رقم ( 6 ) : القسم الثانى : هل كان للنبي أن يجتهد في التشريع ؟
الفصل الثاني : القرآن والنبي والرسول

الفصل الثاني : القرآن والنبي والرسول

القسم الثانى :  هل كان للنبي أن يجتهد في التشريع؟

1 ـ ليس للنبي أن يجتهد في التشريع أو أن يعلم الغيب:
2ـ  اجتهاد النبي في التطبيق وليس في التشريع
 3ـ  حدود اجتهاد الناس في تشريع القرآن:
4 ـ  سُــنـّة الرسول هي القرآن فقط:
5 ـ ( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ)

مقالات متعلقة :

 6ـ وهذا ما جاء فى أحاديثهم هم ..ونستشهد بها للرد عليهم بكتبهم وأحاديثهم :


1ـ ليس للنبي أن يجتهد في التشريع أو أن يعلم الغيب:
المؤمن بالقرآن عليه أن يؤمن بأن الأنبياء هم أصلح البشر لتحمل مسئولية الرسالة وإلا لما اختارهم الله جلّ وعلا :﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(الأنعام 124) على أن مسئولية الرسالة تنحصر في النهاية في التبليغ فقط ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ﴾ (المائدة 99)
ومن اقتصار مهمة النبي على التبليغ للرسالة كما هي دون زيادة أو نقصان يمكن أن نستنتج أن تدبر الكتاب والاجتهاد في فهم معانيه هو مسئولية الناس بعد أن أوصل لهم النبي الرسالة ، وهذا الاستنتاج العقلي قد أثبته القرآن قبلنا ، فالله تعالى يقول ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ (ص 29) فالنسق اللغوي في الآية كان يقتضى أن يقال للنبي: كتاب أنزلناه إليك مبارك لتتدبر آياته ، ولكن التدبر في الكتاب مسئولية الناس كما أن التبليغ مسئولية الرسول.
ويؤكد القرآن على مسئوليتنا نحن في التدبر في الكتاب ، فيقول تعالى بتعبير الاستفهام الإنكاري ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ (النساء 82) ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ.؟ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد 24)
ويوم القيامة سيكون ندمهم شديداً لأنهم لم يتدبروا القرآن ، فسيقال لهم ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ (المؤمنون 68)
ووصف الله تعالى القرآن بأنه بصائر للناس ، أي دعوة لهم لأن يتبصروه وأوضح لهم أنه لا شأن للنبي بهم بعد أن أدى مهمته في التبليغ ، نفهم هذا من قوله تعالى ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ (الأنعام 104)ويقول تعالى للنبي ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ  وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ (الأعراف 203: 204) فلابد من الإنصات للقرآن حتى نتبصره ونتدبر آياته.
والذى لا شك فيه أن النبي عليه السلام بعقليته كان أصلح الناس للاجتهاد ، وكان منتظراً أن يبادر بالإجابة على من يسأله ويستفتيه في أمور الدين ، ولكن الواقع القرآني يؤكد أن النبي كان إذا سُئـِلَ في شيء كان ينتظر نزول الوحى ليأتي بالإجابة ، وينزل قوله تعالى ﴿يسألونك عن﴾ كذا ﴿قل﴾ كذا..
وكلمتا ﴿يسألونك﴾ و ﴿يستـفـتونك﴾ مع كلمة {قل} من كلمات الله في القرآن الكريم ، ومنها نتأكد أن النبي كان مطلوباً منه فقط أن يبلغ الرسالة كما هي ، لقد كانوا يستفتون النبي ولكن النبي كان ينتظر نزول الوحى ، وتنزل الفتوى من رب العزة ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ ﴾ ﴿النساء 127) لم يقل له ويستفتونك قل إني أفتيكم ، وإنما قال: ﴿قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ ﴾ وفى المواريث استفتوا النبي في الكلالة فانتظر الفتوى من الله تعالى فنزل قوله تعالى ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ..﴾ (النساء 176) لم يقل أنا أفتيكم.
ومن مراجعة كلمة "يسألونك" في القرآن نتعرف على الحقائق الآتية:
* كانوا يسألون النبي عن أشياء جديدة في التشريع ، وكان النبي ينتظر معهم الحكم التشريعي الجديد الذى ينزل به القرآن ، مثال ذلك سؤالهم عن الأنفال أو الغنائم ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ.... ﴾ (الأنفال 1)
* وكانوا يسألون النبي عن إيضاحات جديدة في أمور تحدث عنها القرآن من قبل ، وكان بإمكان النبي أن يجيب عنها بالاستنتاج والقياس ، ولكنه عليه السلام لم يفعل ، فقد نزل قوله تعالى في مكة ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ (الأعراف 33) فالإثم كان محرماً في مكة ، ثم سُئـِلَ النبي في المدينة عن حكم الخمر ومعلوم أنها من الآثام ، ولم يجتهد النبي في التوضيح والقياس والاستنتاج ، وهو بلا شك أقدر الناس عليه ، ولكنه انتظر حتى جاءت الإجابة من الله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ (البقرة 219) وطالما أن في الخمر إثماً كبيراً فإن تحريمها قد نزل إجمالاً في مكة ثم جاء تفصيلاً في المدينة.
* بل كانوا يسألون النبي عن أمور تكرر حديث القرآن عنها، ومع ذلك فالنبي كان لا يتلو عليهم الإجابة من الآيات التي نزلت من قبل ،وإنما كان ينتظر نزول الوحى فينزل بإجابات تؤكد ما سبق بيانه ، فقد نزلت آيات مكية تحض على رعاية اليتيم ، ومنها ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ﴾ (الضحى 9) ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ  فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ (الماعون 1: 2) ﴿كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ (الفجر 17) ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ  يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ (البلد: 14 ، 15) ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ (الأنعام 152، الإسراء 34)
ثم نزلت آيات في المدينة تؤكد على رعاية اليتيم منها ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ (الإنسان 8) ، ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ..﴾ (البقرة 177)
ومع ذلك سألوا النبي عن اليتامى ، وانتظر النبي الإجابة ولم يقرأ عليهم الآيات الكثيرة عن رعاية اليتيم وحقوقه ، ونزل قوله تعالى يجيب السؤال ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ (البقرة 220) وهذه الإجابة تؤكد ما سبق بيانه من رعاية اليتيم ، وسُئـِلَ النبي مرة أخرى عن يتامى النساء ونزل الوحى يؤكد ما سبق بيانه من وجوب رعايتهن ورعاية اليتيم ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ (النساء 127) والإجابة هنا تشير إلى ما نزل في الكتاب وكانوا يتلونه ويقرأونه من رعاية اليتامى والمستضعفين من الولدان.
* وأكثر من ذلك فهناك حقيقة قرآنية مؤكدة وكررها القرآن ، وهى أن النبي لا يعلم الغيب ولا يعلم موعد قيام الساعة ولا ما سيحدث له أو للناس ، واقرأ في ذلك قوله تعالى ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ (الأنعام 50) ﴿قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ..﴾ (الجن 25: 27) ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ﴾ (الأنبياء 109) وهل هناك أوضح من قوله تعالى ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ..﴾ ؟(الأحقاف 9)
ومع ذلك فهناك آيات أخرى كثيرة تؤكد أن علم الساعة عند الله وحده ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ (لقمان 34) ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ (فصلت 47) ﴿وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (الزخرف 85)
كلها آيات تؤكد أن النبي لا يعلم الغيب وأن علم الساعة لله وحده وكانت تكفى آية واحدة ولكنهم سألوا النبي مرة ومرات عن الساعة ، ومع ذلك لم يبادر بالإجابة بأن يقرأ عليهم الآيات السابقة ، وإنما انتظر الوحى ، وكان الوحى ينزل دائماً بنفس الإجابة وهى أن علم الساعة لله وحده وأن النبي لا يعلم الغيب.
سألوا النبي عن الساعة فلم يبادر بالإجابة وهو بلا شك يعلم أن القرآن لا يمكن أن يأتي بإجابة تناقض ما سبق ، وأن الإجابة ستكون نفس المعنى الذى تكرر وتأكد من قبل،.. انتظر النبي الإجابة ونزل قوله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ  قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ ...﴾ (الأعراف 187: 188) وهذا توضيح فيه أكثر من الكفاية.
ولكنهم سألوه أيضاً عن الساعة ونرى النبي عليه السلام أيضاً ينتظر الإجابة فنزل قوله تعالى يجيب ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا  فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا  إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا  إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾ (النازعات 42: 45) والآيات الأخيرة ملئت بأسلوب الاستفهام الإنكاري ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا  ﴾ وجاء أسلوب القصر يقصر علم الساعة على رب العزة ﴿إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا ﴾ ويقصر وظيفة النبي على الإنذار ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾.
كان ذلك في مكة ثم في المدينة سألوا النبي عن الساعة، وانتظر النبي أيضا نفس الجواب من رب العزة ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً﴾ (الأحزاب 63)
كان بإمكان النبي أن يجيب، ولديه الكفاية من الآيات، ولكنه كان ينتظر الإجابة، وينزل الوحى بالإجابة المعروفة سلفاً، ثم يسألون النبي نفس السؤال وينتظر النبي إلى أن تأتى الإجابة.. وتأتى نفس الإجابة ثم يسأله آخرون نفس السؤال ، وأيضاً ينتظر الإجابة التي يعرفها إلى أن ينزل الوحى.. وهكذا.. ولو كان من حقه الاجتهاد لأجاب منذ السؤال الأول.
على أن هذه التأكيدات القرآنية لم تأت عبثاً- وتعالى الله عن العبث- فمع كل التأكيدات التي كانت تكرر وتكرر وتؤكد أن النبي لا يعلم الغيب ولا يعلم شيئاً عن الساعة وموعدها وأحداثها - مع ذلك فإن الناس أسندوا للنبي بعد موته عشرات الأحاديث عن علامات الساعة وأحداثها والشفاعات وأحوال أهل الجنة وأهل النار.

وهذه الأحاديث التي ملأت الكتب (الصحاح) تؤكد اعجاز القرآن لأننا نفهم الآن لماذا كرر القرآن تلك التأكيدات سلفا ومسبقا ليرد عليها سلفا ومسبقا.

هذه الأحاديث الضالة تضعنا في موقف اختبار أمام الله تعالى فإما أن نصدق القرآن ونكذبها، وإما أن نصدقها ونكذب الله وقرآنه.. ولا مجال للتوسط.. ونسأل الله السلامة والهداية..ونعود إلى قضية التشريع..
*** فقد كانوا يسألون النبي عن أشياء لا نشك لحظة في أنه عليه السلام كان يعرف الإجابة عنها من خارج القرآن ، ومع ذلك فلم يبادر النبي بالإجابة من عنده أو من معلوماته وإنما انتظر الوحى القرآني ، فقد سألوا النبي عن الأهلة - جمع هلال - ومعروف أن الأهلة هي لمعرفة المواقيت ، وهذا ما كان مشهوراً العلم به في الجزيرة العربية حيث اعتاد العرب في شهورهم العربية على الاعتماد على التوقيت القمري ، وبه كانوا يؤدون فريضة الحج قبل القرآن وفى عصر النبي عليه السلام. وهكذا فعندما سألوا النبي عن الأهلة كان ممكناً أن يجيبهم من عنده ولكنه انتظر حتى نزل قوله تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ... ﴾ (البقرة 189). وسألوا النبي عن مباشرة النساء في المحيض ، ونحن نعتقد أن النبي بذوقه الرفيع وحسه المرهف - عليه السلام - كان يعلم أن المحيض أذى وأنه ينبغي اجتناب النساء في المحيض ، ومع ذلك فلم يصرح النبي برأيه وانتظر الوحى حتى نزل قوله تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ (البقرة 222)
* وحدث أن جاءت امرأة تسأل النبي عن حكم الظهار بعد أن ظاهر منها زوجها أي أقسم باجتنابها جنسيا أو بحرمتها مثل تحريم أمه عليه ، ولم تكن لدى النبي إجابة فانتظر كعادته الوحى ، ولكن المرأة لم تنتظر وأخذت تجادل النبي - وهذا منتظر ممن كانت في مثل حالتها - ولما لم تجد لدى النبي شيئاً رفعت يديها للسماء تشكو لله تعالى حالها ، ونزل القرآن يوضح ذلك الموقف ويفتى في الموضوع ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ (المجادلة 1)
إن صاحب الشرع هو رب العزة تعالى ، أما الرسول فهو الذى يبلغ ذلك الوحى كما هو.. ولو كان للنبي حق الشرح والاجتهاد ، لأصبح للدين مصدران ، وكان لابد حينئذ أن يحظى ذلك المصدر الثاني بحفظ الله شأنه شأن المصدر الأول ، ولكن ذلك لم يحدث لأنه ومنذ البداية فإن التبليغ هو مسئولية الرسول ، وليس الاجتهاد من مسئولياته..
ونضيف إلى ذلك أنه طالما كان الوحى ينزل والشرع لما يكتمل بعد فلم يكن هناك مجال للاجتهاد في التشريع ، وحين اكتمل الوحى نزولاً وتم الدين قرآناً انتهى دور النبي ومات بعد أن أدى الأمانة وبلّغ الرسالة.
ولو كان النبي يجتهد ويتحدث في الدين برأيه وأنشأ مصدراً آخر مع القرآن من خلال اجتهاده- لو حدث هذا ما كان لدى الصحابة والتابعين والأئمة مجال للاجتهاد بعد اجتهاد النبي أو تفسيره للقرآن. ولكن الذى حدث أن الصحابة والتابعين والأئمة قد اجتهدوا في التفسير والإفتاء والتشريع ، ثم جاء اللاحقون فأسندوا بعض الاجتهاد الذى قالوه للنبي ليجعلوا له قدسية وليضمنوا انتشاره ، ولم يفطنوا إلى أن ذلك يناقض القرآن ، وبذلك نشأ ما يعرف بالمصادر الأخرى إلى جانب كتاب الله...
2 ـ اجتهاد النبي في التطبيق وليس في التشريع

 ولكن كان عليه أن يجتهد في طاعة الله وتطبيق أوامره وتنفيذ شريعته، وحتى فى ذلك أمره الله أن يشاور المؤمنين في الأمر ، ولكن هل يصلح اجتهاده في التطبيق لمن جاء بعده من المؤمنين ؟ ان المفهوم أن اجتهاده في التطبيق للنصوص الشرعية يخضع لإمكاناته البشرية وظروف الزمان والمكان ومن حوله من البشر ، وهى مختلفة بالتأكيد عن ظروفنا وبالتالي فليس اجتهاده التطبيقي في عصره ولعصره ملزما لنا وكل من جاء بعده.
مثلا يقول تعالى : " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ " الأنفال 60" كان اجتهاد النبي في التسليح والاستعداد العسكري طبقا للآية الكريمة محكوما بظروف عصره ، فهل نتمسك بذلك في عصرنا ؟ أم نجتهد بما يناسب عصرنا.؟
اجتهادنا في فهم القرآن فريضة دينية اسمها التدبر .
اذا تدبرنا القرآن طلبا للهداية وبمنهج علمي وبدون هوى مسبق أفلحنا ، وهذا ينسب لنا وليس لدين الله تعالى ، أما إذا اجتهدنا في الدين فأخطأنا في الاجتهاد فالخطأ يلحق بنا نحن ولا شأن للدين بنا.. وكلنا بشر يجوز علينا الخطأ ، لذا كان لابد لدين الله أن يكون بمعزل ومنجاة من أخطاء البشر وليظل ساميا فوق الهوى البشرى وقد ضمن الله تعالى حفظه الى قيام الساعة ليكون حجة على اجتهادهم الخاطئ و افترائهم على الله تعالى ورسوله.
ولأنه محفوظ بقدرة الله تعالى فلم يستطيعوا النيل من لفظه ونصه فكذبوا على الله تعالى ورسوله في التفاسير والأحاديث ، وتخيل لو لم يحفظ الله تعالى قرآنه من أهوائهم ؟ اذن كانت رقابة الشيوخ قد حذفت من القرآن كل الآيات التي تنفى عصمة النبي وشفاعته وعلمه بالغيب والآيات الأخرى التي تؤكد على القيم الاسلامية العليا من الحرية المطلقة في العقيدة والفكر و الحق المطلق في العدل وفرضية الشورى بمعنى الديمقراطية المباشرة ، وكل تلك الحقائق القرآنية المنسية الغائبة والتي اجتهدنا في توضيحها فثار علينا الشيوخ ولا يزالون مع أن كل أدلتنا من القرآن ، لو استطاعوا لأعلنوا كفرهم به ، لم يبق في استطاعتهم الا اضطهادي وسبى وشتمي ليداروا عورة جهلهم وكراهيتهم لما أنزل الله تعالى ، ذلك القرآن الذى أنزله الله تعالى لنا دينا نقياً صافياً محفوظاً بقدرته جل وعلا حتى تتم علينا حجة الله يوم القيامة.

 3 ـ  حدود اجتهاد الناس في تشريع القرآن:

كلمة الاجتهاد بمعناها الاصطلاحي من مبتكرات العصر العباسي ونحن مضطرون لاستعمالها لشيوعها على الألسنة ، والاصطلاح القرآني المماثل هو "التدبر" ومعناه أن يظل القارئ للقرآن خلف الآية يتتبعها في القرآن حتى يستوعب المراد ، لأن القرآن مثاني وفيه التشابه وتكرار المعنى وتفصيلها ، وآياته تفسر بعضها بعضاً ولا يناقض بعضها بعضاً ، لذا فإن الأمر بتدبر القرآن يشير إلى هذه الحقيقة فيقول تعالى ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ؟ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ (النساء 82)
والتدبر عملية عقلية فكرية يقوم بها القارئ للقرآن متشجعاً بآياته التي تحث على التفكر والتعقل والنظر والعلم و التـفـقه.
على أن القرآن استعمل بعض المشتقات القريبة من كلمة "الاجتهاد" مثل ﴿وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ (التوبة 79) والجهد هنا يعنى الإمكانات المالية والمادية ، وقريب منه قوله تعالى ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ (النور 53) وقد يكون الجهد مجهوداً عضلياً أما التدبر فهو تفكير عقلي علمي بحت ، وذلك يجعل من أسلوب القرآن أرقى وأدق من اختراع العصر العباسي : "الاجتهاد" ــ الذى لا يزال مسيطراً على تفكيرنا حتى الآن.
والسؤال الآن: ما هي حدود الاجتهاد في شرع الله.؟ ومتى يكون مباحاً ومتى يكون محظوراً؟ إن الله تعالى يقول ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ؟﴾ (الشورى 21) ومع نبرة الهجوم والتخويف في الآية من ذلك التشريع الذى لم يأذن به الله فإن في الآية تصريحاً بوجود تشريع يرضى عنه الله لأنه جاء في الحدود التي يأذن بها الله ، ومن أسف فإنهم لم يعرفوا تلك الحدود فاجتهدوا في المحظور وربما توقفوا حيث ينبغي الاجتهاد ، ولقد قالوا أنه "لا اجتهاد مع وجود نص" مع ان النص القرآني يحتاج ــ كأي نص تشريعي ــ الى اجتهاد في تطبيقه على الواقع. انهم أضافوا نصوصاً منسوبة للنبي وجعلوها ــ مع أخرى ــ مصادر أخرى للإسلام مع القرآن ، وأصبحت تلك النصوص موانع للاجتهاد لا وجود له معها بما جعلوا لها من قدسية مع أنها تخالف القرآن ، ونضرب لذلك مثلاً:
فالمحرمات في الزواج جاءت في نص قرآني جامع مانع في قوله تعالى ﴿وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً  حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ (النساء 22: 24)
فالمحرمات هنا بالنص القرآني كالآتي "الأم" "البنت" الأخت" "العمة" "الخالة" "بنت الأخ" "بنت الأخت" "الأم من الرضاعة" "الأخت من الرضاعة" "أم الزوجة" "بنت الزوجة التي دخل بها زوجها" "زوجة الابن من الصلب" "أخت الزوجة في وجود الزوجة على ذمة زوجها وفى عصمته" ثم "المرأة المتزوجة بزوج آخر إلا إذا فسخ عقد زواجها بملك اليمين" فهنا خمس عشرة امرأة محرمة في الزواج عندما نضيف "زوجة الأب".
وقد حرص القرآن الكريم على توضيح التفصيلات والاستثناءات والمحترزات لتتضح الصورة كاملة ، فأجاز على سبيل الاستثناء أنواع الزواج الباطل الذى كان موجوداً قبل نزول الآية وأقره بصفة مؤقتة ولكن حرم أن ينشأ بعد تلك الحالات الموجودة حالات أخرى، ففي تحريم زواج أرملة الأب أو طليقة الأب قال تعالى ﴿وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ وفى تحريم الجمع بين الأختين في الزواج قال تعالى ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ومع أنها كانت حالات فردية معدودة وقت نزول القرآن إلا أن القرآن الكريم الذى فصل كل شيء تفصيلاً والذى نزل تبياناً لكل شيء أفسح لها مجالاً للتوضيح طالما يستدعى الأمر ذلك.
وأوضح القرآن بأفصح بيان معنى البنت الربيبة بالتفصيل ﴿وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾.
وأوضح معنى زوجة الابن المحرمة ﴿وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ﴾ أي لابد أن يكون الابن من صلب أبيه وليس ابناً بالتبني ولذلك أمر الله تعالى أن يطلق زيد بن حارثة ــ الذى تبناه النبي ــ زوجته زينب بنت جحش ليتزوجها النبي فيما بعد.
وأوضح حرمة الزواج من المرأة المتزوجة التي لا تزال في عصمة زوجها إلا إذا فقدت حريتها وأصبحت مملوكة وحينئذ ينفسخ عقد زواجها وبعد انتهاء عدتها يمكن لها الزواج ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾.
وبعد أن حصر القرآن المحرمات وفصّل القول فيهن تفصيلاً قال تعالى ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ أي أن تحريم هؤلاء النسوة مكتوب ومفروض عليكم، فهنا حكم جامع مفصل بالتحريم، وبعده قال تعالى ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ أي أنه من بعد المحرمات المنصوص عليهن في الآيات الثلاث فكل النساء أمامكم حلال للزواج الشرعي ولسن محرمات بأي حال.
ومعناه أن القرآن الكريم أحاط النساء المحرمات بسور تشريعي جامع مانع، وما بعد ذلك السور فكل النساء حلال للزواج.
وبمعنى أدق فلا يجوز هنا أن نجتهد إلا في تطبيق هذا النص كما هو خصوصا وهو نص تشريعي جامع مانع لا يجوز الاضافة له أو الحذف منه حتى لا نعتدى على تشريع الله ، ولكن الفقهاء أعملوا القياس فحرموا الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها قياسا على حرمة الجمع بين المرأة وأختها ، وحرموا الخالة والعمة من الرضاع قياساً على تحريم الأم من الرضاع والأخت من الرضاع ، ثم صاغوا في ذلك أحاديث هي أشبه بمتون الفقه وأحكام الفقهاء فقالوا "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وقالوا "لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها".
وهنا يقع التناقص مع كتاب الله..
فإذا أراد رجل أن يتزوج عمة زوجته أجاز له القرآن ذلك لأن عمة الزوجة ليست من المحرمات في نص القرآن ولأنها تدخل في الحلال من النساء للزواج ضمن قوله تعالى ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ ولكن كتب الفقه تجعل ذلك الحلال القرآني حراماً.
وإذا أراد رجل أن يتزوج خالته من الرضاع أحلها له القرآن وحرمها عليه الفقه..!! وذلك يعنى بوضوح أنهم يحرمون ما أحل الله وينسبون ذلك للرسول ، والرسول عليه السلام برئ من ذلك..
إن النساء كلهن حلال للزواج ماعدا المنصوص عليهن بالتحديد والتعريف الدقيق ولكنهم لم يكتفوا بذلك التحديد الجامع المانع فأضافوا محرمات أخريات وضربوا بقوله تعالى ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ عرض الحائط. وقالوا لنا "لا اجتهاد مع وجود نص" واخترعوا نصوصاً أكسبوها قدسية مع أنها تعارض كتاب الله ومنعونا من مناقشتها..
وذلك مجرد مثل للاجتهاد المحظور الذى وقع فيه السابقون وأكسبوه قدسية، وهناك أمثلة أخرى لذلك الاجتهاد في المحظور الذى يعتدى على النصوص القرآنية الجامعة المانعة، ولكن الإسهاب في ذلك يخرج عن موضوع هذا الكتاب.
كان ينبغي أن يتوجه اهتمام الفقهاء إلى الاجتهاد في المناطق المباح فيها الاجتهاد. فمن الملاحظ أن آيات التشريع القرآني محدودة ومحددة فهي أقل من مائتي آية أي ما يعادل حوالى 1/30 من القرآن الكريم ، ومع ذلك فقد اكتفى رب العزة بهذه الآيات ، وبها اكتمل الدين وتمت نعمة الإسلام بتمام القرآن ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً ﴾ (المائدة 3) وليس ممكناً بعد هذه الآية أن يقال أن كتب الفقه والحديث تكمل نقصاً في القرآن ، فتعالى الله العزيز الحكيم أن ينزل لنا كتاباً ناقصاً يحتاج للبشر في استكماله ، وآيات التشريع القرآني على قلتها ومحدوديتها تعنى أن تشريع القرآن ترك هامشاً للحركة الإنسانية في الاجتهاد والتطور وفق المتغيرات ولكن ينبغي أن يكون ذلك في الإطار العام لتشريعات القرآن التي تهدف لإقرار العدل والمساواة والقسط والتيسير وحفظ الحقوق والدماء ، إن التشريع القرآني جاء بنصوص جامعة مانعة في أمور محددة كالمحرمات في الزواج والحرام في الطعام وجاء بأنصبة محددة في الميراث، ومطلوب منا أن نجتهد في تطبيق هذه النصوص التطبيق الأمثل، لا أن نجتهد في الاعتداء عليها وتغييرها بالإضافة والتشويه.
ثم جاء التشريع القرآني يحتكم للعرف أو المعروف في التطبيق لأحكامه التفصيلية و لأن تصاغ من العرف والمعروف قوانين اسلامية في اطار القيم الاسلامية الانسانية العليا المتعارف عليها في كل زمان ومكان من العدل والحرية والسلام والاحسان والتسهيل والتخفيف والرحمة والرفق والعفو.
بالعرف وبالمعروف يمكن مثلا تطبيق تلك القيم الاسلامية العليا في المجتمع ــ وفق العرف السليم ومواءمته للعصر الذى يعيشه الناس ــ في كل ما تركه القرآن للتقنين البشرى ، وهذا يدخل فيه كل شيء من قوانين الاسكان الى المرور والاستيراد والتصدير والهجرة ...الخ ..الخ . وكل قانون يشرى روعـيت فيه تلك القيم السامية فهو تشريع إسلامي أذن به الله تعالى ، كما يمكن أيضا تطبيق التفصيلات التشريعية القرآنية نفسها حسب العرف أو المعروف المتعارف عليه في كل عصر ، وذلك لكى يتيح القرآن الكريم المجال للتطور الاجتماعي والإنساني وتظل تشريعات القرآن فوق الزمان وفوق المكان ، وما كان يصلح للعصر العباسي مثلاً لا يصلح لعصرنا.
ومثلاً يقول تعالى ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ (البقرة 233) فلم يحدد القرآن مبلغاً من المال بالدرهم والدينار وإنما قال "رزقهن" ليشمل الجانب النقدي والجانب العيني واحتكم للمعروف أي القيمة الانسانية العليا في القسط والعدل وتطبيق ذلك بالعرف السائد من النقد والعملة وسائر أحوال المعيشة ومدى المناسب لحال المرضعة والوالدة ووضعها ووضع المجتمع ، وينبغي هنا أن يقوم الناس بوضع القوانين التي تناسب عصرها في اطار ذلك العرف الذى اشار اليه القرآن الكريم في تلك التفصيلات التشريعية ، وهنا يكون الاجتهاد في خدمة النص القرآني.
ويلاحظ أن الاحتكام للعرف والمعروف يتكرر كثيراً في حديث القرآن عن الزواج والأحوال الشخصية باعتبارها أقدم "عرف" تعارف عليه بنو آدم ولا يزال الزواج هو الصيغة الشرعية التي يباركها دين الله ، وحين نزل القرآن كان رسول الله محمد قد تزوج زواجاً شرعياً وفق عرف الجاهلية، فالعرب قبل الإسلام لم يكونوا محرومين كلية من التشريعات الصالحة، ولذلك فإن القرآن الكريم لم يوضح لنا مثلاً كيفية عقد الزواج ، ولكن نزلت آيات كثيرة تصحح بعض الأخطاء الشائعة في الزواج وعلاقات الزوجين والشقاق بينهما وعدة المطلقة وحقوقها، واحتكم في ذلك للعرف.
والتفصيل في مواضع الاحتكام للعرف والمعروف في تشريع القرآن يخرج عن موضوعنا وموعدها كتاب خاص عن فلسفة التشريع القرآني ، ولكن يلفت النظر عناية القرآن بالشورى وأمر النبي بها وهو الذى ينزل عليه الوحى ، وجعلها من سمات المجتمع المسلم ، وبها يمكن للمجتمع صياغة قوانين في اطار العرف والمعروف سواء في تطبيق التفصيلات التشريعات القرآنية وتنزيلها على الواقع المعاش وفق المتعارف على أنه الأكثر عدلا ويسرا ، أو في استخلاص قوانين جديدة فيما ينفع الناس فيم تركه القرآن للبشر للتقنين وما أذن الله تعالى لهم في تشريعه في اطار وضوابط القيم الاسلامية العليا المشار اليها .
لقد قامت حياة النبي عليه السلام على أساس تبليغ القرآن كما هو وجاهد حتى بلّغ الرسالة وحين اكتملت الرسالة مات النبي وترك لنا الرسالة أو القرآن أو الرسول المقروء بيننا.. وفى حياة النبي كانوا يسألونه ويستفتونه فينتظر الإجابة من الوحى ، وبعض هذه الأسئلة كان يمكنه الإجابة عنها ولكن الدين دين الله، والله وحده هو صاحب الحق في التشريع وليس للنبي أن يفتى وما كان يفعل. ولكنه عليه السلام كان يجتهد في تطبيق النصوص القرآنية وكان يستشير لكى يصل للصيغة المثلى في التطبيق.
وهناك بالنسبة لنا نحن بعد النبي مجالات حددها القرآن للتطبيق الحرفي بلا أدنى تغيير أو تبديل مثل المحرمات في الزواج وعدم تحريم الحلال في الطعام، والأنصبة المحددة في الميراث.
ثم هناك مجالات أباح فيها القرآن للاحتكام للعرف منها ما يخص السلطة الاجتماعية ومنها ما ينفذه المسلم في ضوء تقواه وخشيته من الله مثل الوصية والصدقة..
ثم هناك المشورة في غير وجود النص، والنصوص القرآنية التشريعية محددة ومحدودة مما يعطى فرصة كبرى للتطور الاجتماعي لتحقيق العدالة والقسط والتيسير، وذلك يعطى تشريع القرآن إمكانية الاستمرار في كل مكان وزمان ، وهناك أيضاً المشورة في كيفية تطبيق النص أو في تقنين العرف، وأي تشريع يصل إليه المجتمع بالمشورة مستلهماً روح القرآن بهدف تحقيق العدالة والمساواة ومنع الظلم فهو تشريع إسلامي أذن الله تعالى به.
فالهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتاب كان إقامة الناس للقسط وفى ذلك يقول تعالى ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..﴾ وصدق الله العظيم (الحديد 25)

 4 ـ سُــنـّة الرسول هي القرآن فقط:

السُنّة هي الشرع وهى الطريقة والمنهاج ، وبهذين المعنيين جاءت كلمة السنة في القرآن منسوبة لله ولشرعه ولطريقته في التعامل مع البشر مشركين ومؤمنين..
كانت سنة أو طريقة المشركين هي الاستكبار عن الحق والمكر بالمؤمنين ، وكانت طريقة الله معهم أو سنته أن يحيق مكرهم السيئ بهم ﴿اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ (فاطر 43)
كان المشركون يرغمون المؤمنين على الهجرة لذا كانت طريقة الله إهلاكهم أو تعذيبهم، يقول ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً  سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴾ (الإسراء 76: 77)
وكانت سنة الله أو طريقته أن يهزم المشركين أمام المؤمنين إذا صدقوا في إيمانهم ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً  سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ (الفتح 22: 23)
وتآمر المنافقون في المدينة على النبي والمسلمين وهددهم الله بأن يجرى عليهم سنته في التعامل مع المشركين ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً  مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ﴾ (الأحزاب 60: 62)
هذه هي السنة بمعنى الطريقة والمنهاج وهى تنسب لله وطريقته في الرد على المشركين.
وتأتى السنة أيضاً بمعنى الشرع ، وبهذا الاستعمال نتحدث نحن في لغتنا العادية فنقول "سنّ قانوناً" أي شرّع قانوناً ، وحين يسن القانون يكون ملزماً للناس ولابد من طاعته ، ونفس المعنى للسنة جاء في الآية الكريمة ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾ (الأحزاب 38) ففي الآية تجد ﴿سنة الله﴾ مرادفة لكلمتي "فرض الله" و"أمر الله" الذى جعله الله قدراً مقدورا. إذن سنة الله بمعنى الشرع هي الفرض والأمر الإلهي واجب التنفيذ.
وهذا يذكرنا بمعنى السنة الآخر وهو المنهاج والطريقة وكان تعبير القرآن عنها أنه لا تبديل ولا تحويل لسنة الله.
والنبي كان عليه أن ينفذ سنة الله أي شرع الله وأوامره حتى لو كان فيها حرج، وقد نزلت آية ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾ في موضوع زيد بن حارثة وزواجه وطلاقه من زوجته ، فقد تحرج النبي من تنفيذ سنة الله أو شرع الله فنزلت هذه الآية ، ونستفيد منها أن السنة هي شرع الله ، وأن النبي هو أول من ينفذ هذه السنة ، ونحن بالتالي نقتدى بالنبي في طاعة سنة الله أو شرعه وأوامره ، وينبغي على المؤمن أن يعلم أنه لا فارق بين السنة والفرض لأنهما شرع الله الواجب التنفيذ، فالصلاة والزكاة والحج للمستطيع كلها سنن الله وفرائضه.
وعلماء التراث أطلقوا "السنة العملية" وهى الصلاة ــ على ما توارثناه من كيفية للصلاة عن النبي وقالوا بوجوبها وضرورة الالتزام بها وثبوتها بالقطع واليقين ــ وهذا صواب في الرأي . إلا أنهم أخطأوا حين نسبوا للرسول أحاديث قولية وقالوا بأنها السنة القولية ، فالسنة القولية للرسول هي فقط في القرآن وحديث القرآن وما تكرر فيه من كلمة "قل" . وأخطأوا أيضاً حين ناقضوا أنفسهم وجعلوا فارقاً بين السنة والفرض ، فجعلوا الفرض واجب التنفيذ مثل الصلوات الخمس وجعلوا السنة هي ما يزيد من نوافل على الصلوات المفروضة ، وقد تبين لنا أن السنة هي الفرض ولا فارق بينهما في حديث القرآن ولا في لغتنا العادية حين نقول "سنّ قانوناً".
وبعد هذا التوضيح سيستمر التساؤل: أليست للرسول سنة.؟ ويستدرك السائل حين يتذكر عنوان البحث "سنة الرسول هي القرآن فقط" فيُحَـوِّر السؤال "أليست للرسول سنة خارج القرآن؟؟".
والإجابة في القرآن يقول تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (الأحزاب 21) فلم يقل الله تعالى: "قد كان لكن في رسول الله سنة حسنة" وإنما قال "أسوة حسنة".
فالسنة لله لأنها شرع الله وأوامر الله ، أما الاقتداء والتأسى فبالرسول في تطبيقه العلمي لسنة الله وشرع الله.
على أنه من المفيد أن نستزيد فهماً للآية الكريمة والسياق الذى جاءت فيه ، فقد نزلت الآية في التعليق على غزوة الأحزاب وفى سورة الأحزاب ، وقد كان أهل المدينة عند حصار الأحزاب لهم فريقين: المنافقون وأشياعهم وقد تخاذلوا ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ (الأحزاب 12) ثم المؤمنون الذين تماسكوا وثبتوا ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ (الأحزاب 22) وكان رسول الله عليه السلام هو القدوة لهم في الشجاعة والثبات لذا يقول تعالى عن موقفه هذا ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ وكان هناك من المؤمنين من تأسى بالنبي في هذه الشجاعة وفاق أقرانه فقال عنهم رب العزة ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب 23)
إذن فالتأسى بالرسول في هذه الآية كان في سياق قصة وفى موقف محدد. ويؤكد ذلك أن الله تعالى أمر الرسول محمداً والمؤمنين بالتأسى بإبراهيم والذين معه حين تبرءوا من قومهم ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... ﴾.. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ..﴾ (الممتحنة 4، 6) فقال تعالى يحدد الموقف الذى ينبغي التأسى بهم فيه ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ ﴾ ولم يجعل التأسى بهم مطلقاً..
إن الاقتداء والتأسى يعنى الاتباع ، ولا يكون الاقتداء والتأسى على إطلاقه إلا بكتاب الله ،والله تعالى كما أمرنا بالتأسى برسول الله محمد في موقف معين فإنه أمر النبي نفسه بالاقتداء بهدى الأنبياء السابقين فقال ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾(الأنعام 90) فلم يقل تعالى "فبهم اقتده" وإنما قال﴿فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾.
ولم يأمر الله خاتم النبيين بالاقتداء والاتباع لإبراهيم وإنما أمره باتباع "ملة إبراهيم" والملة هي دين الله ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾ (النحل 123)
إن الاقتداء والتأسى إنما يكون بشرع الله وسنة رسوله ، وهكذا كان يفعل النبي.. والأنبياء هم القدوة الذين نقتدى بهم في مواقف حكى عنها رب العزة وهو وحده الأعلم بهم وبأسرار حياتهم.
إن سنة الرسول هي القرآن شرع الله..
والله تعالى نسأل أن نعيش على سنة الرسول وأن نموت عليها..

5 ـ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ

 يحلو لبعض الناس أن يسئ  ـــ عــن عـمـد  ـــ فهم هذه الآية ليلوى معناها ويقطعها عن السياق ليستدل بها على مشروعية المصادر الأخرى التي أضافوها للقرآن الكريم ، وحتى نفهم المدلول الحقيقي لقوله تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ..﴾ ينبغي أن نقرأ الآية من أولها ونراها تتحدث عن الفيء - أو ما يفئ إلى بيت المال بلا حرب ولا قتال ، يقول تعالى ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ  لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً..﴾ (الحشر 7: 8)
فالآية تتحدث عن الفيء وتوزيعه على الفقراء والمحتاجين دون الأغنياء وتقول للمؤمنين: وما آتاكم الرسول من هذا الفيء فخذوه وما نهاكم عنه من التطلع إلى ما ليس من حقكم فانتهوا عنه ، ثم تبين الآية التالية استحقاق الفقراء المهاجرين لهذا الفيء بعد أن تركوا أموالهم وديارهم.
وقد كانت عادة سيئة للمنافقين في المدينة أن يربطوا رضاهم عن الإسلام بمدى استفادتهم المالية منه مع أنهم أغنياء نهى الله النبي عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم (التوبة 55، 85) ومع هذا الغنى كانوا يزاحمون الفقراء في الحصول على الصدقات وقال تعالى عنهم ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ  وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ  إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ..﴾ إلى آخر الآية (التوبة 58: 60)
وهذه الآيات من سورة التوبة توضح المعنى المقصود لقوله تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ فشأن المؤمن أن يرضى بما آتاه الرسول ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ..﴾.
وشأن المنافق أن يطمع فيما ليس حقاً له وألا ينتهى عن طمعه.
وقد أبان رب العزة مستحقي الفيء في سورة الحشر ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾.
وأوضح بالتحديد مستحقي الصدقات في سورة التوبة ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ..﴾ (الآية 60) وفى الموضعين كان الحديث عما يؤتيه الرسول للمؤمنين وعليهم أخذه والرضا به والانتهاء عما نهى عنه ، ولنتذكر هنا أنه عليه السلام كان يحكم بالقرآن بين الناس ، وهذا يدخل فيه توزيع الفيء والغنائم والصدقات طبقا لما جاء في الكتاب الحكيم.
وقد يقال في الرد علينا أن القاعدة الأصولية تقطع بأن خصوص السبب لا يمنع عموم الاستشهاد ، فإذا كانت الآية تتحدث عن الفيء فإن قوله تعالى فيها ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ عامة في وجوب الأخذ بما آتانا به الرسول وبوجوب الانتهاء عما نهانا عنه..
ومن السهل الرد على هذا الاحتجاج بما تعنيه كلمة الرسول في القرآن وبوجوب طاعته لأنه في أقواله يقرأ القرآن ، والرسول ــ كما سبق بيانه ــ هو نبي الله حين ينطق بالقرآن أو هو القرآن بعد موت النبي. إذن فقد جاءنا الرسول بالقرآن وعلينا التمسك به ، والله تعالى يقول ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ..﴾ (الزمر 41) فهذا الكتاب هو الذى نزل على الرسول لنا، وهو ما آتانا به الرسول وعلينا أخذه والتمسك به.
وأما ما نهانا عنه الرسول ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ فهو كتابة غير القرآن ومحو كل مكتوب في الدين خارج كتاب الله.

6 ـوهذا ما جاء فى أحاديثهم هم ..ونستشهد بها للرد عليهم بكتبهم وأحاديثهم :
روى أحمد ومسلم والدارمي والترمذي والنسائي عن أبى سعيد الخدري قول الرسول "لا تكتبوا عنى شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنى غير القرآن فليمحه" وأخرج الدارمي- وهو شيخ البخاري- عن أبى سعيد الخدري أنهم "استأذنوا النبي في أن يكتبوا عنه شيئاً فلم يأذن لهم". ورواية الترمذي عن أبى سعيد الخدري تقول: أستاذنا النبي في الكتابة فلم يأذن لنا.
وروى مسلم وأحمد أن زيد بن ثابت- أحد مشاهير كتاب الوحى- دخل على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنساناً أن يكتبه فقال له زيد: "أن رسول الله أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه ، فمحاه معاوية".
وقد وردت أحاديث تفيد الإذن بكتابة بعض الحديث مثل "اكتبوا لأبى شاه" وما ورد أن لابن عمرو بعض كتابات وأدعية في الحديث ، ولكن المحققين من علماء الحديث رجحوا الأحاديث التي نهت عن كتابة الحديث خصوصاً وأنه لا يعقل أن ينهى النبي عن شيء ثم يأمر بما يناقضه ، ثم ــ وهذا هم الأهم ــ فإن النبي عندما مات لم يكن مع الصحابة من كتاب مدون غير القرآن الكريم.
وبعضهم حاول التوفيق والمواءمة بين الأحاديث التي تنهى عن كتابة غير القرآن وبين الحديث الذى يفيد كتابة بعضهم بقوله بأن المراد حتى لا تلتبس الأحاديث بالقرآن.
وهذه حجة لا تستقيم مع إعجاز القرآن الذى يعلو على كلام البشر والذى تحدى به الله العرب فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، وذلك القرآن المعجز للعرب كيف يخشى أحد عليه من أن يختلط به شيء آخر؟..
إن الثابت أن رسول الله لم يترك بعده سوى القرآن.
والبخاري يعترف في أحاديثه بأن النبي ما ترك غير القرآن كتاباً مدوناً. يروى ابن رفيع: "دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال له شداد بن معقل: أترك النبي من شيء؟ قال ما ترك إلا ما بين الدفتين. أي القرآن في المصحف". قال "ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين" (البخاري 6/234. ط. دار الشعب).
ويؤكد أن النبي نهى عن كتابة غير القرآن أن الخلفاء الراشدين بعده ساروا على طريقه فنهوا عن كتابة الأحاديث وعن روايتها..
فأبو بكر الصديق جمع الناس بعد وفاة النبي فقال: "إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافاً فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه" وهذا ما يرويه الذهبي في تذكرة الحفاظ. ويروى ابن عبد البر والبيهقي أن عمر الفاروق قال "إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً. ورواياته البيهقي "لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً" وروى ابن عساكر قال "ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق.. فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟.. أقيموا عندي لا والله لا تفارقوني ما عشت.. فما فارقوه حتى مات".
وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ أن عمر بن الخطاب حبس أبا مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري فقال: "أكثرتم الحديث عن رسول الله"، وكان قد حبسهم في المدينة ثم أطلقهم عثمان.
وروى ابن عساكر أن عمر قال لأبى هريرة: "لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس- أرض بلاده- وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول ــ أي أبى هريرة ــ أو لألحقنك بأرض القردة" وكذلك فعل معهما عثمان بن عفان.
وأكثر أبو هريرة من الحديث بعد وفاة عمر إذ أصبح لا يخشى أحداً وكان أبو هريرة يقول "إني أحدثكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة ــ وفى وراية لشج رأسي ــ ويروى الزهري أن أبا هريرة كان يقول: "ما كنا نستطيع أن نقول قال رسول الله حتى قبض عمر، ثم يقول أبو هريرة: أفـكـنـت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذن لأيقنت أن المخفقة ــ العصا ــ ستباشر ظهري فإن عمر كان يقول: "اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله".
وقال رشيد رضا في المنار يعلق على ذلك "لو طال عمر (عمر) حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة".
ونكتفى بهذا لإثبات أن النبي أتانا بالقرآن ونهانا عن غيره، وأن كبار الصحابة ساروا على نهجه في التمسك بالقرآن وحده، وأن تدوين تلك الأحاديث المنسوبة للنبي كان ولا يزال معصية للنبي ومخالفة لأمره حسب ما يروون هم في كتبهم ، وأن ذلك التدوين المخالف لشرع الله تعالى ووصية نبيه الكريم لم يبدأ إلا في القرن الثالث، بعد وفاة النبي بقرنين من الزمان.

وهنا نتساءل..

إذا كانت تلك الأحاديث جزءاً من الإسلام كما يدّعون وقد نهى النبي عن كتابتها أليس ذلك اتهاماً للنبي بالتقصير في تبليغ رسالته؟ وهل يعقل أن تكون الرسالة الإسلامية ناقصة وتظل هكذا إلى أن يأتي الناس في عصر الفتن ليكملوا هذا النقص المزعوم؟
إن الذى نعـتـقـده أن النبي عليه السلام قد بلغ الرسالة بأكملها وهى القرآن ونهى عن كتابة غيره، أما تلك الأحاديث فهي تمثل واقع المسلمين وعقائدهم.. وتمثل في النهاية تلك الفجوة الهائلة بين الإسلام وبين المسلمين..