رقم ( 3 )
الهداية المعرفية شرط لفهم القرآن الكريم:

 

الهداية  المعرفية شرط لفهم القرآن الكريم:

ـ ( أفلا يتدبرون القرآن  ؟ )

 ـ اللغة العربية والمصطلحات القرآنية ـ

  ـ  )تلك آيات الكتاب المبين ):

 تفصيلات القرآن الكريم

ما فرطنا فى الكتاب من شىء

منهج القرآن الكريم  فى التفصيل.

منهج القرآن فى تفصيلات فريضة الصلاة

قضية التدرج فى التشريع

المحكم والمتشابه فى القرآن الكريم

بين تشريع القرآن الكريم والفقه السنى .

حدود اجتهاد الناس فى تشريع القرآن.

 

                                  ( أفلا يتدبرون القرآن  ؟ )

فريضة التدبر ومنهج البحث القرآنى 

القرآن الكريم ليس ( حمّال أوجه )

المنهج السائد فى الدراسات الأصولية هو فهم القرآن من خلال مصطلحات التراث ورواياته وفتاويه، وبسبب الاختلاف الشديد فى مصطلحات التراث ورواياته وفتاويه وأحاديثه فإن فهم أصحاب هذا المنهج للقرآن يقع فريسة للاختلاف والاضطراب، ومن هنا يبررون هذا الاختلاف بمقولة منسوبة كذباًَ للأمام على بن أبى طالب، وهى أن "القرآن حمَّال أوجه"، وعليه فالباحث الأصولى المتمسك بهذا المنهج ينتقى الرأى الذى يهواه سلفاً، وينتقى له الدلالة من التراث، وينتقى له ما يشاء من الآيات القرآنية ويتجاهل سواها، وهو مطمئن لمقولة أن "القرآن حمَّال أوجه".

ولكن هل القرآن فعلاً "حمَّال أوجه"؟ أى ترى فيه الرأى ونقيضه؟ وترى فيه الاختلاف فى الرأى الواحد؟  وبحيث تنتقى الرأى الذى تختار ويكون لمن يخالفك فى الرأى أن ينتقى هو الآخر من آيات القرآن ما يؤيد وجه نظره؟ وهل فعلاً قال الإمام "على" هذا الكلام عن القرآن؟

إن ما نتصوره عن الإمام على بن أبى طالب وملازمته للنبى محمدعليه السلام يجعلنا ننكر نسبة هذه المقالة له، لأنه لا يمكن له أن يسىء للقرآن بمثل تلك المقالة الخطيرة التى تخالف ما قاله رب العزة جل وعلا عن كتابه العزيز.

لقد جاءت نصوص القرآن الكريم "محكمة " أى دقيقة الدلالة (هود 1).وهو كتاب لا مجال فيه للعوج بل جاء مستقيما مباشرا (الزمر 28).(الكهف 1)( الأنعام 126 ، 153 ).وهو كتاب لا مجال فيه للاختلاف  (النساء 82).

ولكن إذا كان القرآن لا تتناقض آياته ولا تتصادم حقائقه وليس كما يقولون "حمَّال أوجه" فلماذا يتبارزون فى اختلافاتهم بالآيات؟ ولماذا ينتقى كل فريق ما يؤيد وجهة نظره فى مواجهة الفريق الآخر؟

والإجابة تكمن فى المنهج الذى يعتمدونه، وهو فهم القرآن حسب مصطلحات المذهب الذى ينتمى اليه الباحث ووفق تراث مذهبه ورواياته وفتاويه. والمذاهب الأخرى لها مصطلحاتها التراثية ورواياتها وفتاويها، وبالتالى تختار من الآيات ما تراه يتمشى مع مذهبهم، ويغطون عورة هذا الاختلاف بمقولة أن القرآن حمَّال أوجه ويستسهلون اتهام القرآن بهذه التهمة.

فريضة التدبر ومنهج البحث القرآنى ـ

إذن، فما هو المنهج العلمى الذى نفهم به القرآن ونتأكد به من أن القرآن فعلاً لا مجال فيه للتناقض والاختلاف؟

إن المنهج العلمى يفرض على الباحث ألا يبدأ بحثه بأحكام مسبقة، وإذا كان يبحث فى كتاب ما فإن عليه أن يلتزم بمصطلحات هذا الكتاب ومفاهيمه، لأن المفاهيم التى يعتمدها المؤلف فى كتابه تكون بمثابة عقد بين المؤلف والقارئ أو الباحث، فإذا التزم القارئ أو الباحث بتلك المفاهيم والمصطلحات التى يقوم على أساسها نسق الكتاب أمكن للقارئ أو الباحث بسهولة أن يستوعب كل حقائق الكتاب المبحوث. وهذه هى أصول المنهج العلمى التى نراعيها فى بحث المصادر والكتب البشرية. وهى نفسها أصول المنهج العلمى التى يطالبنا رب العزة باتباعها فى تدبرنا للقرآن.

إن الله تعالى يأمرنا فى القرآن بالتدبر لآياته (محمد 24) ( النساء 82) ( المؤمنون 68)والمنهج العلمى للتدبر يكمن فى بنية الكلمة نفسها. فالتدبر يعنى أن تكون فى دبر الآية، أو خلفها، أى أن تكون الآية القرآنية أمامك (بفتح الهمزة) وأن تكون إمامك (بكسر الهمزة) والمعنى أن تبدأ بآيات القرآن، وليس بفكرة مسبقة، وأن تتبع كل الآيات فى الموضوع المراد بحثه فى القرآن، و أن يخلو ذهنك تماماً من كل أحكام ومفاهيم أخرى خارج القرآن، طالما تريد أن تتعرف على الرأى القرآنى المجرد ومخلصاً. وحينئذ ستجد أمامك كل الآيات المحكمة والآيات المتشابهة تقول نفس الرأى وتؤكد نفس الحقيقة، غاية ما هناك أن الآيات المحكمة تؤكدها بإيجاز وصرامة، أما الآيات المتشابهة فهى تعطى تفصيلات تؤكد عليه الآيات المحكمة. وفى النهاية تجد كل الآيات المحكمة والمتشابهة تؤكد نفس المعنى وتؤكد لك أيضاً أن القرآن الكريم كتاب أحكم الله تعالى آياته بعد أن فصلها على علم وحكمة. ( الأعراف 52 ) سبحانه جل وعلا.

وعليه، فإن اتبع الباحث المنهج التراثى فى فهم القرآن فسيقع فى الانتقاء والابتعاد عن حقائق القرآن، والتناقض مع القرآن ومع المنهج العلمى أيضاً. ولن يضيف إلا المزيد من الشقاق والاختلاف الذى عرفته المذاهب والفرق "الإسلامية".

أما إذا اتبع المنهج العلمى القرآنى وقام بفهم القرآن من خلال القرآن نفسه، واتجه لكتاب الله تعالى طالباً الحق والهداية دون رأى مسبق وبتصميم على أن يعرف الحقيقة مهما خالفت الشائع بين الناس، فإن من اليسير عليه أن يعرف رأى القرآن، وسيفاجأ بأن مفاهيم القرآن ومصطلحاته تخالف بل وتتناقض أحياناً مع مفاهيم التراث ومصطلحاته، وأنه من الظلم للقرآن والمنهج العلمى أيضاً أن تقرأ القرآن وتفهمه بمفاهيم ومصطلحات تخالف وتناقض مفاهيم القرآن ومصطلحاته.

معرفة مصطلحات القرآن بالقرآن:

اللغة العربية كائن حى مثقل بالمصطلحات

لكى تفهم القرآن لابد أن تتدبره وتتعقله من خلاله  هو ، وبمفاهيمه هو ، وخصوصا أن القرآن لم ترد فيه إحالة إلى شروح أخرى تعين على فهمه .

لولا القرآن الكريم لاندثرت اللغة العربية كما أندثرت الآرامية قبلها ، وكما اندثرت السريانية واللاتينية بعدها حيث تحولت اللهجات الناتجة عنها الى لغات مكتلمة لها معاجمها وشخصياتها.

وللغة العربية معاجمها المتميزة، و قد تم تدوينها بعد القرآن بقرون ، وهى خير دليل على أن اللغة العربية كائن متحرك تختلف فيها معانى الألفاظ من عصر لأخر ، ومن مكان لأخر. إلا إنه لا يجوز أشتراط فهم القرآن بمعاجم لغوية كانت ترصد حركة اللغة حتى عصرها ، ولذلك فإننا اليوم نجد عجبا حين نرجع إليها ،فمعظم مفرداتها اندثرت من الاستعمال فى عصرنا الذى جاء بمصطلحات جديدة من الغرب يتضاعف عددها باضطراد. وحتى فى لغتنا المستعملة المتوارثة تجد بعض المفردات قد اختلفت عما سبق، فكلمة(عميد ) ظلت حتى العصر العباسى تعنى(المريض حبا )، وفى ذلك يقول الشاعر :" وإنى من حبها لعميد.." ، ويقول الفيروز آبادى ، فى معنى كلمة عميد " هدّه العشق" اى أمرضه العشق. فأصبحت كلمة ( عميد ) اليوم تعنى مرتبة عالية فى الجيش أو فى رئاسة الكليات الجامعية.

زاد فى تطور اللغة العربية وازدياد وتعقد مصطلحاتها أن صار لكل طائفة دينية مصطلحاتها الدينية الخاصة بها ، فالشيعة لهم مصطلحاتهم ، وعلى سبيل المثال فان مصطلح النواصب لدى الشيعة يطلقونه على السنة الذين ( يناصبون أهل البيت العداء ) ونفس المصطلح ( النواصب ) له معنى مختلف فى علم النحو إذ يعنى أدوات النصب التى تنصب الفعل أو الاسم , بل ان كلمة ( النصب ) تعنى التحايل على الناس و( النصب) عليهم، ولا علاقة لهذا ( النصب) على الناس بعلم النحو. بل إن كلمة ( النحو ) فى حد ذاتها مصطلح جديد ، ومثله مصطلحات جديدة تضيق وتتسع كالصرف والعروض والبحور الشعرية بمصطلحاتها المختلفة والفقه ومصطلحاته و التفسير والحديث والجرح والتعديل و وعلم الكلام و التوحيد و المعتزلة و المرجئة والشيعة والسنة و الصوفية و البلاغة من استعارة وكناية وتشبيه و محسنات بديعية و معنوية و طباق وجناس و شتى مصطلحات الفنون والأداب.. أى انتجت الحضارة العربية الاسلامية كما هائلا من المصطلحات الدينية والعلمية والأدبية والفنية لم تكن فى عهد النبى محمد عليه السلام، بعضها تمت صياغته لأول مرة وبعضها تبدل معناه واكتسب مدلولا جديدا.

ولو دخلنا فى إطار أى فرقة دينية أو علم من العلوم لوجدنا كمّا هائلا من المصطلحات ـ وهذا باب واسع يخرج عن موضوعنا ، ولكن نعرض لمثلين بايجاز:

فقد أدخل التصوف مصطلحات دينية مستحدثة فى الحياة الدينيةللمسلمين لم يعرفها المسلمون الأوائل فى عصر النبوة .ومن المصطلحات الدينية الجديدة التى استحدثها دين التصوف : الكرامة ، المريد، المقام ،الوقت  الحال ، القبض ، الصحو والسكر ، الذوق  الشرب ، المحو والإثبات ، الستر والتجلي،المحاضرة والمكاشفة ، الحقيقة والطريقة ، الوارد، الشاهد، السر، المجاهدة ، الخلوة ، الزهد،الولاية ، .. إلخ ، ولكل منها مدلول  فى دين التصوف ، وسطرت فى ذلك الكتب ،وبالطبع هم مختلفون فى معناها وعددها.

وبعض هذ الألفاظ كان مستعملا فى الإسلام بغير ما يقصده الصوفية ، إلا أنهمأولوها وأستحدثوا لها مدلولات جديدة تخرج عن الإسلام مثل (الولى والولاية ).

ومصطلح السنة يأتي في القرآن بمعي المنهاج والطريقة أو الشرع ،وبمعني الشرع يأتي منسوبا لله تعالي (33 / 38) . وفي العصر الاموى استعمل مصطلح السّنة في معرض الاعتراض علي السياسة الاموية واهمية ان ترجع الي ما كانت عليه سنة النبي ،أي طريقته العادلة فى الحكم .وبها بدأ الاستعمال السياسي لكلمة السنة وقتها .

وحين نجح الشيعة الكيسانية في الدعوة للرضى من آل محمد ـ الامام المختفى غير المعلوم ـ وكان مفترضا أنه من ذرية علىّ بن أبى طالب، كان من ادبياتهم نفس الاستعمال السياسي لمصطلح السنة مع الاستعمال لمصطلح الشيعة الذى يدل على المعتقدين بأحقية ذرية على بن أبى طالب فى الحكم.وحين ظهر ان الخليفة الموعود ليس من ذرية علي وانما من ذرية ابن عباس حدث الشقاق بين انصار العباسيين القائمين مع الخليفة العباسي والمطالبين بأحقية ذرية علي بالخلافة دون العباسيين .وظلت كلمة شيعة أوالصحابه تطلق علي انصار العباسيين حتي تولي ابو جعفر المنصور الخلافة وتقاتل مع العلويين فىالحجاز والعراق فى ثورة محمد النفس الزكية واخيه ابراهيم . عندها استبقي الخلفاء العباسيون لأنفسهم مصطلح السنة ،وأهملوا لقب الشيعة، فاصبح خاصا بخصوم الدولة العباسية والخارجين عليها ،و اضيفت للشيعة اوصاف اخري سياسية وعقيدية اهمها الرافضة .وهكذا تقلب مفهوم السنة من الشرع كما جاء في القرآن الكريم الي معني سياسي منسوب للنبي في اطار الخطاب السياسي المعارض للأمويين ،ثم احتكرته الخلافة العباسية ليدل علي مدلولها السياسي في مقابل خصومها الشيعة. ليس هذا فقط ، بل تحول مصطلح السنة في العصر العباسي الثانى ليدل علي نوعية التدين السائد المعترف به من الدولة العباسية . والمعتزلة والفلاسفة والمثقفون ثقافة عقلية بالفلسفة اليونانية والهلينية كانوا يطلقون على خصومهم من الفقهاء السنيين المحافظين مصطلح  الحشوية ، يتهمونهم بأنهم كانوا يحشون عقولهم بروايات منسوبة للنبى يؤمنون بها ويجادلون بها الآخرين بدون عقل أو منطق متمسحين بالدين. ثم مالبث أولئك الفقهاء الحشويون أن دخلوا فى جدال مع المعتزلة ، فأصبحت السنة تعني من ناحية العقائد والفلسفات ذلك الاتجاه الفكرى العقائدى المحافظ  الذي يمثله أبو الحسن الأشعري بعد ان ترك المعتزله ،وأصبحت السنة من ناحية الفقه والفروع تعنى المذاهب الفقهية الاربعة المنسوبة للأئمة ابي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل ،هذا في عصر الاجتهاد الفقهي . وفي كتب الفقه السنى اصبح مصطلح السنة يشيرالي درجة اقل من درجات الواجب ،فيقال هذا فرض واجب ،وهذا سنة .اويقال "يسنّ"بمعني يستحسن.

ومع كل هذا التطور والتعقد فى المصطلحات التراثية لا يجوز فى المنهج العلمى أن نستعملها فى فهم القرآن الكريم ، ليس فقط لأنها تمت ولادتها بعد عصر القرآن متأثرة بظروف سياسية واجتماعية وفكرية ، ولكن أيضا لأن للقرآن مفاهيمه الخاصة ومصطلحاته الخاصة التى تعارض بل وأحيانا تناقض تلك المصطلحات التراثية المستحدثة.

 

ونعطى نماذج سريعة للاختلاف والتناقض بيم مفاهيم القرآن ومفاهيم التراث :

1- الدين فى مفهوم القرآن يعنى الطريق، والسبيل، والصراط، والطريق قد يكون مستقيماً وقد يكون معوجاً. وقد يكون الدين أو الطريق معنوياً، أى العلاقة بالله تعالى. وقد يكون الدين أو الطريق حسياً مادياً كقوله تعالى عن أهل المدينة فى عصر النبى يعلمهم فن القتال ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة 122) فالآية سبقتها وتلتها آيات فى سياق القتال وتتحدث هذه الاية الكريمة عن النفرة للقتال، وضرورة إرسال فرقة استطلاع تتعرف على الدين أو الطريق ثم تنذر الناس وتحذرهم. ومن الخبل أن نفهمها على أن يترك المؤمنون رسول الله عليه السلام فى المدينة ثم يذهبوا للتعليم خارج المدينة، وهى موطن العلم بالإسلام، وكان غيرها مواطن الشرك فى ذلك الوقت.

2- ولكن مصطلحات التراث جعلت التفقه قصراً على العلم بالشرع، مع أن مفهوم التفقه فى القرآن يعنى العلم والبحث العقلى والمادى فى كل شىء.

3- والسنة فى اللغة العربية تعنى الشرع، تقول "سن قانوناً" أى شرع قانوناً. وفى القرآن تأتى فى التشريع بمعنى الشرع حتى فيما يخص النبى (الأحزاب 38) وتكون حينئذ منسوبة لله تعالى، أما النبى فهو صاحب القدوة والأسوة (الأحزاب 21) فالسنة لله تعالى، ولنا فى النبى أسوة حسنة، وتأتى السنة منسوبة لله تعالى أيضاً فيما يخص تعامله جل وعلا مع المشركين، وتكون هنا بمعنى المنهاج والطريقة (الأحزاب 62، فاطر 43، الفتح 23) ولكن السنة فى التراث تعنى شيئاً مختلفاً سياسياً ومذهباً فقهياً.

4- و"الصحابة" فى التراث هم أصحاب النبى وأصدقاؤه ممن أسلموا. ولكن فى مفهوم القرآن فالصاحب هو الذى يصحب فى الزمان والمكان، وذلك تكرر فى القرآن وصف النبى عليه السلام بأنه صاحب المشركين (النجم 2، سبأ 46، التكوير 22).

5- والنسخ فى القرآن يعنى الإثبات والكتابة والتدوين، ويعنى فى التراث العكس تماماً، أى الإلغاء. وسنعرض لذلك بالتفصيل فى موضعه.

6- ومفهوم الحكم فى القرآن يعنى التحاكم القضائى، وليس مقصوداً به على الإطلاق ما يتردد فى التراث من أنه الحكم السياسى أو الحاكمية.

7- وكذلك الحال مع "أولوا الأمر"، فالمقصود بهم فى القرآن هم أصحاب الشأن وأصحاب الخبرة والاختصاص فى الموضوع المطروح (النساء 59، 83) وليس المقصود هم الحكام كما يتردد فى التراث.

8- و"الحدود" فى القرآن تعنى الشرع والحق، ولا تعنى العقوبات.

9- و"المكروه" فى مفهوم القرآن هو أفظع المحرمات وأكبر الكبائر كالقتل والزنا والكفر والفسوق (الإسراء 38، الحجرات 7) ولكن المكروه فى الفقه التراثى هو الحلال الذى يفضل الابتعاد عنه.

10- وكذلك المستحب أو المندوب فى التراث يعنى الحلال المباح، ولكن المستحب فى مفهوم القرآن هو الفرض الواجب (الحجرات).

11- والتعزير عند الفقهاء هو الإهانة والعقوبة، ولكن التعزير فى القرآن يعنى التكريم والتمجيد والتقديس والإعزاز والنصرة لله تعالى ورسوله (المائدة 12، الأعراف 157، الفتح 9).

والأمثلة كثيرة أهمها على الاطلاق تناقض القرآن مع تراث الفكر السنى فى مفاهيم الاسلام والايمان والشرك والكفر وما يخص المسيحيين واليهود والمرأة والشورى وحقوق الانسان الخ.... وسنتعرض لها فى تفصيلات الكتاب

 

                                     )تلك آيات الكتاب المبين ):

 البيان القرآنى:

 بيان القرآن فى داخل القرآن، القرآن كتاب مبين فى ذاته

يقول تعالى ﴿إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم﴾ (البقرة 159).

كتاب الله هو الكتاب المبين بذاته، وآياته موصوفة بالبينات أى التى لا تحتاج فى تبيينها إلا لمجرد القراءة والتلاوة والتفكر والتدبر فيها. والذى جعل الكتاب مبيناً وجعل آياته بينات هو رب العزة القائل ﴿بعد ما بيناه للناس فى الكتاب﴾ والقائل عن كتابه ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ (القمر 22). ﴿فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لدا﴾ (مريم 97). ﴿فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون﴾ (الدخان 58).

وكل المطلوب منا أن نتلوا القرآن وإذا تلوناه نطقت آياته البينات بنفسها والتى لا تحتاج منا إلا لمجرد النطق وعدم الكتمان. لذا فإن الله تعالى يجعل الكتمان- كتمان الآيات- هو عكس التبيين لذا فإن الله تعالى يهدد من يكتم آيات الله البينات التى بينها فى كتابه ﴿إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب أولئك يلعنهم الله..﴾

ويقول تعالى عن أهل الكتاب ﴿وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه﴾ (آل عمران 187). فشرح تعالى تبيين البشر للكتاب بأنه عدم كتمانه، أى تلاوته وقراءته، ومتى تلونا الكتاب المبين نطقت آياته البينات لمن يريد تدبرها .

والآيات التى تتحدث عن بيان القرآن ووصفه بالكتاب المبين والبينات أكثر من أن تستقصى ومع ذلك فإن منا من يعتقد أن كتاب الله غامض مبهم يحتاج إلى من يفسره.. هذا مع أن الله تعالى يقول عن كتابه ﴿ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا﴾ (الفرقان 33). فأحسن تفسير للقرآن هو فى داخل القرآن. وابن كثير يعترف فى بداية تفسيره أن أحسن التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن..

 

ويقول تعالى ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىء﴾ والتبيان هو التوضيح لما يستلزم البيان والتوضيح . والشىء الواضح بذاته لا يحتاج لما يبينه ويوضحه وإلا كان فضولاً فى الكلام وثرثرة لا حاجة إليها..

والله سبحانه وتعالى أنزل كتابه محكماً لا مجال فيه للغو والتزيد لذا كان البيان فيه لما يتطلب البيان، وكل شىء يستلزم البيان والتوضيح جاء فى القرآن بيانه وتوضيحه. وما ليس محتاجاً لبيان فلا مجال فيه للتفصيل والبيان فى كتاب فُصّلت آياته ثم أحكمت من لدن حكيم خبير.

لذا يرتبط "البيان فى القرآن" بالهدى والرحمة والبشرى للمسلمين ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين﴾ فبيان القرآن ﴿هدى﴾ للباحث عن الهدى وسط ركامات من الغموض والحيرة، وبيان القرآن ﴿رحمة﴾ به حين يبين له ما خفى ويصل به إلى شاطئ الأمان والرحمة الإلهية وهناك ﴿البشرى﴾ بعد الهدى والرحمة..

تفصيلات القرآن الكريم

وأيضاً ترتبط (تفصيلات القرآن) بالهدى والرحمة، يقول تعالى ﴿ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ (الأعراف 52). فالتفصيلات القرآنية التى شملت كل شىء جاءت هدى وحمة لأولئك الذين يحتاجون إلى هذه التفصيلات. وإذا كانت الأمور واضحة لا تحتاج إلى تفصيل وإيضاح فمن العبث توضيح ما هو واضح، وتعالى الله عن العبث.

والبشر قد تتحول التفصيلات فى كلامهم إلى لغو وثرثرة فيما لا حاجة إليه ولا طائل من ورائه، وهذا ما تنزهت عنه تفصيلات الكتاب العزيز التى جاءت فيما يحتاج إلى تفصيل، لذا ارتبطت تفصيلات القرآن الكريم بالعلم المحكم وفى ذلك يقول تعالى ﴿كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير﴾(هود 1).

ويقول تعالى عن العلم الإلهى الذى يحكم التفصيلات القرآنية لتكون هدى ورحمة للمؤمنين ﴿ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾.

ولذا فإن العلماء المحققين المؤمنين بتمام القرآن والمكتفين به هم فقط الذين يفهمون تفصيلات القرآن. وفى ذلك يقول تعالى ﴿كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون﴾ (الأعراف 32).. ﴿كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون﴾ (يونس 24).. ﴿كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) (الروم 28). ويقول تعالى ﴿كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون﴾ (فصلت 3).

 

قضية التدرج فى التشريع

والقائلون بالنسخ بمعنى الإلغاء والحذف يستدلون بالتدرج فى التشريع على أنه يأتى تشريع جديد يلغى التشريع القديم أو على حد قولهم ينسخه..

والتدرج فى التشريع له فى القرآن مظهران أحدهما يخص العلاقات المتغيرة بين المسلمين وأعدائهم, والآخر يختص بالإيجاز فى التشريع الذى يعقبه التفصيل.. وهذا وذاك لا ينتج عنه إلغاء للأحكام أو على حد قولهم نسخ.

التدرج فى التشريع فى العلاقات المتغيرة

إن العلاقة بين المسلمين وأعدائهم تتذبذب بين الضعف والقوة، والقرآن يضع التشريع المناسب لكل حالة.. فإذا كان المسلمون أقلية مستضعفة مضطهدة فليس مطلوباً منهم أن يقاتلوا وإلا كان ذلك انتحاراً.وإذا كان المسلمون قوة فلا يجوز فى حقهم تحمل الاضطهاد والأذى، بل عليهم أن يردوا العدوان بمثله، وإذا كان المشركون يقاتلونهم كافة فعليهم أن يردوا العدوان بمثله . وعلى المسلمين فى كل حالة أن ينفذوا التشريع الملائم لهم، وذلك لا يعنى بالطبع إلغاء التشريع الذى لا يتفق مع حالهم، فذلك التشريع فى محله تطبقه جماعة مسلمة أخرى إذا كانت فى الوضع المناسب لذلك التشريع.

ان تشريع القرآن فيما يخص العلاقات بين المسلمين وأعدائهم فى أروع ما يكون التشريع، إذ أن له ركائز ثابتة تتمثل فى المبادئ الأخلاقية الدائمة من حسن الخلق والتسامح والصبر على الأذى والاعراض عن الجاهلين ورد السيئة بالتى هى أحسن ورعاية الجواروحفظ حق الجار والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأن يقولوا للناس حسنا . ثم له قوانين متغيرة حسب الأحوال ، فالمسلمون فى ضعفهم لا يجب عليهم القتال لدفع الاضطهاد، وإنما عليهم الصبروالتحمل والهجرة اذا أمكن . أما إذا كانت لهم دولة فدولتهم الاسلامية تقوم أساسا على قيم الاسلام الكبرى من السلام والحرية المطلقة للعقيدة وتحريم الاكراه فى الدين وتطبيق العدل الصارم والمساواة بين الناس جميعا والديمقراطية المباشرة وهى التوصيف الحقيقى للشورى الاسلامية ، ورعاية حقوق العباد أو حقوق الانسان. دولة بهذه المواصفات لا يمكن أن تعتدى على دولة أخرى بل تلجأ للحرب الدفاعية اذا هوجمت فقط اذا لم يكن هناك من سبيل آخرلتفادى الحرب لأن الحرب فى تشريع القرآن هى مجرد استثناء . وحتى اعداد القوة القصوى ( الانفال60) ليس للاعتداء وانما للردع وتخويف القوة الباغية من الهجوم على الدولة المسلمة المسالمة. وبهذا الاستعداد الحربى يمكن اقرار السلام ومنع الحرب وحقن دماء العدو المتحفز للحرب والذى يغريه ضعف الآخر.هذا اذا كانوا فى دولة اسلامية عليها أن تتقوى لارساء السلم ولتكون قادرة على الدفاع ، ومحرم عليهم الاعتداء على الغير أو رد الاعتداء بأكثر منه.  وطبيعى أنه لا يوجد دولة مستضعفة للأبد كما لا توجد قوة مسيطرة إلى مالا نهاية، وبذلك تظل تشريعات القرآن سارية فوق الزمان والمكان بجوانبها الأساسية الثابتة والقانونية المتغيرة.

جدير بالذكر ان النبى محمد عليه السلام حين كان مع المسلمين فىمكة يعانى معهم اضطهاد المشركين المعتدين نفذ ومعه المسلمون الأوائل كل التشريعات المناسبة للوضع القائم من الصبر على الأذى والتسامح مع المعتدين مع الثبات على الحق والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة . ثم بالهجرة وبتكوين أول وآخردولة اسلامية حقيقية قام النبى بتطبيق كل التشريعات القرآنية السالفة الذكر. ولكن بموته عليه السلام بدأت الفجوة بين المسلمين وتشريعات القرآن وتطورت سريعا من اهمال الشورى الاسلامية بمعنى الديمقراطية المباشرة الى حكم الأقلية القرشية فى عهد الخلفاء الراشدين ، الى الفتوحات العربية وتكوين امبراطورية وفق السائد فى العصور الوسطى بالقدر الذى يخالف تشريعات القرآن ، وما نجم عن احتكار سادة قريش للسلطة والثروة من قيام الفتنة الكبرى أو الحرب الأهلية ، والتى أدت بدورها الى انهاء النظام شبه الديمقراطى للخلفاء الراشدين ليحل محله حكم الأمويين الوراثى الاستبدادى الظالم ، ثم حل محله النظام العباسى الذى وقع على عاتقه تبرير الوضع السائد وتسويغه اسلاميا. ولأنه وضع يناقض تشريعات الاسلام والسيرة الحقيقية للنبى وسنته الحقيقية فمن المستحيل التوفيق بين النقيضين، كما كان مستحيلا تحريف القرآن ليجارى الوضع القائم،   كما كان مستحيلا أيضا أن يتنازل الخليفة العباسى عن سلطاته المطلقة وملكيته المنفردة للبلاد والعباد ليعيد العدل الاسلامى والشورى الاسلامية. كان الحل علاج الفجوة بين حقائق الاسلام والقرآن باختراع دين موازى يحمل اسم الاسلام فقط ولكن يناقضه متفقا مع الأوضاع السائدة. الحق يقال ان ذلك التزييف والاختراع بدأ فى الفتنة الكبرى حيث عزز المتصارعون بالسيف مواقفهم بأحاديث منسوبةللنبى ، وسبق بذلك أبوهريرة المتحالف مع الأمويين ، ثم اتسع الزيف شيئا فشيئا فى الدولة الأموية عن طريق القصاصين أو رواة الأساطير فى المساجد, ولكن ظل جهدهم شفهيا أتيح له فى الدولة العباسية الكهنوتية أن يتم نسخه أى تدوينه فى نسخ ومجلدات. ومن العصرالعباسى ورثنا ذلك الدين العباسى البشرى المزيف المناقض للاسلام ، والذى تم شرحه وتفصيله فى العصر المملوكى. وورثنا أيضا عن ذلك الدين العباسى اتهام القرآن بأنه محتاج الى وصاية التفسير والحديث والتأويل حتى لايتاح للنورالقرآنى أن يصل للعقول. ولذا يؤمن المسلمون بتعطيل تشريع الرحمن بحجة النسخ بمعنى الحذف والتدرج فى التشريع.

التدرج فى التشريع بمعنى الايجاز والتفصيل

والنوع الآخر من التدرج فى التشريع يتمثل فى الإيجاز ثم التفصيل، فقد نزل التشريع فى مكة يتحدث عن عموميات لأن التركيز فى الوحى المكى كان على العقيدة وتطهيرها من الشرك.. ومن الطبيعى أن التفضيلات الآتية لا يمكن أن تكون متناقضة مع الأسس الإجمالية التى نزلت من قبل.

وإذا كان دعاة النسخ بمعنى الحذف والإلغاء فى التشريع يستدلون على مذهبهم بأن تشريع الخمر جاء متدرجاً يلغى اللاحق منه السابق فإننا نرى فى تشريع تحريم الخمر حجة لنا عليهم، فتحريم الخمر جاء على سبيل الإيجاز والإجمال فى الوحى المكى فى قوله تعالى ﴿قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ﴾ (الأعراف 33).فالخمر من ضمن الإثم المحرم. وجاء تحريمه على سبيل الإجمال فى مكة ضمن عموميات التشريع المكى، ثم جاءت التفصيلات فى المدينة حين سئل النبى عليه السلام عن حكم الخمر فنزل قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نّفْعِهِمَا﴾ (البقرة 219).

وطالما كان فى الخمر إثم كبير فهى محرمة فى مكة قبل المدينة، لأن الإثم القليل حرام فكيف بالإثم الكبير؟!! ثم يأتى تفصيل آخر يؤكد تحريم الخمر وذلك بالأمر باجتنابها ﴿يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (المائدة 90).

إذن لم تكن الخمر حلالاً ثم نزل تحريمها، ولم ينزل وحى بالسماح بالخمر ثم نزل تشريع آخر يلغى ذلك السماح.. وإنما نزل تحريمها اجمالا ضمن تحريم الإثم، ثم نزل التفصيل يؤكد ما سبق. أما قوله تعالى ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىَ حَتّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ (النساء 43) فلا شأن لها بالخمر وسكرة الخمر، بل أن كلمة (سكر) و(سكارى) لم تأت فى القرآن عن الخمر، إذ جاءت بمعنى الغفلة عند المشرك فى قوله تعالى ﴿لَعَمْرُكَ إِنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (الحجر 72). وجاءت بمعنى المفاجأة عند قيام الساعة ﴿وَتَرَى النّاسَ سُكَارَىَ وَمَا هُم بِسُكَارَىَ﴾ (الحج 2). وجاءت بمعنى الغيبوبة عند الموت فى ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ﴾ (ق 19). وجاءت بمعنى الغفلة وعدم الخشوع وغلبة الكسل والانشغال عن الصلاة عند أداء الصلاة فى قوله تعالى ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىَ﴾ وإذا قام الإنسان للصلاة وعقله غائب وقلبه مشغول بأمور الدنيا فهو فى حالة غفلة ولن يفقه شيئاً مما يقول فى صلاته، لذا تقول الآية ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىَ حَتّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾.

المحكم والمتشابه فى القرآن الكريم

فى القرآن الكريم آيات محكمة المعنى موجزة اللفظ ولكن قاطعة الدلالة لا مجال فيها لأكثر من رأى. تلك هى الآيات المحكمات. هذه الآيات المحكمة تشرحها وتفصلها آيات أخرى هى الآيات المتشابهة. وبذلك فان الآيات المتشابهات هى التى تفصل وتشرح الآيات المحكمات ، والباحث المسلم عليه أن يتتبع الآيات المحكمة فى موضوعه البحثى فى القرآن ، ثم يأتى بكل ما يتصل بها من آيات متشابهة ، وسيجد الآيات المتشابهة تشرح المحكمات ، ويجد موضوعه قد توضح بالقرآن بعد أن قام بواجب ( التدبر ) أى السعى ( دبر ) أو خلف الآيات المحكمة ثم خلف الآيات المتشابهة وربط هذا بذاك.

وهذا ما يشير اليه قوله تعالى (( هو الذى انزل عليك الكتاب ، منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات ، فاما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله . والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا : آل عمران 7) وكالعادة فان الله تعالى يوضح منهج الباحثين المؤمنين بالقرآن أو ( الراسخون فى العلم ) الذين يؤمنون بكل ما فى القرآن وأنه لا عوج فيه و لا اختلاف و لا تناقض، لذلك يتتبعون كل الآيات ويضعونها فى اطار أنها يفسر بعضها بعضا و يفصل بعضها بعضا و يكمل بعضها بعضا . اما الصنف الآخر فينتقى المتشابه يلوى عنقه ليصد عن سبيل الله تعالى ويتخذها عوجا. 

ونأخذ قضية الشفاعة فى النسق القرآنى مثالا  للتوضيح.

 1 ـ القرآن يؤكد على أن النبى لا يعلم الغيب وليس له أن يتكلم عن السعة وما يحدث فيها ولذلك فإن كل أحاديث الشفاعة لم يقلها النبى ولا يمكن أن يجتمع الإيمان بالقرآن والرسول مع الإيمان بتلك الأحاديث الكاذبة التى تخالف كتاب الله..

والله تعالى هو وحده "مالك يوم الدين" وهو وحده تعالى الذى يملك الأمر كله يوم القيامة، والنبى نفس بشرية ينطبق عليها قوله تعالى ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ﴾ (الإنفطار 19). لذا قال تعالى للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128). وإذا أصدر مالك يوم الدين قراراً يوم القيامة فلا مجال لتبديل كلمته، وسيقول تعالى حينئذ ﴿مَا يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ﴾ (ق 29). ومن التكذيب بآيات الله تعالى أن يؤمن بعضنا بأن الله تعالى يصدر قراراً بأن يدخل بعض الناس النار فيتشفع فيهم النبى ويتراجع الله تعالى عن قراره، لأنه ليس فى إمكان النبى أن يتدخل فى إخراج أحد من النار، فالله تعالى يقول له ﴿أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ﴾ (الزمر 19).

والإيمان بأحاديث الشفاعة تلك ليس فقط تكذيباً لآيات الله تعالى الصريحة الواضحة ولكنه أيضاً تأليه للنبى محمد عليه السلام بل وتطرف فى تأليهه إلى درجة الادعاء بأنه هو صاحب الأمر يوم القيامة وأنه مالك يوم الدين، وهو الادعاء ضمناً بأن النبى هو أرحم الراحمين لأنه ينقذ الناس من النار بعد أن يحكم الله تعالى بدخولهم فيها.. وهو الادعاء ضمناً بأن النبى هو الأعلم بحال البشر من الله ولذلك فهو يتدخل لدى الله لإنقاذ بعضهم، ولا يملك الله تعالى إلا الموافقة.. فهل ذلك يتفق عقلاً مع الإيمان بالله تعالى مالك يوم الدين الذى لا شريك له فى ملكه وحكمه؟

والإيمان بالحديث الكاذب الذى يدعى أن النبى يشفع فى البشر جميعاً شفاعة عظمى معناه التكذيب الصريح بالقرآن الذى لا يجعل للنبى أى ميزة يوم القيامة، بل يؤكد أنه مثل كل نفس بشرية يتعرض للحساب والمساءلة ويحاول أن ينجو بنفسه من هول الموقف.. فالنبى نفس بشرية ينطبق عليها قوله تعالى ﴿يَوْمَ يَفِرّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ. لِكُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس 34: 37) أى سيفر الجميع فى ذلك الوقت ولن يجد النبى أو غيره وقتاً لكى يفكر فى غيره، فكيف سيتصدر للشفاعة فى البشر جميعاً؟

ثم كيف سيتدخل النبى فى حساب البشر ليتوسط فى إدخال بعضهم الجنة، والله تعالى يقول للبشر جميعاً قال تعالى﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ. إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ (لقمان 33،34). وصدق الله العظيم. فالله تعالى هو وحده الذى عنده علم الساعة، وقد أخبرنا ببعض غيب الساعة فى القرآن، ومنه أن النبى وهو والد ومولود لا يملك أن ينفع والده ولا يستطيع أن ينفع ابنه.. وإذا كان لا ينفع ابنته فاطمة فكيف سينفع الآخرين؟

ثم كيف سيتدخل النبى فى حساب البشر ويشفع فيهم وهو نفسه يتعرض للحساب والمساءلة.. إن الله تعالى يؤكد على حساب الأنبياء يوم القيامة حين يجعل الحديث عن حسابهم وهم أفراد مساوياً للحديث عن باقى البشر، والبشر ملايين البلايين، يقول تعالى ﴿فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأعراف 6) وبالنسبة لخاتم النبيين فإن الله تعالى يتحدث عن حسابه وهو شخص واحد ويقرن ذلك بحساب الذين معه وهم آلاف الناس، يقول تعالى ﴿وَإِنّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف 44).

وفى حساب النبى فلن يستطيع أن ينفع أحداً من أصحابه، وليس بإمكان أحد من أصحابه أن يغنى عنه شيئاً، يقول الله تعالى للنبى ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ.. مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْءٍ﴾ (الأنعام 52). أى فلن يتحمل النبى شيئاً من حسابهم ولن يتحمل أحدهم شيئاً من حساب النبى.

ومن الغريب أن يقول الله تعالى له نفس الكلام عن المشركين، يقول تعالى للنبى عنهم ﴿وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ. إِنّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللّهِ شَيْئاً﴾ (الجاثية 18،19) أى أنهم لن ينفعوا النبى بشىء يوم القيامة، وفى ذلك تمام العدالة.. فالقيامة هى العدالة المطلقة التى لا نظير لها، يقول الله تعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ (الأنبياء 47).

ولكن تلك العدالة فى اليوم الآخر تحولت فى عقائدنا إلى ظلم وشفاعات ووساطات وتزكية لنا نحن دون باقى الأمم، وأصبح من العقائد الثابتة لدينا أن الجنة من نصيبنا نحن من دون البشر جميعاً، وأن أحداً لن يدخل الجنة إلا بعد أن نرضى عنه، وبذلك سلبنا الله تعالى حقوقه علينا وجعلنا أنفسنا مالكين ليوم الدين، وبعد أن ترسب فى اعتقادنا أننا نجحنا فى اختبار يوم القيامة قبل أن تقوم القيامة فعلنا كل الموبقات و لا نزال.

2 ـ :من يؤمن بشفاعة النبى يستدل عليها بالأحاديث وبتأويل لآيات القرآن الكريم.

وقد قرر علماء الأصول أن أحاديث الأحاد- ومنها أحاديث الشفاعة- لا تؤخذ منها العقائد والسمعيات والغيبيات، لأن العقائد لا تؤخذ إلا من الحق القرآنى اليقينى، وقبل علماء الأصول فإن القرآن نفسه يؤكد على أن النبى لا يعلم الغيب وليس له أن يتحدث فى الغيبيات، ومنها علامات الساعة والشفاعة، أى أن تلك الأحاديث لم يقلها النبى، وبالتالى فإن الاستشهاد بها فى إثبات شفاعة النبى أمر باطل.

نأتى بعدها لمحاولتهم تأويل آيات القرآن لإثبات شفاعة مزعومة للنبى عليه السلام.. وفى البداية نقول أن محاولة التأويل فى آيات القرآن معناه أن تحصل بالتأويل على معنى يأتى مناقضاً لآيات عديدة فى القرآن الكريم، وعلى سبيل المثال فإنك إن استطعت بالتأويل والتحريف أن تثبت شفاعة للنبى فإنك ستأتى بمعنى يخالف القرآن الذى يقول للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران 128) ويقول له ﴿أَفَمَنْ حَقّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النّارِ﴾ (الزمر 19).

أما الذى يبحث عن الحق فى القرآن يبغى وجه الله تعالى ويرجو الهداية فإنه يترك نفسه بين آيات القرآن ولا يفرض عليها أهواءه وأمنياته، وحيثما تصل به الآيات الكريمة إلى معنى فإنه يتمسك به ويضحى فى سبيله بكل ما توارثه من عقائد وأفكار.

والقرآن الكريم كتاب مثانى متشابه، والمعانى فيه تتكرر، والمتشابه من الآيات يتكرر فيها المعنى الواحد بصور مختلفة، وفى نفس الوقت تؤكد الآيات المتشابهة المعنى الذى تأتى به الآيات المحكمة، ومعنى ذلك أن الباحث عن الحق فى القرآن لن يلجأ إلى تأويل بعض الآيات لكى يؤكد ما توارثه من عقائد، ثم يأتى فى النهاية بما يخالف آيات القرآن، لن يفعل ذلك الباحث عن الحق، ولكه سيراجع القرآن الكريم كله، ويأتى بالآيات الخاصة بموضوعه، ما كان منها محكماً وما كان منها متشابهاً، وكل الآيات معاً ستعطى حقيقة قرآنية واحدة.

وبالنسبة لقضية الشفاعة سيجد الآيات تؤكد على أن النبى ليس له من الأمر شىء وأنه فى حياته كان يخاف أن عصى ربه عذاب يوم عظيم، وأنه كان يعلن أنه لن يجيره من الله أحد ولن يجد من دون الله ناصراً إلا إذا بلغ الرسالة.. وطالما أن هذه الآيات وهى كثيرة- تؤكد على نفى شفاعة النبى إذن يبدأ الباحث عن الحق فى تتبع آيات الشفاعة بعد أن تأكد منها أنها لا شأن لها بالنبى، خصوصاً قوله تعالى عن الشفاعة ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾ (البقرة 255) لأن الآية التى قبلها تنفى الشفاعة بمفهومها البشرى أى التوسط، فالآية تقول ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 254). فإذا كان فى هذه الدنيا بيع وخلة أى صداقة وإذا كان فى هذه الدنيا وساطة وشفاعة ومحسوبية، فليس فى الآخرة شىء من ذلك.

والقرآن ذكر الشفاعة فى آيات محكمات وآيات متشابهات..والمتشابهات تشرح المحكمات.

من الآيات المحكماتفى الشفاعة قوله تعالى :﴿أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾ وهى تنفى الشفاعة بمفهومها البشرى الذى نمارسه فى الدنيا والذى على أساسه نتمنى أن يكون يوم الدين سوقاً لشفاعة الأنبياء والأولياء..

ولذلك تأتى آيات محكمة كثيرة تنفى هذه الشفاعة وتؤكد على أنه ليس بإمكان نفس بشرية أن تنفع نفساً بشرية، ومنها قوله تعالى ﴿وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾.. ﴿وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ (البقرة 48،123). وقوله تعالى ﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ (لقمان 33).

أما الآيات المتشابهة فهى تفسر بعضها بعضاً:

فقوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾. وقوله تعالى ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ (يونس 3) يشير إلى أن هناك من المخلوقات- غير البشر- من يشفع ولكن بعد إذن الرحمن. ولكى تعرف هذه المخلوقات نرجع إلى باقى الآيات المتشابهة:

 فالله تعالى يقول ﴿يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ (طه 109). فالآية هنا أضافت الرضى من الرحمن بعد الإذن، وتأتى آية أخرى تقول عن الجاهلين وعبادتهم للملائكة ﴿وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَـَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ. لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ (الأنبياء 26: 28). إذن يتضح لنا أن الملائكة هى التى تشفع ولكن بعد رضى الله تعالى وإذنه وأمره، ثم تأتى آية أخرى تقول بصراحة ﴿وَكَمْ مّن مّلَكٍ فِي السّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىَ﴾ (النجم 26). إذن الملائكة هم المقصودون بقوله تعالى ﴿مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ﴾.

ولأنهم ملائكة فإن لهم دوراً فى الحساب، وهذا الدور قد حدده رب العزة بأمره وإذنه ورضاه، ولا اختيار للملائكة فى ذلك، وعليه فالشفاعة مصدرها الله تعالى، بأمره وإذنه ورضاه، أما أولئك البشر الذين أصدروا من عندهم قراراً بأن بعض البشر سيشفع فيهم عند الله، فالله تعالى هو الذى رد على أولئك الذين أخذوا من عندهم شفعاء من البشر لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، يقول تعالى ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾ (الزمر 43،44).

فالبشر هم الذين يتخذون الأولياء والشفعاء، وهم الذين يؤلفون الأساطير والأحاديث والأكاذيب، وهم الذين يعبدون أولئك الشفعاء وينتظرون منهم المدد فى الدنيا والجاه فى الآخرة، وينسون أن الله تعالى هو وحده الولى ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللّهُ هُوَ الْوَلِيّ﴾ (الشورى 9) وينسون أن الله وحده هو الشفيع ﴿أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ شُفَعَآءَ.. قُل لِلّهِ الشّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾.ومن عجب أن القرآن يؤكد على أن النبى لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله، ومع ذلك يجعلونه مالكاً ليوم الدين وشفيعاً يوم القيامة بالمخالفة لكتاب الله العزيز.

والأعجب أنهم يتلاعبون بالآيات الكريمة المحكمة والمتشابهة لاثبات مزاعمهم ثم يزيفون أحاديث ينسبونها للنبى محمد عليه السلام وهو الذى كان لا يعرف الغيب وليس له أن يتكلم فيه. وهكذا بالتحريف و الكذب والتلاعب بآيات الله تعالى أعادوا عقائد شركية تناقض عقيدة الاسلام فى أن الله تعالى هو مالك يوم الدين ، وأنه وحده الولى والشفيع وأنه ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا..

 

                            بين تشريع القرآن الكريم والفقه السنى                              

1 –تدور التشريعات فى القرآن الكريم حول ثلاث درجات : الفرض المكتوب او الاوامر ، ثم النواهى أو المحرمات ، ثم ما بينهما وهو المباح ، ومنهج القرآن فى التشريعات فى هذه الدرجات ان يحدد الفروض والمحرمات ثم يترك المباح مفتوحا ، واذا كان هناك تشريع سابق يحرم شيئا وجاء القرآن بتحليله مجددا يأتى ذلك فى القرآن فى سياق الحلال الجديد كقوله تعالى ( احل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم : البقرة 187) .

وجاء الفقه السنى بتعديل للمدار التشريعى ، اذ اضاف اليه درجتين فى التشريع انتزعهما من المباح الحلال هما المكروه والمندوب او المسنون . فالمكروه هومباح ينبغى تركه أو درجة اقل من الحرام, والمندوب او المسنون هو مباح ينبغى فعله وان لم يكن واجبا لأنه اقل من الفرض الواجب .

2 – وترتب على هذا التأويل والتعديل للمدار التشريعى الاسلامى القرآنى نتيجتان

* الاولى:-

 اضافة مصطلحات جديدة تخالف القرآن وهى المكروه والمندوب ، وعلى سبيل المثال فإن المكروه فى مصطلحات القرآن ليس مباحا اقل درجة من الحرام كما يقولون بل هو اشد انواع الحرام تجريما قال تعالى (وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان : الحجرات 7) وبعد ان جاء تحريم السرقة والقتل والكفر وسائر الكبائر فى سورة الاسراء قال تعالى عنها ( كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها : الاسراء 38 )

* الثانية :-

هى التضييق من دائرة الحلال المباح وتحويل المباح الحلال الى مكروه لا ينبغى العمل به ، وهذا يعنى التدخل فى تشريع الله تعالى من حيث الدرجة ومن حيث التفصيلات.

 قواعد التشريع الجامعة المانعة والمؤكدة :

1 – هناك قواعد تشريعية جامعه مانعه ، اى تجمع المحرمات داخل سور محدد وتمنع اخراج احد منه او اضافة احد اليه ، مثل المحرمات فى الزواج ، وقد ذكرها القرآن بالتفصيل ثم بعدها قال ( واحل لكم ما وراء ذالكم ان تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين : النساء 24 ) اى فالنساء داخل ذلك السور الجامع المانع كلهن محرمات ، والنساء خارج هذا السور الجامع المانع كلهن حلال للزواج ، وجاء الدين السنى ليخرق هذا السور  بأن اضاف اليه بالقياس قاعدتين فقهيتين  جعلهما احاديث منسوبة للنبى وهى ( يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب ) ، ( لا تنكح المرأة على عمتها او خالتها ) ، وعلى ذلك فإذا اراد رجل ان يتزوج خالته من الرضاعة فإن ذلك حلال فى تشريع القرآن الكريم وحرام فى تشريع دين السنة ، ونفس الحال اذا اراد ان يتزوج  على امرأته عمتها او خالتها يقول تعالى ذلك حلال ويقول الفقهاء من دين  السنة ذلك حرام .

وهناك مثال اخر هو المحرمات فى الطعام التى تكررت كثيرا فى القرآن الكريم " البقرة 173" ، " المائدة 3" ، " الانعام 145" ، " النمل 115" وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وما يقدم للأوثان . وبرغم تحذير القرآن الكريم من اضافة اى محرمات جديدة للطعام ( المائدة 87، يونس 59:60 ، النحل 116: 117، التحريم 1) الا ان الفقه السنى اضاف تحريم الكثير من الحلال ، وتمتلىء بذلك كتب الفقة .

 

2 – وهناك قواعد تشريعية قرآنية مؤكدة باسلوب القصر والحصر مثل قوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق ( الاسراء 33، الانعام 151 ) (والذين لا يدعون مع الله الها اخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله الا بالحق الفرقان 68) اى فلا يجوز القتل فى الاسلام الا بالتشريع القرآنى الحق وهو طبقا للنصوص القرآنية يأتى فى صورة القصاص ، سواء كان ذلك فى الجرائم ( البقرة 178) او فى الحروب ( البقرة 194) وجاء الفقه السنى فألغى هذه القاعدة التشريعية المحكمة الملزمة فأضاف قتل المرتد والزنديق وتارك الصلاة ورجم الزانى ، ثم توسع فى القتل السياسى ليجعل من حق الامام ان يقتل دون أن يكون عليه قصاص. وعلى أساس هذا التشريع كان الخليفة ( من غير الراشدين ) يقتل من يشاء وبمجرد نطق الكلمة .

 

3 – وهناك قواعد تشريعية قرآنية جاء تأكيدها فى القرآن الكريم بكل اساليب التأكيد مثل الامر بالوصية للوارث وغير الوارث فى قوله تعالى ( كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين : البقرة 180 ) فالتأكيد فى الوصية جاء بصيغ مختلفة شديدة الدلالة مثل "كتب عليكم " ، " إن ترك خيرا " ، " بالمعروف" ، " حقا "،" على المتقين" ، ثم جاءت الايات بعد ذلك تضع قواعد الوصية. وفى سورة النساء نزل الامر بالوصية ليطبق قبل توقيع الميراث (من بعد وصية يوصى بها او دين : النساء 11، 12) ومع ان الوالدين لهما حق فى الميراث وحق ايضا فى الوصية ، ومع ان قواعدالميراث والوصية هى حدود الله التى يحرم التعدى عليها ( النساء 13:14) الا ان الدين السنى الغى الوصية للوارث طبقا لقاعدة فقهية جعلها حديثا نبويا يقول ( لا وصية لوارث ) وافتروا أن هذه الكذبة المخالفة للقرآن قد " نسخت" أى بزعمهم ألغت الآيات المخالفة لها..

ان تشريع الوصية والحث عليها جاء تحقيقا للعدالة الاسلامية. فأنصبة الميراث محددة بالنصف والربع والسدس والثلث والثمن ولا يجوز تعديلها. وتطبيقها وحدها قد يحمل ظلما بين الورثة. قد يكون فيهم من يستحق الزيادة فى حصته لظروف خاصة به تستوجب ذلك، هنا تأتنى الوصية لتعالج الأمر تحت عين المجتمع ورقابته ووفقا لمسئولية المتوفى أمام الله تعالى فى توزيع الوصية حسبما جاء فى آيات الوصية ، بالوصية مثلا يمكن لك أن تعطى ابنتك نصيبا مساويا لابنك طالما كانت تستحق ويطمئن ضميرك والمجتمع لذلك.

 

4- وترتب على هذا التلاعب بتشريعات القرآن الكريم المحكمة والملزمة نتيجتان متلازمتان

* الاولى :-

 اضافة معانى مخالفة لمصطلحات القرآن الكريم فالنسخ فى القرآن الكريم وفى اللغة العربية يعنى الاثبات والكتابة والتدوين ، ولكنهم جعلوا النسخ عندهم يعنى الحذف والالغاء والتبديل .

*الثانية :-

جعلوا فتاويهم الفقهية واحاديثهم المنسوبة زورا الى النبى تلغى قواعد القرآن الكريم التشريعية وتبطلها ، وبالتالى جعلوها فوق القرآن الكريم الذى هو كلام رب العالمين.

 

 قواعد التشريع ومقاصده العظمى:

عموما فالاحكام في التشريعات القرآنية هي اوامر تدور في اطار قواعد تشريعية ،وهذه القواعد التشريعية لها مقاصد او اهداف ،او غايات عامة .

يبدأ التشريع القرآنى بالأوامر مقترنة بقواعدها ، وقد تأتى المقاصد فى خلال الآية نفسها أو فى خلال السياق أو تأتى منفصلة. ولسنا فى مجال التفصيل لذلك ولكن اعطاء امثلة يعين على الفهم:-

نبدأ بمقاصد التشريع القرآنى وهى نوعان : النوع الأول ويتمثل فى مصطلح التقوى أى خشية الله تعالى أو بتعبيرنا المعاصر الضمير الحى الذى لا يكتفى بالتأنيب على الخطأ والعزم على عدم العودة اليه ، ولكن قبل ذلك يمنع الانسان من الوقوع فى الخطأ " الأعراف 201 " آل عمران133-136 ". والتقوى تجمع فى ثناياها الايمان الصحيح بالله تعالى واليوم الآخر مع المداومة على عمل الصالحات أى العبادات والمعاملات.ولذلك لا يدخل الجنة الا المتقون. فالايمان وحده لايكفى ، والعمل الصالح وحده لايكفى. هذه هى التقوى كقيمة عليا فى الاسلام ومنهجه الخلقى والعقيدى والتشريعى .

فى المجال التشريعى تأتى التقوى فى سياق التشريعات نفسها وتاتى أحيانا منفصلة عنها باعتبارها قيما عليا فى حد ذاتها، فالأمر بالتقوى تكرر للنبى نفسه والمؤمنين وكان أحيانا يأتى فى مطلع السور"النساءـ الأحزاب ـ الحج ". وتأتىالتقوى فى سياق التشريع لتؤكد على ضرورة ربط التطبيق البشرى للتشريع الالهى باحياء الضمير والسمو بالنفس وتزكيتها وحسن العلاقة المباشرة بيى الانسان وربه الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، واذا كان يعلم ان الله تعالى يراه فلا بد له من أن يخشى الله تعالى ويسعى فى مرضاته جل وعلا. حتى لو كان بمأمن من السلطة البشرية والمراقبة البوليسية. من أجل هذا الدور السامى للتقوى فى التشريع القرآنى تجد الأمر بالتقوى يرصع آيات التشريع فيها جميعا. ونعطى مثالا واحدا: يقول تعالى فى تشريع الطلاق مؤكدا على حفظ حقوق المرأة" واذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أوسرحوهن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا. ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ، ولا تتخذوا آيات الله هزوا، واذكروا نعمة الله عليكم وما انزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شىء عليم "البقرة 231 " . الآية هنا انقسمت الى قسمين : الأول فى الأمر التشريعى وهو تخيير الزوج ـ الذى طلق زوجته وبلغت العدة وهى فى بيته ـ بين أن يحتفظ بالزوجة ويمسكها بشرط معاملتها بالمعروف ، وبين أن يتحول الطلاق ـ وهو فى التشريع القرآنى مجرد مهلة للمراجعة وليس انفصالا نهائيا ـ الى انفصال نهائى بأن يطلق سراحها ولكن أيضا بالمعروف ودون اضرار. وحتى لا يضمر الزوج ان يعيدها الى عصمته بقصد اذلالها يحذر التشريع القرآنى من ذلك ويجعله اعتداءا. وبعد مجىء التشريع بالأمر والنهى جاء القسم الثانى من الآية بالمقصد التشريعى مباشرة يشمل الانذار والوعظ والتحذير والتنبيه ومراعاة التقوى. نلمح هنا بسرعة الى التناقض بين تشريع الطلاق فى القرآن وتشريعه فى الدين السنى ، ونلمح أيضا الى أن فحوى الآية السابقة قد جاء مفصلا أيضا فى افتتاحية سورة الطلاق حفظا لحقوق المرأة ولكن الدين  السلفى أضاع تشريع القرآن وحقوق المرأة وحقوق الانسان.

وبعد التقوى المقصد التشريع الأعظم تأتى المقاصد التشريعية الأخرى من حفظ تماسك الأسرة ورعايتها، والتخفيف ورفع الحرج والتسهيل ، والعفة الجنسية.

فى موضوع العفة والاحصان الخلقى جاءت "الأوامر " التشريعية بغض النظر المحرم للرجال والنساء معا وعدم الأقتراب من مقدمات الزنا والحشمة فى زى النساء " النور30 -31 الاسراء 32". ركز الدين السنى على هذه الأوامر الى درجة التطرف فتحول الخمار الذى يغطى الصدر دون الوجه والشعر الى نقاب يعبىء المراة ويعلبها فى غلاف اسود كئيب ، وهو مزايدة محرمة على حق الله تعالى فى التشريع، وتضييع لشهادة المرأة ودورها فى المجتمع المسلم وتحريم لكشف وجهها وهو حلال فى الاسلام، هذا التطرف بفرض النقاب أضاع المقصد الأسمى من أوامر العفة والاحصان. فالمعروف أن النقاب من اهم عوامل انتشار الانحلال الخلقى حيث تتخفى فيه المرأة وتفعل ما تشاء دون أن يتعرف عليها احد. 

والمقصد التشريعى بالتيسير ورفع الحرج اضاعه الدين السنى الحنبلى بتشدده وتزمته .

حتى العبادات : هى مجرد أوامر واجب علينا اداؤها لبلوغ الهدف الأسمى وهو التقوى" البقرة  - 183 -196 -197 ـ21"أو هى مجرد وسائل للتقوى نستطيع بها الابتعاد عن الفحشاء والمنكر" العنكبوت45" وهذا هو المعنى الحقيقى لاقامة الصلاة وايتاء الزكاة أى التزكى والسمو الخلقى بالتقوى. كل ذلك أضاعه الدين السنى حين جعل الصلاة والزكاة والحج أهدافا بذاتها، فاذا أديت الصلاة فلا عليك ان عصيت وستقوم صلاتك بمسح ذنوبك " ودى نقرة ودى نقرة " كما يقول المثل الشعبى المصرى، واذا تبرعت لبناء مسجد ولو كمفحص قطاة تمتعت بقصر فى الجنة. واذا أديت الحج رجعت منه كيوم ولدتك أمك ـ أى بلا ذنوب على الاطلاق.وأكثر من ذلك ستدخل الجنة ـ رغم أنفك ـ بشفاعة محمد لأنك من امة محمد مهما فعلت. يكفيك أن تقول الشهادتين ثم تعيث فى الأرض فسادا. المهم أن الدين السنى حول العبادات الى تدين سطحى وحول الأخلاق الى مستنقع من النفاق والكذب والتدجيل. ونحن مشهورون بين الأمم بكل ما يشين بسبب ذلك .

 أما علاقتنا بالآخرين فقد حولها الدين السنى من السلام الى العنف والارهاب والعدوان لأنه ركز على الأمر وأهمل القاعدة والمقصد التشريعى.

فالامر بالقتال "قاتلوا " "له قاعدة تشريعية وهوان يكون للدفاع عن النفس ورد الاعتداء بمثله او بتعبير القرآن (في سبيل الله )،ثم يكون الهدف النهائي للقتال هو تقرير الحرية الدينية ومنع الاضطهاد في الدين ،كي يختار كل انسان ما يشاء من عقيدة وهو يعيش في سلام وامان حتي يكون مسئولاعن اختياره الحر يوم القيامة بدون اكراه فى الدين حتى لا تكون لأى بشر حجة امام الله تعالى يوم الدين.

ونعطى امثلة سريعة:-  يقول تعالي (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين :البقرة195) فالامر هنا (قاتلوا)والقاعدة التشريعية هي (في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين )وتتكرر القاعدة التشريعية في قوله تعالي (فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم :البقرة 194)اما المقصد او الغاية التشريعية فهي في قوله تعالي (وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين لله :البقرة 193)أي ان منع الفتنة هي الهدف الاساسي من التشريع بالقتال . والفتنة في المصطلح القرآني هي الاكراه في الدين أوالاضطهاد في الدين ،وهذا ماكان يفعله المشركون في مكة ضد المسلمين يقول تعالي (والفتنة اكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتي يردوكم عن دينكم ان استطاعوا :البقرة 217). وبتقرير الحرية الدينية ومنع الفتنة او الاضطهاد الديني يكون الدين كله لله تعالي يحكم فيه وحده يوم القيامة دون ان يغتصب احدهم سلطة الله في محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين في الرأي، وذلك معني قوله تعالي(وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله : الانفال 39 ).                  

 الذى حدث ان فقهاء دين السنة ركزوا فقط على الأمر بالقتال" قاتلوا" واهملوا القاعدة التشريعية للقتال او المسوغ الوحيد لاباحته وهو ان يكون القتال دفاعيا فقط . وترتب على هذا أن أصبح القتال ليس فى سبيل الله تعالى لاقرار الحرية الدينية ومنع الاكراه فى الدين ، وليس لمجرد الدفاع الشرعى عن النفس ، بل أصبح لتشريع العدوان على الغير وجعله ليس فقط مباحا بل واجبا شرعيا باعتباره جهادا اسلاميا.

 ولأن هذا ينافى التقوى وهى لب الاسلام والمقصد الأعظم لتشريعاته فانه جرى أيضا اهمال الاشارة الى التقوى او الخشية من الله تعالى .

وقد أشرنا الى ارتباط التشريعات القرآنية الدائم بالتقوى حيث يكون المسلم رقيبا على نفسه قبل أن يكون المجتمع او السلطة أو الضبطية القضائية رقيبا عليه. ومع هذا الاقتران بين التشريعات القرآنية والتقوى الاسلامية الا اننا لا نجد اشارة لها فى التشريع السنى فى عصر الازدهار الفكرى، لا فى فقه العبادات أو المعاملات. وبحذف هذا الجانب الباطنى - او الروحى بالتعبير السائد – ركز التشريع السنى فى ازدهاره الفكرى على التدين السطحى المظهرى وتجميع كل تفصيلاته الممكنة والخيالية ، ثم انحدر الفقه السلفى فى عصوره المتأخرة والمتخلفة  الىالتخيلات و التصورات السخيفة المستحيلة الحدوث والتى امتلأت بها كتب الفقه فى العصر العثمانى: مثل " ما حكم من حمل على ظهره قربة فساء ، هل ينقض وضوؤه أم لا؟... من جاع فى الصحراء ولم يجد الا جسد نبى من الأنبياء ، هل يجوز له الأكل منه؟ ...ماحكم من زنى بأمه فى نهار رمضان فى جوف الكعبة ؟ وماذا عليه من الأثم ؟؟ ....وما حكم من كان لقضيبه فرعان وزنى بامراة فى قبلها ودبرها فهل يقع عليه حد واحد أم حدان؟؟

 – على ان المحصلة النهائية لتلاعبهم بالقواعد التشريعية القرآنية امتدت لتشمل : -

* عدم الاكتفاء بالقرآن الكريم مصدرا وحيدا للتشريع عندهم  ، فأضافوا اليه مصادر اخرى له ابتدعوها وجعلوها عمليا فوق القرآن مثل الاحاديث والاجماع والقياس والمصالح المرسلة وبعضها كان ستارا لالغاء النص القرآنى مثل سد الذرائع الذى استطاعوا به تحريم وجوه كثيرة من الحلال .

 ** كثرة وسهولة انتاج الكثير من المصطلحات الفقهية ، وبعضها كان من مصطلحات القرآن ولكن حرفوا معناها مثل الحدود التى تعنى فى القرآن الكريم الشرع والحق فجعلوها تعنى العقوبة, وقاموا بتحوير بعض المصطلحات القرآنية لتكون نقيض معناها القرآنى ، مثل النسخ ـ وقد أشرنا اليه ـ والتعزير الذى يعنى فى القرآن التقديس والمؤازرة والتأييد فجعلوه فى الفقة يعنى الاهانة والعقوبة.

*** كثرة وسهولة الوضع فى الاحاديث ، وكثرة وسهولة استعمال كلمة( يسن) فى تشريع الفقهاء ، هذا عند الفقهاء من مدرسة الاحاديث .

حدود اجتهاد الناس فى تشريع القرآن:

كلمة الاجتهاد بمعناها الاصطلاحى من مبتكرات العصر العباسى ونحن مضطرون لاستعمالها لشيوعها على الألسنة، والاصطلاح القرآنى المماثل هو "التدبر" ومعناه أن يظل القارئ للقرآن خلف الآية يتتبعها فى القرآن حتى يستوعب المراد، لأن القرآن مثانى وفيه التشابه وتكرار المعنى وتفصيلها، وآياته تفسر بعضها بعضاً ولا يناقض بعضها بعضاً، لذا فإن الأمر بتدبر القرآن يشير إلى هذه الحقيقة فيقول تعالى ﴿أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا﴾ (النساء 82)

والتدبر عملية عقلية فكرية يقوم بها القارئ للقرآن متشجعاً بآياته التى تحث على التفكر والتعقل والنظر والعلم والتفقه.

على أن القرآن استعمل بعض المشتقات القريبة من كلمة "الاجتهاد" مثل ﴿والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم﴾ (التوبة 79) والجهد هنا يعنى الإمكانات المالية والمادية، وقريب منه قوله تعالى ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم﴾ (النور 53) وقد يكون الجهد مجهوداً عضلياً أما التدبر فهو تفكير عقلى علمى بحت، وذلك يجعل من أسلوب القرآن أرقى وأدق من اختراع العصر العباسى : "الاجتهاد" ـ الذى لا يزال مسيطراً على تفكيرنا حتى الآن.

والسؤال الآن: ما هى حدود الاجتهاد فى شرع الله؟ ومتى يكون مباحاً ومتى يكون محظوراً؟ إن الله تعالى يقول ﴿أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟﴾ (الشورى 21) ومع نبرة الهجوم والتخويف فى الآية من ذلك التشريع الذى لم يأذن به الله فإن فى الآية تصريحاً بوجود تشريع يرضى عنه الله لأنه جاء فى الحدود التى يأذن بها الله. ومن أسف فإنهم لم يعرفوا تلك الحدود فاجتهدوا فى المحظور وربما توقفوا حيث ينبغى الاجتهاد، ولقد قالوا أنه "لا اجتهاد مع وجود نص" مع ان النص القرآنى يحتاج ـ كأى نص تشريعى ـ الى اجتهاد فى تطبيقه على الواقع.  أنهم أضافوا نصوصاً منسوبة للنبى وجعلوها ـ مع أخرى ـ مصادر أخرى للاسلام مع القرآن . وأصبحت تلك النصوص موانع للاجتهاد لا وجود له معها بما جعلوا لها من قدسية مع أنها تخالف القرآن.

كان ينبغى أن يتوجه اهتمام الفقهاء إلى الاجتهاد فى المناطق المباح فيها الاجتهاد. فمن الملاحظ أن آيات التشريع القرآنى محدودة ومحددة فهى أقل من مائتى آية أى ما يعادل حوالى 1/30 من القرآن الكريم، ومع ذلك فقد اكتفى رب العزة بهذه الآيات. وبها اكتمل الدين وتمت نعمة الإسلام بتمام القرآن ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا﴾ (المائدة 3) وليس ممكناً بعد هذه الآية أن يقال أن كتب الفقه والحديث تكمل نقصاً فى القرآن، فتعالى الله العزيز الحكيم أن ينزل لنا كتاباً ناقصاً يحتاج للبشر فى استكماله. وآيات التشريع القرآنى على قلتها ومحدوديتها تعنى أن تشريع القرآن ترك هامشاً للحركة الإنسانية فى الاجتهاد والتطور وفق المتغيرات ولكن ينبغى أن يكون ذلك فى الإطار العام لتشريعات القرآن التى تهدف لإقرار العدل والمساواة والقسط والتيسير وحفظ الحقوق والدماء. إن التشريع القرآنى جاء بنصوص جامعة مانعة فى أمور محددة كالمحرمات فى الزواج والحرام فى الطعام وجاء بأنصبة محددة فى الميراث، ومطلوب منا أن نجتهد فى تطبيق هذه النصوص التطبيق الأمثل، لا أن نجتهد فى الاعتداء عليها وتغييرها بالإضافة والتشويه.

ثم جاء التشريع القرآنى يحتكم للعرف أو المعروف فى التطبيق لأحكامه التفصيلية و لأن تصاغ من العرف والمعروف قوانين اسلامية فى اطار القيم الاسلامية الانسانية العليا  المتعارف عليها فى كل زمان ومكان من العدل والحرية والسلام والاحسان والتسهيل والتخفيف والرحمة والرفق والعفو.

بالعرف وبالمعروف يمكن مثلا تطبيق تلك القيم الاسلامية العليا فى المجتمع ـ وفق العرف السليم ومواءمته للعصر الذى يعيشه الناس ـ فى كل ما تركه القرآن للتقنين البشرى ، وهذا يدخل فيه كل شىء من قوانين الاسكان الى المرور والاستيراد والتصدير والهجرة ...الخ ..الخ . وكل قانون يشرى روعيت فيه تلك القيم السامية فهو تشريع اسلامى أذن به الله تعالى. كما يمكن أيضا تطبيق التفصيلات الثشريعية القرآنية نفسها حسب العرف أو المعروف المتعارف عليه فى كل عصر، وذلك لكى يتيح القرآن الكريم المجال للتطور الاجتماعى والإنسانى وتظل تشريعات القرآن فوق الزمان وفوق المكان، وما كان يصلح للعصر العباسى مثلاً لا يصلح لعصرنا.

 ومثلاً يقول تعالى ﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف﴾ (البقرة 233) فلم يحدد القرآن مبلغاً من المال بالدرهم والدينار وإنما قال "رزقهن" ليشمل الجانب النقدى والجانب العينى واحتكم للمعروف أى القيمة الانسانية العليا فى القسط والعدل وتطبيق ذلك بالعرف السائد من النقد والعملة وسائر احوال المعيشة ومدى المناسب لحال المرضعة والوالدة ووضعها ووضع المجتمع، وينبغى هنا أن يقوم الناس بوضع القوانين التى تناسب عصرها فى اطار ذلك العرف الذى اشار اليه القرآن الكريم فى تلك التفصيلات التشريعية. وهنا يكون الاجتهاد فى خدمة النص القرآنى.

ويلاحظ أن الاحتكام للعرف والمعروف يتكرر كثيراً فى حديث القرآن عن الزواج والأحوال الشخصية باعتبارها أقدم "عرف" تعارف عليه بنو آدم ولا يزال الزواج هو الصيغة الشرعية التى يباركها دين الله، وحين نزل القرآن كان رسول الله محمد قد تزوج زواجاً شرعياً وفق عرف الجاهلية، فالعرب قبل الإسلام لم يكونوا محرومين كلية من التشريعات الصالحة، ولذلك فإن القرآن الكريم لم يوضح لنا مثلاً كيفية عقد الزواج، ولكن نزلت آيات كثيرة تصحح بعض الأخطاء الشائعة فى الزواج وعلاقات الزوجين والشقاق بينهما وعدة المطلقة وحقوقها، واحتكم فى ذلك للعرف.

يلفت النظر عناية القرآن بالشورى وأمر النبى بها وهو الذى ينزل عليه الوحى، وجعلها من سمات المجتمع المسلم، وبها يمكن للمجتمع صياغة قوانين فى اطار العرف والمعروف سواء فى تطبيق التفصيلات التشريعات القرآنية وتنزيلها على الواقع المعاش وفق المتعارف على أنه الأكثر عدلا ويسرا ، او فى استخلاص قوانين جديدة فيما ينفع الناس فيما تركه القرآن للبشرللتقنين وما أذن الله تعالى لهم فى تشريعه فى اطار وضوابط القيم الاسلامية العليا المشار اليها .

لقد قامت حياة النبى عليه السلام على أساس تبليغ القرآن كما هو وجاهد حتى بلّغ الرسالة وحين اكتملت الرسالة مات النبى وترك لنا الرسالة أوالقرآن أو الرسول المقروء بيننا.. وفى حياة النبى كانوا يسألونه ويستفتونه فينتظر الإجابة من الوحى، وبعض هذه الأسئلة كان يمكنه الإجابة عنها ولكن الدين دين الله، والله وحده هو صاحب الحق فى التشريع وليس للنبى أن يفتى وما كان يفعل. ولكنه عليه السلام كان يجتهد فى تطبيق النصوص القرآنية وكان يستشير لكى يصل للصيغة المثلى فى التطبيق.

وهناك بالنسبة لنا نحن بعد النبى مجالات حددها القرآن للتطبيق الحرفى بلا أدنى تغيير أو تبديل مثل المحرمات فى الزواج وعدم تحريم الحلال فى الطعام، والأنصبة المحددة فى الميراث.

ثم هناك مجالات أباح فيها القرآن للاحتكام للعرف منها ما يخص السلطة الاجتماعية ومنها ما ينفذه المسلم فى ضوء تقواه وخشيته من الله مثل الوصية والصدقة..

ثم هناك المشورة فى غير وجود النص، والنصوص القرآنية التشريعية محددة ومحدودة مما يعطى فرصة كبرى للتطور الاجتماعى لتحقيق العدالة والقسط والتيسير، وذلك يعطى تشريع القرآن إمكانية الاستمرار فى كل مكان وزمان، وهناك أيضاً المشورة فى كيفية تطبيق النص أو فى تقنين العرف، وأى تشريع يصل إليه المجتمع بالمشورة مستلهماً روح القرآن بهدف تحقيق العدالة والمساواة ومنع الظلم فهو تشريع إسلامى أذن الله تعالى به.فالهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتاب كان إقامة الناس للقسط وفى ذلك يقول تعالى ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط..﴾ وصدق الله العظيم (الحديد 25)

ولأنه لا يجوز فى الاسلام تحليل حرام أو تحريم حلال. ولأن دائرة المحرمات ضيقة ومحددة وتدخل ضمن الاستثناء فان الأصل هو الحلال المباح الذى لا يجوز تحريمه وحظره وإن كان يجوز تنظيمه وتقنينه. وهنا يأتى دور التشريع البشرى فى تقنين الجانب الأعظم من أمور الحياة، وهى تغطى كل شىء فى سائر التفصيلات فى العلاقات البشرية .

على أن هناك بعض الملاحظات فى مجال تقنين المباح ، هى :

1 ـ ان يكون التقنين البشرى خاضعا للمقاصد التشريعية الكبرى فى الاسلام التى تهدف لحفظ كرامة الانسان وتكريمه ( الاسراء 70 ) وحفظ حقوقه الاساسية ، ومنها العدل والتيسير واحترام الحرية الشخصية و منع الضرر والظلم,

2 ـ لا يجوز فرض ذلك التشريع على الناس إلا بعد اصداره قانونا فى دولة قائمة على الشورى أو الديمقراطية المباشرة. هنا يكون القانون الذى أصدره الناس باختيارهم عقدا ملزما للجميع وساريا على الجميع لأنه عقد لازم، ولا بد من الوفاء بالعقود.( المائدة 1 ) أما قانون الحاكم المستبد الصادر بالقهر فلا يسرى عليه صفة العقد الملزم، ولا يجب شرعا الالتزام به لأنه لا التزام فى الاكراه، لذا تصدر قوانين المستبد بالظلم ويتم تطبيقها بالقهر والفساد.

3 ـ يجوز فى خارج العقوبات الشرعية اصدار قوانين عقابية تعادل الجريمة المرتكبة فى اطار العدل ، ولكن لا تصل الى المساس بالحياة أو العقوبات المقررة شرعا. مثلا يجوز تقنين عقوبات بالسجن والغرامة و الطرد من العمل.. الخ .

5 ـ كما يجوز فى إطار الحماية الصحية و الاقتصادية والاجتماعية سن قوانين للضرائب والزام الاباء بتطعيم الأبناء وتعليمهم وقوانين لتنظيم البناء والمرور والعمل ..الخ ..وقوانين تمنع التدخين والتجارة فى المخدرات أو تناولها.بهذه القوانين تتمكن الدولة ممثلة فى جهازها التشريعى من سن القوانين التى تكفيها كما تتمكن الدولة ممثلة فى جهازها التنفيذى من فرض القانون لخدمة المواطنين.

وبعد ..المحصلة الختامية لما سبق أنه كان يمكن الاكتفاء بالقرآن الكريم والاجتهاد من خلاله فى مجالين :

الأول : الاجتهاد فى تنظيم المباح فى ضوء المقاصد الكبرى للتشريع الاسلامى القرآنى كما سبق ، والثانى الاجتهاد فى تطبيق الأحكام التشريعية القرآنية فى ضوء العرف أو المعروف أو ما يتعارف عليه الناس أنه خير وعدل وتيسير والأكثر ملاءمةللظروف ، وقد يستدعى هذا التطبيق اصدار قوانين أو قواعد تفسيرية أو تنظيمية. كل ذلك بدون تحليل حرام أو تحريم حلال ، وبدون خرق لقيم الاسلام العليا من العدل و حرية البشر فى الفكر والمعتقد و السلام والرحمة والاحسان أو بمفهوم عصرنا التسامح. أى اجتهاد فى ضوء النصوص القرآنية يكون به القرآن هو الأعلى وهو المهيمن . وهذا ما لم يحدث فى تاريخ المسلمين فى العصور الوسطى.

لقد ساد بين السابقين أن القرآن معجز فى فصاحته فقط فتحول الاهتمام الى ناحية اللغة والبيان الأدبى وتحول القرآن الى نصّ أدبى عند البعض. بينما لم يحظ الاعجاز التشريعى فى القرآنى باى اهتمام . بل على العكس ؛ نظروا اليه من خلال ما صنعوه من احاديث منسوبة للنبى محمد عليه السلام ، وحاولوا التوفيق بينه وبين تلك الأحاديث لصالح أحاديثهم و رؤاهم ،  وعالجوا التناقض بين القرآن الكريم وتلك الرؤى البشرية التى اكتسبت صفة الحديث والسنة بتجاهل آيات القرآن أو القول بنسخها أى الغاء حكمها ، أو بتاويل المعنى القرآنى وتحريفه. ولولا أن القرآن الكريم محفوظ بقدرته جل وعلا لتم الغاء معظم آياته ليس بالمعنى ولكن باللفظ والنصّ . ولأنه محفوظ من لدن الله تعالى فقد ظلت نصوصه حجة على كل ما فعلوه بالقرآن الكريم مما يسمى بالتفسير والتاويل والحديث والسنة و النسخ.

القرآن الكريم لا تنتهى إعجازاته . وفى عصرنا يكتشف العالم جوانب من الاعجاز العلمى فى القرآن الكريم ، وفى العصور القادمة سيكتشف العالم المزيد والمزيد حيث سيظل القرآن الكريم معجزا لكل عصر الى قيام الساعة. واليوم يهلل المسلمون عندما تتوافق حقيقة علمية مكتشفة حديثا مع القرآن الكريم . المفجع أنهم لا يسألون أنفسهم السؤال المؤلم : اذا كانت هذه الاشارات العلمية موجودة فى القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرنا فلماذا غفل عنها علماء السلف وأئمتهم ؟ لماذا ظلت مجهولة فى القرآن الكريم الذى اعتادوا قراءته و حفظه فى الصدور؟ الاجابة لأنهم انشغلوا عن القرآن الكريم بكل ما يخالف القرآن الكريم من النسخ والحديث والسنة و التأويل و التفسير؛ انشغلوا بما ابتدعوه لأنهم اختلفوا فيه فازدادوا انشغالا عن القرآن الكريم. لا يزال حتى الان الاختلاف فى نسخ آياته والاختلاف فى تاويلها وفى رواة الأحاديث و السند والمتن و الاستواء على العرش و ومرتكب الكبيرة و .. ولا يزالون فى اختلافاتهم الهائلة فى توافه الأمور من الحجاب والنقاب ودماء المسلمين تسيل أنهارا تنذر بحروب أهلية نرجو الله تعالى منها السلامة...

هذا تمهيد نعتبره اعتذارا عما وقع فيه المسلمون السابقون فى حق القرآن الكريم.

كيف نفهم القرآن الكريم
كيف نفهم القرآن الكريم ؟
تحريف الاسلام زاد و انتشر ثم تسيد تحت مسمى الحديث و السنة و النسخ التراثى. وبسبب هذا التسيد للحديث و السنة و النسخ التراثى فقد وقر فى أذهان المسلمين مفاهيم خاطئة عن القرآن ، وترسب عبر قرون من الزمان معتقدات زائفة عن كتاب الله تعالى. وعلى اساس هذا الزيف قامت أديان المسلمين الأرضية. ولكى نجلى الحقيقة لا بد أن نتوقف مع كيفية فهم القرآن ، بالتعرض للموضوعات الآتية .
( إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم ) القرآن الكريم كتاب الهداية.

عناصر الهداية الايمانية بالقرآن الكريم والنبى والرسول

: عناصر الهداية المعرفية لفهم القرآن الكريم:


more