الحامي من الإرهاب.. العقول الآمنة لا الغرف الآمنة

اضيف الخبر في يوم الثلاثاء ٢٤ - نوفمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: العرب


الحامي من الإرهاب.. العقول الآمنة لا الغرف الآمنة

الحامي من الإرهاب.. العقول الآمنة لا الغرف الآمنة
  • لم يتوصل الأوروبيون بعد إلى إجابات شافية حول أسباب انضمام أبنائهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، وسبل مواجهة هذا الخطر الذي يقف عند عتبة ديارهم، وفوجئوا بأنهم أصبحوا مخترقين من قبل هذه الجماعات الإرهابية التي وضعتهم في دائرتها الدموية الخطيرة إلى درجة جعلت سلطات بلدانهم ترفع درجة التأهب القصوى في أوضاع وصفها المراقبون بأنها “أشبه بأجواء حرب”.
العرب د. توفيق قريرة [نُشر في 25/11/2015، العدد: 10108، ص(6)]
 
تهديد إرهابي عالي الدرجة يفرض على بلجيكا أقصى درجات التأهب
 
قُدّر على المواطنين البلجيكيين أن يدخلوا رغما عنهم في عطلة قسرية بسبب ما وصفه رئيس الوزراء البلجيكي شارل ميشال بأنّه تهديد إرهابي "جاد وعالي الدرجة". وأعلنت الحكومة البلجيكية حالة التأهب القصوى ورفعتها إلى الدرجة الرابعة في بروكسل وإلى الدرجة الثالثة في بقية المناطق.

ووصفت بعض الصحف البلجيكية الوضع النفسي للمواطنين بأنّهم كمن يعيش في “محيط من الارتباك”، فالحركة الاقتصادية في شبه شلل والقطارات رابضة في مستودعاتها والمدارس مغلقة وربّما تفتح أبوابها يوم الأربعاء. وعبّر السيناتور كارل فالنوفي عن استيائه ممّا سمّاه سياسة “التراخي” التي سلكها الحزب الاشتراكي لمدة عشرين عاما وهي في رأيه السياسة التي جعلت بلجيكا قاعدة خلفية للهجمات الإسلامية.

ويرى أنّ بروكسل تحتاج تغييرا للثقافة السياسية يمكنها من الهجوم على الأصولية الإسلامية. وينتظر البلجيكيون والفرنسيّون، فضلا عن شعوب أخرى، ما يمكن أن يسفر عنه التحالف المعادي للجهادييّن، الذي يضمّ الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما، وينظرون بعين الرضا إلى الهجمات التي بدأت تباشيرها تطلق من مطار شارل دي غول بباريس، باتجاه مواقع حساسة لتنظيم داعش في العراق وسوريا؛ ولقد صرّح فرنسوا هولند بهذه المناسبة بأنّ فرنسا “ستكثف الهجمات وتختار أهدافها بدقة وهي هجمات من شأنها أن تلحق خسائر فادحة بالجيش الإرهابي”.

غير أنّ ما يشدّ الانتباه في هذا جميعا هو الخوف المطبق الذي يسيطر على نفوس البلجيكيين، فالمفتش عنهم ممّن يهدّدون أمن البلاد ويتصيدون أرواح العباد لم يقبض عليهم ليتنفس المواطنون الصعداء. وفي مقابل ذلك يشعرون بأنّ إعادة فتح المدارس في ظلّ هذه الأجواء مخاطرة كبرى.

وقد سعت وزيرة التربية والثقافة والطفولة البلجيكية جوال ميلكاي إلى تهدئة النفوس بأن أعلنت عن جملة من الإجراءات الحمائية للمدارس من بينها إنشاء ما يسمّى بالغرف الآمنة، وهي غرف يمكن أن يحتمي بها الأساتذة والتلاميذ في حالة وقوع حوادث.

 
ايفان ماياير: لن نبني مخابئ في المدارس ولا يمكن أن نكون مع اقتراحات لا معنى لها
 

 

وهي بهذا التوصيف أشبه بالملاجئ التي يلجأ إليها الناس في الحروب بالمفهوم الكلاسيكي للعبارة، وهي بهذا تستعير التجربة لأنّها ترى الوضع حالة حرب وإن كانت غير كلاسيكية.

لكنّ الملاحظ لا يدري كيف يمكن لهذه البيوت الآمنة أن تكون في مأمن من الإرهاب لتكون آمنة. وفكرة البيوت الآمنة، فكرة مضمرة مختفية وراء نصح الحكومتين الفرنسيّة والبلجيكية مواطنيهما بأن يبقوا في بيوتهم حماية لأنفسهم، فالشارع صار بؤرة، منها يستهدف الإرهاب الأنفس البريئة، بل إنّ هناك من نصح بأن تغلّق الشبابيك مع الأبواب خوفا من رصاص طائر.

حالات هستيرية

أثارت هذه الإجراءات انتقادات كثيرة، وقال ايفان ماياير، عمدة بروكسل، وهو من الحزب الاشتراكي البلجيكي، منتقدا فكرة جوال ميلكاي غلق المدارس وبناء ملاجئ، قائلا “ينبغي تجنيب حمل الناس على أن يدخلوا في حالات هستيرية”.

وأشار إلى أنّ هذا القرار ممّا يضاعف الخوف لدى التلاميذ وليس ممّا يشعرهم بالأمن والسكينة. ورأى أنّ حراسة الأمن خارجيا للمؤسسات، وهي الحل العادي والأبسط، كفيل بذلك. وقال “إننا لن نبني مخابئ في المدارس.. ولا يمكن أن نكون مع اقتراحات لا معنى لها”.

مثل هذه المواقف، التي انتقدها البلجيكيون أنفسهم، وأبانوا عن تخبط المسؤولين السياسيّين هي مواقف اتخذتها الحكومة البلجيكية تحت ضغط الخوف والحيرة من النجاح في حماية المواطن على الرغم من أنّ الإرهاب ليس ظاهرة جديدة وأنّ الاستعداد له بات من المخططات والاستراتيجيات التي تتحسّب لها أقوى الدول وسوف تكون مقاومة الإرهاب من أهمّ النقاط الأساسية التي تتنافس فيها الأحزاب.

ولن تكون سياسة الملاجئ أو الغرف الآمنة سياسة ناجعة لأنّ الإرهاب ليست له علامات مادية لأجلها تشتغل صفارات الإنذار، فهو صراع مع أشباح، تباشير نجاحه تكون معلوماتية وهو تعامل مع خلايا تنام وتصحو هنا وهناك ومع أعشاب طفيلية تنبت هنا وهناك وهو تحرك في محيط زئبقي وهو شبكة تنسجها خيوط متشابكة لا يمكن أن يحيط بعلمها طرف وحيد هو الدولة الواحدة.

حتى المختصون في ما يسمّى بالإرهاب يجدون أنفسهم محرجين في غالب الأحيان من القدرة على قراءة استراتيجيات تحيط علما بهذه المجموعات وآليات عملها وخصوصا كيفية استقطابها لمناصريها ومن يتحكم في خيوطها وغير ذلك من المعلومات، لأنّ هذه الجماعات لا تشتغل بطريقة نظامية كتلك التي تشتغل بها الدول، وليست لها استراتيجيات واضحة، وأمّا أهدافها فهي غير معلنة حتى وإن ظهرت في الواجهات.

 
 

البداية من المدرسة

لن تكون الغرف الآمنة آمنة مهما حُصّنت، لذلك لا بدّ من أن تستبدل ببناء الأدمغة الآمنة التي تشتغل وظيفيا اشتغالا جيّدا ويكون لها من الأسلحة الذاتية ما يمنعها من أن تدخلها الفيروسات ضمن ما يسمّى تبسيطا بـ”غسل الدّماغ”؛ فما الذي جعل صالح عبدالسلام، وهو المفتش عنه الأوّل في بلجيكا يحمل السلاح، ويساهم في أحداث باريس ويروّع البلجيكيين، وهو المولود في بروكسل؟ ولماذا تُستقطب العناصر ذات الأصول الإسلامية؟ ولماذا يكثر استقطاب فئة عمريّة معيّنة؟ وماذا يقال لها؟ وما هو دور المدرسة والجامعة لكي لا تصنعان أذهانا تستقطب للتدمير والتقتيل والتفجير؟ من هؤلاء الذين يصنعون للناس أدمغة جديدة؟ وهل أنّ الأدمغة التي صنعتها المدارس وحاكتها المجتمعات التي عاشت فيها لها من المناعة ما يكفي لكي تكون صدا منيعا ضد هذا الاستقطاب؟ هل هناك مغريات لا يجدها المستقطب في المجتمع وفي الأسرة؟

في البلاد التي تنتج الإرهاب المدرسة هي المؤسسة الأولى التي تحتاج عناية المؤسسة الأمنية أو العسكرية بها أو أكثر فإذا كانت المؤسسة الأمنية حارسة أساسية ومتصديا فعّالا، فإنّ المدرسة هي الحارس الأبدي للعقول، هي الظهر الحامي والبوابة الخلفية التي توصد الأبواب وتطرد التطرف، هذا إذا كانت مدرسة تراعي بناء العقول وليست مدرسة تعدّ الكوادر أوترفع الأمية.

بمراجعة طرق التعليم وإعادة رسكلة المدرسين والإحاطة النفسية والاجتماعية بالمتعلمين والمعلّمين ومراجعة الموادّ التي تدرّس وربط الصلات المتينة بالتاريخ والآداب والفلسفة وإعلاء سور الثقافة نحصل على عقول آمنة.

والتركيز على العلوم الصحيحة أو الدقيقة والتكنولوجيات لوحدها باعتبارها مستقبل الشعوب وبانية أمجادها الاقتصادية والتكنولوجية لن يصنع إلاّ عقولا تنتج معادلات آلية أو “خوارزميات”، كما يقول أهل العلوم، فالحاجة ماسّة جدا إلى الفنون والآداب والفلسفة وإلى مشاعية ثقافية في المجتمع وفي المدرسة، هي التي من شأنها أن تصنع (وقد صنعت) تراثا عقليا بروح إنسانية حيّة.

الفقر إلى المال حال عاشتها الشعوب وتعيشها ولم ترهبها أكثر ممّا أرهبتها حالة الفقر إلى العقل، فهذه ليست حالة أمّية كما يعتقد بل حالة من الظلمة التي أماتت العقل والتفكير وعشّشت في الأرواح التي تشعر بأنّ الحياة معبر أليم إلى عالم آخر.. هكذا يقال للبسطاء، لكنّ الرؤوس المدبّرة تعرف أنّ كلّ ذلك معبر إلى معادلات أخرى سياسية واقتصادية واستراتيجية.

اجمالي القراءات 2054
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق