مطران والمدرسة الرومانسية
يعد خليل مطران رائد المدرسة الرومانسية في الوطن العربي التي تتسم بسمات تميزها عن غيرها من مدارس الشعر ، منها: أن القصيدة تعبر عن تجربة ذاتية شعورية صادقة ،لا عن شعر مناسبات ومجاملات !! وتتحقق فيها الوحدة العضوية المتمثلة في وحدة الموضوع ،وترابط الأفكار ووحدة الجو النفسي ، والاعتماد على الخيال واللغة حية نابضة رقيقة تنأى عن الغربة
التعريف بالشاعر : هو خليل عبدة يوسف مطران ولد في بعلبك "بلبنان " عام 1871 م , وتعلم بالمدرسة البطريكية ببيروت , وسكن مصر , فتولى تحرير جريدة "الأهرام " بضع سنين , ثم إنشاء " المجلة المصرية " وبعدها جريدة "الجوانب المصرية " .
وترجم كتبا عدة , ولقب بشاعر القطرين "لبنان ومصر" , وكان يشبة الأخطل بين حافظ وشوقي , وهو شاعر عميق المعاني , من كبار الكتاب , وله اشتغال بالتاريخ والترجمة , وقد شبهه المنفلوطي بابن الرومي , وكان غزير العلم بالأدبين العربي والفرنسي , رقيق الطبع , له ديوان شعر مطبوع في أربعة أجزاء , توفي بالقاهرة عام 1949 م
تأثر الشاعر بعدة عوامل داخلية وخارجية تظهر في اتجاهات الشاعر الشعرية ,,,
عاش في بيئة محبة للشعر وللأدب , فأستاذة إبراهيم اليازجي , المعروف بحسن اللغة وإطلاعه على الثقافات العالمية في باريس وأمريكا ومصر , وإتقانه للغة الإنجليزية والتركية والفرنسية والإنجليزية , فتأثر مطران بالتيارات الفكرية و العالمية , ناهيك بأن عمله في الترجمة اكسبه ثقافة عالمية واسعة .
عايش مطران مدرستين معروفتين وتأثر بهما : المدرسة البرناسية التي تعتني باللغة من منطلق مبداء الفن للفن , والمدرسة الرومانسية التي تعتمد الوجدان و والميل الى الطبيعة والتعلق بها بغلاف حزين كئيب كما هو واضح في القصيدة "المساء "
تأثر بعوامل نفسية وحياتية , إذ نشأ منذ صغرة محبا للجمال والطبيعة , كارها الظلم , والتسلط , والقهر , متميزا بحس مرهف وتفكير رصين وحب للحرية وولوع بالعلم والثقافة , كل هذا دفع الشاعر الى الأتجاة نحو التجديد في الشعر .
مناسبة القصيدة : في عام 1902 م مرض خليل مطران , وانتقل من القاهرة الى الإسكندرية للاصطياف والاستشفاء , ظانا أن هذا يشفيه من علة أصابته , ومرض آلمه , ولكن شجونه تضاعفت , فأخذ يبث شكواه في هذه القصيدة الرائعة وهو جالس ينظر الى البحر وغروب الشمس , مقارنا حالته بحالة المساء في أسلوب شعري تميز بقوة العاطفة وصدق الوجدان
يؤكد مطران كثرة محاولات نسيانه عندما استجاب لآراء أصدقائه بالذهاب إلى الاسكندرية ، لعلها تكون الدواء لما يعاني من آلام، لكنه مقتنع بأن هواء الاسكندرية قد يستطيع شفاء أمراض الجسم ،وينفي تماما قدرة هذا الهواء أو غيره على شفاء نفسه وما بها من أشواق ، ويقرر نتيجة أكيدة وهي أن ترحاله في البلاد مهما طال لن يجدي ، بل سيزيد العلل ويزيد عليه الأمر صعوبة إضافة لما يعانيه من شوق ،سيعاني الغربة مع المرض والوحدة الشديدة !!!
إني أقــــمت على التعلة بالمنى في . . غربة قــــــــــــــالوا تكـــــــــــــون دوائي
إن يشف هذا الجسم طيب هوائــها . . أيــــــلطف النــــــــــيران طيب هــــــواء
عبث طوافـــــــي في البلاد وعلـــة فـي عــــــــــلة مــــــــنفاي لاســــــتشفاء
متــــفرد بصــــــــــبابتي, متـــفرد بكـــــــــــآبتي , متفـــــــــــــرد بعنـــائي
وعلى عادة الرومانسيين ينطلق مطران إلى الطبيعة يبثها آلامه فيشكو للبحر قلقه الدائم ، وسرعان ما يستجيب له البحر برياحه الشديدة، تعاطفا معه وثورة من أجله . كل ذلك والشاعر يثوي مريضا على صخرة صلبة شديدة، ويتمنى ان يمتلك قلبا كهذه الصخرة القوية ليتحمل ما بداخله ، لكن سرعان ما يكتشف خطأ أمنيته إذ انه وجد الصخرة هي الأخرى تتفت تحت وطاة ضربات الموج القوية كما يفتت المرض أعضاءه !!!
والبحر مازال خفقان واضطراب لا يهدأ ، ورغم اتساع البحر وضخامته إلا انه قد ضاق بالهموم من أجل الشاعر كما ضاق صدر الشاعر وخصوصا حلول المساء حيث تحتشد الآلام ويلتفت مطران إلى ما حوله من ظواهر الكون فيجدها قد التفت بلون قاتم معللا هذا اللون بانه قد خرج من أعماقه:
شاك الى البحر اضطراب خواطري فيجـــــــــــيبني برياحـــــــــــه الهوجاء
ثاو على صخر أصــــــــم وليت لي قلـــــــــــبا كهــــــــذي الصخرة الصماء
ينتابها موج كموج مكــــــــــــارهي ويفـــــــــــتها كالسقم في أعضـــــــــائي
والبحر خفاق الجوانــــــــــب ضائق كمدا كصدري ساعة الإمســـــــــــــــــاء
تغـــشى البرية كــــــــــــدرة وكأنها صـــــــــــــــــعدت الى عيني من أحشائي
والأفق معتكر قريـح جفـــــــــــــــنه يغضي على الغمرات والأقـــــــــــــــــذاء
يتعجب مطران من منظر الغروب الذي يثير في نفس الشاعر العاشق الجريح دموعا وأحزانا وبمنطقه الحزين يقرر ان الغروب يقتل الشمس ويصرع النهار وسط الضواء الحزينة:
يا للغروب وما به من عــــــــــــبرة لــــلمستهام وعبرة للرائـــــــــــــــــــــــي
أوليس نزعا للنهار وصرعــــــــــة للشـــــــــــــــــــــــمس بين مآتم الأضواء
أوليس طـــــــــــــمسا لليقين ومبعثا للشك بين غلائل الظـــــــــــــــــــــــلماء ؟
أوليس محو للوجــــــــود الى مـدى وإبـــادة لمعـــــــــــــــــــــــــــالم الأشياء ؟
حتى يكون النور تجديدا لــــــــــها ويكون شبــــــــــــه البعث عود ذكـــــــــاء
في هذه اللحظات الحزينة يردد مطران ذكر محبوبته عاقدا الصلة بين فراقها ورحيل النهار فالشيء بالشيء يذكر، ويصل إلى ذروة التمزق النفسي حين يتأرجح قلبه بين الخوف والأمل والخوف ألا يراها في الوصال مرة أخرى، ويجد اضطرابه وقلقه يتجسدان أمامه في صورة جسد مطعون ويرى مطران السحاب بعين الرومانسي الحزين فإذا به مختلطا باشعة الغروب الحمراء وكانه هو الاخر مطعون مثله، فيبكي مطران بحرارة وتختلط دموعه باشعة الشمس الداخلة ناحية الغرب:
ولقد ذكرتــــــــــــك والنهار مودع والقلــــــــــــــــــــــــب بين مهابة ورجاء
وخواطري تبدو تجاة نواظــــــــري كلمى كداميـــــــــــــــــــة السحاب إزائي
والدمع من جفني يسيـل مشعشعـــــا بسنى الشعــــــــــــــــاع الغارب المترائي
ويختتم مطران قصيدتهختاما رائعا مؤثرا حيث يرسم صورة للكون كله وهو يبكي من اجله فالشمس ساعة الشفق تسيل اشعتها كانه ذهب خالص فوق السحاب ، وفي الخلف تبدو قمم سوداء وقد مرت الشمس خلال غمامتين وسقطت من بينها سقوط الدموع من العين فكأن الكون كله قد امتزجت دموعه بدموع مطران:
والشمس في شـــــــفق يسيل نظاره فوق العقــــــــــــــــــيق على ذرى سوداء
مرت خلال غمامتين تحــــــــــــدرا وتقطرت كالدمعــــــــــــــــــــة الحـــمراء
فكأن آخر دمعــــــــــــــــة للكون قد مزجت بآخر أدمعـــــي لرثــــــــــــــــائي
وكأنني آنست يومــــــــــــــي زائلا فـــــــــــــــــــرأيت في المرآة كيف مسائي
معاني الكلمات بعض :
صبوتي : مرحلة الفتوة ،وبرحائي : الشدة والأذى الشر .
الصبابة : الشوق والولع الشديدوالجوى : تطاول المرض
وغلالة : شعار يلبس تحت الثوب أو تحت الذراع والجمع غلائلالكدر: الغم ،التعلة: التلهي بشيء عن شيء،الريح الهوجاء : سريعة الهبوب ، ثاو : مقيم الريح الهوجاء : سريعة الهبوب ، . . والصماء : الصلبة الملساء ، ينتابها : يصيبها مرارا وتكرارا،السقم :المرض ويفتها : يحطمها وينهيها،كمدا : الحزن والغم الشديد ، معتكر :مظلم ومغبر ..
ويغضي : يطبق جفنه،والغمرات : الشدائد ، وقريح : جريح
والأقذاء: جمع قذى : وهو ما يقع في العين فيؤلمها.
المستهام : شديد الحب، وعبرة بفتح العين دمعة
وبكسرها فائدة وعبرة ودرس في الحياة،نزعا : موتا ونهاية،وصرعة : الصرعة الطرح على الأرض .
عود ذكاء : الذكاء اسم علم للشمس وعود بفتح العين : رجوع , والمقصود رجوع الشمس بعد الغياب ،كلمى : جريحة , ودامية السحاب : السحابة الحمراء، كلمى : جريحة ، مشعشعا : ممزوجا ،السنى : الضوء
الغارب المترائي : الذي يميل للغروب ولايزال بعضه يتراءى ويظهر.لنظار : الذهب،العقيق : جحر أحمر من الاحجار الكريمه، والذرى : السحب المرتفعة كالجبال السوداء،غمامتين : سحابتين
وتقطرت : سالت قطرات، آنست : أبصرت ..
.
اجمالي القراءات
16250
شكرا أستاذة عائشة على هذه اللمسة الشعرية الرقيقة في هذا المنتدى والموقع أهل القرآن ونهنئكم بالعام الميلادي الجديد كل تام وأنتم بخير كنت قد كتبت تعليقا أمس ولكنه طار بسبب سقوط النت فأنا أعمل بمكان نائ وسؤالي لماذا كل شعراء لبنان لديهم نظرة تشاؤمية سوداوية سواء منهم من كان يعيش في المهجر أم كان يعيش في لبنان أو في. أحد البلدان العربية ،أم هذه هى طبيعة الشعراء بعكس شاعرنا المصري الرقيبق على محمود طه في قصيدته ،عندما يأتي المساء، التي غناها الموسيقار عبدالوهاب فكلعا أمل وإقبال على الحياة رغم سعوبات الحياة، شكرا لكي والسلام عليكي ورحمة الله.