة إلى ركون الإسلام السياسي، بكل فروعه، إلى أدبياته الآسنة ورفضه كل هواء مجدد.
العرب شادي علاء الدين [نُشر في 04/05/2016، العدد: 10265، ص(13)]
 
المسلمون السنة: كل أسباب توحيد وتطوير الآراء موجودة والنتائج غائبة
 
يقوم الإسلام السنّي على فكرة إقفال الاجتهاد ونهائية العقيدة، ومنع إعادة النظر فيها من جديد، ويفترض بهذا المنطق أن يقود إلى توحيد النظرة إلى العقيدة بين عموم السنة في كل العالم، ولكن الأمور لم تجر إطلاقا وفق هذا الافتراض الذي يبدو للوهلة الأولى بديهيا، بل وعلى العكس من ذلك، نمت وتكاثرت تيارات إسلامية سنيّة تحمل مشاريع مختلفة، تتبنى جميعها الصيغة الراديكالية الإسلامية السنية التي تقول بتمام الدين ونهايته في مواجهة التيارات الأخرى.

انطلق هذا الفهم من فكرة الإحكام الديني القائم في صلب تكوين العقيدة السنيّة، لتؤسس تيارت سنية تدّعي كل واحدة منها امتلاك الحقيقة السنية كاملة، والتعبير الكامل عن بنية العقيدة السنية التي تماهي نفسها بالإسلام ككل ولا تعتبر نفسها مجرّد مذهب.

نشأت بذلك حالات تسنّن مغلقة، كرّست نفسها في صيغ سياسية تبلورت في أنظمة حاكمة لم تنجح إرساء دول حديثة، متّصلة بالزمن وجعلت من عمليات التغيير داخل المجتمعات أمرا شديد الصعوبة ولا يمكن لحاكم أن يقدم عليه مهما بلغت مكانته.

اتّخذ الطابع التأسيسي الذي قامت عليه جل الدول السنية في المنطقة والعالم حالة من التماهي بين شكل خاص من الإسلام السنّي وبين طريقة عيش وعادات وسلوكيات المجتمع، بحيث اندمجت تلك السلوكيات والتقاليد في بنية العقيدة نفسها، وباتت ممّا لا يجري عليه التغيير، ولا تطاله التحوّلات، كما هو حال البنية التي تحكم عقل الإسلام السنّي عموما.

لم ينجح السنة في الاستفادة من الطابع الأكثري الذي يميزه حضورهم في العالم، بل كانوا غالبا أكثرية ذات طابع أقلوي، وبذلك كان خصومهم من الأقليات ذات الطابع الأكثري ينجحون في أن يشكلوا في كل مواجهة بينهم وبين تيار سني في المنطقة حالة تبدو فيها الأمور وكأن هناك أكثرية تواجه أقلية وليس العكس.

هكذا بدت الحرب السنية الشيعية التي يكثر الحديث حاليا عن أنها المعركة التي من شأنها تحديد مصير المنطقة وكأنّها حرب بين مكوّن أكثري وبين تيارات أقلّوية متفرّقة. ولعلّ اختلاف التركيب العقائدي بين السنّة والشيعة لناحية فتح باب الاجتهاد قد أدّى إلى خلق صيغ عقائدية مرنة وقابلة للتوظيف السياسي المفتوح في الوسط الشيعي، في حين أبقت التركيبة العقائدية السنّة أسرى جمود نظري يُصعّب إلى حد كبير عملية ملاءمة العقيدة مع متطلبات السياسة.
الأصوليات تتبنى جميعها خطاب تأصيل الأصول، وجميع المجازر المنتشرة في المنطقة إنما تتخذ من هذا الخطاب حجة ومنطلقا

لا يعني ذلك أننا أمام نوعين من الإسلام، واحد شيعي منفتح ومرن وآخر سني منغلق، بل تكمن المفارقة الحادة في أن الراديكالية هي الصيغة المشتركة بينهما. وجه الاختلاف يكمن في أن الراديكالية الشيعية استفادت من فكرة العقيدة المفتوحة على الاجتهاد لتأسيس عقيدة راديكالية مقفلة تقطع مع البنى التاريخية والسياسية والأيديولوجية للإسلام الشيعي وتضرب أصوله العربية، وتبلور صيغة خاصة من التشيّع وهي نظرية ولاية الفقيه المطلقة التي باتت الصيغة العقائدية التي ينضوي تحتها جل الشيعة، وهي صيغة راديكالية مقفلة ولكنها تمتلك قدرة لا نهائيّة على الاستثمار والتوظيف السياسي.

لم تستطع الراديكالية السنية قطع صلاتها مع عناصرها التأسيسية ولا التجديد فيها كذلك، لذلك بقيت محاصرة بحدود جامدة جعلت من عملية إنتاج السياسة وتطوير المجتمعات وتحديثها أمرا بالغ الصعوبة، ولعلّ هذه المسألة كانت تشكل صلب اهتمام ملك السعودية الراحل عبدالله بن عبدالعزيز حين لام علماء الدين السنّة في لقاء موسع جمعه بهم على ما أطلق عليه تسمية”الكسل الفكري”، هذه التسمية تختصر واقع وأزمة ما يعاني منه الإسلام السنّي اليوم، فهذا الكسل الفكري أدّى، وعلى العكس من دعوى ضبط العقيدة الذي يسم الإسلام السنّي، إلى انفتاح حدود التأويل وإعادة الإنتاج، حيث بدا الإسلام السني وكأنّه لم يوجد بعد وترك للتيارات المتطرّفة مهمة إنتاجه في صيغة دمويّة مرعبة، يجتهد من يسمّون أنفسهم أصحاب الإسلام المعتدل في مواجهتها بشكل أساسي عبر نزع صفة الإسلام عنها، والقول إنّ أفعال هؤلاء ليست من الإسلام في شيء. هذا الرد الضعيف والهزيل لا يستطيع أن يواجه بأي شكل من الأشكال تلك الدعاية السلبية الهائلة التي يطلقها التطرّف والتي تربط الإسلام السنّي بشكل خاص بالإرهاب والعنف.

من يُعرّف نفسه خلال قيامه بعملية انتحارية على أنه مسلم سنّي، ومن يزرع الرعب في قلب أوروبا ويفجر علمانيتها لا يمكن مواجهته بنفي نسبته إلى الإسلام، خصوصا في ظل غياب تحديد محكم ونهائي لما يجب أن يكون عليه الإسلام السنّي مع هذا الفراغ، والذي لم يعد أحد قادرا على منع التنظيمات المتطرفة من أن تدّعي ليس الدفاع عن الإسلام السنّي فحسب، بل إنتاجه وتفسيره وتأويله.

كان لافتا أن المملكة العربية السعودية قد عمدت خلال سعيها لمحاربة النفوذ الإيراني في المنطقة إلى استخدام عنوان العروبة وليس السنيّة، في حين أن إيران بقيت على الدوام ترفع بوضوح العنوان الشيعي، السبب في ذلك قد يكون عائدا إلى أنّ السعودية تعلم أنها، وعلى الرغم من ثقلها المعنوي الهائل عند السنّة، لا تمتلك الحق الكامل في النطق باسم السنّة، في حين أن إيران، وعلى العكس من ذلك، تعلم أنها قد انتزعت الحق في النطق باسم الشيعة في العالم، وجرّهم إلى الإقامة في الحيز الثقافي والسياسي الفارسي وتذويب خصوصياتهم.

 
لم ينجح السنة في الاستفادة من الطابع الأكثري الذي يميزه حضورهم في العالم
 

هكذا يكون عنوان الحرب السنية الشيعية في المنطقة غير دقيق، فهناك حرب شيعية فارسية ضد العروبة، التي لم تنجح في أن تصبح الناظم الأعلى للهوية السنية بنفس قدر النجاح الذي حققته عملية التماهي بين الشيعية والفارسية على مستوى نسخ العادات والطقوس والثقافة الإيرانية، ونقلها إلى الساحات الداخلية للشيعة في كل مكان.

بقيت العروبة التي عملت السعودية على إحيائها في مواجهة التفريس حالة ناقصة لا تعريف محددا لها، وخصوصا أنها كانت عنوانا تبنته جل الديكتاتوريات في المنطقة وقمعت شعوبها باسمه، ولكن ذلك لم يعن أبدا سقوط هذا العنوان ونهايته فهو لا يزال محتفظا بالقدرة على إثارة وعي خاص بالهوية قد يكون مشتركا عند جزء أساسي من شعوب المنطقة، ولكنه لا يحمل دلالات موحدة كما هو حال العنوان الفارسي الشيعي.

من هنا كان هذا العنوان قادرا على القيام بمهمة استنهاض مرحلية مؤقتة وليست استراتيجية، وبدا أن العنوان القادر على تصميم مواجهة فعلية مع إيران هو العنوان السني وحده.

وانطلقت ورشة مفادها محاولة خلق تماه بين العروبة والإسلام السني مع الإصرار على استبعاد التعبير المباشر عن السنية. انطلقت عملية بناء قوة عربية إسلامية حرصت فيها السعودية على هذه التسمية التي اتخذت طابع ترميز عميق الدلالة لناحية الربط بين العروبة والإسلام من ناحية، واعتبار الإسلام السني هو الإسلام الكلي الذي يحضر بصفته هذه التي تتجاوز حدود المذهب مهما كان واسعا.

محاولة مماهاة العروبة بالسنية والإسلام عملية شاقة ومكلفة، وتتطلب جهودا تمتد لعقود في ظل حرب جارية، لذا بدت هذه العملية وكأنها جهد استثنائي تقوم به السعودية على حسابها، وهو جهد يستجيب له الآخرون ويستفيدون من مزاياه دون أن يكونوا مشاركين فعلا في صناعته، بمعنى أنه ليس تعبيرا عن بنية استراتيجية عربية إسلامية بقدر ما هو تعبير عن طموح استراتيجي سعودي. لعل السعودية تدرك ذلك تماما، ولكنها تحرص على الانطلاق من نقطة ما، وتتجاوز من أجل ذلك كل الخلافات والخصوصيات التي تبديها دول مثل مصر وغيرها، وتحرص على إذابة الخلافات لمواجهة ما تنظر إليه عن وجه حق على أنه تهديد استراتيجي، وهو التهديد الإيراني.

تكمن المشكلة في أن هذا المنطق السعودي يصطدم بالاختلافات في ماركات الإسلام السني في المنطقة بشكل يبدو معه الحديث عن حلف عربي سني لمواجهة التهديدات الايرانية أمرا عسيرا.

لا يبدو الحلف الثلاثي المفترض بين السعودية ومصر وتركيا ممكنا عمليّا، حيث أنّ سياسة مصر تظهر وكأنّها تقوم بشكل شبه حصري على فكرة محاربة إرهاب الإخوان المسلمين، هذا الخوف المرضي من عودة الإخوان المسلمين يحكم جلّ منطق العقل السياسي الراهن في مصر، وهو عقل لا يمكن بأي حال تصوّر إمكانية خروجه من هذه الدائرة الضيقة والدخول في حلف استراتيجي مع تركيا الأردوغانية الإخوانية، كذلك لا يبدو أن تركيا قادرة على الدخول في حلف عميق مع السعودية، الدولة التي كانت لها اليد الطولى في إسقاط حكم الإخوان في مصر. هكذا تبدو المعركة عمليا بين السعودية ودول الخليج من جهة وإيران من جهة أخرى، بالإضافة إلى حروب داخلية سنيّة سنيّة وتنافس واختلاف أجندات بين الدول السنية العربية وغير العربية.

يضاف إلى ذلك كلّه أن السعودية تنادي بأولويّة حل مشكلة التغوّل الايراني في حين ينادي المجتمع الدولي بأولوية الحرب على الإرهاب، ومن هنا تقع على كاهل الدولة السنية الأبرز في المنطقة والعالم مهمّة التوفيق بين سلسلة من المهمات الشديدة الصعوبة، وهي مواجهة التغول الإيراني، وتأمين حد أدنى من التفاهم بين الدول العربية، إضافة إلى محاربة الإرهاب الذي تتهمها أميركا بالمساهمة في تقويته ودعمه مع أنه يضربها ويهدّدها.

محاولة مماهاة العروبة بالسنية والإسلام عملية شاقة ومكلفة، وتتطلب جهودا تمتد لعقود في ظل حرب جارية

يمكن للتحولات الكبرى أن تتجلّى في تفاصيل بالغة الصغر، ويمكن أن تكون مسألة السنة اللبنانيين ومأزق الأصالة المطروح نموذجا واضحا ومناسبا للتدليل على هذا الموضوع في ما يعكسه واقع الانتخابات البلدية في مدينة بيروت بشكل خاص من دلالة بالغة الأثر، فلقد شكّل المجتمع المدني لائحة أطلق عليها اسم “بيروت مدينتي” وشكّل تيار المستقبل لائحة أطلق عليها اسم”البيارتة”، حرص التيار على المناصفة في عدد المقاعد بين المسلمين والمسيحيين، وأطلق خطابات يؤكد فيها أنّ خصمه الحقيقي هو من يقف في وجه هذه المناصفة. وبدا هذا الكلام للوهلة الأولى غير مفهوم ولا يمكن تحديد الجهة المقصودة به، لكنّ قراءة واقع الحال السنّي كما يتجلى في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الأحاديث الخاصة تظهر أن المقصود بهذا الحديث عمليا هو السنة أنفسهم، حيث أن هناك خطابا بدأ يظهر وهو يقول برفض المناصفة، والإصرار على أن تكون كل المقاعد البلدية في العاصمة من حق السنة.

لا يستطيع تيار المستقبل السير في مثل هذا الخطاب دون أن يفقد طابعه الوطني، ولا يستطيع كذلك الحفاظ على طابعه الوطني دون أن يخسر من رصيده السنّي، وذلك على عكس حال حزب الله الذي يماهي بين صيغته الخاصة من الوطنية اللبنانية وبين الحفاظ على رصيده الطائفي الشيعي.

كذلك لم يستطع تيار المستقبل ولا المجتمع المدني تصميم خطاب انتخابي إلاّ انطلاقا من فكرة الدعوة إلى الأصالة، والانتساب الأصيل الى المدينة الذي يستتبع تاليا الحق في تمثيلها.

دعوى التأصيل هذه التي سيطرت على المناخ الانتخابي البلدي في المدينة التي يشكل السنّة القسم الأكبر من الناخبين فيها، عكست نزعة مخيفة باتت تسيطر على الوعي السنّي اللبناني عموما، والذي لم يعد كما كان سابقا ينطوي على وعي مديني، بل بات الوعي السني وعيا ريفيا تربطه بالأصولية جملة من العلاقات أوسع بكثير مما يربطه بالانفتاح الذي يمثّل سمة المدن وروحها.

اجمالي القراءات 2662
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق