المقال الأول( العنقاء والخِل الوفي):
القابلية للاستنعاج(سلسلة مقالات في فقه الخنوع)

نبيل هلال Ýí 2011-12-25


إذا أعدنا قراءة تاريخنا بحثا عن موقع حرية المسلم فيه سنندهش من غياب حريته وحقوقه . فقد عاش المسلمون في تناقض هائل بين دين يحدثهم عن مثاليات من الحق والعدل والحرية والمساواة , وواقع بائس مليء بالقهر والظلم بعد أن تم تفويض السلطة إلى الخليفة وغض الفقيه الطرف عن سوء استخدامها , ولم يدعُ الناس إلى تقييدها , ولم يطلب هو نفسه تقييدها .     فالحرية تكشف عن الأخطاء التي يخفيها القهر 


وكان مفهوم الحرية عند العرب هو عكس مفهوم الرق , فالحر هو غير الرقيق , والحرية في التراث العربي معناها أخلاقي وبعيد عن المفهوم السياسي . أما الحرية بمعنى حرية الاختيار والقول والعمل والانتقاد , فهي أمور لم يعرفها المسلم إذ حوصر منذ وقت مبكر وحرَمه الخليفة بسند فقهي من حرية اختيار الحاكم , أو الخروج عليه , أو حرية انتقاده .
وتفاوتت درجتا الحرية بين الحاكم والمحكوم , ففي الوقت الذي ضاقت فيه دائرة حرية الفرد في الدولة الإسلامية حيث انحصرت في المراوحة بين اختيار أن يجوع أو يظمأ , اتسعت دائرة حرية الخليفة حتى وسعت كل شيء : أموال الناس وأرواحهم , فللخليفة نهب ما في بيت المال , مثلما له الحق في ضرب عنق من يريد ولو بالظنة . وبهذا المعنى كان السلطان هو الحر الوحيد في السلطنة.
وكان المجتمع بأسره بمنزلة القاصر أو السفيه الذي يحق تقييد حريته أو سلبها بدعوى الحفاظ على مصالحه وحقوقه , وإذا كان القاصر يبلغ رشده بعد حين , فإن الشعوب الإسلامية بقيت دون سن الرشد طوال أربعة عشر قرنا , فالقصور والعجز هما قدرها المقدور الذي يفرضه كل من يحكم بلاد المسلمين .
وإذا كان بعض الفلاسفة يرون جواز"اتخاذ الاستبداد وسيلة مشروعة لحكم الأمم الهمجية طالما كان الإصلاح هو الغاية المقصودة من ذلك , وأن تحقيق هذه الغاية يبرر الوسيلة التى تتخذ في هذا السبيل" , فإنه لم يتحقق إصلاح لأمة تسلط عليها الاستبداد والمستبدون طوال أربعة عشر قرنا , وأبقيت في حالة - صحيح أنها لا يمكن وصفها بالهمجية - إلا أنها حالة مواتية لاستمرار الاستبداد إذ كانت ركائزها هي الجهل والأمية والامتثال لتضليل الفقيه "عميل الخليفة النبوي" الذي أخفى على الناس , أو ربما لم يعرف , أن شرور الاستبداد لا تزول من تلقاء نفسها , وإنما يجب مناهضتها عمدا , فمن قُتل دون ماله أو عرضه فهو شهيد , وإن كان ثمة أمر أوضح من أن يحتاج دليلا , فهو عدم جواز الامتثال لاستبداد السلطان طمعا في أن يزول من تلقاء نفسه دون أن ينهض الناس أنفسهم بمهمة تحرير أنفسهم بأنفسهم , فليست الحرية هبة من السلطان , ولكنها حق أصيل لا يجوز التهاون في طلبه وبذل الأنفس لنيله , إذ يفوز بالدر غائصه ويحوز الصيد قانصه .
وكانت علاقة الحاكم بالمحكوم علاقة إكراه يستغل فيها الخليفةُ الناسَ على نحو بشع , والقمع فيها يمثل أداة أساسية لتثبيت واقع الاستغلال على ما هو عليه , أي لإحكام قبضة الحاكم على قرني البقرة ليضمن الاستئثار بحليبها للأبد , فممارسة السلطة الباغية غير ممكنة دون القمع أو التضليل . وما من طاغية يقترف الشر المحض إلا ويسبقه بكلام عن الخير والعدل وطاعة الله . ومن حاز السلطة بسيفه حق له الاحتفاظ بها , ومن لم يحزها يحرَّم عليه التطلع إليها .
وانصرف جل اهتمام الناس إلى شخص "مَن" يحكمهم , ولم يشغلهم "كيف"يحكمهم . وحَكَمَ خلفاء حازوا كل السلطة شعبا مجردا من أي سلطة , فكان العسف والجور الذي ما جاءت الأديان إلا لتقويضهما. ولم يكن أمام المسلم غير الطاعة المطلقة والإذعان التام للخليفة فسيق إلى مصير لم يختره بنفسه ولم يصنعه أو يُردْه , وهي طاعة مذلة مهينة , ولكن الفقهاء صوروها للناس على أنها من طاعة الله , وما أكثر ما قالوا : لعل ما صُرف عنا أعظم مما ابتلينا به! وتعوّد المسلم المقهور الحرمان من الحرية بقوة الدين والسلطان , ولم يشعر بحاجته إليها إذ غابت عنه مدة أربعة عشر قرنا , حتى كانت في وجدانه من المستحيلات التي لا وجود لها إلا في الخيال كالعنقاء والخِل الوفي .
وسمعنا ونسمع عن "سيادة" القانون و"سيادة" الشعب و"سيادة" الدولة, وكلها "سيادات" بعيدة عن السيادة الفعلية التي حَكمت وسادت طوال تاريخنا , وهي سيادة الطبقة المالكة للسلطة . فسيادة القانون قد يراد بها سيادة الطبقة التي سنت القانون لصالحها . وسيادة الدولة يراد بها سيادة من جعلوا من أنفسهم الدولة (أنا الدولة والدولة أنا), وسيادة الشعب هي سيادة من سرقوا صلاحيات الشعب وأوهموه أنهم المنافحون عن مصالحه , في حين أنهم يسرقون باسم الشعب ويحكمون باسم الله . نبيل هلال

اجمالي القراءات 12236

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (8)
1   تعليق بواسطة   نجلاء محمد     في   الإثنين ٢٦ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً
[63335]

وما هو السبب وراء هذا التناقض العجيب .

برأيك أستاذنا الكريم/ نبيل هلال ما هو السبب في هذا التناقض الذي يعاني منه غالبية مسلمي اليوم ؟


نحن نسمع ونشاهد الأشياخ وهم  يقرؤن علينا الأيات القرآنية الكريمة  التي تدعو للعدل والقسط والحرية والمساواة بين البشر جميعا في حين أن هذا الشيخ سلوكه يٌناقض قوله فهل نعذر العامة من البسطاء على سلوكهم المتناقض  واقتدائهم بهؤلاء الأشياخ .


فهل للمشتغلين بالدين والذين يخلطون الدين بالسياسة دور في حدوث هذا التناقض ؟ أم أنه البعد عن القرآن الكريم وهجره والعمل بأقوال بشرية لا تمت لدين الله بصلة ؟ . 


2   تعليق بواسطة   Ezz Eddin Naguib     في   الإثنين ٢٦ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً
[63339]

فقه فقهاء السلطان

الذي حوَّل الشعوب إلى قطعان

يسوقها الخليفة بسوط وصولجان

بعد أن أضلهم كلاب السلطان

وها هم المُتأسلمون من سلفية وإخوان

يُريدون أن يُعيدونا إلى عهد الهوان

باتباع فقه آبائهم وهجرهم للقرآن

كلا لن نكون غنما أو عبيدا بعد الآن

حتى ولو نالوا أغلبية في البرلمان



أحسنت يا أخي نبيل

بارك الله فيك

نقلت المقال بعد إذنك إلى الفيس بوك


3   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   الثلاثاء ٢٧ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً
[63364]

السيادة لمن ...

الأستاذ نبيل هلال بجد هذا موضوع ممتاز ،يلخص ما نعاني منه من مشكلات ، فهناك فجوة تتسع دائما ، بين الإسلام كقاعدة  ، وتطبيق المسلمين له أو تدين المسلمين ..أقول تزيد الفجوة ولا تضيق بعكس ما نراه  عن ازدياد عدد المسلمين فليس هناك علاقة  بين الزيادة في الكم ،والكيف .. الذي يسير وفق ما أراد الله سبحانه في كتابه الكريم ، لكن ما أردت أن أسأل عنه هو لماذا نقول في مصر عن بعض الوزارات سيادية  ؟ مثل الداخلية والخارجية  .. هل السيادة لهذه الوزارات دون غيرها ؟  وهل هي تسود الشعب خلافا للمعروف عن الرئيس الذي يعلو جميع الوزارات ، والذي  مهمته الأساسية هي خدمة  الشعب ورعاية  مصالحه، نقول كثرت الفجوات بين ماهو موجود وممكن  ،  وبين ما  يجب أن يكون ...  دمت بخير وفي انتظار مقالاتك القادمة .


4   تعليق بواسطة   نبيل هلال     في   الثلاثاء ٢٧ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً
[63368]

شكر وتحية للأخت عائشة حسين

يسرني كثيرا أن تكوني من المتابعات لمقالاتي ,وأرجو أن أكون عند حسن ظن الجميع ,شكرا


5   تعليق بواسطة   محمد عبدالرحمن محمد     في   الثلاثاء ٢٧ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً
[63372]

التعدي على أملاك الدولة.. أكذوبة وتضليل..

الأستاذ المحترم / نبيل هلال .. أحسنت وأجدت وأبنت في هذا المقال الممتاز الذي يعرض تارخ السلطان والفقيه التابع للسلطان في أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان.. هى عمرفتوى الفقيه الذي يزين العمل السوء للسطان ..


ومما هو جدير بالذكر على شرف هذا المقال..أكذوية شعار وقانون ..(التعدي على أملاك الدولة) .. هذه الأكذوبة الخسيسة ممن شرعوا قوانين هى صنعت خصيصا لصالح السلطان وأعوان السلطان..


الغر يب أنه عندما يسرقُ وزير أو لواء آلاف الأفدنة من أرض مصر بزعم أنه مستتثمر ..يمطرونه بمئات الملايين من الجنيهات للتنمية والاستثمار في هذه الأرض الشاسعة المنهوبة .. أو التي استولى عليها الوزير او اللواء او أي رجل أعمال (رجل نهب المال) .. وهذا يقابل بالاستحسان من جانب أجهزة الدولة التابعة للسلطان..!!


اما أن ينتفع احد المزارعين البسطاء بعدة أفدنة خمسة او عشر أو عشرين فدانا.. من أرض صحراوية خالية من المرافق مثل المياة أو الكهرباء أو الصرف الحي..


ويبنى منزلا ويحفر بئرا ويحاول أن يزرع عشرة او عشرون فدانا ليأكل هو وأولاده.. فأنك ترى العجب العجاب..


يحررو له محضرا بتهمة التعدي على أملاك الدولة من جانب الحكم المحلي او الزراعة.. أليس هذا المزارع المواطن من أبناء ورعايا الدولة .. كان المفروض ان تقوم الدولة بتوصيل مياة الشرب ومرافق الكهرباء والصرف الصحي والتليفون .. على رأس هذه الأرض .. حتى تساعد هذا المزارع أن يزرع ويحول مصر إلى دولة انتاج زراعي صناعي .. بدلا من الوضع المزري الذي نحن فيه..؟


وبعد ان تحْكم محكمة السلطان بقتوى وقانون من فقيه السلطان .. بحكم التعدي من جانب المرزاع على أملاك الدولة .. ووجوب إزالة هذا التعدي .. تأتي اجهزة دمار السلطان في صور مباحث تنفيذ الأحكام .. وبمساعدة ما يعرف بالحاكم العسكري .. ولودرات مجلس المدينة التابع لها زمام الأرض التي زرعها الفلاح ..


ياتون بلودرات وكراكات ومعهم قوة من بوليس السلطان وفتوى الفقيه بإزالة الحياة والزرع من على أرض السلطان فالسلطان هو الدولة وأرض مصر هى أرض السلطان ( الرئيس أو الملك أو الأمير ) ..


وتُنْتزع الأرض من مالكها الحقيقي الذي استصلحها وعمرها وغرسها ورواها وزرعها وأنبت ثمرها..!! هذا هو المالك الحقيقي للأرض .


إنها اكذوبة فقيه السلطان وأكذوبة السلطان (التعدي على أملاك الدولة).




6   تعليق بواسطة   نبيل هلال     في   الثلاثاء ٢٧ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً
[63373]

شكر وتحية للأستاذ محمود مرسي

شكرا على تعليقك أخي الكريم ,وفعلا كما تفضلت , فالنهب والسرقة لمن يستطيع ,ولمن يسن القوانين لتخدم مصالحه لا مصالح خلق الله .


7   تعليق بواسطة   نبيل هلال     في   الثلاثاء ٢٧ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً
[63375]

تحية للأخت نجلاء محمد

شكرا للأخت الكريمة نجلاء محمد على ما تفضلت به من تعليق ,والتناقض بين أقوال المشايخ وأفعالهم يعود إلى توخي المصلحة ,وفتش عن الدينار .ملحوظة : عذرا لتأخر ردي والحقيقة أنني علقت في حينه لكن الرد لم يظهر .ربما لخطأ مني غير مقصود .شكرا


8   تعليق بواسطة   نبيل هلال     في   الأربعاء ٢٨ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً
[63389]

تحية للأستاذ عز الدين نجيب

تحية لأخي الكريم الأستاذ عز الدين نجيب وشكرا لتعليقكم على المقال ويسرنى أن تتكرموا بإرساله إلى أي جهة شئتم .وشكرا


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2011-01-12
مقالات منشورة : 123
اجمالي القراءات : 1,422,191
تعليقات له : 109
تعليقات عليه : 282
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt