بعيدًا عن التحيّزات.. هل تسير السعودية على درب انفجار الثورة الإيرانية؟

اضيف الخبر في يوم الأربعاء ٢٣ - مايو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: ساسه


بعيدًا عن التحيّزات.. هل تسير السعودية على درب انفجار الثورة الإيرانية؟

فيما كانت الثورات العربية تملأ الميادين صخبًا وغضبًا قبل سبع سنوات؛ كانت ممالك الخليج الثريّة تهتز بقوةٍ خوفًا من سقوط «الخلافة الحاكمة»؛ فالبحرين وعُمان والإمارات والسعودية والكويت شهدت انتفاضات اختلفت حِدّتها ومطالبها من بلدٍ لآخر،لكن المحصّلة حملت نتائج واحدةً وآثارًا مختلفة: فحكومة الكويت استقالت تحت ضغط المعارضة، والثوّار البحرينيون انهزموا أمام وطأة الدبابات السعودية والقمع الداخليّ، والعُمانيون تراجعوا بسبب الإصلاحات الاقتصادية، حتى أنّ الأمير القطري لم يطمئنّ لهدوء شوارعه، فأعلن عن إجراء انتخاباتٍ تشريعيةٍ مُبكرة.

 وفي الوقت الذي تمسّك فيه الإماراتيون المطالبون بالتغيير بنظام الحكم في بلادهم، كان الحراك السياسي الذي تقوده «الطبقة الوسطى» في السعودية قد رفع للملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وثيقة صاغها نحو 7 آلاف شخص من المثقفين ورجال الأعمال ورجال الدين، يُطالبونه فيها بالتحوّل إلى «ملكية دستورية». ورغم أنّ الانتفاضات السعودية غالبًا ما تفشل، بفضل الإصلاحات الاقتصادية العاجلة وحشد السُلطة الدينية وبطش المنظومة الأمنية، إلا أنّ تكرار التجربة ما زال يُزعج الملوك السعوديين واحدًا تلو الآخر؛ لذا هدفت كل الإصلاحات منذ مظاهرات الثمانينيات في عهد الملك فهد، وحتى حراك 15 سبتمبر (أيلول) الأخير، إلى منع أي تغييرات سياسية على بنية الحُكم، حتى ولو كانت طفيفة، وهي الخطيئة التي لم يفطن إليها النظام الملكي الإيراني قبل زواله.

هذا التقرير يحاول أن يُقدم أطروحة بعيدة عن كل التحيّزات المُسبقة، مستمدًا أفكاره من دراسة الأخطاء التاريخية التي ارتكبها الملوك في إيران والتي قادت إلى اندلاع الثورة الإيرانيّة سنة 1979، وإعادة مقارنتها بالأحداث والتغييرات التي تشهدها السعودية حاليًا في عهد الأمير محمد بن سلمان.

كيف تشابه المجتمع الإيراني قبل الثورة بالمجتمع السعودي الحالي؟

قبل انفجار الثورة الإيرانية بنحو قرنين من الزمان، كان المجتمع الإيراني ملكيًّا بامتياز يدينُ للملك بالطاعة والولاء المُطلق، وكانت السُلطة الدينية المرجعَ الأول النافذ لحياة الجماهير والمؤثر فيهم، وهو ما شكّل مجتمعًا متماسكًا مُغلقًا على نفسه، غير عابئٍ بالحضارات التي قامت بجواره، خاصةً الدولة العثمانية – الخصم السُنّي – التي تجاوره جغرافيًا وتمتد إلى أقصى الغرب، ورغم أنها ظلّت منغلقة على نفسها ضد رياح التغيير التي أحاطت بها؛ إلا أنها ظلت مستقرة بفضل الملكية.

 

سيدة إيرانية من عهد الدولة القاجرية 1779 : 1925 – المصدر: متحف الفن الإسلامي

تنتهي القصة بهزيمة إيران على يد القوات الروسية عام 1827، واضطرار ملك الدولة القاجرية الحاكمة آنذاك، لتوقيعمعاهدة وصفتها كتب التاريخ بأنها كانت «أسوأ من الهزيمة نفسها»، مما دفع ولي العهد الأمير الشاب عباس ميرزا إلى التفكير جديًا في أساليب النهوض ببلاده إلى حضارة عُظمى تصمُد أمام القوة الروسية، ولا تنسحق أمام الدولة العثمانية من جهةٍ أخرى؛ فقام الأمير الذي جاء في وصفه بأنه كان «ضعيف البنية مُعتلّ الجسد»، بإعلان شعلة التحديث تمهيدًا لجلوسه على العرش؛ فبدء ببناء الجيش، وأوفد البعثات إلى الخارج، ومنها إلى مصر في عهد محمد علي، وسمح لأول مرّة باستضافة الأجانب إلى طهران في محاولة لكسر انغلاق المجتمع، إلا أنّ مرضه منعه من الوصول للعرش فمات، لكنَّ نبتة التحديث التي أرساها كانت لعنة على كل من أتى بعده.

في  عام 1982، أخذ الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود البيعةَ ليكون الملك الخامس للسعودية، وهو أطول الملوك جلوسًا على العرش حتى الآن – 23 عامًا -، وكان «فهد» أوّل وزيرٍ للمعارف عام 1953 يقول عن نفسه: «عندما أراد الملك سعود أن يُشكّل حكومة، سألني في أي مركز حكومي ترغبُ أن تكون، فأجبته أحب أن أكون وزيرًا للمعارف»، وخلال سبع سنوات قضاها «فهد» في منصبه، كانت له بصمة واضحة في بناء المدارس والجامعات، التي شكلت وعي الجيل الذي ثار على سياساته فيما بعد، فالتجربة أثبتت أنّ رياح التغيير لا بد أن تصطدم بكل الموروثات؛ الثقافية منها والسياسية.

 

في عام 1982، بعد ثلاثة أعوام من انفجار الثورة الإيرانية، تولّى الملك فهد الحُكم في ظروفٍ قاسية؛ فأفكار جماعة الإخوان المُسلمين التي هربت من مصر في السبعينيات وجدت لها أنصارًا، اجتذبوا عددًا ضخمًا من الشباب، وظهر تيار «الصحوة» الذي اعترض على سياسات الحكومة السعودية، كما هاجم النظام الوهابي الذي قامت عليه المملكة، وطالب بتقديم خطاب ديني معتدل، وإصلاحات سياسية واقتصادية واسعة، وتحوَّلت الخطب المُسجلة  للشيخ سلمان العودةوقتها عبر الشرائط إلى رسائل غضب، سرعان ما انتشرت عبر أرجاء الممكلة – الشرائط المسجّلة ستظهر أيضًا وسيلةً للإعلام خلال الثورة الإيرانية عام 1979 -، ونظمّت المعارضة لأول مرّة  مظاهرات جريئة في شوارع الرياض أزعجت الملك فهد، ولم يهزمها إلا عنف الشرطة، ورغم أنّ السُلطة انتصرت في النهاية، إلا أنّه بدا واضحًا أنّ هناك جيلًا كبيرًا من المُثقفين لا يؤمن بالفكرة الدينية السائدة: «السمع والطاعة لوليّ الأمر».

في عام 1848، تولّى الملك الإيراني الشاب ناصر الدين القاجاري، ولاية العرش الإيراني التي امتدت نحو 45 عامًا، وعيّن أستاذه «أمير كبير» رئيسًا للوازراء، وهو الذي أوفده عباس ميرزا ليكون سفيرًا لبلاده في الدولة العثمانية لينقل الخبرات لبلاده، واستمر الملك في مشروع الحداثة؛ فنشطت حركة الترجمة، وكثرت المدارس في عهده، واستمرت السُلطة الدينية في ترسيخ صلاحيات الملك باعتباره «ظِلُّ الله على الأرض» الذي لا يقضي أمرًا من أحوال الرعية عبثًا، إلى غاية الصدام الذي وقع بين الطرفين عام 1890، عندما أعطى ناصر الدين القاجاري حقّ امتياز  احتكار تجارة التبغ، التي يعمل بها نحو 20% من الإيرانيين لشركةٍ بريطانية، إلا أنّ فتوى دينية بتحريم التبغ عُرفت باسم ثورة التنباك، تسبّبت في انهيار الاتفاق، وهو ما ترتّب عليه اهتزاز صورة الملك لأوَّل مرة بين الشعب، وإظهار مدى تأثير رجال الدين وتوغلهم في الشخصية الإيرانية المتدينة، ولم تكن الانتفاضة لتحدث قبل عشرات السنين، في العهد المُظلم للملكية.

الصدام بين رجال الدين والنظام الملكيّ تكرّر عام 2003، لكن هذه المرّة في السعوديّة عندما أعلنت الولايات المتّحدة بعد أخذموافقة السعودية غزو العراق، فأصدر الشيخ سلمان العودة فتوى يُحرّم فيها على أي فرد أو جماعة أو دولة المشاركة في الحرب: «لا بقولٍ ولا فعلٍ ولا دلالةٍ ولا إشارةٍ ولا تموينٍ ولا دعم»، وهو ما أجبر المملكة على إعلانها أنها لا تستطيع منح قواعدها لقصف بغداد، لتقرّر واشنطن سحب قواتها من قاعدة الأمير سلطان إلى قاعدة العديد القطرية.

 

تجربة الصِدام التي خلفتها «ثورة التنباك» الإيرانية ظلّت عالقة في أذهان الكثيرين ممن كانوا نتاج الدولة الحديثة، والتي تزامنت مع التحوّل الفكري للطبقة الوسطى من البحث عن الدوافع الفسيولوجية التي هي سمات المجتمعات الفقيرة، إلى المناداة بضرورة أن يكون هناك دستور للشعب يكون فيه هو مصدر السُلطات بدلاً من الملكية المُطلقة، فبدأت المطالب التي انقسمت حولها السُلطة الدينية إلى حدّ التكفير، والتي انتهت بثورة «المشروطة» 1906 في عهد مظفر الدين شاه، آخر ملوك الدولة القاجرية الذي وافق على التحوّل إلى «ملكية دستورية»، قضت بتشكيل الحكومة على أساس دستور، ونظام برلماني بالانتخاب، وتقييد سلطات الحاكم في إطار القانون، كما بدأت التيارات السياسية في الظهور الرسمي باعتبارهم مُمثلين عن الشعب، وهو ما مهّد لإسقاط الملكية فيما بعد.

خطأ كهذا لم يرتكبه النظام السعودي الذي يتشابه في بيئته الدينية المنغلقة – حتى وإن كانت ظاهريًا –  وفي نظامه الملكي مع إيران القاجارية، إلا أنّ تجربة الحداثة لم تكن بعيدة عن التحالف القديم الذي نشأت عليه الدولة بين آل سعود ومحمد بن عبد الوهاب، مؤسس المذهب الوهابي، فبينما كان شيوخ إيران يرحّبون بتجربة الانفتاح على العالم، كان أبرز شيوخ السعودية الشيخ ابن عثيمين يُحرم تعلّم اللغة الإنجليزية، وبينما كانت السُلطة الدينية هي الدافع الأكبر لوضع أول دستور إيراني، فإن علماء المملكة وضعوا قيودًا تعجيزية للخروج على الحاكم، كما حرّموا إنشاء الأحزاب السياسية.

ورغم أنّ المجتمع السعودي الحالي يتشابه مع المجتمع الإيراني قبل ثورته، من ناحية التعليم وارتفاع مستوى المعيشة، إلاّ أنه تم ترويضه دائمًا بالفتاوى الدينية، وبالإصلاح الاقتصادي الذي يقتصر على المنح المالية التي تمنع الإصلاح السياسي من جهة، وتحافظ على بقاء نظام الحُكم المُطلق من جهة أخرى؛ والتاريخُ يذكر أنّ الملك فهد عقب مظاهرات الثمانينيات، أعلن عن إصلاح سياسي شكليّ تمثل في تعديل قانون مجلس الشورى السعودي، وأعضاؤه حتى الآن مُعيّنون من قبل الملك، وقراراتهم مجرد توصيات غير مُلزمة. التقليد نفسه تكرّر عقب تظاهرات 2011، فالملك عبد الله أطلق حزمة قرارات ملكية تمثلت في منح مالية ضخمة في شكل إصلاح اقتصادي، هدفت بالأساس لإبقاء الوضع على ما هو عليه، منعًا لأي تغييرات سياسية على بنية الحُكم.

تُرى لو أن إيران ما قبل الثورة كان يحكمها ملكٌ من آل سعود، هل كان يُمكن أن نشهد ثورة إسلامية في الدولة الدينية؟

 

5 أحداث مهّدت للثورة الإيرانية.. يفعلها محمد بن سلمان

لكنّ المعادلة السابقة في السعوديّة تغيرت رأسًا على عقب، بوصول ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فرأس السُلطة في المملكة بات يدفع الشعب نحو الانفتاح والتغيير الاجتماعي، ويقودُه بسلالةٍ للتخلص من قيود السُلطة الدينية القديمة، ويخوض معه تجربة النيوليبرالية حتى لو كانت في إطارٍ شكليّ، وهي مجموعةٌ من المحرّمات كانت سابقًا تُمثّل خطًّا أحمر للسعودية، وفي الأسطر القادمة سنتطرّق إلى التشابه الشديد في السياسات التي سبقت الثورة الإيرانيّة، وبين بعض السياسات التي ينتهجها النظام السياسيّ السعودي حاليًّا بقيادة وليّ العهد محمد بن سلمان.

 1- أتاتورك إيران والسعودية

انتهى جيل الدولة القاجارية عام 1925، بهروب الشاه أحمد ميرزا بعد فشله في إدارة المملكة، ووصل الجنرال رضا بهلوي إلى الحُكم بانقلابٍ أصبح دستوريًا بتصديق الجمعية التأسيسية، وعمل الشاه الجديد الذي كان صديقًا لكمال أتاتورك – مؤسّس تركيا الحديثة بعد إسقاط الدولة العثمانية – إلى استعارة النموذج الغربيّ بكامله لدولته الحديثة؛ فبدأ عهدٌ جديدٌ من التحديث شمل كل مؤسسات الدولة والمجتمع، وبدأت موجة التغريب تضرب بقوة في المجتمع المحافظ، ورغم أنه نجح في فرض التغييرات العلمانية، إلا أنها كانت في حقيقتها أسرع من أن يستوعبها المجتمع، فبدت وكأنها استنساخ  كل ما هو شكليّ من الغرب، كما يصفها مؤرخون.

حين أصبح الأمير محمد بن سلمان وليًا للعهد، باتت الأنظار ترقُبه باعتباره أول وريث للعرش من خارج أبناء الملك المؤسس الأول، وما لبث الأمير الشاب أن أعلن عن نفسه بخطة إصلاحية واسعة وسلسلة قرارات استهدفت مطلبًا قديمًا برفع التضييق الاجتماعي والقيود الدينية الصارمة؛ فجاء العهد الجديد بالإعلان عن إنشاء دور سينما ومتاحف ومدينة إنتاج إعلامي، وأماكن ترفيهية للشباب، وتبنّت المملكة خطة «لبرلة» المجتمع بكامله، وهو ما جعل الأنظار تحوطه بأنه «أتاتوركالسعودية الجديد»، ويبدو أنّ ولي العهد الذي يُحلم بأن يُغيّر سياسات الشرق الأوسط سيواجه كثيرًا من المشاكل في تطبيق مشروعه الذي لا يزال في طورِهِ الأوَّل.

كان مشروع التغيير الذي أحدثه الشاه بهلوي في البلاد طيلة 16 عامًا أحد الأسباب التي مهّدت للثورة الإيرانية فيما بعد ضد ابنه محمد رضا بهلوي؛ فالحداثة التي أرادها الشاه لم تستهدف إرساء قواعد الديموقراطية الغربية، وبناء نظام سياسي مرن يحفظ الحريّات، ورغم أنّ النظام الملكي في إيران لم يكن مُطلقًا، بفعل الدستور، وصلاحيات الحكومة، إلا أنّ مشروع التغريب والعلمنة كان شكليًا، واستهدف تكريس الديكتاتورية، وهو ما تأكد للجماهير بإسقاط حكومة محمد مصدق، الذي كان يحظى بجماهيرية جارفة بفعل القوانين الإصلاحية التي لم تُرضِ الشاه.

وإسقاطًا على الوضع الحالي، فإن ولي العهد السعودي لم يُعلن حتى الآن عن أية قرارات تستهدف إصلاحًا سياسيًا على نظام الحُكم في المملكة، والمتمثل في تعديل قانون مجلس الشورى غير المنتخب، أو السماح بتنظيم الأحزاب السياسية، أو التحوّل إلى «ملكية دستورية»، فكل تلك المطالب باتت إرثًا تتوارثه أجيال المُعارضة.

2- فكّ الارتباط مع السُلطة الدينية.. الحَوْزَة والأمر بالمعروف

المثير في التاريخ الإيراني، أنّ السُلطة الدينية لم تصطدم مع  ملوك الدولة القاجارية حين أعلنوا مشروع تحديث الدولة، لكنّ العهد البهلوي شهد اشتباكًا عنيفًا مع رجال الدين أو كما جاء في تسميتهم «الحَوْزَة الدينية»، والأمر يرجع لعدَّة أسبابٍ اقتصادية واجتماعية وحتَّى سياسية؛ فبينما أبقى القاجاريُّون على رجال الدين وصلاحيَّاتهم وسُلطاتهم بالإضافة إلى الحفاظ على الموروثات القديمة التي تُمثِّل الهُوية الإيرانية، قام الشاه رضا بهلوي بسحب صلاحياتهم، ففرض عليهم التجنيد الإجباري، وسحب منهم الامتيازات القضائية، كما أنّه وضع قانونًا يتطلب من الجميع ارتداء الملابس الغربية باستثناء القليل، كما قام بتغيير التقويم الهجري، وحظر الحجاب، وخلعه بالقسر والإكراه، وشجّع النساء على خلعه، حتى أنّ ابنته قامت برعاية حدث رياضي للبنات لأول مرة برأسٍ مكشوف، وهو ما سبب استياءً شعبيًا لكل رجال الدين الشيعة.

الهجوم على السُلطة الدينية تكرر أيضًا في البلد السُنّي الكبير، فالأمير محمد بن سلمان تحدث عن  الإصلاح الديني قائلاً: «لن نضيع 30 سنة من حياتنا بالتعامل مع أفكار مدمرة»، ويبدو الاتهام الأكبر موّجهًا بقوة صوب السُلطة الدينية التي ما زالت تُسبغ الشرعية على النظام، وما يحدث الآن هو أنها بدأت في فقدان صلاحياتها وامتيازاتها ببطئ، بشكل شديد الشبه بما حدث في إيران قبل الثورة، فصلاحيات الشرطة الدينية التي تُعرف باسم «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، تعطّلت؛ فلم يعد بمقدورها القبض على الأفراد، أو مطاردتهم، أو طلب هويتهم الشخصية، أو التحفظ عليهم، وإنما اقتصر دورهم بموجب القانون الجديد على إبلاغ الشرطة بالاشتباه فقط.

المملكة أيضًا استبدلت التقويم الهجري بالميلادي، كما شجّعت المملكة النساء لأول مرة في التاريخ بالدخول إلى ملاعب كرة القدم السعودية، ونظّمت أول بطولة اسكواش للنساء، بالإضافة إلى إطلاق أوّل ماراثون نسائي في السعودية شاركت فيه نحو 1500 فتاة وسيدة، وبخلاف القرار الذي سمح للنساء بالقيادة، فإن المملكة حاليًا بصدد إنشاء قانون مساواة المرأة بالرجل في الراتب والوظائف، إضافةً إلى قانون آخر يُمكّن السعوديات من الحصول على جواز سفر من دون موافقة ولي الأمر. وخلال مقابلته الأخيرة مع قناة «سي بي إس الأمريكية»، أعلن ولي العهد السعودي أنّ النساء لا يتعيّن عليهنّ ارتداء غطاء الرأس الأسود.

الخطيئة الكبرى التي تكرّرت في البلدين، ولم تظهر آثارها السياسية حتى الآن في البلد السُني الكبير  هي اعتقال رجال الدين؛ وهو ما خلق بالضرورة مساحة بين الدين والسياسة بعيدة عن تأييد الحاكم مُقارنة بالشعبية الدينية لرجال الدين المُعارضين مثل الخُميني؛ فعقب تولي محمد رضا بهلوي، آخر ملوك إيران الحُكم، استمر على نهج أبيه في حملة التغريب ومعاداة الحَوْزَة الدينية، لكنّه عندما أصدر قرارات تمثلت في حذف شرط الإسلام، وإلغاء القسم بالقرآن؛ قامت المظاهرات التي أصبحت تنادي بأن التغريب مُعادٍ للإسلام، ورغم أنه تراجع عن قراراته، وبالإضافة إلى أنّ نمو الاقتصاد الإيراني وضعها على مشارف دول العالم الأوَّل في السبعينيات، إلا أن الاستياء الشعبي الذي دعمته المعارضة الدينية المتمثلة في آية الله الخميني، استطاع في النهاية الإطاحة بالشاه بعد انتفاضاتٍ واسعة النطاق، ونجحت الثورة في النهاية في إسقاط نظام الشاه وإنشاء الجمهورية الإسلامية عام 1979.

3– الثورة البيضاء و«رؤية 2030»

الوعد الذي أطلقه «أتاتورك السعودية» الجديد عام 2016 يتمثل في المشروع الذي أعلن عنه «رؤية 2030»، والذي يهدفُ إلى إنهاء اعتماد المملكة على النفط، وخصخصة الاقتصاد السعودي، وإنشاء هيئة للترفيه، والانتقال بالسعودية لمرحلة ما بعد النفط، وذلك بتحقيق «اقتصاد مزدهر، ومجتمع حيوي، ووطن طموح»، ورغم انخفاض أسعار برميل النفط عن السعر الذي توقعته المملكة، إلا أنّ مشروعه لا يزال يجذب الكثيرين.

 

 

في عام 1964، بعد 22 عامًا من الحُكم، أطلق الشاه محمد رضا بهلوي المشروع الذي أسماه «الثورة البيضاء»، ضمن خطوات التحديث، وهو سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتحويل إيران إلى قوة عالمية من خلال إطلاق مشاريع زراعية وصناعية كبرى، وإلغاء الإقطاع، وإعادة توزيع الأراضي، والاهتمام بالتعليم، واستحداث قوانين وتعديلات تشريعية كبرى مثل حق المرأة في الانتخاب. ورغم أنّ إيران كانت تسيرُ فعليًا في نمو اقتصادي ملحوظ، إلا أنّ الدوافع السياسية لهذا المشروع استهدفت – كما يصفها مؤرخون – إضفاء الشرعية على سلالة بهلوي، والتخلّص من نفوذ الملّاك، وخلق قاعدة دعم جديدة بين الفلاحين والطبقة الفقيرة ضد الطبقة الوسطى – المحرِّك الرئيس لأيّ ثورة -، لكنّّ النهاية تقول، إن الثورة البيضاء التي أطلقها الشاه كانت سببًا في إسقاط عرشه.

بالعودة إلى ولي العهد السعودي، فإنّ مشروعه يستهدف الشباب العاطل عن العمل، والطبقة الفقيرة التي تمثل 25% من نسبة السكان، بحسب إحصاءات غير رسمية، بالإضافة إلى عنصر المرأة من خلال تمكينها من حقوق أكثر، أبرزها السماح بقيادة السيارة، إضافة إلى الطبقة الوسطى، التي تقود الحراك السياسي، نهاية بالمُثقفين الداعين لدولة ديمواقراطية؛ وفي حال نجح مشروعه، فإنه قد يُصبح أتاتورك السعودية الذي سيؤسس المملكة الحديثة.

لكنّ مشروعه يواجه عدة تحديات قد تعصف بكل الأحلام؛ فأسعار أسهم  «أرامكو المقدسة» التي تنتظر خصخصة 49% من أسهمها لا تُرضي الحكومة السعودية، كما أنّ «رؤية 2030» باتت تحاصرها الأزمات، بداية من رؤية الخبراء التشكيكة التي يصفونها بأنها حالمة، مرورًا بارتفاع عجز الموازنة العامة تزامنًا مع حرب اليمن، وانخفاض مستوى الدخل، وتدني نسبة ملكية المساكن، وأزمة فصل الموظفين، والمطلوب حاليًا من ولي العهد أن ينقل السعودية خلال 12 عامًا فقط، وفي حال فشلها، فإنه قد يواجه ما واجهه الشاه الأخير، وأقلها معارضة جارفة.

الثورة البيضاء التي أطلقها محمد رضا بهلوي، مثلت خطرًا كبيرًا على كبار التجار والمزارعين الذين استهدفهم قانون إعادة توزيع الأراضي، كما أنه مسّ جزءًا كبيرًا من صلاحيات السُلطة الدينية التي كانت تقود خلفها أعدادًا كبيرة من العوام المتعاطفين، إضافة إلى المعارضة التي رفعت شعار «نعم للإصلاحات ولا للديكتاتور». المُثقفون الذين تلقوا تعليمهم بالخارج اعترضوا أيضًا على المشروع، كونه يُكرّس ديكتاتورية الشاه دون إصلاح حقيقي، وبعدما صدر قانون السماح للمرأة بالمشاركة في الانتخابات؛ خرج آية الله الخميني- الأب الروحي للثورة الإسلامية فيما بعد – وهاجم الشاه قائلًا: «لا ينبغي أن يسمح للنساء بتقرير مصير إيران». وأدَّى فشل المشروع إلى قيام المظاهرات التي قُتل فيها نحو 200 شخص، ونُفي الخميني إلى العراق، حيث ألَّف كتابه «الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه»، أهم مرجع الآن في الحُكم للدولة الشيعية.

 

4- التقارب مع إسرائيل.. على خُطا الشاه

في عصر الشاه الأخير، كانت إيران وإسرائيل الدولتين الأكثر أهمية لدى الولايات المتحدة في المنطقة، فسياسة التحديث ولبرلة المجتمع دفعت محمد رضا بهلوي للسقوط في أحضان الولايات المتحدة، وتذكر كتب التاريخ أنّ الشاه سمح بإنشاء مكتب تجاري إسرائيلي في طهران، ثم اعترف بإسرائيل بعد ذلك عام 1950 باعتبارها ثاني دولة إسلامية بعد تركيا أتاتورك، وهو ما سبَّبَ استياءً كبيرًا في العالم الإسلامي، وغضبًا واسعًا في الداخل الشيعي، وكان أحد الأسباب التي جمعت النقيضين بخلاف الولايات المتحدة، والتبادل التجاري، هو الخوف من القومية العربية التي سعت الدول العربية لتصديرها في تلك الفترة.

السعودية

السعودية أيضًا سارت على خُطا إيران في التقارب مع إسرائيل؛ فالربيع العربي الذي انتزع العروش على غفلةٍ من أهلها جعل الرؤساء العرب والحكومة الإسرائيلية في موقف عدائي مشترك تجاهها؛ مع بروز معطيات جديدة على الساحة، أجبرت الجميع على انتهاج سياسات جديدة أبرزها التطبيع العلني مع إسرائيل، اتفاق وجهات النظر حول عدة قضايا، منها ضرورة تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا والعراق، وخطورة الإسلام السياسي، إضافةً إلى أن كلتا الدولتين هما صديقتان بارزتان لواشنطن في الشرق الأوسط،مما يجعل التقارب طبيعيًّا والتطبيع حتميًا.

منذ وصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السُلطة، واللقاءات السرية بين الطرفين على مدار سنوات اتجهت نحو العلانية، ثم أصبحت أكثر وضوحًا من قبل؛ فحركة حماس أصبحت إرهابية، ووزير الخارجية السعودي عادل الجبيريمتنع عن إدانة الاحتلال الإسرائيلي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والجنرال أنور عشقي، أحد المقرّبين من النظام السعودي الذي زار  إسرائيل عدة مرات، أعلن أن الدول العربية ستطبّع مع إسرائيل «فقط إذا فعلتها السعودية أولًا» وهو تطوُّر يهدمُ خلفه سنوات من تاريخ السعودية في «صراعها» مع تل أبيب.

وبينما خرج رجال الدين الإيرانيون فيما بعد يُكفّرون الشاه بزعم اتهامات بالتعاون مع الكفار، لا زالت السعودية لم تصل حتى الآن إلى تلك المرحلة التي يثور فيها رجال الدين على النظام، حتى بعدما نشرت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية،  تفاصيل اللقاء الذي جمع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مع ممثلي منظمات يهودية خلال زيارته الشهر الماضي للولايات المتحدة. وحسب الصحيفة، فإن ابن سلمان اعتبر أنّ القضية الفلسطينية لا تُشكِّل أولوية قصوى بالنسبة للحكومة السعودية.

5- عصا القمع.. «السافاك» الإيراني و«رئاسة أمن الدولة» السعودي

في عام 1953، كان الشاه محمد رضا بهلوي، «رجل واشنطن في الشرق الأوسط» كما كان يُلقّب، يواجه مُعارضةً كبيرة من رئيس وزرائه المحبوب جماهيريًا، محمد مُصدّق الذي سعى لتأميم قطاع النفط، وكان رجلًا يتبنَّى الأفكار القومية ضد الملكيَّة، وعندما تحدّى الشاه بقراره الشعبي، عزله الأخير، إلا أنّ المظاهرات الشعبية كانت أقوى من إرادة محمد رضا بهلوي، فعاد «مصدق» إلى منصبه، ليقرر الشاه الاستغاثة بواشنطن التي اتفقت مع بريطانيا على إزاحة رئيس الوزراء عبر انقلابٍ عسكري عُرف باسم العملية «أجاكس».

بعدما عادت الأوضاع لسيطرة الشاه، قام جهاز الموساد الإسرائيلي ووكالة المخابرات الأمريكية بتأسيس جهاز المخابرات السرية «السافاك» الذي كانت مهمته الأولى الحفاظ على العرش، واعتمد على أحدث الأجهزة الإلكترونية، وآخر الصناعات التكنولوجية، وجرى تدريب العملاء على يد الاستخبارات الإسرائيلية، وبلغ عدد الخبراء اليهود في إيران عام 1976، نحو 500 خبير، بالإضافة إلى مستشارين عسكريين أمريكيين لمراقبة الأوضاع بهدف الحفاظ على مصالح أمريكا، وتسبّبت الصلاحيات الواسعة لأفراد الجهاز في قمع عدد كبير من الشعب، طال المعارضة وغيرها، وكانت شوكة الشاه في السيطرة على البلاد، هي الشعلة التي تسببت في الثورة الإسلامية فيما بعد عام 1979.

عندما أقال الملك سلمان وليَّ العهد السابق محمد بن نايف من منصبه لصالح ابنه محمد بن سلمان، برز تساؤل هام، حول الجهاز الأمني الذي سيطر عليه آل نايف لسنوات، وبات الملك لا يثق في ولاءات بعض العناصر بداخله، لذا أصدرالملك حزمة قرراتٍ ملكيّة أهمها إنشاء جهاز رئاسة أمن الدولة التابع مباشرة للقصر الملكي.

وبالرغم من أنّ القرار تُرجم على أنَّه نَزَعَ صلاحيات الجهاز القديم، إلا أنّ المُخيف بالنسبة للبعض، تلك الاستثناءات والحصانات التي تميّز الجهاز الحالي بها، بدءًا من المهام الموكّلة له، وأبرزها:  إحكام القبضة الأمنية على المملكة، ورصد خلايا المعارضة، ومواجهة التمرُّد. وبعدما صارت المنظومة الأمنية الجديدة مربوطة مباشرةً بولي العهد، فإنها لن تخضع للقيود ولن تمتثل للقوانين، وهي نقطة القوة التي كانت سبب انهيار النظام الإيراني سابقًا.

اجمالي القراءات 1091
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق