ابن شهاب الزهري في الميزان (3)

سامح عسكر Ýí 2014-06-25


ألف باء سياسة عندما تريد أن تجمع الناس حولك فكُن معهم نزيها ، عليك أن تُكثر من استخدام العبارات الدينية، وعندما تريد القتال فاشحنهم من المنطق الديني، وقتها ستضمن ولاء الناس وأن تضحيتهم لشخصك أو لسلطانك لن تضرهم، هذا ما حدث من السلطة الأموية، كلما كانت تريد جمع الناس للقتال كانت تشحنهم من منطق الجهاد الديني، وبالطبع كانوا بحاجة لفقهاء يبررون ذلك المنطق لديهم، فشاع في زمن الأمويين القتال على أسس دينية، حاربوا الجميع من ذلك المنطق..سواء مسلمين.."خوارج وشيعة"..وغير مسلمين.."روم وفرس"..كان أي معارض لا يصمد أمام استخدامهم السافر للدين في السياسة.

سبق لنا الحديث أن الجهاد في القرآن نزل مفهوماً عاماً يتضمن كافة سلوكيات البشر الصالحة، فالإنسان الصالح هو من ضحى بشهواته وتخلى عن لذته إذا تعارض ذلك مع سعادة ومصالح الآخرين، هو منطق قرآني نبيل كان يزرع في النفس حب الإيثار والتضحية والصبر وأشياء أخرى، ولكن الأمويون لم يرتضوا هذه النتيجة، وحشروا مفهوم الجهاد في القتال والحرب وسلب الغنائم والسبايا والتجارة بهم في أبشع صور الاستغلال الآدمي منذ فجر التاريخ.

في صحيح البخاري عن الزهري قائلاً:

"حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم بمن يجاهد في سبيله، كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله، بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة»

الترجمة: تشبيه المقاتل بالصائم العابد القائم..هكذا كان القتال والحرب والغزو في عيون الزهري ورواة الحديث، لكن ما جذبني لمناقشته هو ما أراده الراوي من تصدير صورة.."النزاهة"..في قوله.."والله أعلم بمن يجاهد في سبيله"..وهذا التصدير يخص حديث الأعمال بالنوايا الذي افتتح به البخاري كتابه، وكانت لنا وقفة طويلة مع ذلك الحديث وعرضنا كيف رفضه الأحناف في عصره وحذروا من خطورة ذلك الحديث على أرواح وممتلكات الناس.

لو سألت أي قاعدي أو داعشي أو إخواني اليوم عن نيته في القتال سيعلن بلا تردد أنها لله وسيجهش بالبكاء خشيةً وتضرعاً له، وهذا ما فطن لخطورته أبو حنيفة أن القول بأن الأعمال بالنوايا هو تشريع لفعل القبيح بالنوايا الصالحة، وقتها أعلن على الملأ أن الأعمال ليست بالنوايا ولكن الأعمال بالظواهر، أما النوايا فهي لله يجزي بها حسب ما كان الفعل قبيحاً أم حسنا..

هنا سأترك الشيخ محمد محمود حجازي وهو من علماء الأزهر الشريف وصاحب تفسير.."الواضح"..للقرآن..سأتركه يرد على الزهري- وكافة رواة هذا الحديث- بقولهم أن الجهاد في سبيل الله يعني القتال قائلاً في تفسير قوله تعالى.."ومن جاهد فإنما يُجاهد لنفسه"(العنكبوت 6):

"نزلت هذه الآيات في قوم من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام كسلمة بن هشام. وعياش بن أبى ربيعة. والوليد بن الوليد.وعمار بن ياسر. وياسر أبوه وسمية أمه، فكانت صدورهم تضيق بذلك وربما استنكر بعض الناس أن يمكن الله الكفار من المؤمنين!..(التفسير الواضح 2/856)

أي أن الآية مكية ولم يشرع القتال في هذه الحقبة، ومعنى كلام الشيخ حجازي أن الجهاد المقصود يعني الصبر على البلاء وأن من جاهد نفسه عن ضيق صدره فهو يُجاهد لمصلحته ومنفعته، لأنه في الآخرة من الفائزين..

والدليل على ذلك ما قاله الزحيلي في التفسير الوسيط قائلاً:

"ومن جاهد نفسه وهواه، فقام بالأوامر، واجتنب النواهي، فإن ثمرة جهاده عائدة له، ونفع عمله راجع لنفسه لا لغيره. وهذا إعلام بأن كل أحد مجازي بفعله الحسن، وأن نفع الطاعة للإنسان ذاته لا لله تعالى، لأن الله غني عن جميع العالمين من إنس وجنّ، لا تنفعه طاعة، ولا تضّره معصية، ثم أخبر الله تعالى عن ثواب المؤمنين المجاهدين الذين هم في أعلى رتبة، وهو أحسن الجزاء: يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم بأحسن ما عملوا، فيقبل القليل من الحسنات، ويثيب على الحسنة بعشرة أمثالها"..(3/1948)

كلام المفسرين واضح أن الجهاد في القرآن يشمل معاني الصبر والوفاء للدين، وهذا خلاف ما قرره المحدثون أن الجهاد في القرآن يعني القتال.هذا غير صحيح، بدليل آخر من سورة النحل قال تعالى.." ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم"..(النحل 110)..لاحظ عطف جاهدوا وصبروا بما يعني أن الجهاد في الآية يعني الصبر على البلاء.

لكن هذا الكلام لم يُعجب رواة الحديث كالعادة حيث ثبت تشريعهم للجهاد تحت عناوين القتال والحرب –في هذا الحديث - من وجهين:

الأول: تشبيه المجاهد بالصائم القائم، بينما الصيام والقيام في أصلهما جهاد ومقاومة للنفس وللغرائز، والتشبيه هو ما بين مختلفين وهذا إقرارُ بأن مقصود الزهري والبخاري- وكافة رواة الحديث- هو أن الجهاد في سبيل الله يعني القتال والحرب والغزو.

الثاني: ربط ذلك الجهاد المزعوم بالأجر والغنيمة، وهما نفعُ مادي يُصبه المقاتل جراء سيطرته أو انتصاره على عدوه.

الآن ماذا يقول الزهري وابن المسيب وأبا هريرة والبخاري...إلخ...في حملات الصليبيين على أرض العرب ؟!..ألم يكن ذلك قتالاً مقدساً تحت عناوين الجهاد باسم المسيح ؟..ألم يَدُر بخُلدهم ما كان عليه المسلمين في الفتنة الكبرى كل فريقٍ يرفع راية الجهاد ؟!..ألم يروا الخوارج بأعينهم وهم يرفعون راية الجهاد باسم تحكيم الله ؟!..ألم يروا الشيعة وهم يُقاتلون نُصرةً للرسول وآل بيته من بطش أعدائهم الأمويين ؟!...ألم يعوا أن مجرد تشريعهم للجهاد بالنية أن ذلك قولاً بوجوب القتال والحرب الدائمين في حياة البشر ؟

لا شك أننا نجني ثمار تلك الروايات في عصرنا هذا تحت عناوين الجهاد والأجر والغنائم، لقد رأى المسلمون والناس أجمعين ما يفعله الإرهاب في العالَم كان عن جهادِ ونية، إنهم فضّلوا الانتحار على الحياة بدعوى الجهاد والنوايا الصالحة..أرأيتهم يقتلون أنفسهم وهم سعداء ؟!..لقد أخطأوا في نسب دعواهم للدين، والسبب هو تلك الروايات الحمقاء المنسوبة زوراً للنبي وتملأ في جُعبتها من التناقضات والتعارضات ما يكفي لهدمها شرعياً ومنطقيا، ولكنها النفس الأمّارة بالسوء.

اجمالي القراءات 7335

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-09-25
مقالات منشورة : 788
اجمالي القراءات : 7,983,285
تعليقات له : 102
تعليقات عليه : 410
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt