تجار الأسواق القديمة في القاهرة يتحسرون على أيام زمان

اضيف الخبر في يوم الخميس ٢٨ - فبراير - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: العرب


تجار الأسواق القديمة في القاهرة يتحسرون على أيام زمان

انتشار المجمعات التجارية بما تضمه من محالّ متنوعة للمأكولات ومقاه ومناطق لألعاب الأطفال وتزايد ثقافة الشراء الإلكتروني، يقلل قدرة الأسواق الشعبية على الصمود.
 
يتفرجون ولا يشترون

فقدت الأسواق التاريخية في القاهرة جزءا من مكانتها، في ظاهرة لافتة لم تشهدها طوال عمرها، حيث هجرها جمهورها الذي اعتاد شدّ الرحال إليها من جميع المحافظات المصرية، وتخلّت عن مرونتها التي أهّلتها لاستيعاب الصدمات بين موجات الركود والحرائق وتغيّرات السلع والأذواق، لتذوق مرارة الخوف من المستقبل وانتظار المجهول.

القاهرة- اتسمت الأسواق القديمة في القاهرة بالقدرة على تغيير جلدها، بتجار يجيدون قراءة مؤشرات حركة الزبائن ويغيّرون بضائعهم باستمرار حفاظا على معادلة صعبة في إرضاء جميع الزائرين لها الوافدين من بيئات مختلفة، لتضم بين رحابها منتجات تُرضي القاطنين في أماكن مصرية مختلفة بجوار المستلزمات الحياتية لقاطني الأحياء الراقية.

أصبحت الأسواق الصاخبة التي كانت تتصادم فيها الأرجل من الازدحام خالية من المارة، باستثناء أعداد قليلة من المتفرجين بلا شراء تقريبا، وبات الباعة المتحفظون عن خوض الأحاديث تحاشيا لمهاترات تضييع الوقت في نقاش تخفيض الأسعار عطشى للجدل، ويتراصون في الشوارع لتدخين النرجيلة أو اللعب بالهاتف المحمول كسرا للفراغ المستمر.

حافظ حي “الغورية” الشهير في القاهرة الفاطمية على مكانته كأقدم سوق تجذب الفتيات المقبلات على الزفاف ببضائع متنوعة تراعي جميع الطبقات، واعتبرها الجمهور السوق الوحيدة التي لا يمكن أن يغادر زائرها خالي الوفاض دون شراء قبل أن تتغير الأمور.

على باب محل صغير للمفروشات، يقف محمد عادل، وحيدا بعد تسريح صاحب المحلّ لزملائه بسبب ضعف حركة البيع، ولا يملّ من المناداة لجذب المارة بأي وسيلة للدخول أملا في الحفاظ على مصدر رزق لأبنائه الأربعة، وتعزيز دخله الذي لا يتجاوز 2800 جنيه شهريا (160 دولارا) عبر إكراميات المشترين.

تخصّصت “الغورية” في احتياجات العرائس منذ خمسة قرون، ففي عهد مؤسسها السلطان قنصوه الغوري اشتهرت بعطور ليلة الزفاف لتحمل اسم سوق العنبر قبل أن تتحول بنهاية حكمه إلى الحرير، ثم حياكة الملابس في عهد العثمانيين، وتزايدت أنشطتها طوال عمرها ليتخصص كل شارع من شوارعها بتجارة مميزة بين الملابس والأواني والتحف المنزلية والمفروشات والأقمشة.

يمضي عادل، الذي يردد مقولة “خد فكرة واشتري بكره (غدا)”، لكل من يمر أمامه حتى لو كان صبيا، يومه في فتح عبوات المفروشات ومحاولة إقناع الزبون بالشراء لكن لا تعجبه المعروضات التي لا يستطيع دفع ثمنها، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، وحسبة مالية معقدة، يتورط مجبرا في حلها برغبة بعض الأسر بتجهيز ثلاث فتيات من المفروشات دفعة واحدة بمبلغ لا تتجاوز 20 ألف جنيه (1190 دولارا).

ركود قاتل

 

ثقافة التخلي عن الكثير من المستلزمات غير الضرورية والاكتفاء بالأساسيات انتشرت بين المقبلين على الزواج
ثقافة التخلي عن الكثير من المستلزمات غير الضرورية والاكتفاء بالأساسيات انتشرت بين المقبلين على الزواج

 

يتحسر الباعة وأصحاب المتاجر على ماضي الحي العريق، يدندنون أحيانا بأغنية “يا رايحين (زائرين) الغورية هاتوا لحبيبي هدية”، للمطرب محمد قنديل، ويبادر بعضهم بذكر وقائع قديمة لوالده مع أديب نوبل نجيب محفوظ الذي عشق شوارعهم، وكتب في رحابها ثلاثيته “قصر الشوق والسكرية وبين القصرين”.

امتصت الغورية الكثير من الصدمات، بينها الركود، وتعرضها لحرائق ضخمة، آخرها قبل عامين، لكن يبدو أن الانتشار المتواصل للمركّبات التجارية الضخمة، بما تضمه من محال متنوعة للمأكولات ومقاه ومراكز تسوق ومناطق لألعاب الأطفال وتزايد ثقافة الشراء الإلكتروني، يفوق قدراتها على الصمود.

تتوقف سامية عمر، التي تستعد للزواج في أكتوبر المقبل، أمام الكثير من المحالّ دون شراء، فقد جاءت للتأكد من أنها الرابحة في صفقة شراء قامت بها عبر أحد مواقع التسويق الإلكتروني، بينها طاقم من أطباق الصيني لم يتم استعماله من قبل تخلّت عنه إحدى الأسر لظروف السفر بسعر مغر.

تقول عمر لـ”العرب”، إن ثقافة شراء المستعمل لم تعد تثير المشاكل بين المقبلين على الزواج، واتفقت مع زوجها المستقبلي على التخلّي عن الكثير من المستلزمات غير الضرورية والاكتفاء بالأساسيات فقط، متسائلة، ما جدوى شراء مفروشات تكفي لسنوات من الآن؟

يعتبر أهالي المناطق التجارية التاريخية شوارعهم نموذجا مصغرا لمصر، فكلما عاد الزمن للوراء كانت أحوالهم أفضل كأحوالها، يعدون أنفسهم شاهدين على تاريخ بروز الصناعة المحلية خلال الخمسينات من القرن الماضي، وانتكاسها في الثمانينات مع سياسية الانفتاح الاقتصادي، ومن اعتلاء القطن المحلي عرش الخامات عالميا إلى تراكمه بمخازن الشركات في عصر الخامات الصناعية المستوردة.

يدخل باسم سيد، بائع بمحلّ للأدوات المنزلية، في جدل يومي مع فتيات لا تظهر ملامحهن الخارجية أو ملابسهن المتواضعة عن ثراء لإقناعهم فقط برؤية البضائع التي يبيعها، ويتمسكن من البداية بمنتجات شبيهة تحمل هواتفهن صورها حصلن عليها عبر فيسبوك وإنستغرام ولن تتوافر بالسوق قبل سنوات، ولن يستطيعوا حتى دفع ثمنها حال توافرها.

حملات مثل "خليها تعنس" و"خليك جنب أمك" على الإنترنت تقلل من رغبة العائلات في تجهيز بناتها

من الغريب أن سيد ذاته، الذي يتكسب من بيع تجهيزات العرائس، يظهر تأييدا شديدا لحملة إلكترونية تدعو إلى مقاطعة الزواج، بعد موقف شخصي مع أسرة فتاة تقدم لخطبتها، وطالبه والدها بشقة تمليك بمنطقة قريبة من سكن العائلة، مع مواصفات تتعلق بالمساحة والطابق وتوافر المصعد، رغم معرفته بقدراته كبائع في مقتبل حياته.

يتجذر العداء لمواقع التواصل الاجتماعي في المناطق التجارية القديمة بمصر منذ ثورة 25 يناير 2011 التي كان الفيسبوك أحد أبطالها ويفاجئهم باستمرار بضربات كما لو كانت مقصودة، آخرها تدشين حملتي “خليها تعنس″ و”خليك جنب أمك” اللتين قللتا حركة زيارات عائلات كانت تجول السوق، وتشتري ما يمكن اكتنازه لبناتها بداية من وصولهن مرحلة البلوغ.

دفعت الأوضاع الاقتصادية الكثير من المواطنين للبحث عن أنشطة إلى تعزيز الدخل، فحوّل البعض منازلهم الخاصة إلى مخازن للمنتجات المنزلية والمفروشات، وانتهجوا التسويق الإلكتروني لجذب الزبائن، وتوصيل الطلبات بأسعار أقل باعتبارهم لا يدفعون أجور عمالة أو ضرائب.

وظلت حارة درب “سعادة” بالغورية، الذي لا يتجاوز عرضها ثلاثة أمتار، متخصصة في صناعة الأخشاب قبل أن تحلّ محلها الأدوات المنزلية المستوردة المعروضة بمحالّ تتراص على الجانبين، تخلق زحاما في الأعين بحجم المنتجات الزجاجية والخزفية والمعدنية المعروضة، وتكسر حالة الهدوء غير المعتادة لمكان معروف عنه الصخب الشديد.

يقول هشام علي، العامل بمحل لبيع منتجات المطابخ، إن المنطقة فقدت عنصر السعر الجيد مع رفع وزارة المالية الدولار الجمركي على البضائع المستوردة التي يبيعها، فأصبح أقل تشكيلة من الخزف الصيني الذي لا يوجد له بديل محلي جيد لا تقل عن 7 آلاف جنيه مصري (400 دولار).

كان من المفترض دخول 17 مصنعا جديدا بقطاع صناعة الأدوات المنزلية الإنتاج نهاية العام الماضي، لكن التجار يؤكدون أن المنتج المحلي يتسم برداءة الشكل النهائي ويرفضه الزبون الذي يفضّل المستورد، ما يجعل الكلمة العليا للمستلزمات الواردة من الخارج.

يؤكد التجار أن شهر يناير لم يسجل مبيعات تذكر مع تسابق المركّبات التجارية الضخمة على تقديم عروض على أجهزة العرائس المختلفة تصريفا للمنتجات الراكدة قبل ظهور منتجات جديدة أكثر تطورا، معتبرين أن الركود الحالي الأسوأ في تاريخ السوق بأكله من مدخراتهم ودفع البعض الآخر نحو الديون المتراكمة.

 موسم ضائع

 

بلا زبائن ولا سياح
بلا زبائن ولا سياح

 

 في حارة مكسر الخشب “حمام التلات” الواقعة بين شارعي الأزهر والموسكي، كان الباعة ينتظرون شهر فبراير من كل عام بتحقيق ذروة مبيعات، مع عيد الحب “الفلانتين” والاستعداد لعيد الأم في 21 مارس، لكن السوق لم تشهد تطورا ملموسا في حركة البيع نحو الأفضل.

يؤكد بائع، رفض ذكر اسمه تحاشيا لغضب رب عمله، أن السوق اعتادت شراء المخطوبين والمتزوجين هدايا بأطقم من الخزف والأواني المنزلية قبل “عيد الأم” منذ ارتفاع أسعار المشغولات الذهبية التي كانت الهدية المعتادة في تلك المناسبة قبل عشر سنوات، لكنه لم يبع منذ ثلاثة أسابيع إلا طقمين فقط من أطباق الصيني.

يضيف، لـ”العرب”، أن أصحاب المحال التجارية اتبعوا سياسية تدوير الإجازات بين العمال، لتقليل الأجرة اليومية الإجمالية التي يدفعونها ليعمل العامل في الأسبوع ثلاثة أيام بدلاً من سبعة بسبب ضعف البيع، وعدم تحرك الأمور للأمام في موسم عيد الحب الذي مثّل بارقة الأمل في تصريف المنتجات.

حوّل بعض أصحاب المحالّ الباعة إلى “سريحة جائلين” يرتبط أجرهم بقدرتهم على جلب الزبون وإقناعه بالشراء، ليجولوا الشوارع القريبة بحثا عن زبائن يغرونهم بحديث عن انفرادهم بتشكيلة منتجات لم تصل إلى مصر من الخارج إلا منذ أيام، أو تحطيمهم الأسعار بخصومات هائلة أو حتى استعدادهم لتلبية احتياجاتهم بأي مبالغ يمتلكونها.

وتسود الأسواق التاريخية بالقاهرة نغمة انتقاد للصنّاع السوريين الذين حلّوا بها، باعتبارهم أحد أسباب رفع الأسعار على التجار والإفراط في تغيير أذواق المستهلكين بتفضيل المنتج اليدوي الشحيح على المصنع الذي تمتلئ به المحالّ التجارية، وتزايد المعارض التي ينظمونها في المحافظات، فحالت دون قدوم الزبون التقليدي إليهم.

بدا انتقاد السوريين تغييرا في ثقافة مناطق تجارية طالما رحبت بالتجار الأجانب حتى حملت “الغورية” في حقبة من حياتها اسم سوق “العقادين الروم”، وضمت منطقة الأزهر حارة “الزيت المغربي” التي اكتسبت اسمها من التجار المغاربة الذين قطنوها، وشارع “الكحكيين” الذي اشتهر ببيع العباءات والأزياء الأزهرية، وحارة الفحامين التي عرفت ببيع الأحذية الجلدية وضمت جنسيات متعددة.

ربما يكون السبب في الأوضاع التي تعيشها تلك المناطق منذ تعويم الجنيه قبل ثلاثة أعوام من تضاعف أسعار البضائع المستورة الواردة من الخارج، التي باتت لا تناسب جمهورها التقليدي من الأسر المتوسطة، وعجز الباعة عن مواجهتها ببدائل محلية بعد استغلال منتجوها الفرصة ورفعوا أسعارها بعدما باتوا ينفردون بالسوق والإنتاج.

نجح الصنّاع السوريون في تغيير ثقافة المصريين في اقتناء المفروشات بطابع مميز من التطريز والأشكال المعتمدة على الصناعة اليدوية بدلا من الطباعة على النسيج، ما جعل الكثير من الورش المصرية تعجز عن منافستها، وتطلب الشراكة معها ماليا مقابل التنازل عن الإدارة وملف العمال.

يقول رمضان محمود، الجالس على مقهى، إنه ظل بائعا بمحل تجاري لقرابة ربع قرن قبل أن يتم تسريحه مع آخرين، بعدما دخل مالكه في شراكة مع تاجر سوري واستبدال الأخير العمالة بأبناء بلده، باستثناء مجموعة صغيرة منهم يجيدون ركوب الدراجات النارية لخدمة التوصيل.

تحمل القاهرة القديمة بطبيعتها الأثرية قيمة للصنّاع والتجار السوريين لتشابهها مع شوارع دمشق القديمة، وتخصص الكثير منها في منتجات يمتازون في صناعتها وتسويقها، بجانب رخص إيجارها الشهري مقارنة بمناطق وسط القاهرة التجارية التي يصل فيها الإيجار الشهري لقرابة 2500 دولار.

 أسواق منافسة

 

شراء المستعمل لم يعد يثير المشاكل بين المقبلين على الزواج
شراء المستعمل لم يعد يثير المشاكل بين المقبلين على الزواج

 

تتزايد شكاوى التجار في الأسواق التاريخية القديمة من اتفاقيات تجارة حرة وقعتها مصر بعهد الإخوان المسلمين قبل سبعة أعوام، تمنح المنتجات التركية إعفاء من الرسوم الجمركية، وتزايدت تداعياتها مع تقديم أنقرة دعما لمصدريها يصل إلى 20 بالمئة وتراجع قيمة الليرة أمام الدولار، ما خلق فجوة بين أسعار المنتجات المصرية والتركية تناهز 25 بالمئة لصالح الأخيرة. ويشير باسم أحمد، مدير محلّ كبير لبيع المستلزمات المنزلية، إلى أنّ المصانع المصرية الكبيرة زادت من مشكلة السوق بتلاعبها في بيانات بلد المنشأ واستبدالها بعبارة “صنع في تركيا”، إرضاء للزبون المصري المهووس بالدراما التركية.

قد تكون إحدى مشكلات الأسواق التاريخية بالقاهرة القديمة استحداث أسواق منافسة باستمرار مثل “أبوالنمرس التجاري” بمحافظة الجيزة المتاخمة، الذي يمتاز باتساع شوارعه وتنظيمه، وعدم قدرتها على ملاحقة تغير سلوك البشر المتسارع، فدمى عيد الحب التقليدية المصنوعة من الألياف الصناعية اختفت العام الحالي لتحلّ محلّها عرائس مُصنّعة من الشوكولاتة يمكن تناولها.

ربما تكون مشكلتها في تقلبات الزمن والإغراق في الحنين للماضي، فأصحاب وكالات الأقطان بشارع الأزهر، توقفت بضاعتهم مع الانتشار المستمر لثقافة الحشوات الحديدية الإسفنجية التي منعت قدوم عربات الخيول المحملة بأجولة القطن الضخمة، وأجلست صناع مستلزمات الأسرة في منازلهم بلا عمل.

يطالب التجار في القاهرة الفاطمية بنظرة حكومية لماضي شوارعهم العريقة ودعمهم بتخفيض الدولار الجمركي، في مطلب لا يتسق مع سياسات السوق المفتوحة التي تتبناها الدولة واقتصار دورها على تنظيم النشاط الاقتصادي مع تدخلات محدودة بالأسواق.

يتمسكون برابط قديم مع الرئيس عبدالفتاح السيسي المولود بشارع الجمالية المتاخم لهم والذي طالما مرّ بشوارعها، يرغب التجار أن تحسب أسواقهم القديمة ضمن مشروعات التطوير دون تهجير، وينضمون إلى خارطة الحركة السياحة كشارع المعز القريب الذي يجذب السائحين لمشاهدة القاهرة القديمة.

تبحث أسواق القاهرة القديمة التي خرجت منها أول مسيرة لثورة 1919 من منزل الشيخ القباني، واحتضنت جلسات أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام لأعوام عن بوصلة جديدة، ربما تشهد مخاضا جديدا لتغير في طبيعتها التجارية المستمرة منذ عدة قرون، أو تبدلا في ثقافة تجارها ليقرروا أخيرا اعتماد اللحاق بعصر المتاجر الإلكترونية.

اجمالي القراءات 1648
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق