شريعة الله ، أم شرع الفقهاء ؟
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } المائدة 48 .
في البداية ولكي لا نقع في الشرك الذي وقع فيه كل أتباع الملل والنحّل على اختلافها ومقدار التناحر بينها ، يجب أن نعلن صراحةً انّنا نقف موقف المحايد على مسافةٍ واحدةٍ من جميع هؤلاء ، حيث يجب الفصل بين المعرفة الملزمة في الشريعة والتي هي النصوص المحكمة قطعيّة الدلالة داخل القرآن نفسه على قلّتها والتي تتفّق والمبادئ الإنسانية العامة نحو إقامة [ العدل ] أولاً وأخيراً لا إقامة الشعائر حيث النّص مُباحٌ دائماً للتفسير والتأويل : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } محمد 24 ، { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } آل عمران 7 ، { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } الأعراف 53 ، والإجتهاد المرتبط بنوايا المجتهد وطاقاته وإمكاناته ، المتاح والمباح له ، والذي يتسّع ، يتشابك ويتعارض بين الجماعة والأخرى ، تلك التي تقف في طرف الطاولة المقابل ، إذ عند قراءة تاريخ التشريع الإسلامي وتتبّع مساره المتشعّب والذي كان منطلقاً نحو مهمّة متغيّرةٍ وطارئةٍ ، ألا وهي التنظيم والبناء ، نجد أنّ بداية التشريع في العهد الأول في تشريعات [ مؤقتّة ] تعبّر عن روح الإسلام وهي فاعليته مع المتغيّر من المكان والزمان ، فكان أول تشريعٍ هو تشريع [ الأخوّة ] بين المهاجرين والانصار ، لينتقل الأمر الى مساحةٍ أخرى بعد أن انتهت الحالة المبرّرة للتشريع ، اعترافاً من المؤسسين بنظرية تطور الشريعة وعدم جمودها ، فكان الطريق مفتوحاً نحو [ المعرفة ] كموجّهٍ للتشريع قبل ظهور مصادر تشريعٍ موازيةٍ للنص القرآني ، مزاحمةٍ له ، حيث استكملت الأصول باكتمال الوحي قبل أن تتفكك هي الأخرى عبر تشتت الملل والنحل والمذاهب ، ليصبح النظر في التطبيقات الإجتهاديّة في الفروع هو الأصل ، وفي واقع الأمر فّإنّ الإجتهادات كلّها هي اجتهاداتٌ [ عقليّةٌ ] حتى تلك التي تدّعي خلاف ذلك ، حيث انتقل التشريع الى مساحةٍ أخرى وآفاقٍ جديدةٍ ، فتحوّل الجزئي الى كلّي ، وتكوّنت قواعد جديدةٍ مع توسّع العلاقات الإجتماعيّة للمسلمين بعد اتّساع الرقعة الجغرافيّة ، ليواجه التشريع الإسلامي مشاكل جديدةٍ ويحدث تبعاً لذلك الإنفجار الأكبر في الإجتهاد ، قبل أن يُقفل باب الإجتهاد و تبقى المعرفة محصورةً لدى مجمل الطوائف والمذاهب فيما سبق االإجتهاد فيه ، ويتحوّل مجال التشريع من المناخ الفكري نحو العقائد الإيمانيّة نفسها في عودة في الإتجاه المعاكس نحو تفكيك النّص القرآني نفسه وتطويعه لتأييد ذلك الرأي ودحض الرأي الآخر .
· عن الشريعة والمعرفة المستدامة :
الحديث عن الشريعة حديثٌ مرتبطٌ دائماً بإنتاج [ المعرفة ] عبر قراءةٍ النّص ، و القراءة نوعان ، قراءةٌ جامدة و أخرى مستدامة ، إما عبر اتّخاذ قرار [ إعادة ] إنتاجها ، أو [ إجترار ] ما سبق إنتاجه ، وهذا هو الفرق بين [ الميت ] و [ الحي ] ، [ المفيد ] و [ الغير مفيد ] داخل النّص القرآني نفسه كمصدر [ الشرع ] بالدرجة الأولى ، شأنه شأن : ]كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء [إبراهيم 24 ، يؤسّس لمفهوم [ الحريّة ] و [ الإستقلاليّة ] في استيعاب معاني النّص ، عبر استنباط الأحكام الناتجة من تفعيل أساسيّات المعرفة الفطريّة و مقادير الطاعات داخل مساحة [ الحلال ] و [ الحرام ] الواضحة و المقيّدة داخله مع الواقع الإجتماعي للجماعة خارجه عبر فاعليّةٍ إيجابيّةٍ و تفاعلٍ مستدامٍ ، كلّ هذا داخل إطار [ العقد الإجتماعي ] الذي يتغيّر بتغيّر الشروط الإجتماعيّة أولاً وأخيراً ، توصل إلى نتيجة النّص الفعال : ]تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم 25 ، بحيث لا يمكن القبول بجمود الشريعة في [ تراث ] السلف ، ما دام الواصل الزماني والمكاني بين هذا السلف مقطوعٍ و منتهي أصلاً : ]وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ [إبراهيم 26 ، وهذه هي الفكرة الأولى ، فالتمييز بين الشريعة والشرع ليس مجرّد تميّيز لفظي عابر ، بل هو تماييز في المعنى والدلالة ، ]لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ [الحج 67 ، [ الشريعة ] هي [ المصدر / الطريقة ] ، و [ الشرع ] هو [ النتيجة / الهدف ] ، القرآن نص [ توجيهٍ ] وليس نص [ تقييدٍ ] ، لتكون النتيجة متغيّرةً وليكون المصدر ثابتاً ، فالخطاب الديني في واقع الأمر هو استخلاصٌ للقواعد والأحكام قبل كل شيءٍ ، لكن الذي حدث هو أن أصبح هذا الخطاب مصدراً لهذه القواعد وهذه الأحكام ، رغم كونه تبعاً لأيّ طائفةٍ أو فرقةٍ يبقى ثانوياً بالمقارنة بالنّص القرآني ، مجرّد مرآةٍ لشروطه الآنيّة التي تختفي باختفاء مسبّباتها ، لكنّ الذي حدث في نهاية مطاف الإنقلاب ضد الإسلام بالإسلام نفسه ، أن تحوّل النّص الفقهي الغير محكم ، غير المنزّه عن التغيير والتحريف من مرآةٍ لهذه الشروط الى نصٍّ يبني قواعد شروطٍ أخرى خارج المسبّبات بل وخارج النص القرآني نفسه ، ابتعدت كثيراً عن دلالات ومعاني النّص والكلمة في القرآن الكريم نفسه لتعزل هذه النتائج نفسها بعيداً عن [ اللسان ] القرآني داخل [ اللغة ] البشريّة ، بعيداً [ العقل ] الفعّال داخل [ الذاكرة ] المنسيّة ، وبعيداً عن [ الواقع ] الحي ، داخل [ التاريخ ] الميّت ، إذ أنّ تفسير النصّ في عمومه مقيّدٌ (1) [ باللغة ] أولاً على اعتبار أن لغة النصّ خارج المعجم طبعاً عبارةٌ عن وسيطٍ بين النص والقارئ ، (2) [ الموضوع ] ثانياً ، (3) [ علاقته بالواقع ] أيضاً ، وطبعاً (4) [ بالأهواء والنوازع ] التي تحرّك الباحث عن معنى النص ، فلكل تفسيرٍ جانبٌ موضوعيٌّ ، وجانبٌ غير موضوعيٍّ [ ذاتيٌّ ] ، لكن يبقى مفتاح قراءة النص داخله ، بمعنى أن الغائيّة متّصلةً (5) [ بالتراكم المعرفي ] الذي يحويه النص من الداخل : ]هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران 7 ، فالقرآن الكريم نصٌّ [ مُقفل ] كُتب زمن التلقي ، بينما نصوص الأحاديث المنسوبة للرسول كما هو حال نصوص التاريخ ، السيرة والاجتهادات الفقهيّة هي نصوصٌ [ مفتوحةٌ ] و[ مباحةٌ ] تقبل الزيادة والنقصان كُتبت بعد التلقّي ودُوّنت لتقديم العلل والمبرّرات عبر منهجٍ توظيفيٍّ بالدرجة الأولى ، دون الحديث عن مصارد التشريع الأخرى كالإجماع على سبيل المثال الذي يُعتبر عند طائفةٍ من الطوائف أصلاً من أصول الدين ، والذي اختلف فيه الفقهاء أنفسهم حول ماهيّته ، هل يقتصر على جيل الصحابة فقط ، أم يحوي أيضا التابعين ومن يليهم ؟ ، هل يعني إجماع الفقهاء فقط ؟ ، ومن هم الفقهاء أصلا ؟ ، هل هم أهل الحل والعقد فقط ؟ ، أم هم من لديه علمٌ من جميع المسلمين ؟ ، هل الإجماع مُقتصر على الأمور الشرعيّة فقط ؟ أم يشمل كل الأمور العرفية ، العقليّة والسياسيّة ؟ هل الإجماع مقدّمٌ على القرآن والسنّة ؟ أم هو مقيّدٌ به ؟ .
· عن المسافة بين بين أهل الرأي وأهل الحديث :
بعض الكلمات سامّة يقول الصادق النيهوم ، فالمتحدّثون عن ضرورة تطبيق الشريعة في واقع الأمر لا ياحدّثون سوى عن تطبيق شرع الغالب ، اي إعلان نهاية التاريخ بدون مبرّرٍ سوى غياب حق الجميع في الحديث مرّةً أخرى ، إذ انّ الصراع الفكري والسياسي الذي انطلق مع بواكير عصر التكوين الإسلامي لم يُفض الى الآن ، الإنقسام الأكبر الحاصل بين جماعتي (1) أهل الرأي وأشهررجالها حسب ما يُخبرالتاريخ أمثال عبد الله بن مسعود والحسن البصري وتلميذه واصل بن عطاء ، و (2) أهل الحديث وأشهر رجالها أمثال الإمام مالك وابن حنبل ، حيث كطبيعة أي تشريعٍ كان لا بد من وجود تفاصيل تلك الغائبة بالمجمل في النصّ القرآني ، ويجب أن نضع في الإعتبار الشك الحاصل في صحّة الروايات المنسوبة للرسول الكريم داخل كتب الاحاديث الكبرى عند فرق الإباضية : (1) جامع صحيح ربيع بن الحبيب ، الشيعة الجعفريّة ، الزيديّة و الإسماعيليّة : (2) الكافي للكليني ، (3) الإستبصار ، (4) التهذيب للطوسي و(5) الفقيه للقمّي ، السنّة : (6) موطأ الإمام مالك ، (7) مسند الشافعي ، (8) مسند ابن حنبل ، (9) صحيح البخاري ، (10) صحيح مسلم ، (11) سنن ابن ماجة ، (12) سنن أبي داوود ، (13) سنن الترمذي ، (14) سنن النسائي ، (15) سنن البيهقي ، مع ملاحة اختفاء أبو حنيفة الذي كان شأنه شان المعتزلة أشد الناس رفضاً لفكرة السنّة غير العمليّة مع قبول القليل من الاحاديث المتواثرة ، كل هذه النصوص وكثير الروايات التي يصعب حصرها ونقدها في كتب السيرة المعبّرة فقط عن أهواءالمحدّثين وميولهم جميعاً ، والتي يقوم الفقهاء بتغييبها تارةٍ ، واستجلابها تارةً أخرى حسب ما تقتضيه المصلحة الآنيّة التي تحكمها الظروف لا غير ، ولا يمكن بل يستحيل ضبط وتحديد مساحة التطرّف الذي ينكره الجميع وحدود الوسطيّة التي يدعيّها الجميع أيضاً عبر مساحة [ التنصيص ] منقطعة النظير هذه ، تلك التي حاولت عبر جهد قل نظيره لأجل تغليب رأي على رأيٍ ، وحديثٍ على حديثٍ في أصول الدين وفروعه ، فاختلف الطرفان في مسألة (1) نظرية الإختيار والجبر ، (2) مسألة صفات الله ، (3) مسألة الخلود في النار ، (4) مسألة الحسن والقبيح من الأفعال ، (5) مسألة علم الله ، (6) مسألة رؤية الله ، بل وحتّي في (7) مسألة الإيمان نفسه بين نطق اللسان أو معرفة الجوارح وهي مسائل داخل دائرة الضمير لا يمكن للدولة من أن تتحكم فيها ، توجّهها أو تحدّد مقدارها بمقدار محاولات تغليب رأي على رأي ، فقيهٍ على فقيهٍ ومتحدّثٍ على متحدّث ، ليبقى الأهم ألا وهو مفهوم الدولة والسياسة والذي لم تنمو فيه رؤيا واضحة ، بمقدار بقاء فهم الفقاء لمفهوم الدولة والسياسة مفهوماً جنينياً غيرمكتمل النمو ، يخاطب الناس من عالمٍ آخر ، حيث تغيّر شكل العالم ولم تتغيّر وجه نظر رجال الدين المقيّدين بنصوصهم خارجه ، عبر ترسيخٍ لثقافة التخلّف والانبطاح السياسي لأصحاب الغلبة يقدم الفقهاء لهم العلل والمبرّرات التي تجعل الاستبداد نفسه [ شرعيّاً ] ، فهويّة [ الإسلام ] هويّةٌ [ عامةٌ ] لا يمكن أن تتحّد وهويّة [ الدولة ] و التي هي [ خاصّة ] محدودةٌ هذا من ناحية ، و من ناحيةٍ أخرى فإن غياب شكلٍ الدولة ونظام الحكم في النّص الديني [ القرآن ] يجعل هذه الدولة الخطر الاول على الإسلام نفسه من ناحيةٍ أخرى ، حيث كان سكوت القرآن في هذه المسألة نصّاً بحد ذاته تحيل المسألة برمّتها الى دائرة المُباح للإجتهاد الدائم والمستمر ، وإذا كانت الفكرتان الرئيسيّتان للمذهبين الأكبر قد فشلتا في النمو والتطوّر مع المتغيّرات ، ألا وهما فكرتا [ الإمامة ] الشيعيّة و [ القرشيّة ] السنيّة ، واللاتي تبدوان اليوم نوعاً من انواع العبث والهزل الطفولي ، إلا أن الفرار كان نحو فكرةٍ أخرى يرفضها التاريخ نفسه ألا وهي فكرة دولة [ الخلافة ] التي انقلبت على ذاتها وانفصلت عن أسباب تكوينها مرّاتٍ ومرّات ، فلا نموذج ثابت للخلافة عبر امتداد الحالة التاريخيّة المُشينة في واقع الأمر في حال استثنينا مع القليل من الحرج الثلاث عقودٍ الأولى بعد وفاة الرسول ، ولا إمام اختفى لكي يظهر إلا في نهاية الدنيا كما تقول الروايتان الشيعيّة والسنيّة ، ولا قريش يمكن البحث عن نسلها لإيجاد الحاكم بأمر الله منها ، لكن التضارب الواضح في وضع تصوّر لشكل الدولة ونظام الحكم يبدو جليّاً عبر قراءةٍ حياديّةٍ لنصوص الفقهاء أنفسهم ، فيقول أبو يعلى الفراء على لسان ابن حنبل : [ ... لا يكون من غير قريش خليفة ] ، أو كما يرد عند البخاري : [ ... أن هذا الأمر في قريش ، لا يُعاديهم أحدٌ إلا كبّه الله في النار على وجهه ما أقامو الدين ] ، أو كما عند ابن حجر في فتح الباري : [ ... قريش قادة الناس ] ، وهو شرطٌ مخالف يعارض عموم قيم المساواة والعدالة بين الناس جميعاً في القرآن ، ويورد الكليني عن أبا جعفر محمد الباقر أنّه سُأل عن قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } النساء 59 ، فقال : [ ... { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ } آل عمران 23 ، يقولون لأئمة الضلال هؤلاء أهدى من آل محمّد سبيلاً ، { أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ، أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ } النساء 52 – 53 ، يعني الإمامة والخلافة : { أمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } ، ونحن الناس المحسودون على ما أتانا الله من الإمامة دون خلقه : { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً } النساء 54 ، يقول جعلنا منهم الأنبياء والرسل و الأئمة فكيف يقرّون به في آل إبراهيم و ينكرونه في آل محمّد : { فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } النساء 55 ] ، الآية هنا حسب الفهم الجعفري دليلٌ على الأمامة وشكل الحكم الذي يقف عند هذه النقطة ولا يستمر بعدها عند كل من الطرفين ، دليلاً على كون المسألة برمّتها مُختلقةٌ سببها طارئٌ لا يمكن أن يُستند عليه ليكون منهجاً أو دليلاً يُعتد به اليوم ، القرشيّة نسبٌ يسهل تزويره لأيّ كان وفي أيّ زمانٍ أو مكان ، والإمام لن يظهر حتّى ينتهى العالم ، ليكون الأمر برمّته نكتةٌ يقف قائلها على رأسه ليضحك الناس وهم يرونه رأساً على عقب ، فالدولة مؤسّسة سياسيّة [ موضوعيّة ] فقط ، وهذا مفهوم مهمٌ وخطيرٌ وهامٌ أيضاً ، لا وجود لفهم ديني [ موضوعي ] ، الفهم الديني [ ذاتي ] كطبيعةٍ فيه ، فلا يمكن أن يكون الدين [ موضوع ] الدولة ، السياسات العامّة يستحيل أن تكون على أساس المعتقد الديني ، لأن الشريعة ليست موضوعاً مستقلاً عن ذات المشرّعين أنفسهم ، واحتكار الشريعة في حالةٍ مفصولةٍ عبر المكان والزمان هو كارثةٌ موضوعيّةٌ في حقيقة الأمر ، فالتناقض بين الخلافة وبنية دولة الخلافة واضحةٌ بيّنةٌ فمن ضبابيّة المفاهيم التي تنطلق من الحاكم الى الحاكم ، لا يمكن تبيان (1) حدود طاعة ولي الأمر ، (2) حدود حق التصرّف في المال العام ، (3) مساحة حق المعارضة وحدودها إلا عبر قواعد يرسمها الحاكم نفسه الإتفاق مع الفقيه في دائرةٍ مغلقةٍ تحيط فقط بالمواطن المغلوب على أمره داخلها ، والقوى البرجوازيّة والأرستقراطيّة خارجها ، حيث تنشأ دائماً [ السلطة المطلقة ] التي لا حدود لها ، ولا ضوابط يمكن أن تقيّدها نحو مصلحة وحقوق المواطن المغلوب على أمره دائماً ، فالطابع المدني لدولة الرسول الأولى اختفى ولا رجعة له بعد وفاة متلقّي الوحي : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } النساء 65 ، المزاوجة المستحيلة بين الدين والدولة كانت ممكنة في ذلك العهد فقط حيث باب الوحي مفتوحٌ ، والتوجيه الإلهي مباشر ، فلا يمكن تكرار التجربة في غياب الرسول عبر اعتماد ما يرد على لسان الرجال في كتب التاريخ و السير المتناقضة بين الملل والنّحل المتناحرة والتي طوّعتها السلطات المتعاقبة بخدمة مشروعها ، والدليل الأكثر وضوحاً هو حالة الإرتباك التي أصابت المسلمين كما تخبر كتب التاريخ في اختيار الخليفة الأول ، على اختلاف القراءات التاريخيّة والتعليلات التي يقدمّها أطراف النزاع الذي نتج بعد البلبة والفوضى التي استمرت حتى وفاة الخليفة الثالث ، حيث تحوّل الفقه الى أداةٍ للتخدير ومجرد وسيلةٍ لتبرير الإستبداد والتنظير لحكم القوّة والقهر وطاعة الحاكم الفاسق تلك التي حاول مفكّرون كثر في عصور متفاوتة إعادة تشكيلها غير محاصرين داخل دائرة يحالون كسرها مع الحفاظ على شكلها بعيداً عن الإجتهاد الفقهي الصبياني حقيقةٍ ، حيث لم يجرأ الفقهاء جميعاً على العودة الى الوراء خطواتٍ أكثر ، نحو النص القرآني عبر حقيقة كونه عالماً قائماً بذاته ، فكانت محاولاتٌ لم تجد مساحةً واسعة للحركة في نهايات القرن المنصرم تحديداً ، كمحاولات الأفغاني ، محمد عبدة ، رشيد رضا ، الصادق النيهوم ، حسن الترابي ، عبد الرحمن البدوي ، احمد الكاتب ، جمال البنا ، نصر أبو زيد ، مصطفى المهدوي ، أحمد صبحي منصور ومحمد المشتهري وآخرون .
· عن المسكوت عنه في النص :
ولقد سكت القرآن كما هو حال السنّة أيضاً في واقع الأمرعن الحديث التفصيلي في مسألة الحكم ، خلاف النصوص الفقهيّة التي بقيت بين معارضٍ وموالٍ للسلطة الحاكمة ، فاستخدمت سلطة الفقهاء كل انواع الخطاب الممكنة في تمرير الافكار السياسيّة ، فمن فكرة الطاعة العمياء لدى البخاري محدّث مذهب السنّة : [ ... إسمع و أطع ، وإن جلد ظهرك ، وأخذ مالك] على لسان الرسول ، وصولاً الى فكرة العصيان والفرار من سطوة السلطة لدى ابن ربيع محدّث الإباضية/أهل الحق والاستقامة على لسان نفس الرسول : [ ... سيكون من بعدي أمراء يقرأون كما تقراون ، و يفعلون ما تُنكرون ، فليس لأولئك عليكم طاعة] ، هذا التناقض في الحديث عن المسكوت عنه شديد الإتّساع في النص القرآني الذي وسكت أيضاً في مسائل أخرى فعلى سبيل المثال اتّجه الفقه في الإتجاه المعاكس في مسألة التعامل المالي ومسالة التداين فبدلاً من أن يقف داعماً : { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ } البقرة 273 ، اتّجه نحو تكريس تسلّط رأس المال ، حيث تناسى الفقهاء : { مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } الإسراء 16، وخرجت أطروحات [ شرعنة ] المصارف والبنوك ، في فكرةٍ خارج النص القرآني في الأساس ، بل وخارج مفهوم الصيرفة أصلاً ، إذ من المفاهيم الرئيسيّة في الإقتصاد حسب أرسطو : [ ... أن النقوذ لا تملك قيمةً في ذاتها ] ، مفهوم المال في القرآن مقيّد بما له قيمة ، الذهب والفضّة تحديداً : { وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ ... } آل عمران 14 ، فالمال في القرآن ليس هو النقود ، بينما أفلاطون يحدّد قيمتها في : [ ... القيمة النفعيّة ] ، أو كما يقول : [ ... النقود كاملة القيمة والنقود ناقصة القيمة ] ، هنا يكون التعامل المصرفي خارج مفهوم الربا المقصود به في القرآن أصلاً ، حيث ان التعاملات البنكيّة عبر سلّة التعاملات الماليّة العالميّة مرتبطةٌ أصلا بقيمة [ إحتياطي الذهب ] الموجود في خزينة البنك ، فيكون مفهوم الفائدة البنكيّة خارج مفهوم الربا أصلاً كون الكميّة الماليّة لا تملك قيمةً في ذاتها أصلاً ، لكن وكما يقول المستشار محمد العشماوي في كتابه الإسلام السياسي : [ ...مصارف البلاد الإسلاميّة لم تُنشأ نظاماً إقتصاديّاً جديداً قط ، كل ما فعلتهأنّها بدّلت الأسماء ، وغيّرت المسميّات ولجأت الى الحيل ، فسمّت الفائدة مرابحة أو تعويضاً أو مصاريف إداريّة أو غير ذلك ، وأفرغت عقود القروض التي تتضمن فائدةً في شكل عقود بيع ثم عقود شراء ، فارق الثمن فيهما هو ذاته الفائدة التي يأخذها أي مصرفٍ آخر ، باسمها الحقيقي ودونما تحايلات ، وهذه المصارف لا تستثمر أموالها في الإنتاج ، لكنّها تودع اموالها في مصارف اجنبيذة ببلاد أوروبا وأمريكا ، وتأخذ عليها فائدةٌ قد تصل الى 14 % سنويّاً ، توزّع منها على المودعين لديها ما بين 8 – 10 % سنويّاً زاعمةً أنّ ما تقدّمه لهم هو أرباحٌ وليست فائدة ، أي انّها تلجأ الى تغيير الإسم فقط مع بقاء الفعل كفعل غيرها من المصارف في كل بلاد العالم ] ، ويضيف : [ ... المسالة كلّها على ما يظهر تلاعبٌ بالألفاظ ، وتماحكٌ بالكلمات ، وتبادلٌ للمصالح ، ليس فيه أي تحقيقٍ لروح الإسلام أو أيّ تطبيقٍ لشريعة الله ] ، وهكذا فإن الشرع دائماً خلاف الشريعة يتّجه دائماً في الإتجاه الخطأ ، في خدمة الأقوياء ، والأقوياء فقط ، والمشكلة الحقيقيّة هي أن هؤلاء الأقوياء يُبرزون فقط ما يُلائمهم ويسكتون عن الذي يقلل من مكاسبهم ، فجبل المتراكمات الفقهيّة مليءٌ بالتناقضات المخجلة حقيقةً ، فعلى سبيل المثال أيضاً نجد أن شرع الفقهاء المتسلّط على المرأة دائماً مانعاً إياه بنصوص مقدّسةً من (1) الإختلاط بالرجال ، (2) تولّي المناصب القياديّة ، (3) كشف المفاتن والتي تبقى نسبيّة تصل لدى الأصوليّين المتزمّتين الى جعل الوجه ذاته ، علامة الذات ، فتنةٌ يجب تغطيتها ، (4) الحديث بصوتٍ مرتفعٍ بحكم كون صوتها عورة ، (5) حق التصرّف في المال ... الخ ، عبر تكرارٍ لحالةٍ أشار لها صريح النّص القرآني ألغى الفقهاء امتداده الزمكاني عبر تفسيرٍ مقيّدٍ بحالةٍ تايخيّةٍ غير ممكنة الحدوث أصلاً في قوله تعالى : { وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } التكوير 8- 9 ، ليقتصر دورها داخل بيتها ، تسير من بيت أهلها نحو بيت زوجها نحو القبر عبر ظلماتٍ ثلاثة خارج إطار المجتمع لا تمتلك قيمةً أو دوراً داخله ، لكن الأنكى من ذلك عندما نكتشف انها داخل البيت أيضاً لا مساحة لها عبر فقه المذاهب السنيّة الأربع خارج [ غرفة النوم] ، ففي المذهب الحنفييقول الإمام الكاساني في البدائع : [ ... ولو جاء الزوج بطعام يحتاج إلى الطبخ والخبز فأبت المرأة الطبخ والخبز لا تجبر على ذلك ، ويؤمر الزوج أن يأتي لها بطعام مهيأ ] ، وفي الفتاوى الهندية في فقه الحنفية : [ ... وإن قالت لا أطبخ ولا أخبز لا تجبر على الطبخ والخبز ، وعلى الزوج أن يأتيها بطعام مهيأ أو يأتيها بمن يكفيها عمل الطبخ والخبز ] ، وعند المالكيّةجاء في الشرح الكبير للدردير : [ ... ويجب عليه إخدام أهله بأن يكون الزوج ذا سعة وهي ذات قدر ليس شأنها الخدمة ، أو هو ذا قدر تزري خدمة زوجته به ، فإنها أهل للإخدام بهذا المعنى، فيجب عليه أن يأتي لها بخادم وإن لم تكن أهلاً للإخدام أو كانت أهلاً والزوج فقير، فعليها الخدمة الباطنة، ولو غنية ذات قدر من عجن وكنس وفرش وطبخ له لا لضيوفه فيما يظهر، واستقاء ما جرت به العادة وغسل ثيابه ] وعند الشافعيّةمثل ذلك ، جاء في المهذب في فقه الشافعية لأبي اسحق الشيرازي : [ ... ولا يجب عليها خدمته في الخبز والطحن والطبخ والغسل وغيرها من الخدم لأن المعقود عليه من جهتها هو الاستمتاع ، فلا يلزمها ما سواه ]، وعند الحنابلة: [...وليس على المرأة خدمة زوجها من العجن والخبز والطبخ وأشباهه ككنس الدار وملء الماء من البئر، لأن المعقود عليه من جهتها هو الاستمتاع بها ، فلا يلزمها غيره كسقي دوابه وحصاد زرعه ] ، لكن هذه النظرة القاصرة والقاسية لا ترد على لسان أي فقيه من المنادين بتطبيق الشريعة ، فيرى بعينٍ واحدةٍ دائماً شرعاً و يتناسى شرائع أخرى .
· عن نهاية التاريخ وشريعة المذهب الواحد :
وعلى جانبٍ آخر ، فإن المطالبة بتطبيق الشريعة وفق فهم مذهبٍ بعينه ، وتضمينه في دستور الدولة في واقع الأمر هي مجرد صورةٍ اخرى من مطالب إدّعاء [ نهاية التاريخ ] ، فالمذهب السائد في مرحلةٍ ما من مراحل تاريخ الأمّة بعمومها أو الشعب بخصوصه لا يمثّل إلا ظروفاً بعيّنها ساعدته على النمو ،البقاء والانتشار ، حيث يؤسس المذهب لذاته كموضوعٍ ، سيلغي بقيّة المذاهب كونها هي أيضاً ذاتٌ وموضوعٌ آخر ، وكلاهما غير ثابت مع عدم ثبات التاريخ نفسه ، إذ عبر امتداد الزمكان في شمال إفريقيا كانت الإنقلابات المذهبيّة مع استمرار الصراع الحاصل بين العقليّين أصحاب الرأي والنقليّين أصحاب النص ، حيث فرض المرابطون في القرن التاسع المذهب المالكي ، وخلال ذلك كان المذهب الإباضي يحاول الإستقرار حيث حاولوا ومنذ عهد تكوين المذهب الأول الإبتعاد عن مركزيّة سلطة الخلافة حينها ، فاعتنق الشمال إفريقيّون المذهب بحماس منقطع النظير ، فكان الرستميّون يؤسّسون لدولتهم التي امتدت في مساحةٍ شاسعةٍ من شمال إفريقيا في نواحي طرابلس ، جنوبي تونس والجزائر حتى أواخر القرن الثامن ، ليأتي بعدهم الفاطميّون ويحاولوا فرض المذهب الشيعي مع استقرار المهدي عبيد الله في القيروان وقدوم الوفود لبيعته في بدايات القرن التاسع الميلادي ، ولم ينهض مذهب الإباضيّة كدين دولةٍ بعد فشل أبا يزيد الملقب بصاحب الحمار في الإطاحة بالدولة الفاطميّة ، ورغم ذلك لم ينجح تشيّع الدولة الفاطمي في أن يمد جذوره عميقةٍ في شعوب شمال إفريقيا ، خلاف بعض التأثيرات الثقافيّة ذات الخلفيّة الشيعيّة في بعض الطقوس والتقاليد ، وحتّى مع عودة المذهب المالكي لشمال إفريقيا بعد رحيل الفاطميّين الى مصر إلا أن مظاهر تنظيم الدولة الفاطميّة بقيت مستقرّة في حواضر شمال إفريقيا مع محاولات الموحدّين بقيادة بن تومرت المصلح الديني مع بدايات القرن الثاني عشر ميلادي إعادة إحياء الموروث العقلي للشيعة والمعتزلة في شمال إفريقيا ، وصولا الى فرض المرابطين ، قبائل الصحراء الكبرى من صنهاجة للإسلام السنّي المالكي في القرن الثاني عشر بعد أن أفرغ [ ابن باديس] المنطقة من سيطرة الفاطميّين ، ليأتي الموحّدون ينتصرون على هؤلاء في ثورة إصلاحٍ دينيٍّ ، وصولا الى ظهور دولة الحفصيّين ومؤسّسها أبو زكريا خصم الموحّدين ويبدأ عصر التصوّف ، ويدخل المتصوّفة مرحلة الإسلام الرسمي في القرنين الثالث عشر والخامس عشر ميلادي مع ظهور أقطاب التصوّف الشمال إفريقيا كالغزالي ومحي الدين ابن عربي والذي أحدث أثراً كبيراً في الدراسات الفقهيّة الدينيّة ، هذا المسح البسيط للإمتداد التاريخي الذي لا يمكن أن ينقطع أو يتوقّف في اتجّاه الإنقلاب تلو الإنقلاب ، لا يجوز للدولة أن تعلن تحيّزها لطائفةٍ دون أخرى عبر ادّعاء الصحّة وكونها امتداد لهذا السلف أو ذلك ، فطبقات الفرق متداخلةٌ لا يمكن تميّيزها أو فرزها عن بعضها البعض ، حيث يضع المعتزلةمثلاً في طبقاتهم الصحابي المعروف عمر بن الخطاب في رأس الطبقة الأولى كونه وباعتراف وثائق بقيّة الفرق النقليّة قام بتعطيل العمل في نصوصٍ قطعيّة الدلالة ترد في النّص القرآني كقصة تعطيل قصاص البتر في عام الرمادة ، وإيقاف إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم بسبب غياب الحاجة الى استمالتهم للدخول في الدين مع توسّع قاعدة المسلمين ، وذلك لغاية تفعيل النص ومتغيّرات الزمكان وهو من مبادئ المعتزلة العقليّين الرئيسيّة ، حيث لا يتقيّدون بالنّص هم أيضاً ، وبناءً عليه فكل الفرق سلفيّة، وكل المذاهب سنيّة، هذه حقيقةٌ طارئةٌ لا يستطيع أحدٌ إنكارها سوى معتمداً على جهل الآخرين وهم يقفون رأساً على عقبٍ ربّما : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } الشورى 10، فالنزعة المفرطة لدى أتباع المذاهب في إنكار المذاهب الأخرى يبقى مشكلةً يصعب حلّها بالسكوت عن المُختلف فيه ، وفي واقع الأمر فإن الأمر سيوصلنا الى السكوت عن جل القواعد الشرعيّة التي تبني صرح المذهب نفسه عبر جبل المتراكمات الفقهيّة فيه ، لكن ما الذي يحدث عندما تعتنق الدولة مذهباً ؟ ، وكيف يمكن لهذه الدولة أن تنظر لمواطنيها سواءً بسواء دون الأخذ بقاعدة [ قمع الإختلاف ] التي أسّست لوجود ذلك الذهب ورسّخت قواعده ؟ .
لقد ضاع الفكر السياسي الإسلامي عبر إمتداد التاريخ الموصل للحالة اليوم في متاهة الإجتهادات تلك المُعلنة وتلك المسكوت عنها ، فمهوم الشورى مثلاُ ضلع داخل طغيان نظريّة الغلبة والقهر كأساس لشرعية النظام السياسي تعطي شرعيّةً للحكم الدكتاتوري نفسه ، يقول ابن حنبل : [ ... من غلبهم بالسيف حتّى صار خليفةً لا يحلّ لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت وهو لا يراه إماماً عليه ، براً أم فاجراً ، فهو أمير المؤمنين ] ، ويقول ابن تيمية في مجموع الفتاوي : [ ... الإمام الذي يطاع هو من كان له سلطان ، سواءً كان عادلاً أو ظالماً ] ، عبر خطاب الإمتداد الطولي للعقل الإبائي السياسي الإسلامي والذي يمثل أسوا اشكال تبرير الإستبداد ، ذلك المعطّل عبر المكان والزمان حتى في مصطلحاته ومفرداته التي لا يستوعبها القاموس السياسي اليوم ، كمصطلح أمير المؤمنين والخليفة الحاكم بأمر الله ، فكان أن تكوّن خطابٌ متراكم تراكماً جيولوجيّاً ، كطبقاتٍ متكدّسةٍ فوق بعضها البعض يستحيل تمييزها إلا عبر فصلها فصلاً يجعلها تتهشّم بحيث لا يمكن لها أن تكوّن نموذجاً يمكن إعادة خلقه في أي زمان أو مكانٍ آخر ، لكن المشكلة الحقيقيّة هي كون الإسلام الذي تفتّت فرقاً وأحزاب لا يزال مترسّخاً في لاوعي المسلمين كإسلامٍ واحدٍ رغم استحالة هذه الوحدة خارج النّص القرآني ، بل وداخله أحايين كثيرة ، والكارثة الحقيقيّة هي محاولة الربط بين هذه الوحدة غير الممكنة ووحدة الدولة التي تفرضها الجغرافيا والمحيط الدولي أيضاً ، فكل محاولات تكرار بناء الدولة المدنيّة التي كانت في عهد الرسول الكريم بائت بالفشل ، كون الجميع اتخّذوا موقفاً مسبقاً وانحازوا ناحية طائفةٍ دون أخرى ورأي دون آخر ، وهم يحاولون المزاوجة المستحيلة بين الدين والدولة ، تلك التي لم تكن موجودةً أصلا في تلك الدولة الأولى التي كان فيها الإمام نائباً عن المسلمين جميعاً ، والأمام حينها كان الرسول الكريم ، لكن هل يُعقل أن يكون هنالك إمامٌ بعد وفاة الرسول ينوب عنه تدّعيه تلك الفرقة وتنكره تلك ، تُبايعه جماعةٌ وتحاربه أخرى ، يفرض سلطته عبر حدود دولة تحوي قليلاً من المسلمين والسواد الأعظم من هؤلاء المسلمين هم خارج حدود تلك الدولة ؟ ، لتكون فكرة المزاوجة بين الدين والدولة ، وطرح تطبيق الشريعة أيضاً هزلاً صبيانيّاً لا مبرّر له سوى البقاء خارج الزمان وإعلان حربٍ مقدّسةٍ الشيء المقدّس الوحيد فيها بالنسبة لجميع المتحاربين هو كرسي الحكم .
· المراجع:
1: إشكاليات القراءة وآليات التأويل ، نصر حامد أبو زيد ، المركز الثقافي العربي ، الطبعة السادسة 2001 .
2: النزعات الماديّة في الفلسفة العربية الإسلاميّة ، المجلد الأول ، الجاهليّة ونشأة الإسلام ، حسين مروّة، دار الفارابي ، الطبعة الأولى 2002 .
3: الإسلام السياسي ، المستشار محمد سعيد العشماوي ، الإنتشارا لعربي ، الطبعة الخامسة 2004 .
4: الفرق الإسلاميّة في الشمال الإفريقي ، من الفتح العربي حتّى اليوم ، الفرد بل ، ترجمة عبدالرحمن البدوي ، دار لغرب الإسلامي ، الطبعة الثالثة 1987 .
اجمالي القراءات
17445