رجم محمود عباس بالحجر الذهبي
-1-
العالم العربي ومعه الفلسطينيون على وجه الخصوص، مشغولون انشغالاً حماسياً ونارياً، ومنهمكون انهماكاً دموياً ثأرياً بتقرير "غولدستون"، أو "الحجر الذهبي". مئات المقالات تُكتب كل يوم تطالب برأس عباس. وعشرات الخُطب السياسية والندوات التلفزيونية، تُعقد كل يوم تهدر دمَّ عباس. وكلها تدور حول خطيئة محمود عباس الكبرى، والتي لا تغتفر أبداً في نظر كثير من المعلقين، وشاحذي السكاكين، للجَمَ&aacutlde;َل الذي بَرَكَ على الأرض. وأنا أعلم، أن مقالي اليوم، ضد تيار كبير وجارف، يُطالب بمحاكمة عباس، وتجريده من سلطاته، وعزله وربما قتله أيضاً! فهو الموضوع الأهم في "انتفاضة" تقرير غولدستون. رأس عباس هو المطلوب، قبل هذا التقرير وبعده. وكلنا سمع وشاهد وقرأ بيانات حركة "حماس" والحركات "الجهادية المقدسة" الأخرى، قبل تقرير غولدستون، التي تتهم عباس بالخيانة، والتواطؤ، والتفريط، بالقضية الفلسطينية. واتهام عباس، والحملة العنيفة القائمة الآن ضده، هي في واقع الأمر حملة ضد السلام. فحركة "حماس" والمليشيات الدينية الأخرى الفلسطينية المسلحة، لا تريد السلام. وهؤلاء جميعاً، كانوا يبحثون عن حجر لإسقاط السلام. فجاءهم "الحجر الذهبي" الآن. فحياة هذه الفصائل، وشعبيتها، وبروزها، وشهرتها، متأتية من رفضها للسلام، واستمرارها بالمقاومة، التي لا تزيد العالم والرأي العام العالمي إلا إصراراً على دعم إسرائيل، وتأييدها فيما تفعل، كما تمَّ في الانتفاضة الثانية عام 2000.
-2-
تقرير غولدستون تقرير صحيح، وواقعي، عن الجرائم البشعة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة. ولا يوجد عربي أو أعجمي، مسلم أو يهودي أو مسيحي، أبيض أو أسود أم أصفر، يؤيّد أو يسكت على ما فعلته إسرائيل في غزة، من هدم لبيوت الأبرياء، وقتل من كانوا يرفعون الراية البيضاء، وتهديم المساجد والمدارس على من فيها، واستعمال الأسلحة الممنوعة كالقنابل الفسفورية وغيرها. لقد كانت الحرب على غزة بكل المقاييس حرباً بربرية، ولم تستطع إسرائيل أن تُخفي جرائم هذه الحرب، في زمن الفضائيات التلفزيونية، والانترنت، والصحافة العالمية المتقدمة، وجمعيات حقوق الإنسان. فالإدانة واجبة لإسرائيل على أعمالها الإجرامية والوحشية البشعة في قطاع غزة. ولكن علينا أن نتساءل من الذي جرَّ وأرغم الإسرائيليين على هذه الحرب البشعة؟
أليست صواريخ القسَّام، التي يصفها محمود عباس بالمواسير، مما راكَمَ السخط عليه من قبل حركة "حماس"، والحركات الجهادية المليشية الفلسطينية الأخرى.
ويبقى رأس عباس هو المطلوب، ولا شيء آخر.
والحال الآن، أن حركة "حماس" والحركات الأخرى المعادية لعباس، امتلكت "الحجر الذهبي" (غولدستون) بكل سهولة، وبدأت منذ أسبوعين أو أكثر، برجم "الشيطان الرجيم" محمود عباس بهذا الحجر.
-3-
لماذا سحبت السلطة الفلسطينية بقيادة عباس تقرير غولدستون، الذي إن لم يوجد فسيوجد عشرات التقارير مثله، التي تُدين إسرائيل على جرائمها، في حملة "الرصاص المصهور"؟
إن السلطة الفلسطينية أجَّلت عرض التقرير، ولم تنكر عليه حقائقه، أو تطالب بإلغائه ؟
إن القرار حول تقرير غولدستون – كما اعتقد عباس – سوف يصطدم بالفيتو الأمريكي، ولن يدين إسرائيل، وسوف يُحرج إدارة أوباما، ويزيد الإسرائيليين تصلباً وإقداماً في بناء المزيد من المستعمرات.
إذن ما الفائدة منه؟
الإدانة..!
ولكن العالم كله أدان إسرائيل، أثناء وبعد حملة "الرصاص المصبوب" الإجرامية.
-4-
محمود عباس- وأنا لا علاقة لي به، ولم ألتقِ به طوال حياتي، ولكني أعتقد ، وربما أكون على خطأ- رجل قائد يعلم علم اليقين وبواقعية سياسية عميقة، ما يحتاجه الفلسطينيون، وليس ما يريدون. ويعلم خبايا السياسة العالمية، والإسرائيلية، والعربية، والإسلامية. وهو يؤمن – كما سبق وقال في تصريح لجريدة "الرأي" الأردنية في 27/9/2004 بأن القضية الفلسطينية قضية سياسية، ويجب أن تُحلَّ سياسياً. بمعنى أن القضية الفلسطينية، ليست قضية دينية، يجب علينا حلَّها بالجهاد المقدس، كما تنادى حركة "حماس" وأخواتها الآن.
وهذا الرأي، والرأي الآخر لعباس، الذي كان معارضاً للانتفاضة الثانية عام 2000 والذي يقول فيه في المقابلة نفسها: "إن هذه الانتفاضة بكل ما فيها كانت خطأ وما كان يجب أن تستمر. ولو قمنا بحسبة معينة، لتبين لنا ما وصلنا إليه بعد الانتفاضة. لقد كان هناك ثلاثة آراء تصبُّ في رأي واحد. يقول الرأي الأول: أن الانتفاضة بعد أن تقتل ألف إسرائيلي، ستؤدي إلى انهيار إسرائيل، وانهيار شارون. والرأي الثاني كان يقول: أن هذه الانتفاضة المسلحة ستُحرر الوطن. والرأي الثالث كان يقول: أن هذه الانتفاضة ستوقف الاستيطان. وبالمراجعة، فإن شارون لم يسقط، بل أصبح الأكثر شعبية في تاريخ إسرائيل، بعد أن كان مُداناً في إسرائيل. كما أن كل الأرض الفلسطينية الآن محتلة ومستباحة. ثم إن الاستيطان تضاعف. وخسرنا علاقاتنا مع الأمريكان، والرأي العام الإسرائيلي. والانتفاضة جعلت العالم يدين الفلسطينيين."
وهذه الآراء وغيرها من الآراء الواقعية والشجاعة، التي لا تناسب الذوق السياسي الفلسطيني والعربي، وضعت عباس في خانة العملاء للصهيونية، والراكعين في البيت الأبيض، والساجدين في الكنيست، وأمام الدول العربية الرجعية.. الخ. وهذه هذه الآراء تعني، أن يتحول زعماء الحركات "الجهادية المقدسة" بالسلام إلى مؤذني وخطباء مساجد فقط، بدل الزعامات التي يتمتعون بها الآن، واعتلائهم صهوة الإعلام العربي المرئي والمسموع والمقروء.
-5-
حملة "الرصاص المصبوب" والحرب الوحشية على غزة، لم تكن لترضي الضمير الإنساني الإسرائيلي، كما أنها لم تُرضِ الضمير العالمي والعربي كذلك. والكتَّاب الإسرائيليون انتقدوا هذه الحملة، والجرائم التي ارتُكبت فيها، أكثر مما انتقدناها نحن العرب والفلسطينيين. فقد تظاهر أكثر من عشرة آلاف يهودي في إسرائيل، ضد هذه الجرائم، ورفعوا لافتات تطالب بوقف هذه المجزرة، وتُدين إسرائيل لجرائمها في هذه الحرب، كما يقول الكاتب الإسرائيلي المعروف يوري افينيري. بل إن تقرير القاضي غولدستون نفسه، يُنسب إلى اليهودي الصهيوني ريتشارد غولدستون (واسمه الأصلي بالعبرية غولدشتاين)، وابنته "نيكول" هي الداعية الصهيونية المعروفة. ولكن الإسرائيليين يقبلون النقد الذاتي من مواطنيهم، ولا يقبلونه من العرب خارج إسرائيل، لأنهم يخشون الآخر. ويعتبرون نقد العرب بمثابة العداء كله لإسرائيل ولسلامها.
-6-
الضمير الإسرائيلي لم يمت. وامتلأت الصحف الإسرائيلية بآراء كتَّاب، وناشطين في جمعيات حقوق الإنسان، وأكاديميين، وخبراء، واستراتيجيين عسكريين، تفضح جرائم إسرائيل في حملتها (الرصاص المصبوب). فقد كتبشلوموغازيت يقول:
"إنتقريرلجنةغولدستون، يقول إن (الرصاص المصبوب) كانت غايتهعقاباًجماعياً، لجعل سكان قطاع غزة يُغيُّرونموقفهم منحماس. إنقطعالكهرباء على الفلسطينيين، وإغلاقالمعابر،وغير ذلك من الأعمال اللاإنسانية، ليستمنافتراءاتلجنة غولدستون،لكنهاسياسةرسميةلحكومةإسرائيل." ("معاريف"، 23/9/2009).
وقال الكاتب والناشط الإسرائيلي يوري أفنيري، مؤسس حركة "غوش شالوم" Gush Shalom للسلام منذ 1993، في مقاله "UM-Shmum, UM-Boom" المنشور في موقعه على الانترنت، في 9/9/2009:
"في الواقع، فإن تقرير غولدستون، لم يقل شيئاً جديداً. كل الحقائق معروفة تقريباً: قصف الأحياء المدنية، واستخدام قذائف مسمارية، والفوسفور الأبيض، ضد أهداف مدنية، وتفجير المساجد والمدارس، وحظر فرق الإنقاذ من الوصول إلى الجرحى، وقتل المدنيين الفارين، وأناس تحمل الأعلام البيضاء. وأكثر من ذلك، فالجيش الإسرائيلي لم يسمح للصحفيين بالقرب من أرض المعركة. ولكن الحملة، كانت موثَّقة بشكل كبير من قبل وسائل الإعلام الدولية في كل التفاصيل."
ورغم هذا كله، فلا نزال نرجم محمود عباس بالحجارة الذهبية، ونعتبره شيطاناً رجيماً!
اجمالي القراءات
10435