..:
حمير مولانا ولى النعم

نبيل هلال Ýí 2012-04-19


يتوهم دعاة وصل الدين بالدولة أن الفصل بينهما يعني إبعاد الدين عن حياة الناس , والسؤال الذي يفرض نفسه الآن : هل يتم الآن تفعيل الدين في حياة الناس؟ والجواب بالنفي إلا إن كانوا يرون أن إقامة الشعائر في المجتمع هو دليل وصل الدين بالدولة , والدين- بهذا المعني - مُبْعَد عن حياتنا منذ 1400 سنة تقريبا .

المزيد مثل هذا المقال :

وفي واقع الأمر استغنى الخلفاء عن الدين إلا مظاهره وإعلان التمسك به طلبا لمشروعية الحكم المغتصَب ولإيهام عموم الناس أنهم محكومون بخلفاء عن النبي أو الله , وأنهم يرعون مصالحهم ويقيمون الدين ويحرسون الملة .
ونختلف مع من يقول :" إن أصول الديموقراطية السياسية عندنا في البيعة والشورى" . وهذا كلام يتم فيه مقارنة واقع الديموقراطية العملي في الغرب حيث يتم تداول السلطة بالانتخاب والتعددية الحزبية وفي ظل صحافة حرة وحماية مؤسسات سياسية , يقارن ذلك كله بأصول نظرية في الإسلام لم يتم تطبيقها طوال التاريخ الإسلامي كله . فالقول بأن لدينا أصول الديموقراطية على النحو الموصوف يُعد مغالطة شديدة , فمتى بايع المسلمون عن رضا خليفتَهم الملكَ المستبد ؟ أكرر: بعد الخلافة الراشدة , لقطع الطريق على المزايدين والمغالطين , ومتى مارس الخليفةُ الشورى مع الناس ؟ تلك أصول عامة وردت في القرآن وسرعان ماتم تعطيلها حتى قبل العمل بها .
والديموقراطية وُلدت في الغرب وهي ابنة ثقافة راسخة وممارسات استغرقت وقتا طويلا , وبذلت شعوبها من دمائها الكثير ثمنا لها, لذا لا يمكن" استيراد "هذه الديموقراطية وتفعيلها في مجتمعات غير مهيأة لاستخدامها والانتفاع بها . لذلك لا يجوز القول - دون الوقوع في خطأ جسيم – "إن أصول الديمقراطية عندنا في البيعة والشورى" فهي ليست نظاما سياسيا وإنما هي وصف جامع لمجموعة من الأدوات : الانتخابات الحرة , وتعدد الأحزاب , وحرية الصحافة , والنقابات المهنية , والمؤسسات المدنية , والتمثيل الشعبي , والبرلمان , وحرية الرأي , والتداول السلمي للسلطة , والشفافية ...ومع ذلك لا يقف الأمر عند مجرد استكمال مؤسسات المجتمع المدني , وإنما تحفيز وعي الطبقة الوسطى وتفعيل خطاب ثقافي مؤسِّس للممارسات الديمقراطية في كل هيئات المجتمع ومؤسساته - بدءا من المدارس والجامعات والمصانع والنقابات والأحزاب - ويكون ذلك بتبني المؤسسات الإعلامية والدينية والثقافية والتعليمية هذا الخطاب .
ويرى البعض أن الدولة كانت في خدمة الدين , وهذا تكلف , فالدولة (وهي السلطان وأسرته) كانت في خدمة السلطان وأسرته , فخدمة الدين تكون بتحقيق أهدافه بوضع السلطان في خدمة الناس , لكن الفقهاء وضعوا العربة أمام الحصان , فوضعوا الناس في خدمة السلطان , وبدلا من أن يقوم السلطان بدور"الحصان" الذي يجر عربة مصالح الناس , أصبح الناس هم " الحمير" التي يركبها ولي النعم , والبهائم التي يذبحها .
فالدولة الدينية كانت دائما في خدمة الإقطاع , بما في ذلك الإقطاع الديني- والتاريخ خير شاهد . وانظر إلى أملاك وإقطاعيات الكنيسة في القرون الوسطى , وانظر إلى مكاسب الأسر الحاكمة باسم الخلافة النبوية طوال تاريخنا الإسلامي , استحوذت كلها على الثروات والنفوذ , إذ كانت تمثل السلطتين الدينية والزمنية معا : السلطة الدينية بمقتضى الانحدار من السلالة النبوية , والسلطة الزمنية بمقتضى بيعة قهرية بحد السيف - وكأنها انتخابات العصر المزيفة التي كانت تبلغ نسبتها تسعة وتسعين بالمئة , وهي نسبة لا يحصل عليها الله تعالى !
وبمراجعة التاريخ نجد أن الدولة الدينية لم تكن قط في خدمة الناس, بل خدمت النُّخَب من الملأ والإقطاع الديني على حساب الناس . فالدولة الدينية لا يحكم الله ُفيها كما يزعم الكهنوت وإلا تحقق العدل , وإنما كان الكهنة هم الحاكم الحقيقي الذي بدأ حكمه بسرقة الشرعية من دين الله بينما كانت المسافة شاسعة بين دينهم الذي ابتدعوه وتعاليم الله المنزَّلة في كتبه . والدولة الدينية - حيث تختلط السلطتان الدينية والزمنية - لم تحقق رفاهية الإنسان وسعادته , فهي دولة أثبت الزمن فشلها ومغايرتها لقصد الله من بعث الرسل بالأديان .
وإقامة دين الله (الإسلام : وهو دين الله المنزل على جميع أنبياء الله ورسله من آدم إلى محمد صلوات الله عليهم أجمعين) هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق عدل الله الذي يحقق الخير والوفرة للناس كل الناس بالقضاء على الطبقية والاستغلال والاحتكار والظلم والفقر, واسمع الله يقول : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } المائدة 65 - 66
وتأمل قول الله بأن إقامة دين الله الذي جاءت به التوراة والإنجيل يضمن أن يأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم , أي أن تحقق الوفرة والرخاء للناس رهن بتطبيق دين الله وعدله , أي لا صلاح لأهل الكتاب مالم يطبقوا دين الله (التوراة والإنجيل) , :" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } المائدة 68 . ويقول :{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً }الجن16 . والاستقامة على الطريق غير الاستغراق في أداء الشعائر والصلوات فقط كما يفهم الكاهن- وإلا ما رأينا هضما لحقوق الفقراء , ولكنها تعني تفعيل شريعة الله - في التوراة والإنجيل المُنزَّلين والقرآن - فهي الوحيدة التي تحقق التوازن بين حقوق الناس , فشرع الله وحده هو الذي لا يظلم أحدا ولا ينحاز لأحد على حساب آخر . وما إن يتحقق هذا العدل الإلهي حتى توزع الأرزاق على كل الناس .
ويضع الإسلام الحنيف السلطة الحقيقية في يد الناس - الأمة - إلا أن الفقيه سرقها من الناس ووضعها في جيب السلطان , وأصبح الناس بلا سلطة , أو قُل سلطة بلا سلطة .
والدين معنِيّ في المقام الأول بحفظ حقوق الناس وتحقيق العدالة والمساواة والحرية , وهي غايات تسبق العبادات والشعائر, وهي أهداف لم تحققها الدولة في تاريخ الإسلام كله تقريبا , ( أرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) الماعون 1-3 . فالمكذب بالدين هو من يعطل أحد غاياته المتعلقة بحقوق الناس قبل أن يكون تكذيبه لأمر عقائدي .
وصحيح أن الخليفة المسلم لم يكن رجل دين بمعنى الكهنوت الذي عرفته أوروبا في القرون الوسطى , فالتعاون بين الملك والكاهن اختلف في شكله وإن تماثل في مضمونه , فاستبداد أوروبا في القرون الوسطى استفحل من جانب رجال الدين فاجتاحوا مساحات من سلطات الحاكم ومارسوا السلطتين الدينية والزمنية معا . وإذا تعذر التعاون بين الملوك والكهنة بسبب الاختلاف على اقتسام السلطة والمغانم , فلا مفر من المواجهة , وهي " مواجهة دامت شرسة وضارية أكثر من قرن (من 1152- إلى 1254) بين أباطرة الإمبراطورية الرومانية وبين الكرسي البابوي من أجل السيطرة وبسط النفوذ على البلاد .
أما خلفاؤنا فقد مارسوا سلطات زمنية كاملة ولم يحتاجوا إلى السطو على مساحات من السلطة الدينية لأنهم كانوا بالفعل يتمتعون بقسط وافرمن هذه السلطات بسبب زعم الانتماء إلى السلالة النبوية.
وكان دور الفقهاء - باستثناء قِلَّة منهم - هو فعل كل شيء غير رد ظلم السلطان , ومنع ميلاد استنارة توقظ جموع الناس وتحفزهم على مناهضة الباغي واسترداد الحقوق , بل مضى الفقهاء يصطنعون "فقها" سياسيا يمنح السلطان عصمة سلطانية تحُول دون تداول السلطة , أو الخروج عليه , أو حتى تطبيق شورى ملزمة , بل لم يعترض منهم أحد على السلطان الذي حرَّم الكلام في حضرته , مجرد الكلام . ولم يقل أحد منهم للناس بتحريم السجود لغير الله , فلم يكن لدى فقهائنا استعداد حقيقي للتضحية بمكاسبهم الخاصة من أجل الدفاع عن الإسلام .
وإذا كان الإسلام يقرر حقوق الراعي والرعية - والتاريخ يشهد أن الراعي قد حصل على حقوقه وزيادة ولم تحصل الرعية على حقوقها - يكون قد تم إعطاب الإسلام والحيلولة دونه وتحقيق مصالح الناس , وهي الغاية القصوى من الدين , كل دين . فمن غاياته تقييد الأقوياء من الناس الأثرياء وأصحاب السلطة لمنعهم من التعدي على المستضعَفين , وإذا كنا نرى في الواقع تقويض مصالح الفقراء , يكون قد تم تجميد الدين وتحنيطه .

اجمالي القراءات 8334

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   فتحي مرزوق     في   الجمعة ٢٠ - أبريل - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[65942]

وأصبح الناس بلا سُلْطة ..

 



العزيز / نبيل هلال .. لقد أحسنت الوصف  والوصم ، فقد أحسنت وصف العلاقة الفاسدة بين الفقيه وبين السلطان وتواطوءهم على مصالح الرعية والعباد الذين أصبحوا عبيداً للفقيه الذي باعهم في سوق الدين للسلطان بأبخس الأثمان




 ووسوس الفقيه للناس بأن الخروج على الخليفة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، فمن خرج على الخليفة هو في النار .. إما في الدنيا بالسجن أو التغذيب أوالاذلال .. أو في النار الأبدية لأنه عارض ظل الله في الأرض وطالب بعزله، ولقد احسنت وصم تلك العلاقة الآثمة بين الفقيه والسلطان،  كعلاقة أثمة بين رجل وامرأة غير متزوجين. لهذا أصبح الناس بلا سلطة، فقد نزعها منهم الفقيه ووضعها في يد السلطان المتحث الرسمي لبيت النبوة أو ظل الله في  الأرض (أرض الاسلام.



 



 



شكرا لك ودمت بكل خير.



أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2011-01-12
مقالات منشورة : 123
اجمالي القراءات : 1,420,263
تعليقات له : 109
تعليقات عليه : 282
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt