الرؤية بعيون شرقية
كمال غبريال
Ýí
2010-03-20
نستطيع أن نفرق بين نوعين مختلفين من العقلية، أو بين منهجين للنظر للأمور ومظاهر الحياة، أحدهما سائد في الشرق، أو بالتحديد لدى الشعوب التي عجزت نُخبها الثقافية عن العبور بها من وهدة القرون الوسطى إلى زماننا المعاصر.. والآخر سائد فيما نعرفه بالعالم الغربي، أو بصورة أعم في العالم المتقدم، سواء في الغرب أو الشرق الأقصى.. النوع الأول من العقلية، أو منهج النظر إلى الحياة ومظاهرها، هو منهج التنميط أو القولبة، وينظر للأمور ويفهمها معتمداً على مجموعة من ق&aelوالب المفاهيم الموروثة، يكاد محتواها أن يكون ثابتاً عبر سنوات وقرون، وآلية عمل مثل هذا الفكر (إن صحت له تسمية فكر) تقوم على التقريب والمشابهة، بين معالم الواقع محل النظر، وبين القوالب أو الصناديق النمطية، المسجلة عناوينها عليها من الخارج.. ولما كان العالم لم يكف يوماً عن التغير، وتتسارع حالياً سرعة تغيره بدرجة مذهلة، فإن هذا يعني أن صاحب مثل هذه العقلية لا يتفهم الموضوع في ذاته، وإنما يجتر ما برأسه، مسقطاً إياه على العالم الموضوعي.
النوع الآخر من العقلية والفكر مضاد تماماً لطبيعة النوع السابق، فهو لا يحمل تراثاً من زخيرة ذاكرة مقدسة وماضوية، يرى بها الحاضر، ويخنق بها الإمكان في المستقبل المختلف.. هو يعتمد في فهم العالم على التحليل، لاكتشاف العلاقات بين عناصر الواقع الموضوعي، ليُكَوِّن من تلك التحليلات بعد ذلك صورة، تقترب من التطابق مع هذا الواقع، بمقدار صحة ودقة وشمولية (كمال) ما قام به من تحليلات، وبقدر حذقه في تكوين صورة تتطابق مع مجموعة العلاقات التي اكتشفها عبر تحليلاته.
هكذا ولأسباب عقلية جذرية، نجد العالم الغربي ومن يسير على نهجه يعيشون ويعايشون العصر وإشكالياته وقضاياه، فيما أهل الشرق يعيشون الماضي، يحاربون حروبة، وتؤرقهم إشكالياته وقضاياه، ويصطدمون مع الحاضر والحضارة، ليس لأنهم قد تعرفوا عليها حقيقة ورفضوها، بل بالأساس لأنهم تعرفوا خلال قراءتهم السيئة أو الفاشلة لها، على مظاهر وموضوعات تاريخية بائدة، لا يكاد يكون لها أثراً في الواقع المعاصر، ذلك الحاضر هنا والآن، فهم هكذا يقرأون ذواتهم وما بداخل رؤوسهم، المسدودة قنوات التفكير العلمي فيها، بسبب كتل قوالب المفاهيم الجامدة والمتكلسة مع مرور الزمن.
يدلنا هذا على سر ذلك التشابه والتلاقي، الذي يبدو في أحيان كثيرة محيراً، في ذلك الطيف الأيديولوجي، الذي يجمع أهل القولبة والتنميط، كأن نجد تحالفاً بين اليساريين العلمانيين الساقطين من عربة الزمن في شرقنا الأوسط، وبين السلفيين والأصوليين الإسلاميين، رغم أن التضاد بينهما جذري.. ذلك أن ما هو مشترك بينهما في نمط التفكير جذري أيضاً.
الأمثلة على هذه الحالة أكثر من تحصى في عجالة، وأقصى ما نستطيعه ضرب بعد الأمثلة:
أهل القولبة يرون الصراع بين الحركة الصهيونية وبين الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين ودروز وخلافة على قطعة أرض محددة، في معرض محاولة إقامة كيان قومي لليهود، على أنها واحدة من معارك الزمن الغابر الدينية، فتصوروها وصوروها على أنها معركة بين الدين الإسلامي والدين اليهودي.. ثم رأوا فيما اعتبروه انحيازاً من بعض الدول الغربية لإسرائيل، ليس سياسة لدول عظمى، تمليها عليها مصالحها، ورؤيتها وتوجهاتها الليبرالية العلمانية، التي تُعتبر إسرائيل واحدة من مراكزها، وإنما قرأوا ما لا يملكون غيره في قوالبهم، وهو أن النصارى يتضامنون مع اليهود في الحرب على الإسلام.
على ذات النهج أيضاً لابد وأن نتوقع فهمهم للمطالبة بأن تكون إسرائيل وطناً قومياً لليهود أي دولة يهودية.. هم عاجزون عن فهم البعد البشري الإنساني في القضية.. هم فقط يبحثون في قوالبهم، فلا يجدون غير البعد الدوجماطيقي المتعلق بالإيمان الميتافيزيقي، فيتصورون أن هذه الدولة ستكون محكومة بالدين، ويكون عندها غير اليهود مهددين في عقائدهم ووجودهم.. هم أيضاً هنا لا يقرأون الواقع، بل ما في داخل قوالبهم أو صناديقهم المغلقة.
طبيعي أيضاً أن يقرأ المُقولَبون المُقولِبون أسماء أحزاب أوروبية، مثل الحزب الديموقراطي المسيحي، على أنها أحزاب دينية مسيحية، كذا ترؤس ملكة بريطانيا للكنيسة الإنجليزية، وكأنه خلافة مسيحية، يطالبون بحقهم في مثيلها، خلافة إسلامية على النمط الأموي أو العباسي أو العثماني، أو حتى زمن الخلافة الراشدة.
ينظر هؤلاء أيضاً إلى تعثر انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، على أنه نتيجة رفض عقائدي ميتافيزيقي من اتحاد مسيحي لدولة إسلامية.. فعقولهم عاجزة عن مبارحة الدوجما، ليكتشفوا الحقائق الإنسانية والمادية الواقعية.. فبغض النظر عن أن الاتحاد الأوروبي يجتمع على أساس مادي مصلحي علماني محض، فإنه لو كان أمر تعثر انضمام تركيا له يرجع لأساس ديني، لما جرى من الأساس بحث الموضوع، ولما حاول الاتحاد الأوروبي عبر سنوات طويلة مضت، ومازال يحاول حتى الآن، أن يأخذ بيد تركيا، لتوفق أوضاعها الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية، لتتوافق مع النموذج الأوروبي.. فهو اتحاد حقيقي يقوم على عناصر اتفاق حقيقي، وليس كالاتحادات العربية التي تنشأ على أساسي دوجماطيقي وتنتهي إلىلا شيء.
ما يترتب على نهج التفكير المُنَمَّط هذا، أشبه بمستنقع لانهائي للفشل في فهم الواقع.. فعندما تواجه دعوات تطبيق الشريعة الإسلامية في بلدان الشرق الأوسط بالرفض، فلابد بناء على آلية التفكير هذه، أن يكون الرافضون من النصارى أو غير المسلمين، الذين يرفضون الإسلام كدين، ويريدون فرض رؤاهم على الأغلبية المسلمة.. إذا تبنينا المنهج التحليلي في الفكر، فسنجد أن مأساة أصحاب العقول المقولبة، ليست فقط في سوء قراءتهم للأخر أو للواقع الموضوعي، وإنما سوء إدراكهم لذواتهم ولمصالحهم الذاتية، فهم لا ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية بناء على تحديدهم لقواعد تشريعية وقانونية محددة، وجدوا أنها الأنسب لحياتنا الراهنة، وأنها تتضمن الحل للقضايا والإشكاليات التي نواجهها.. وإنما هم ينادون بصندوق مغلق، مكتوب عليه من الخارج "شريعة إسلامية"، وبما أنهم مسلمون أتقياء، فلابد أن يتبنوا هذا الصندوق، رغم أن التشريعات الموجودة بداخله، والتي صاغ صورتها العملية مئات الفقهاء القدماء، في ظروف جد مختلفة عن ظروفنا، وتضاربوا فيما بينهم، بل وكفَّر بعضهم بعضاً، حتى لتكاد المحصلة النهائية لتضارباتهم أن تكون صفراً.. رغم هذا، ورغم أن أغلب أو حتى كل من يصرخون مطالبين بطبيق الشريعة الإسلامية، يجهلون محتواها، أو غير ملمين إلا بالجزء اليسير منها، إلا أن حماسهم لا يفتر، بدواع دوجماطيقية تقوية، لا أكثر ولا أقل.
هؤلاء هكذا يجزمون بأن المتضررين والمعارضين لتطبيق الشريعة هم المعادين أو غير المحبين للدين الإسلامي، فمن الطبيعي ألا يخطر على بالهم أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق، وأن المعارضة تأتي من مسلمين وغير مسلمين، من الذين ينظرون للأمور نظرة مادية واقعية، وليس نظرة ميتافيزيقية تقوية.. لا يستطيع هؤلاء استيعاب أن المعارضين لا يفعلون ذلك من أجل صالحهم الطائفي، وإنما لأن رؤيتهم التحليلية تجعلهم يقفون موقف المدافع عن مصالح الجميع، وفي مقدمتهم الجماهير التي تسير خلف من يدغدغ نوازعها الدينية، للحصول على مكاسب مادية وسلطوية، متستراً بشعارات التقوى والإيمان.
يمكننا أن نتصور الأمر وكأن شعوب الشرق تلعب الدومينو، بما تمتلك من أحجاره محددة الأرقام.. لا تملك سواها، ولا حيلة لها في غيرها، فيما باقي شعوب العالم تلعب الشطرنج، بخططه ومناوراته.. فهل تصمد وتصلح تكتيكات الدومينو لمواجهة إشكاليات العصر، أم أن المصير سيكون بائساً، إن لم نتعلم ونعلم أولادنا لعبة الشطرنج؟!!
اجمالي القراءات
8499