محمد عبد الوهاب:
موسيقار الأجيال

محمد حسين Ýí 2008-11-26


العلم لا وطن له ، أما الفن فله وطن ، ولكل وطن فنه.

صاحب تلك الجملة هو هرم فنى شامخ ، سبحت الحانه فى فضاء الفن كالنجوم المنثورة تزين سماء الموسيقى المصرية. هو صاحب اللحن الذى شدى به كل مغرد فى مصر وما حولها ، هو صاحب النغمة التى تراقصت على أوتارها آذان المصريين على مر ما يقرب من قرن كامل من الزمان ، هو صاحب الصوت الساحر الذى يأخذك فى موكب أشبه بموكب كليوباترا ، تسبح بك مركب فنه على أمواج النهر الخالد ، ويجدف بك مارا بكل جندول به ، حتى يصل بك الى أعالى المحروسة كى يقدم الي&szlzlig; ترانيما فرعونية ذات طابع أسطورى منقوشة على جدران شاهد الحضارة المصرية ، الكرنك.


حيثما يذكر إسمه يذكر الفن والموسيقى والطرب ، حمل على عاتقه حمل الموسيقى المصرية فتغنت على الحانه اعذب الاصوات جيلا بعد جيل ، حتى إستحق عن جدارة لقب ... موسيقار الأجيال. 

هو محمد محمد أبو عيسى عبد الوهاب ، الذى شهد باب الشعرية يوم مولده فى الثالث عشر من مارس لعام 1902. ابوه الشيخ محمد أبو عيسى ، المؤذن والقارئ بجامع سيدى الشعرانى بحى باب الشعرية. أنجبته أمه فاطمة حجازى كولد أوحد بين أختين.
وكعادة قاطنوا الاحياء الشعبية ، أراد الشيخ محمد أبو عيسى لإبنه أن يلتحق بكتاب فى الحى ، وفضل أن يكون هذا الكتاب هو ذاته الذى بالجامع الذى يؤذن ويقرئ فيه حتى يشرف عليه بنفسه. فقد كان حلم أبوه ان يصبح محمد من الدارسين فى الأزهر وان يتخرج منه حتى يخلفه فى وظيفته مقرئا ومؤذنا فى نفس المسجد. 

لكن روح محمد الإبن ، ورغم تعلمه القرآن وحفظه للعديد من أجزائه ، أبت أن تستمر فى هذا المجال ، ذاك أنه كان شغوفا بالموسيقى والفن ، وكان مستمعا اكثر من جيد لعمالقة هذا الزمن فى الغناء المصرى ، كالشيخ سلامة حجازى وصالح عبد الحى وغيرهم. حتى أنه كان يتردد بين الحين والآخر على الموالد والأفراح ، تاركا آذانه تتلاعب بها أصوات هؤلاء ، فتزيد من ولعه بالفن ، وتؤجج بداخله حبه للموسيقى والغناء. فحفظ أغانيهم عن ظهر قلب وبات يرددها بين المقربين خفية ، خشية ان يعلم والده هذا الحب المحرم فيقطع عليه حبل الوصال بينه وبين محبوبه ومعشوقه الأول ، الفن. لكن ما لبثت اسرته ان عرفت بما يحدث وبما يجول بخاطره ، فباتت تعاقبه على هذا الفعل وتنهره بشدة قدر الإمكان ، حتى قرر محمد الهروب مع المعشوق. 

قابل فى أولى خطوات طريقه الفنى الأستاذ محمد فوزى الجزايرلى صاحب فرق الجزايرلى الشهيرة آنذاك ، والذى إستمع لصوته فأعجب به وعرض عليه العمل معه فى فرقته. فلم يتردد محمد عبد الوهاب والذى فرح بشدة لهذا العرض ، ووافق على الفور بأن يغنى مقابل خمسة قروش فى الليلة ، وكان يشدو على المسرح أغانى الشيخ سلامة حجازى. ورغم استعارته "محمد البغدادى" أسما له بغية التخفى لئلا يعلم عنه اهله ولا عما يفعل شيئا ، إلا أن الرياح تأتى أحيانا بما لا تشتهى السفن. فقد عرفت أسرته طريقه وأزدادت إصرارا على عودته رغم كونه مطربا أساسيا فى الفرقة بدأ يبزغ نجمه. فما كان منه إلا أنه فر قاصدا الرحيل حتى عثر فى طريقه على سيرك بدمنهور وافق صاحبه أن يعمل محمد به مغنيا. لكن الحظ استمر فى معاندته لهذا الصوت البراق ، فبعد بضعة أيام تم طرده لرفضه ان يعمل أى شئ آخر سوى ان يكون مطرباً. 

ولم يجد محمد بدا آخرا سوى ان يعود والحزن يحيطه إلى أسرته مرة أخرى ، والتى وافقت على رجوعه بعد ان ذهب محمد لبعضهم قاصدا الوساطة بينه وبينهم. وبعد فترة من المحايلة تبسم الحظ له مرة أخرى ، فقد رضخت أسرته أمام هذا الالحاح ان يعمل محمد مطربا ، ولكن تلك المرة نجح فى أن يعمل بفرقة الأستاذ عبد الرحمن رشدى ، والتى كانت تقوم أعمالها على خشبة مسرح "برنتانيا" ، وكان المقابل تلك المرة "ثلاثة جنيهات" شهريا. وبهذا الصوت الفريد من نوعه استوطن قلوب المستمعين شاديا بصوته نفس الأغانى الراسخة بوجدانه ، والتى حفظها عن ظهر قلب للشيخ سلامة حجازى. 

وبمداعبة غير لطيفة من الحظ مرة أخرى تعثر محمد مرة أخرى فى طريقه الفنى ، إذ كان بين الحضور ذات ليلة أمير الشعراء أحمد شوقى ، وكان محمد يشدو بصوته على المسرح ، فما كان من أمير الشعراء الا أنه قام قاصدا حكمدار القاهرة ، والذى كان انجليزى الجنسية ، بغية منع محمد من الغناء خوفا على صوته ، فقد كان محمد آنذاك لم يتعدى الستة عشر عاما من العمر. لكن فشل أمير الشعراء فى مقصدى إذ انه لم يكن ليوجد قانون يمنع القصر ان يغنوا. ولكن نفوذ أمير الشعراء انجحته فى أن يأخذ تعهدا من فرقة الأستاذ عبد الرحمن بأن لا يغنى محمد عبد الوهاب لها مرة أخرى ، وبحزن شديد فارق محمد الفرقة ، وبنفس الحزن فارقته الفرقة. 

وأشار عليه المقربون بأن يقصد معهد الموسيقى ، وكانت خطوة فارقة فى حياته. فقد تم قبوله بالمعهد الذى عن طريقه تعلم العود على يد عملاق الموسيقى المصرية "محمد القصبجى" ، وتعلم فى المعهد فن الموشحات الذى كان يهواه محمد بشدة.
وبرع محمد ايما براعة ، لدرجة انه تم قبوله بمدرسة الخازندار مدرسا للأناشيد بها. لكن حب محمد للغناء جعله يترك ذلك بعد ان فتح له باب العمل بفرقة الأستاذ "على الكسار" ، لكن تلك المرة ليس مطربا ، وانما منشدا من ضمن المنشدين فى كورالها.
إلى ان أتم عامه التاسع عشر ، ذهب محمد الى فرقة الريحانى التى كانت من أهم وأشهر الفرق آنذاك. وارتاد معها بلاد الشام ورحلاتها الأخرى. حتى عاد وقد اشتد إقتناعه بأنه لزاما عليه ان يكمل تعليمه فى معهد الموسيقى ، فترك الفرقة وذهب بما يحوزه من مال جمعه فى العمل مع فرقة الريحانى كى يكمل تعليمه. 

إلى ان قابل هرما غنائيا مصريا ، هو العملاق سيد درويش. غنى أمامه ولم يكن لسيد درويش الا ان يعجب بهذا الصوت ، فعرض عليه فورا ان يعمل لديه بفرقته الموسيقية ، والمقابل تلك المرة كان اكثر بكثيرا مما كان يتقاضاه سابقا ، فقد رأى سيد درويش فيه ما لم يراه الاخرون لدرجة انه عرض عليه خمسة عشر جنيها ويزيد فى الشهر. فرح محمد عبد الوهاب فرحا شديدا ولم يصدق نفسه فى انه بجانب هذا العملاق يعمل بفرقته ويتقاضى هذا الاجر الكبير ، وكان عاملا أساسيا فى روياتين من روايات الفرقة "شهرزاد" و "الباروكة". 

وظل محمد عبد الوهاب على غير عادته السابقة فى ترك الفرق يعمل بفرقة درويش الى ان تعثرت الفرقة وفشلت ، ورغم الحزن الشديد الذى أصابه ، لم يفارق محمد عبد الوهاب عملاقنا سيد درويش ، فظلا معا ، يردد محمد الحانه ويشدو بما يشدو به سيد درويش. حتى غابت شمس سيد درويش عن الدنيا وفاضت روحه مفارقة الجسد ذو السن الصغير. وكانت تلك لحظة عسيرة على محمد عبد الوهاب ، فقد فارقه أكثر الفنانين تأثيرا فيه وفى ذوقه الفنى.

يتبع

اجمالي القراءات 11391

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   الأستاذ علي يعقوب     في   الخميس ٢٧ - يوليو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً
[86714]

الموسيقار والمطرب محمد عبد الوهاب لم يكن إبنا أوحدا


ورد في المقالة أن الموسيقار والمطرب محمد عبد الوهاب رحمه الله كان إبنا وحيدا بين أختين له، والصحيح أن محمد عبد الوهاب كان له أخ أكبر منه إسمه حسن، وقد ذكره عبد الوهاب وحكى كيف ضربه أخوه وربطه وجره من الحسين إلى بيتهم في باب الشعرية عندما اكتشف أنه كان يغني في مسرح فوزي الجزايرلي، وقد ذكر الفنان الراحل هذه الواقعة في أحد حواراته مع الأديب والمسرحي المصري سعد الدين وهبة رحمه الله. فاقتضى التنويه



شكرًا على الموضوع أخي الكريم ودمتم بخير.



أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2007-02-28
مقالات منشورة : 52
اجمالي القراءات : 758,271
تعليقات له : 110
تعليقات عليه : 154
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State