أزمة إفلاس البنوك.. بوادر مخيفة للانهيار الاقتصادي الكبير

اضيف الخبر في يوم الإثنين ٢٩ - مايو - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الجزيرة


أزمة إفلاس البنوك.. بوادر مخيفة للانهيار الاقتصادي الكبير

أعاد إفلاسُ بنك “سيليكون فالي” في الولايات المتحدة شهر مارس/ آذار 2023، إلى الأذهان شبحَ الأزمة الاقتصادية لسنة 2008، خصوصا أن اضطرابات القطاع المصرفي لم تقتصر على هذا البنك، بل امتدت إلى بنوك أخرى في الولايات المتحدة وخارجها، ورافق ذلك ضغط كبير على سيولة البنوك التجارية ومؤسسات الإقراض المالي.

ورغم تدخل الحكومة الأمريكية السريع لطمأنة الأسواق العالمية بمحدودية أزمة “سيليكون فالي”، فإن تداعياتها استمرت في الولايات المتحدة، بإعلان مصارف أمريكية أخرى إفلاسها بعد ذلك من بينها “سيغنيتشر بنك” و”فيرست ريبابليك” وغيرها.

وقد دفع أيضا هذا الوضع المقلق البنوك المركزية الرئيسية حول العالم، بما في ذلك البنك المركزي الأوروبي والبنك الوطني السويسري، إلى اتخاذ إجراءات مستعجلة لتهدئة المخاوف، لاسيما أن الأزمة في الولايات المتحدة تزامنت مع إفلاس بنك “كريدي سويس” في سويسرا.

ووُصفت هذه الأحداث المتتالية بأنها الأصعب في القطاع المصرفي العالمي منذ الأزمة المالية 2008، ويقول خبراء إنها مجرد جرس إنذار للانهيار الكبير القادم، مع استمرار ارتفاع نسب التضخم العالمية، ومواجهة ذلك بتشديد السياسة النقدية من طرف البنوك المركزية الرئيسية، ورفع معدلات الفائدة الرئيسة.

هل تسبب الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في انهيار المصارف الأربعة؟
فما هي إذن الأخطار التي تهدد الأنظمة المالية العالمية في الوقت الراهن؟ وهل تسبب فعلا الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في انهيار أربعة مصارف خلال شهر واحد؟ وما الانعكاسات المحتملة لسياسة رفع سعر الفائدة الرئيسي على استقرار القطاع المصرفي؟ وهل سيتحمل العالم أزمة اقتصادية أخرى بعد كل هذه الاضطرابات التي بدأت بأزمة كوفيد 19، وتستمر اليوم مع الحرب الروسية الأوكرانية؟

بنك سيليكون فالي.. سند الشركات التقنية الناشئة يسقط
أثار إفلاس “بنك سيليكون فالي” (SVB) شهر مارس/ آذار 2023 ذعرا في الولايات المتحدة وحول العالم، بسبب سرعة انهياره المفاجئة للجميع، فالبنك يعمل منذ 1983 مع الشركات التكنولوجية الناشئة التي تحقق معدلات نمو سريعة، كما أن أصوله تضاعفت 4 مرات تقريبا بين عامي 2018-2021، بالإضافة إلى تصنيفه في نهاية 2022 في المركز السادس عشر ضمن أكبر المصارف في الولايات المتحدة.

إفلاس بنك سيليكون فالي بخسارة تقدر بـ209 مليارات دولار
وقبل إفلاسه كانت قيمة أصول البنك تقدر بـ209 مليارات دولار، بينما تجاوزت قيمة ودائعه 175 مليار دولار، مما جعله أكبر بنك يتعرض للإفلاس في الولايات المتحدة منذ 2008، حين رفع “بنك واشنطن ميوتشوال” (Washington Mutual Bank) الراية البيضاء في سياق الأزمة المالية العالمية.

وتفاقمت محنة بنك “سيليكون فالي” منذ بداية 2023، بسبب قرارات البنك الفيدرالي الأمريكي المتتالية برفع معدل الفائدة الرئيسي لكبح جماح التضخم، مما أدى إلى ارتفاع حاجات بنك التجزئة إلى السيولة لتغطية الفجوة في الميزانية، ثم لجأ في النهاية إلى أسواق التمويل، وطرح سندات وأسهما في الثامن من مارس/ آذار 2023، لكنه لم يستطع جمع المبلغ المستهدف المقدر بـ2.25 مليار دولار.

ورغم أن انهيار “بنك وادي السيليكون” شكل صدمة لكثيرين، فإن الاحتياطي الفيدرالي وجه تحذيرا سابقا للبنك بسبب “سوء الإدارة”، وعدم قدرته على التعامل مع الشركات الناشئة التي تحقق نموا سريعا، لكنها أيضا قابلة للانهيار دون سابق إنذار.

تساقط البنوك.. مكعبات دومينو ضربتها الإجراءات المالية
كانت الشرارة التي أشعلت هذه الأزمة قد انطلقت من “بنك سيلفرغيت” (Silvergate Bank)، وهو مصرف صغير معروف أساسا لدى المتعاملين بالعملات الرقمية، إذ أدت موجة سحب للمودعين بمليارات الدولارات بدأت في الربع الأخير من العام 2022، إلى إعلان البنك إفلاسه وتصفية أعماله وإعادة ما بقي لديه من أرصدة.

إفلاس مجموعة بنوك أمريكية بعد إعلان إفلاس بنك سيليكون فالي
وتزامن إفلاس “بنك سيلفرغيت” مع تشديد الفيدرالي الأمريكي لسياسته النقدية واستمراره في رفع معدلات الفائدة، ثم صدور تقرير حول وضعية البنك أثارت قلق العملاء والمستثمرين، فباشروا عمليات سحب ضخمة لأموالهم من بنك الشركات الناشئة، سرعان ما أدت إلى انهياره وإغلاقه بأمر من السلطات الأمريكية.

اشترك في
النشرة البريدية
نأتيكم بآخر الأخبار من كل أنحاء العالم وقت حدوثها بدقة وحيادية
البريد الالكتروني
اشترك
عند قيامكم بالتسجيل، فهذا يعني موافقتكم على سياسة الخصوصية للشبكة
وهكذا بدأ تأثير “الدومينو” الذي شمل “بنك سيغنتشر” (Signature Bank)، فقد اضطرت السلطات لإغلاقه، وبعده جاء الدور على “بنك فيرست ريبابليك” (First Republic Bank) المصنف في المركز الـ14 ضمن أكبر المصارف الأمريكية، ليدخل بنك “جيه بي مورغان” على الخط معلنا استحواذه على “فيرست ريبابليك” فيما اعتبر خطوة لرسم مسار الخروج من الأزمة.

وقد تجاوز تأثيرُ هذه الموجة العنيفة من الإفلاس الحدودَ الأمريكية، ليعلن مصرف “كريدي سويس” السويسري (أسس قبل 167 عاما) عن أزمة سيولة، اضطر معها بنك “يو بي إس” (UBS) للتدخل عبر صفقة شراء، استحوذ خلالها على منافسه الأصغر “كريدي سويس”، في محاولة لتجنب وقوع اضطرابات إضافية في القطاع المصرفي العالمي. ليخرج بعد ذلك البنك المركزي الأوروبي لطمأنة المستثمرين والعملاء، بخصوص صلابة القطاع المالي في القارة العجوز.

أزمة العقارات.. لعبة هزت أقوى البنوك الأمريكية
يعود بنا التاريخ عند الحديث عن إفلاس البنوك إلى سنة 2008 في سياق الأزمة المالية التي اندلعت آنذاك، وقد وصفت بأنها الأسوأ في العالم منذ الكساد الكبير الذي حدث في عام 1929.

وكانت المصارف السبب الرئيسي وراء هذه الأزمة بسبب تمويلها لشراء العقارات بصفة مبالغ فيها، مستغلة الإقبال الكبير للمستثمرين في هذا المجال، لكن ذلك سرعان ما اتضح أنه مجرد فقاعة عقارية، انهارت بسرعة مع تخلف كثيرين عن سداد ديونهم، وحجز البنوك على عقاراتهم، قبل أن تبدأ مجددا رحلة البحث عن مشترين، مما أدى إلى انخفاض أسعار العقارات بشكل دراماتيكي.

وكانت أزمة الرهن العقاري هذه متزامنة مع توجه أكبر في الولايات المتحدة لشراء أسهم الشركات الإلكترونية والتقنية، فقد استقطبت المستثمرين ووجدوا فيها بديلا مربحا مقارنة بشراء العقارات. خصوصا أن خبراء ومحللين تنبؤوا منذ بداية الألفية الجديدة بوقوع أزمة مالية كبيرة بسبب الزيادة الجنونية في أسعار العقارات.

وكان من أبرز نتائج الأزمة، الانهيار الأكبر في التاريخ الأمريكي لبنك “ليمان براذرز” الاستثماري، بعد أن ترك أصولا بقيمة 691 مليار دولار، و25 ألف موظف في مهب الريح. ورغم تدخل السلطات الأمريكية وإنقاذها لمصارف أخرى مثل “غولدمان ساكس”، فإن الأزمة تسببت في انكماش اقتصادي حادّ بسبب توقف القروض، مما أدى إلى خسائر الأمريكيين لما يناهز 19 تريليون دولار، وما تلا ذلك من تدهور اقتصادي تجاوزت آثاره الحدود الأمريكية إلى باقي اقتصادات دول العالم.

سعر الفائدة.. كرة الثلج التي تدك المؤسسات المالية
تسبب توالي الأزمات منذ 2020 حين دخل العالم في إغلاق لم يسبق له مثيل بسبب جائحة كوفيد 19، ثم الغزو الروسي لأوكرانيا بداية 2022، في اتخاذ السلطات المالية حول العالم إجراءات نقدية مشددة، على رأسها رفع البنوك المركزية لسعر الفائدة الرئيسي، من أجل كبح التضخم الذي بلغ عام 2022 في عدد من الدول أعلى مستوياته في العقود الأربعة الماضية.

ففي الولايات المتحدة، رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة عشر مرات في غضون سنة واحدة، ليصل المعدل في مايو/ أيار 2023 إلى 5.25%، وهو أعلى مستوى منذ عام 2007. ورغم أن أسعار الطاقة انخفضت نسبيا مع نهاية مارس/آذار مقارنة مع النصف الثاني من 2022، فإن ذلك لم يكن كافيا لوقف المنحى التصاعدي لسعر الفائدة الرئيسي.

البنك الفيدرالي الأمريكي يرفع سعر الفائدة عشر مرات في غضون سنة واحدة
ويرى الفيدرالي الأمريكي أن إجراءاته تبقى مبررة، ويعول عليها لخلق نوع من الركود الاقتصادي، لأن رفع سعر الفائدة يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع تكلفة القروض، وتراجع الإقبال عليها، وزيادة الطلب على إيداع الأموال في البنوك، مما يساعد على امتصاص السيولة النقدية من السوق، ويؤدي نظريا لإبطاء الاستهلاك، وخفض الأسعار.

وأصبح غرق العالم في ركود اقتصادي متوقعا بحسب تقارير البنك الدولي ومؤسسات أخرى، بفعل هذه الإجراءات التي تشبه كرة الثلج المتدحرجة التي يكبر حجمها يوما بعد يوم، خصوصا أن حالات إفلاس البنوك الأمريكية زادت الوقع السلبي لرفع أسعار الفائدة بالنسبة للمصارف وعموم المستهلكين، وذلك رغم كل جهود الخروج من هذه الأزمة التي زادت من حدتها مشكلة أخرى في مايو/ أيار مرتبطة بـ”سقف الدين الأمريكي” وسط مخاوف من تخلف الولايات المتحدة، لأول مرة في تاريخها، عن سداد مستحقات ديونها.

أزمات الطاقة.. ظلال حرب أوكرانيا على الاقتصاد العربي
تختلف الصعوبات الاقتصادية التي تعيشها الدول بفعل الإجراءات الصارمة للبنوك المركزية، وتأثير تباطؤ النمو الاقتصادي، والأزمات العالمية المتتالية، خصوصا أن الحرب الروسية الأوكرانية دخلت عامها الثاني، من دون أي آفاق بقرب التوصل إلى تسوية للنزاع.

انهيار بنك سيليكون فالي في عام 2023
وما زالت اليوم أسعار الطاقة متذبذبة، وتعالت التحذيرات مجددا من شتاء قاس مرتقب في أوروبا مع نهاية 2023 في ظل توقف تدفق الغاز الروسي. كما أن اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود الذي ترعاه الأمم المتحدة يُجدَّد كل شهرين، وقد يؤدي أي تعثر في العملية إلى تفاقم أزمة الغذاء خصوصا في الدول الفقيرة، وتلك التي تضررت محاصيلها الزراعية بفعل توالي سنوات الجفاف.

وإذا كانت الدول الغربية قادرة على استيعاب أزمة التضخم بفعل القدرة الشرائية المرتفعة، وصرفها لقرابة الـ800 مليار يورو خلال العام 2022 بهدف مساعدة شعوبها، فإن دول الجنوب في المقابل تعاني من ارتفاع تكلفة المعيشة ومعدلات التضخم غير المسبوقة منذ عقود، خصوصا الدول غير المنتجة للبترول والغاز، فقد استنفدت ميزانياتها بفعل استيراد المنتجات الطاقية بأسعار مرتفعة خلال مدة طويلة. وعلى رأس هذه الدول نجد دولا عربية مثل مصر ولبنان والأردن وتونس والمغرب، ويمثل فيها صافي واردات الغذاء والطاقة ما بين 4-17% من ناتجها المحلي الإجمالي.

فلبنان يعاني منذ عام 2019 من إحدى أسوأ الأزمات المالية في التاريخ، بينما وصلت الأزمة في مصر إلى مستويات مخيفة، ويكفي أن نرى حجم التراجع المستمر في قيمة الجنيه المصري، إذ فقد 50% من قيمته ما بين 2022-2023، مع تضاعف أسعار الفائدة، وشح العملة الصعبة، وزيادة الدين الخارجي إلى 162 مليار دولار.

“جنون البنوك المركزية”.. استقرار مالي في مهب الريح
لم تبق سياسة الرفع من سعر الفائدة الرئيسي حبيسة الولايات المتحدة الأمريكية، بل امتدت إلى جل دول العالم، خصوصا أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ورغم التحذيرات من الآثار المدمرة للركود الاقتصادي في سياق أزمة التضخم وارتفاع الأسعار، فقد اقتدت جل البنوك المركزية بسياسية الفيدرالي الأمريكي، حتى أن بعض المتتبعين للشأن الاقتصادي وصفوا الأمر بـ”جنون البنوك المركزية”.


فاهتمام هذه البنوك المركزية انصب على خفض معدلات التضخم إلى مستويات تقارب 2% مع حلول العام 2025 على أبعد تقدير، دون أي مراعاة للاستقرار المالي المهدد بالانهيار. وكانت أزمة البنوك في الولايات جرس إنذار، إن لم نعتبرها إرهاصات أزمة مالية عالمية قد تكون الأكبر في التاريخ.

وقد يؤدي الاستمرار في رفع أسعار الفائدة إلى ركود اقتصادي يصعب الخروج منه، خصوصا إذا استمرت هذه السياسة فترة طويلة، مع كل التداعيات المحتملة على أسواق العمل، وميزانيات الشركات والدول، وتحول ذلك إلى ارتفاع دائم في مستويات الدين والعجز المالي.

ويبقى اليوم صمود القطاع المصرفي ومعه الأنظمة المالية والبورصات العالمية، الأمل الوحيد الباقي أمام الاقتصادي العالمي للنجاة من الانهيار الكبير، في ظل تظافر جميع العوامل التي تسمم البيئة الاقتصادية، والتي قد تجعل الانهيار كارثيا.

ويرى مراقبون أن استمرار تشدد سياسات البنوك المركزية، وحدوث ركود في نمو الاقتصاد العالمي، قد يحدث شرخا في جدار الصمود هذا، خصوصا أن الهزة التي أحدثتها أزمة البنوك شهر مارس/آذار 2023 في الولايات المتحدة كانت قوية، وقد تكون مدمرة إذا امتدت إلى المصارف الأخرى الكبرى التي ما زالت إلى اليوم تراكم الأرباح، وتستقطب المودعين الذين فقدوا الثقة في المصارف الصغرى والإقليمية.
اجمالي القراءات 307
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق