(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ )(الشورى 39 ):
القرآن والواقع الاجتماعى (22)

آحمد صبحي منصور Ýí 2012-05-28


 

القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، صدق الله العظيم ".

أوّلا : جاء فى تاريخ المنتظم للمؤرخ ابن الجوزى ( جزء 14 ) فى أحداث عام 362 :

( ثم دخلت سنة اثنتين وستين وثلثمائة: فمن الحوادث فيها دخول جموع الروم إلى بلاد الإسلام ؛ فإنهم دخلوانصيبين واستباحوا وقتلوا كثيرًا من رجالها وسبوا من نسائها وصبيانها ، وأقاموا بهانيفًا وعشرين يومًا ، وغلبوا على ديار ربيعة بأسرها . وورد إلى بغداد خلق كثير من أهلتلك البلاد فاستقروا في الجوامع وكسروا المنابر ومنعوا الخطبة ، وحاولوا الهجوم علىدار المطيع لله واقتلعوا بعض شبابيكها حتى غلقت أبوابها ، ورماهم الغلمان بالنشاب منرواشنها وحيطانها ، وخاطبوه بما نسبوه فيه إلى العجز عن ما أوجبه الله على الأئمة،  وأفحشوا القول ، ووافق ذلك شخوص عز الدولة من واسط للزيارة فخرج إليه أهل الستروالصيانة من أهل بغداد منهم‏:‏ أبو بكر الرازي الفقيه وأبو الحسن علي بن عيسىالنحوي وأبو القاسم الداركي وابن الدقاق الفقيهان ، وشكوا إليه ما طرق المسلمين من هذهالحادثة فوعدهم بالغزو واستنفر الناس ، فخرج العوام عدد الرمل ، ثم أنفذ جشًا فهزمالروم ، وقتل منهم خلق كثير وأسر أميرهم وجماعة من بطارقته ، وأنفذت رؤس القتلى إلىبغداد ، وكتب معهم كتابا إلى المطيع يبشربالفتح‏.‏).

ثانيا :

1 ـ نحن ننقل قطعة تاريخية من عصر انقسم فيه العالم الى معسكرى الاسلام والحرب ، أو دار الاسلام ودار الحرب ، وفيه تبادلت الدولة العباسية والدولة البيزنطية الرومية المعارك فى آسيا الصغرى ، أو ما يعرف الآن بتركيا . وكانت الغلبة للدولة العباسية فى أوج عظمتها فى العصر العباسى الأول ، وكررت انتصارات الدولة الأموية على البيزنطيين ، ولكن لحق الضعف بالدولة العباسية فبدأ البيزنطيون فى استعادة بعض أجزاء من آسيا الصغرى لتكون عمقا لعاصمتهم القسطنطينية ، ثم بدءوا فى غارات على المناطق التابعة للدولة العباسية فى آسيا الصغرى ، والتى كانت قبل الفتوحات العربية تتبع الامبراطورية البيزنطية مع الشام ومصر . وفى الفترة الزمنية التى حدثت فيها هذه الواقعة عام 362 كان بنو بويه يسيطرون على الخلافة العباسية وليس للخليفة العباسى ( الطائع ) سوى النفوذ الاسمى .  وفى هذه السنة أغار الروم البيزنطيون على المناطق التابعة للدولة  العباسية ، أو بتعبير ابن الجوزى (دخول جموع الروم إلى بلاد الإسلام ) حيث يعتبر العالم منقسما الى معسكر الاسلام ومعسكر الكفر . وكالعادة فهم حين إحتلّوا مدينة حدودية وهى ( نصيبين )على التخوم فقد ( استباحوا وقتلوا كثيرًا من رجالها وسبوا من نسائها وصبيانها ، وأقاموا بهانيفًا وعشرين يومًا ) ثم جاوزوها الى منطقة ديار ربيعة بأسرها . وكان ردّ الفعل هائلا :.

2 ـ على مستوى العوام ، أو ( ما يعرف عندنا بالأغلبية الصامتة ) ، جاءوا الى بغداد ، أى قطعوا المسافة من آسيا الصغرى الى بغداد ، فى مظاهرات غاضبة على تخاذل الخليفة العباسى ( الطائع ) فاحتلوا الجوامع وكسروا المنابر ومنعوا الخطبة ، ولم يتعرض لهم ( البوليس وأمن الدولة وميليشيات الحزب الحاكم و بلطجيته ) . بل هجموا على قصر الخليفة المطيع وحطّموا بعض شبابيكه فأغلق أصحاب القصر أبوابه ، وتدخل أفراد الحرس فقاوموا المهاجمين بالنبل من وراء ستار .وارتفعت صيحات المتظاهرين بالسّب والشتم للخليفة الطائع،أو بتعبير إبن الجوزى:(وخاطبوه بما نسبوه فيه إلى العجز عن ما أوجبه الله على الأئمة، وأفحشوا القول ).  

3 ـ وكان رد الفعل حكيما على مستوى القادة من العلماء والأئمة ،هم يعرفون عجز الخليفة الطائع ، وأن مقاليد السلطة والجيش بيد السلطان البويهى عزّ الدولة . فذهبوا اليه فى مقرّه فى واسط ، وقابلوه،يقول ابن الجوزى:(ووافق ذلك شخوص عز الدولة من واسط للزيارة فخرج إليه أهل الستروالصيانة من أهل بغداد منهم‏:‏ أبو بكر الرازي الفقيه وأبو الحسن علي بن عيسىالنحوي وأبو القاسم الداركي وابن الدقاق الفقيهان ، وشكوا إليه ما طرق المسلمين من هذهالحادثة، فوعدهم بالغزو واستنفر الناس ) أى إستجاب اليهم فى إرسال جيش للثأر ، وكان عزّ الدولة حصيفا فرآها فرصة ليستغل حماس الناس الناقمين ، فاستنفرهم للغزو فاستجابوا له بأعداد مهولة ، أو بتعبير إبن الجوزى :( فخرج العوام عدد الرمل )، وعندما رأى صدق عزيمتهم خاف التباطؤ فأرسل جيشه المدرّب ، الذى هزمالروم ، وقتل منهم خلقا كثيرا ( وأسر أميرهم وجماعة من بطارقته ، وأنفذت رؤس القتلى إلىبغداد ) لتهدئة الناقمين ( وكتب معهم كتابا إلى المطيع يبشربالفتح‏.‏).

ثالثا :

1 ـ العالم الثالث فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية وجمهوريات الموز يتقدم للأمام نحو الديمقراطية وحقوق الانسان ونحن نتقدم الى الخلف . فى عام 362 فى العصور الوسطى كان الاستبداد السياسى شريعة متفقا عليها ، وكان منتهى الوعى وقتها وجود عقد غير مكتوب بين الحاكم المستبد ( الراعى ) والرعية بتسليم الأمور لولى الأمر مقابل قيامه بواجب الدفاع عن (الملّة والدين ) ، وكان الفقهاء وعلماء الدين ممثلين ( للرعية ). أصبح العالم الآن يعيش ثقافة الديمقراطية ويطوى صفحة الطغيان السياسى بعد أن قامت ثورات التحرير ضد الاحتلال والاستعمار الأجنبى ثم ضد الاستبداد المحلّى . وبها تحرر الوطن من المستعمرالغريب ثم تحرّر المواطن من المستبد . بدأت مصر بالتحرر من الاستعمار الأجنبى وقادت دول العالم ( الثالث ) ضد الاستعمار مع وجود مستبد محلى هو عبد الناصر . كان المفروض أن تأتى المرحلة التالية وهى التحرر من الاستبداد المحلى العسكرى ، ولكن جاءت الرّدة بثقافة الوهابية التى تسعى لاستعادة الاستبداد الذى كان فى العصور الوسطى لتحكم به العرب والمسلمين فى عصرنا اليوم . وبدلا من قيام ثورات ضد الطغيان لتأسيس ديمقراطية حديثة ظهرت أشباح السلفية لتعيد إنتاج القرون الوسطى باسم الاسلام ، ولترث الاستبداد العسكرى ، وهى أسوأ منه . وحين قامت ثورات الشباب فى الربيع العربى إختطفت الوهابية هذه الثورات وأحالت الحلم الى كابوس . وبالتالى ضاع منا الحاضر ، بل حتى لم نصل الى عظمة الماضى الذى يعبّر عنه هذا الخبر فى أحداث عام 362 .

2 ـ فى تحليل الخبر السابق نرى الأغلبية من العوام ليست صامتة بل متفاعلة ، ولديها من الوعى ما تدرك به مسئولية الخليفة والحاكم عن حماية الناس حتى فى أقصى البلاد ، ولديها من الشجاعة بحيث تسير فى مظاهرات تقطع فيها مئات الأميال ، ثم تهاجم  قصر الخليفة والمساجد الرسمية لا لتسبّح بحمده وتدعو له بالنصر كالعادة ، بل لتكسر منابرها .  ونرى وعيا آخر على مستوى حرّاس الخليفة. إذ إكتفوا بالمقاومة اليسيرة من الشرفات ، وكان بإمكانهم هزيمة المتظاهرين . ثم نأتى للعلماء الذين قاموا بواجب القيادة فأوصلوا الصوت الغاضب للسلطان صاحب النفوذ والسلطان ، وأفهموه واجبه فكان لا بد أن يستجيب وإلاّ فقد زالت مشروعيته فى الحكم . ولأنه يضنّ بجنده فقد استنفر الجماهير للخروج للحرب ، وربما كان يأمل أن يتقاعسوا ويتثاقلوا عن الحرب ففوجىء بهم يتسابقون للخروج للحرب بعدد الرمل ، عندها تحتم عليه أن يحارب وإلّا ضاع سلطانه . فبعث جيشه المدرب ومعه المتطوعون من العوام .. فكان النصر ورد الاعتبار ، ولا حرج فى هذا طبقا لما نفهمه من قوله جلّ وعلا :( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ )( الشورى 39 )

رابعا :

هيا بنا نقارن واقعنا التعس بما حدث عام 362 هجرية . المقارنة تثبت أن أحطّ الكائنات واحقرها هو المستبد العربى الواطى وأعوانه من رجال الدين والاعلام والأمن والعسكر والأغلبية الصامتة التى إذا نطقت  فتنطق كفرا بالهتاف للمستبد الذى يقهرها ويظلمها . ونلاحظ الآتى :

1 ـ : شريعة تقسيم العالم الى معسكرى الايمان والكفر بعثها من مرقدها الوهابيون بزعامة السعوديين ، وبها يؤلبون العوام ضد الغرب واسرائيل ، ليوجّهوا السخط والاحباط بعيدا عنهم ليتجه ضد اسرائيل والغرب الكافر ( وأمريكا بالذات  التى تعيش ليل نهار فى التآمر على الاسلام والمسلمين ..ياعينى .!!). هذا بينما يحرص المستبد السعودى وغيره على الركوع للغرب ، أو الجانب الشّرير من الغرب ، يستورد منه الأسلحة وآلات التعذيب  لقهر الشعب . فى نفس الوقت الذى يقوم فيه الجانب الطيب من الغرب بالدفاع عن حقوق الانسان العربى المقهور ونشر ثقافة الديمقراطية . وعندما إزداد طغيان وظلم المستبد العربى وثار شباب العرب سلميا وعانوا من وحشية المستبد العربى تحالف معا الجانبان الطيب والشرير فى الغرب فى حماية الثورات العربية . ثم إذا اختطف الوهابيون العرب تلك الثورات فى مصر وليبيا وتونس أصبح الغرب الطيب والشرير مترددا فى المساعدة خوفا من مجىء حكم أشد وحشية وأكثر طغيانا .

2 ـ : الأغلبية الصامتة التى لا تنطق إلا (بالروح .. بالدم نفديك يا عباس ) من السهل إثارتها ضد أمريكا والغرب واسرائيل ، وهى لاهية عن المستبد الذى هو عدوها الحقيقى ، ومن السهل إثارتها ضد المصلحين واتهامهم بالخيانة والتعاون مع الغرب . ولكن يبدو أنّه من المستحيل أن يقفوا فى شهامة للدفاع عن حقوقهم المسلوبة  التى سلبها منهم المستبد . هذه الأغلبية الصامتة عن الحق الزاعقة بالكفر هى  الدابة الذلول التى يراهن عليها الاخوان والسلفيون للوصول الى الحكم . وسيسعدون بركوبها بينما ستعرف الشقاء بهم ، وربما تترحّم على المستبد السابق بعد أن تعانى من قهر وجهل وحمق وخلافات الحكام السلفيين القادمين من أسوأ صفحات تاريخ العصور الوسطى ومن قاع المجتمع .                                                                   

3 ـ النخبة التابعة للمستبد ، وهم أحطّ البشر ، سواء من العسكر والأمن ، أو من وعّاظ الدين ومهرّجى الاعلام والثقافة والفنّ . وهم الذين يتحكمون فى عقلية العوام ويسيطرون عليهم ليركبهم الحكام . صناعتهم الكذب والتلفيق والافتراء وقلب الحقائق وتحويل المنكر الى معروف والمعروف الى منكر والرقص فى مواكب القرد فى سلطانه . هم يؤيدون السلطان القائم فى سلطانه فإذا سقط ولّوا الأدبار للرقص للقرد الجديد .

العاهرة التى تزنى بلا تمييز مع كل البشر أشرف من هذه النخبة . هى على الأقل تعرف أنها عاهرة مخطئة،وقد تكون لذلك مضطرة كى تكسب قوتها وقد تكون ضحية للمجتمع تستحق الشفقة ، وفى كل الأحوال فلن تظل عاهرة الى الأبد فسيأتى وقت الشيب وتتوب بحكم السّن. ولكن هذا ( العهر ) السياسى والدينى والفكرى لا يعرف التوبة ولا الخروج على المعاش . وبينما لا تؤذى العاهرة الآخرين أو لا تتعمد إيذاءهم بل تعطيهم لذّة وقتية فإن العاهرين من الشيوخ والمثقفين والفنانين والراقصين يتخصصون فى الايذاء ومساعدة المؤذى الأكبر ـ المستبد ـ و لذا يعلو ضجيجهم بالغناء له ليغطّى على صرخات المعذبين المساجين وأنين الجوعى والمقهورين.!

أخيرا : بالمستبد وأزلامه وغلمانه وأغلبيته الصامتة من العوام والدهماء يتهيأ المجتمع للهلاك  ..

اجمالي القراءات 11483

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (3)
1   تعليق بواسطة   أبو أيوب الكويتي     في   الإثنين ٢٨ - مايو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[66935]

شكرا دكتور أحمد

شكرا دكتورنا العزيز


لا أجد كلمات معبرة تعليقا على مقالكم هذا الا هذه الكلمات مع أشد الاعتذار لمن لايروق لهم هذا الأمر


http://www.youtube.com/watch?v=a4k5ZS_X_qk


شكرا


2   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الإثنين ٢٨ - مايو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[66942]

خالص الشكر أبا أيوب الكويتى ، وأقول

 لا تعتذر عن الأعمال الفنية لأنها حلال مباح وليست حراما . 


وأنت مشكور لاهتمامك بالدراما المصرية وقت أن كانت رائدة وغنية . نرجو أن تعود أفضل واعمق .


خالص المنى 


3   تعليق بواسطة   عدنان خلفه     في   الثلاثاء ٢٩ - مايو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[66949]


قراءة جيدة لصفحات التاريخ الاسلامي ولكن هل من متدبر و شكرا


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5125
اجمالي القراءات : 57,107,777
تعليقات له : 5,453
تعليقات عليه : 14,830
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي