في رحاب فقه المقاصد..رؤية نقدية

سامح عسكر Ýí 2015-10-05


سؤال: ما الغاية من الفعل؟..وما الحكمة في التكليف؟..وما معنى الخير والشر؟..وما معنى الأديان؟..وما دلالة وجود الأشياء؟..وما علة وجودها؟..وهل يحق للإنسان أن يفعل ما يراه دون النظر إلى النتائج؟..فإذا كان فما حقيقة ومعنى الفعل إذا؟..وإذا لم يكن فلماذا كانت الأديان باعتبار أن قوامها العمل؟

في الفقه الإسلامي حاول الشيوخ الجواب على تلك الأسئلة دون أن يضيفوا لها بعداً علميا..وذلك عن طريق احتكار لغة خاصة بهم لا يعرفها البسطاء، ويُحرمون على غير المتخصصين- منهم- العمل بها، والسبب في نفي البعد العلمي لها أن هذه الأسئلة تختص أساساً بمقاصد الأديان، أو ما يعرفه المسلمون بمقاصد الشريعة، فكل إنسان متدين من حقه أن يفكر ويبرر معتقده كما يراه..كي تطمئن إليه جوارحه ويتيقين به عقله وترتاح له سرائره..

والإشكال الذي حدث هو أن الشيوخ –فقهاء المسلمين- لا يرون الدين كما يراه بقية العلماء أو العوام..فالشيوخ يرونه علماً وحقيقة نظرية تكشف وتساعد على تقويم الحقيقة العملية، هذه الحقائق النظرية تعني أن علاقتهم بالجمهور هي علاقة (المفتي بالمستفتي) بل وضعوا شرط في المستفتي أن يكون مقلداً لهم كما قال الجويني في الورقات .." ومن شروط المستفتي أن يكون من أهل التقليد"..(1/30) يعني لا يكون من أهل الشك والنقد..ويجب عليه التسليم بصحة الفتوى وتقليدها، ولو كان يقصد معنىً آخر لقال.." ومن شروط المستفتي أن يكون من أهل السؤال"..!!!..بينما بقية العلماء –المفكرين منهم والمتخصصين في علوم أخرى- إضافة للعوام يرون أن الدين هو (تجربة شخصية) بمعنى أن دينهم يخصهم وحدهم..لا علاقة للآخر به، لأن الدين في بداهته علاقة ثنائية بين العبد وربه، وعليه فلا وجود لطرف ثالث كي يتدخل في تلك العلاقة...

ربما فطن إلى ذلك العلماء والعرفاء..أما العوام فالأغلبية منهم لا تملك المنطق العلمي والحسّ النقدي..فوقعوا أسرى لمنطق الشيوخ وباتوا على قناعة أن الدين لا يحق الحديث فيه إلا لمجموعة محددة..هذه القناعة هي التي خلقت من قبل (مبدأ الكهانة) الذي تسرب إلى كل الأديان، بيد أن الأديان كلها تملك تلك الظاهرة التي باتت معروفة برجال الدين، وأصبح لزاما على المتدين أن لا يتكلم أو يفعل إلا بإذن هذه المجموعة، فأصبح الدين بدلاً من كونه علاقة ثنائية بين العبد وربه..أصبح علاقة جماعية يحكمها (المفتي) أو رجل الدين..فحدث نوع من سوء التنظيم في العلاقة أدى لظهور الأديان في الأخير مجرد إجراء شكلي هدفه إرضاء رجال الدين أو نخبة من المجتمع..وهو ما عُرف عند البعض بتحوّل الدين من كونه ظاهرة عقلية وروحية إلى كونه (ظاهرة اجتماعية) 

ولكون الظواهر الاجتماعية ترصد حقائق المجتمع الطبقي تحول الدين إلى (ظاهرة طبقية) ساد فيها الظلم الاجتماعي والسياسي، احتكر الشيوخ فيها لغة وسلوكيات خاصة بهم وضعتهم على رأس هذا المجتمع، وهي الظاهرة التي أنشأت بعد ذلك ظواهر (السحرة والدجالين والمشعوذين) فالدجال بالأصل يتحدث بلغة الدين/ أو الشيوخ، وهو لم يفعل ذلك إلا كون الدين في ضمائر الناس مجرد ظاهرة اجتماعية يتحكم فيها الناس بناءً على رأي المفتي، في حين لو سلمنا (بعقلانية الدين) يُصبح معها الدجال مجرد شخص مدعي لا قيمة له أمام (السؤال والتفكير العلمي)..

ولاختصار ما سبق أشبّه الدين في مجتمعاتنا بعمارة سكنية بناها عمال ومهندسون..بعد الانتهاء من عملية البناء يقف العمال أمام العمارة باندهاش..هل هم الذين أنتجوا هذا العمل المعماري الرائع؟..السؤال كونهم يفتقدون أسس وتعاليم الهندسة..فكان اندهاشهم أنهم أنتجوا عملاً لا يفقهون أسراره..فما بالك ببقية العوام الذين يرون نفس العمارة؟..سيكون اندهاشهم مضاعفاً خصوصاً لو كان هذا العقار يتميز بلمحة فنية وهندسية ، فالعامل مهما كان هو مشارك في هذا البناء وربما اطلع على بعض التفاصيل والأعمال الهندسية..وهو وإن كان يجهل أسرارها إلا أنه رآها..أما العامي فلا يفقه شيئاً مما سبق..وكل ما يفعله هو أن يبادر أحدهم بشراء وحدة سكنية في هذا العقار ..

هذه طبيعة الدين في أذهان البعض..يرى أن الدين مجرد عمل مكتمل البناء..لا يفقه أسراره سوى الشيوخ/ المهندسين، وهو وإن كانت لديه فرصة العمل في البناء إلا أن لديه قناعة بصعوبة امتلاكه لفنون الهندسة/ المشيخة..!

وعليه فلو أراد المهندسون/ الشيوخ هدم العمارة/ الدين لن يمنعهم شئ، ولو وضع أحدهم لَبِنة مغشوشة.. أو طابقاً غير مطابق للمواصفات ..أو أخطأ أحدهم في تقدير فنيات العقار..يصبح معها الدين/ العمارة آيلة للسقوط، ولن يستطيع العوام فعل شئ..لأن العقار في النهاية لم يكن ملكهم وليست لديهم القدرة على إنشاءه أو التحكم فيه أو إصلاح ما أفسده الآخرون..

هذه الصورة السلبية للدين تعني أن الجماهير تراه كياناً مستهلكاً قوامه (المادة) لأن احتكار الشيوخ سر البناء يعني وجود حاجز روحاني وعقلاني يمنع الإحاطة بدقائق وتفاصيل البناء..ولو قام أحدهم بهدم الحاجز الروحاني- مثلاً- سيرى الدين ليس مجرد عمارة مجهولة بل سيراه تجربة بنائية ذاتية كما لو كان يبني حجرة في منزله، وبالتالي ستكون لديه أسرار هذه الحجرة بل وأحقية التصرف فيها كيفما يشاء.. ولو هدم الحاجز العقلاني سيرى أن العمارة يجب أن يطلع على أسرارها الجميع، وهو بذلك يطالب أن لا يكون الدين حِكرا خاصاً بالشيوخ بل سيظل يسأل عن ماهية البناء حتى يعرف الجواب..

هذه كانت مقدمة للحديث عن (فقه المقاصد) وقد كانت هذه المقدمة ضرورية لاستيضاح ماهية الدين في العقول قبل الحديث عن المقاصد التي أعتبرها جزءاً لا يتجزأ من طبيعة الدين لدينا، وبتعريف هذه المقاصد سنرى أن صورها ستختلف حسب تصور البعض لدينه..وليس للمقصد نفسه..وهذا يعني أنه قبل البحث في موضوع المقاصد يجب البحث أولاً في ماهية الدين في الأذهان، أما أن الشيوخ راعوا ذلك سنرى في الجزء الثاني

اجمالي القراءات 8590

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-09-25
مقالات منشورة : 788
اجمالي القراءات : 7,609,013
تعليقات له : 102
تعليقات عليه : 411
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt