احنا ممكن نقسمهم . ابتسمت وعرفت أن قنابل الغاز ليست السبب الوحيد للدموع

اضيف الخبر في يوم الأربعاء ٠٢ - فبراير - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الدستور


احنا ممكن نقسمهم . ابتسمت وعرفت أن قنابل الغاز ليست السبب الوحيد للدموع

محمد خير يكتب شهادته عن ليلة 26 يناير: الغاز في سيارة الترحيلات
الخميس, 27-01-2011 - 6:32الخميس, 2011-01-27 18:32 |

في ظلام سيارة الترحيلات، كنت أطمأن نفسي بأنه مازال لديّ العين اليسرى . اليمنى لم تكن ترى سوى بقعة سوداء دائرية، وكل الاحتمالات ممكنة، من الكدمة البسيطة إلى انفصال الشبكية، لم يكن واردا البحث عن مساعدة، فبجواري كان يرقد منهارا  أربعينيّ مصاب بالسكري ، وثمة حالتين أو ثلاثة من الإغماءات، العربة الحديدية الضيقة، شبه معدومة الشبابيك، كانت تضم أكثر من ثلاثين محتجزا، لكن الرعب بدأ عند إطلاق قنابل الغاز على مجموعة محتجين قريبة من ميدان التحرير، قنبلة الغاز تصيب بالغثيان وتلهب العين في المساحات المفتوحة، لكنها قد تقتل في المساحات المغلقة، هذا ماكان بدأ يحدث فعلا في العربة المزحمة التي تسلل الغاز إليها من المساحات الضيقة بين القضبان الحديدية، ازدادت الإغماءات وبدأنا الطرق من الداخل على جدران السيارة دون استجابة، خطر لي لحظتها عشرات الحوادث الشبيهة عن محتجزين اختنقوا في سيرة الترحيلات حتى من دون قنابل غاز، ولم أعد أفكر في عينيّ !

كنا قد تحركنا بالمظاهرة من شارع شمبليون بوسط البلد، الشارع التجاري العريق نال نصيبه من قنابل الغاز، وامتلأ بأسوأ اختراع في عهد مبارك : البطلجية والمجرمون الذين يحضرونهم بالسيارات، في أيديهم الجنازير والسلاسل الحديدية والأسلحة البيضاء، يندسون وسط المتظاهرين ويهتفون معهم، ثم يبدأون الهجوم من قلب المظاهرة ذاتها، مواجهات شمبليون اشتعلت ثم تحركنا إلى شارع رمسيس وازداد العدد، وازدادا مجددا عند حواف منطقة بولاق أبو العلا، وعندما وصلنا ميدان عبد المنعم رياض بدت المظاهرة كبيرة مهيبة، و عند مقر الحزب الوطني بدأ الهجوم الثاني.

تراصت تشكيلات قوات الأمن المركزي أمام بوابتي الحزب الذي تعرض للهجوم في الليلة السابقة، المشهد المألوف لم يعد يثير الرعب، الخوذات والملابس السوداء والعصي في صفوف منتظمة، اقتربت المدرعات وبدأت إطلاق قنابل الغاز ، ومثل الليلة السابقة انطلق الرصاص الحي في الهواء من وراء أسوار الحزب، وبينما يترقب المتظاهرون هجوم الجنود، انطلق الهجوم فجأة من أصحاب الزي المدني. هؤلاء ليسوا من البلطجية بل من مباحث أمن الدولة المدربين على الاعتقال، القواعد القديمة تقول للمتظاهر ألا يقاوم إذا لم يستطع الهرب تجنبا للضرب المبرح، طاردني اثنان من المباحث وهربت منهما وانخلع المعطف في يدهما، لكن ثالثا ظهر في مواجهتي مسددا لكمة مظلمة إلى عيني اليمني، انكسرت النظارة في وجهي ووجدت نفسي على الأرض، تكوّمت متلقيا الركلات واللكمات، الأدرينالين حجب شعور الألم، ووجدت نفسي محمولا يعبرون بي إلى الناحية الأخرى من الطريق، الضرب مستمر إثناء سحلي إلى هناك والأسئلة لا تتوقف: ماذا تعمل؟ أين تسكن؟ بين كل سؤال والأخر لكمة أو ركلة أو سبة.

بين سيارات البوليس المتراصة أجلسوا المحتجزين على الأرض منفردين، انتزعوا المحفظة واستولوا على بطاقة الهوية والهاتف المحمول، جاءت سيارة ميكروباص نقلوني إليها بصحبة شرطي جلس أمامي بينما تمددت منخفضا في آخر العربة، تحركت السيارة مخترقة حواجز حديدة خلف سور المتحف المصري، نظر لي الشرطي بالملابس المدنية وفاجئني : مالك؟ قلت له : عيني اليمنى . أزاح يدي وتطلع في وجهي، ثم مارس فجأة دورالطبيب في السيارة الخالية إلا مني وهو والسائق، وضع كفه على عيني اليمنى أولا وسألني عن الرؤية، ثم  رفع يده ووضعها على العين اليسرى وسألني إن كنت أراه، (نعم أراك) أجبت، رفع يده وقال : مافيش حاجة !
نزلنا من الميكروباص إلى ميكروباص آخر، وجدت هناك من أعرفهم، الصحفية لينا الورداني والسينمائيان هالة جلال وسامي حسام، جلست في المقعد الأخير، انهمكت هالة ولينة في تأنيب الضابط ودحض الحجج التي رد بها حتى انفجر: أنا مرتبي 700 جنيه وعندي 3 أطفال. أكد أنه ليس ضدنا لكنه يقوم بعمله.

تحرك الميكروباص مجددا بعد أن انضم إلينا شابان صغيرا السن والحجم، ربما في الثامنة عشرة من العمر، كانا خائفين ويبدوا انهما اعتقلا عشوائيا، حاولنا طمئنتهما حتى هدئا، وعاد خوفهما عندما توقفنا أمام سيارة الاحتجاز الكبيرة وأمرونا بالصعود، بقيت لينا وهالة بالأسفل، بينما صعدت وسامي والشابان إلى السيارة، لأول وهلة بدت في الظلام فارغة، لكن اتضح أنها عتمة الأجساد المتلاصقة، لا مكان للجلوس، بالكاد استطعت الوقوف عند أحد الشبابيك القليلة الصغيرة التي تشابكت قضبانها لتسمح أقل تنفس ممكن، عندما تسرب الغاز إلينا بالداخل بدا أننا نموت، لم يكن معي منديل فأعطاني أحد المحتجزين طرف شاله ووضع كل منا طرفا من الشال على أنفه، انتشرت تعليمات التنفس: ليس من الأنف، لا تدعك عينيك . إلخ. بعد دقائق تحركت السيارة ودارت دورة وعادت إلى طرف الميدان، هدأ الغاز، وبدأوا في انزالنا واحدا واحدا، مررنا على ضابطين على التوالي كان منهم مدير أمن القاهرة بنفسه، سألونا أسئلة قليلة، أعادوا إلينا الهويات والهواتف، تحركت في طرف الميدان من دون أن أرى شيئا بدون النظارة، وجدت يدا تمسك ذراعي، كان أحد الشابين الصغيرين الذين كانا معنا في الميكروباص، سألني: مش محتاج حاجة؟ أوصللك حتة؟ شكرته، وإذا  به يخرج ما في جيبه من جنيهات قليلة ويقول: احنا ممكن نقسمهم . ابتسمت وعرفت أن قنابل الغاز ليست السبب الوحيد للدموع.
 

اجمالي القراءات 1932
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق




مقالات من الارشيف
more