مادام القضاء المصري قد حكم على مبارك بالسجن المؤبد، فلا بأس أن يمضي من أصر على البقاء في الحكم لثلاثين عاماً وأراد توريثنا لنجله بقية عمره في السجن، هذا بغض النظر عن تقييمنا لعصره، وتجاهلاً لصيحات دموية تطلقها جماعة الكراهية والإرهاب المسيطرة الآن على الساحة، فالمصري لم يكن يوماً دموياً، وليس ما نشهده من البعض الآن إلا بتأثير سموم فيروس الإخوان المسلمين الوهابي، فمئات المقالات التي كتبتها بالصحف المصرية والعربية وعلى الإنترنت، وتلك المترجمة أيضاً إلى العديد من اللغات العالمية، وكتبي "الأقباط والليبرالية" و"العولمة وصدمة الحداثة" و"البرادعي وحلم الثورة الخضراء"، كلها تشهد على قدر وقوة النقد الذي انتقدته لمبارك وعهده في أوج قوته وهيمنته على البلاد والعباد، كما تشهد مقالاتي بعد الثورة، ومخطوطة كتابي تحت النشر بعنوان "ثورة. . حتى تشرق الشمس" أنني كنت مع الثورة مشاركاً ومؤيداً منذ يومها الأول، وظللت كذلك حتى ضلت الثورة وثوارها الطريق، لكن هذا لا يعني بأي حال أن نشيطن مبارك وعهده، ليس رأفة بشخص مبارك الإنسان، وإن كان هذا وارداً ومعتبراً، ولكن من أجل ما ندبره لمصر حاضراً ومستقبلاً. . ما يحدث الآن هو محاولات من أطراف عديدة للسير بعكس اتجاه العهد السابق بصورة آلية ومطلقة، وليس عبر المراجعة والفرز بين ما هو صالح وما هو طالح، ولقد تحقق الكثير من الإنجاز المصري في عصر مبارك، ويتنافى مع الدقة العلمية نسبته لشخص مبارك أو حتى بطانته التي نسميها نظامه، فهي إنجازات للشعب المصري، كما أن جرائم ذلك العصر أيضاً لا يصح نسبتها بصورة مطلقة لفرد أو مجموعة، فهي أيضاً إنتاج مصري مشترك، أسهم فيه كل منا بقدر يتناسب مع حجمه وموقعه!!
إذا كان مبارك قد سار في طريق السلام مع إسرائيل، فالمتأسلمون والعروبجية يحلمون بدفعنا للصدام معها بتهديداتهم ووعيدهم، وبعلاقاتهم العضوية المشبوهة بإرهابيي حماس في غزة وحزب الله في لبنان، وإذا كان قد سار في طريق الاقتصاد الحر الذي يسود الآن بالعالم كله، فاليساريون الذي سقطوا من عربة الزمن من عشرات السنين يتمنون العودة بنا إلى هلاوسهم وتأميماتهم والتراجع عما تحقق من خصخصة للشركات التي سبق وأممناها من أصحابها بعد أن اتهمناهم بالاستغلال، فتحولت على أيدي لصوص إشتراكيتنا إلى بلاعات تستنزف بخسائرها اقتصادنا المهلهل، وإذا كان مبارك قد حارب الإرهاب وحمى البلاد من شروره، فقد وصل بالفعل للسلطة من يعتبرون الإرهابيين شهداء ومجاهدين في سبيل الله، وأخرجوهم من السجون واستقدموهم من أنحاء العالم، وأخيراً فتحوا لهم معبر رفح على مصراعيه، ليتدفقوا على مصر كالوباء الذي لا يصد ولا يرد!!
ربما أهم وأخطر ما أكدته مجريات الأحداث بعد الثورة هو أن مبارك ورجاله مهما كان فسادهم، هم الصفوة المصرية الأكثر جدارة بالاحترام، وأن الأمل مع الوقت يتضاءل في إمكانية أن يفرز الشعب المصري من هم أكثر جدارة منهم بحكم مصر، والسير بها إن لم يكن للأمام فليس للخلف كما يوشك أن يحدث الآن. . ما يحدث هو أنه تحت مظلة شيطنة مبارك وعصره، تم إطلاق الذئاب والثعابين التي حاصرها مبارك، لتطالعنا كأبطال وضحايا الطاغوت وعصره. . هنا مقتل المستقبل الذي يتجه نحو السواد، وما هذه السطور إلا صرخة في واد قبل أن يجرفنا تيار الحماقة فندمر كل ما حميناه وبنيناه، وقد صدقنا ادعاءات الحمقى والمغرضين بأن كل ما مضى لم يكن غير عصر فساد وظلم وطغيان!!
هي مهمة ثقيلة أن يتعلم الناس الكف عن الحب والكراهية في المجال العام، وكذا التأييد أو الرفض المطلق لشخص أو جهة ما، وأن يلتزموا بالرصد والفحص الدقيق للأقوال والسلوك والمنجزات العينية، ما قد تكون نتيجته استحساناً في حين، ونقداً لاذعاً في حين آخر. . أن نكف عن استخدام الكارت الأحمر إلا للخارج عن منظومة القيم الإنسانية والقانون، كما نكف عن منح "الشيك على بياض" لأنه ليس بيننا ملائكة أو آلهة منزهة عن الخطأ والخطايا. . إن لم نفعل هذا سنظل قطيعاً يساق من قبل أي أفاق ينجح في التلاعب بعواطفنا قبل عقولنا، ونكون في الحقيقة نعيد إنتاج ذات النظام السلطوي الذي ثرنا عليه، وربما بصورة أسوأ كما هو حادث بالفعل الآن، وقد انطبق علينا المثل القائل "خرج من حفرة ليسقط في هاوية".
إذا كان من نسميهم بالفلول قد أفسدوا الماضي، فالظلاميون المسيطرون على الساحة الآن قد كانوا شركاء لهم في إفساد الماضي، ويتولون منفردين حالياً إفساد الحاضر وتدمير المستقبل. . نعم كنت واحداً من عامة المصريين الذين استشعروا الإهانة من أن نورث كالأنعام لجمال بن مبارك، لكن نظرة عابرة لقائمة نجوم الساحة السياسية المصرية الآن قد تكون كفيلة بدفعنا لعض أصابع الندم على عدم ابتلاعنا لغصة إهانة التوريث، تفادياً للتعرض لمهانة أن يطمع فينا ويصل لحكمنا أمثال هؤلاء. . صدق المصري صاحب نكتة حديثة تقول أن "من يستمع لكلام محمد مرسي يتمنى أن يرتمي في حضن مبارك ويبكي"!!
بالطبع تصوير الأمر عبر مصطلحات "إهانة" و"غصة" هو نوع من التبسيط المخل، فتوريث الابن كان يعني امتداد عصر التوريث العسكري طوال ستة عقود عبر توريث عائلي، بما يعني بقاء النظام السياسي المصري على ذات حالة العقم المستعصية على التطوير، كما يعني أن الشعب المصري كان يتحتم عليه كسر صدفته السميكة هذه مهما كان الثمن الذي سيدفعه نظير ذلك باهظاً. . هنا تحديداً نكون قد وصلنا إلى النقطة المفصلية، والتي تشير إلى أنه حسناً ما توصلنا بثورتنا إليه، ولا بأس بأن ندفع لبعض الوقت فاتورة الحرية، على أن نتمهل ونحن نقيم الماضي ونخطط على أساس ذلك التقييم للمستقبل، فنحن لم ننتقل من ظلمة حالكة إلى نور ساطع، بل انتقلنا من خليط من الظلمات والنور، إلى حالة أكثر إظلاماً وأندر نوراً، وهو ما يتحتم علينا معالجته بالكثير من الصبر والجهد، وقبل ذلك التمتع ولو بالقليل من الموضوعية والتواضع!!
هؤلاء الخارجين من السجون الذين يقدمون أنفسهم لنا كأبطال تحملوا العذاب والسجن من أجل قضية الحرية، وكأن الأحكام التي صدرت عليهم كانت بالإجمال والمطلق ظالمة وتعسفية. . هؤلاء في الحقيقة يفترضون فينا سذاجة تصل لمرتبة الحماقة، فالجرائم التي ارتكبها هؤلاء لم تقع في ماض بعيد سحيق، بل بالأمس القريب في الثمانينات والتسعينات، والدماء الزكية التي سفكوها لم تكد الأرض تشربها بعد، ولا نظن أن الثورة يوم قامت كانت تهدف لإلحاق مصر بتنظيم القاعدة الذي يرفعون أعلامه السوداء الآن في ميدان التحرير، ويضعون صورة بن لادن قائده على صدورهم المشحونة بالكراهية للحياة والأحياء!!
في الأغلب الأعم لم يقدم للمحاكمات في عهد مبارك غير المتهمين في أعمال إرهابية وتكوين تنظيمات تهدد الأمن الوطني، ولم يدن بالفعل إلا المجرمين الخارجين على القانون، وربما تعد حالة د. سعد الدين إبراهيم واحدة من الاستثناءات القليلة التي تؤكد القاعدة كما يقولون، وأي إدعاءات غير هذا كذب مبتذل وتزييف لوعي الناس. . إلا إذا كانت جريمة نظام مبارك الحقيقية في نظر البعض أنه أدخل الإرهابيين ومحرضيهم إلى الشقوق ووضعهم في السجون وليس في مجلس الشعب، كما هو حادث الآن بفضل ثورتنا المباركة!!
نعم ترك مبارك الفكر الارهابي والوهابي ينتشر ويتوغل فى عقول الشعب حتى أصبحنا على ما نحن فيه الآن وهذه جريمة عظمى، لكن في المقابل يمكن على نحو ما أن تحسب هذه له، من ناحية أنه لم يطارد الفكر وإنما فقط من يقوم بفعل إجرامي، خلافاً لما يدعي المزيفون بجسارة عجيبة لتاريخ الأمس الذي عشناه جميعاً. . لقد استرد الرجل البلاد من أيدي الإرهابيين وقد اغتالوا رئيس جمهورية، وحاولوا على مدي عقدين من الزمن السيطرة على كل البلاد، لكنه كان رجلاً صلباً وقوياً، واستطاع إنقاذ مصر ممن تسلموا مقاليدها الآن باسم الديموقراطية، ومصر تدين له ولرجاله بفضل سيذكره له ولهم التاريخ، مهما أنكرنا نحن الآن وجحدنا وزيفنا!!
أي مجهود يبذل الآن لتصحيح مسار الثورة المصرية وتفادي نتائجها الكارثية سيكون عبثاً، لأنه لن يغير على المدى القصير معادلة القوى بالساحة المصرية، رغم ذلك لا بأس بالمحاولة، لكن الخلاصة أن أمامنا فترة تخريب وتجريف للحضارة بكافة أوجهها، وعلينا أن نتحمل ونثابر بجهود طويلة المدى حتى تمر الغُمَّة، أو يرحل من لا يطيق الصبر بحثاً عن وطن آخر غير وطنه "المفقود حتى إشعار آخر"، هذا ما لم يتيسر - قبل يجتاحنا الطوفان - إعادة الإرهابيين المفرج عنهم للسجون، وإعادة محاكمة الإرهابيين الهاربين الذين عادوا وأخذوا أحكام براءة عاجلة، وتفعيل القانون والدستور الذي يحرم الأحزاب الدينية، هذا إن كان سيقدر لنا صد الهجمة الظلامية، وغلق أبواب جهنم التي فتحها علينا المجلس العسكري خوفاً من الظلاميين واستمالة وتملقاً لهم، حتى ينجو أفراده من المحاسبة عما جنت أيديهم، وإن كان ما فعلوا بنا هكذا يحول أخطائهم إلى خطايا وجرائم في حق الوطن، لابد وأن يأتي يوم يحاسبهم هذا الشعب عليها عسير الحساب.
الولايات المتحدة- نيوجرسي
اجمالي القراءات
7232