السلطة بين العلمانية والثيوقراطية:
العلمانية والدين

عبدالوهاب سنان النواري Ýí 2016-10-23


مقدمة:

1- الأمم الحديثة لا يمكن أن تبني هويتها وحضارتها علی أي من الخيارات الدينية الطائفية، أو تفضيل الشريحة الغالبة من رعاياها سواء في التشريع أو المناصب القيادية، فهذا يؤدي إلی تضعضع بنيانها القومي من ناحية، وتحويلها إلی دولة تتخلف مع مرور الزمن عن ركب التقدم بنتيجة قولبة الفكر بقالب الدين أو التقاليد.

2- وحتی نكون صادقين مع أنفسنا، دعونا نعترف أن السلطة ونظرياتها هي التصادم الأبرز بين الأجنحة الدينية والعلمانية، فمن منظور كهنوتي: " الله جل وعلا، هو صاحب السلطة، وهو صاحب التشريع، فلا بد من وجود هيئة تمثله، وتعمل علی الحفاظ علی الحق الإلهي في الشرع " . وفي المقابل فإن أوساط دينية أخری - ونحن منها - تؤكد " أن الله جل وعلا، أوكل للإنسان خلافة الأرض، ليسوسها ويتسلط عليها؛ فهذه الوكالة هي سلطة سياسة الأرض، أي تنظيمها وإدارتها، وبوصفها سلطة تنظيم وإدارة فهي تشريع، وهذا ما يذهب إليه العلمانيون أيضا.

3- العلمانية ليست شيئا جامدا، بل هي قابلة للتحديث والتكييف حسب ظروف الدول التي تتبناها، وتختلف حدة تطبيقها ودعمها من قبل الأحزاب أو الجمعيات الداعمة لها بين مختلف مناطق العالم. والدين الذي نعنيه يختلف عن الدين الذي تحدث عنه فلاسفة أوروبا وبنوا عليه تصوراتهم، الدين عندنا هو القرآن الكريم، والدين لديهم هو المسيحية، وعند غيرنا من المسلمين هو تلك المرويات والكتب التراثية التي ما أنزل الحق تبارك وتعالی بها من سلطان، ومع هذا سنحاول ما أمكن إزالة اللبس وتبيين الحق.

 

أولا- تعريف المصطلحات:

1- الثيوقراطية كنظام حكم، هي حكم طبقة من رجال الدين إما نتيجة حق إلهي مزعوم أو نتيجة الزعم بحق حفظ الشريعة الإلهية من الضياع، وتكون إما مباشرة عن طريق إدارتها للدولة مباشرة، أو غير مباشرة عن طريق الحق بتمرير أو الأعتراض علی التشريع والإدارة. وغالبا ما يشكل رجال الدين في الدولة الغير علمانية طبقة أو هيئة ذات صلاحيات، وتكون " سلطة غير منتخبة، وربما وراثية، وغير كفوءة، بل ومطلقة غير مقيدة في الغالب، ووضع السلطة المطلقة في يد طبقة واحدة، مفسدة مطلقة " .

2- العلمانية كنظام حكم، هي فصل الحكومة والسلطة السياسية عن السلطة الدينية أو الشخصيات الدينية. وتعني أيضا عدم قيام الحكومة أو الدولة بإجبار أحد علی أعتناق وتبني معتقد أو دين أو تقليد معين لأسباب ذاتية غير موضوعية. كما تكفل الحق في عدم أعتناق أي دين، وعدم تبني دين معين كدين رسمي للدولة، والدولة العلمانية بهذا تكون ضد الثيوقراطية، ولا يحدد كون الدولة علمانية من عدمها بدين الدولة، بقدر ما يحدده طبيعة دور رجال الدين في الدولة.

ثانيا- موقف العلمانية من الدين:

1- لا تعتبر العلمانية ذاتها ضد الدين، بل تقف علی الحياد منه، بل وتخدمه في أحيان كثيرة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، وجد أن العلمانية خدمت الدين من تدخل الدولة والحكومة، وليس العكس.

2- الفيلسوف الإنكليزي " جون لوك " كتب في موضوع العلمانية قائلاً: (من أجل الوصول إلی دين صحيح، ينبغي علی الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيا أو فكريا أو اجتماعيا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف. يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحرارا، وبالتالي قادرين علی إدراك الحقيقة) .

3- صرح " توماس جيفرسون " ثالث رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية: (أن الإكراه في مسائل الدين أو السلوك الاجتماعي هو خطيئة واستبداد، وأن الحقيقة تسود إذا ما سمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم وحرية تصرفاتهم) .

4- الكاتب الأنكليزي " جورج هوليوك " وهو أول من ابتدع مصطلح " العلمانية " عام 1851م، صرح: (إنه لا يمكن أن تفهم العلمانية بأنها ضد المسيحية هي فقط مستقلة عنها؛ ولا تقوم بفرض مبادئها وقيودها علی من لا يود أن يلتزم بها. فالمعرفة العلمانية تهتم بهذه الحياة، وتسعی للتطور والرفاه في هذه الحياة، وتختبر نتائجها في هذه الحياة) . إذن هو يحدثنا عن نظام اجتماعي منفصل عن الدين غير أنه لا يقف ضده، وهو بهذا يكتفي بتوصيف ما كان الفلاسفة قد صاغوه سابقا عن العلمانية.

5- المفكر السوداني " الخاتم عدلان " الذي يعتبر من أبرز المنادين بالعلمانية في المنطقة العربية، فيقول: (إن العلمانية تعني إدارة شؤون الحياة بعيدا عن أي كهنوت) .

6- الفيلسوف " سبينوزا " يقول: (إن الدين يحول قوانين الدولة إلی مجرد قوانين تأديبية) وأشار أيضا إلی أن الدولة كيان متطور وتحتاج دوما للتطوير والتحديث علی عكس شريعة ثابتة موحاة. فهو يرفض اعتماد الشرائع الدينية (المسيحية) مطلقا، مؤكدا أن قوانين العدل الطبيعية والإخاء والحرية هي وحدها مصادر التشريع.

7- إذن يمكن القول: أن العلمانية فصلت بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة مع الحفاظ علی حرية المؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها. ويمكن القول أيضا: أن دور رجال الدين في المجتمع العلماني، هو إبداء الرأي أو قيادة جماعات ضغط، فرجل الدين يعمل في قلب المجتمع ولا يفرض نفسه عليه من فوق كسلطة.

 

ثالثا- موقف الدين من العلمانية:

1- القرآن الكريم الذي يعود تاريخه إلی القرن السابع الميلادي هو أقدم المصادر الدينية التي تحث علی الحرية المطلقة في الفكر والمعتقد، وسوره تزخر بمئات الآيات التي تهاجم الكهنة والأحبار والرهبنة، وتدعوا للعلم والسير في الأرض وعمارتها .. الخ. ولنا بحث بعنوان (علمانية الإسلام) يوضح كل هذه الحقائق، والبحث منشور في موقعنا (أهل القرآن) .

2- وقد ظهرت في أوروبا خلال القرن العاشر الميلادي عدة حركات إصلاحية، تهدف إلی تنقية العقيدة المسيحية وإصلاح أحوال الكنيسة، بعد ما أصابها الضعف والفساد والانحراف، كان أبرزها حركة الإصلاح الكلوني التي أسسها " وليم التقي " سنة 910م. وقد أدرك زعماء هذه الحركة أن المفاسد والأمراض الخطيرة التي تعرضت لها الكنيسة حينئذ، إنما كانت وليدة ارتباط الكنيسة بالدولة، ولذلك وجدوا في الفصل بين السلطتين العلاج الوحيد الشافي من تلك الأمراض، ولهذا حرصوا علی أن يكون نظامهم الديري تابعا للباباوية مباشرة، دون أن يكون للحكام المحليين أي تدخل في الأديرة الكلونية، وبهذا حققت هذه الحركة نجاحا باهرا، وانشأت جمعيات منظمة ذات قوانين خاصة، وفي بداية القرن الثاني عشر كانت الجمعية الكلونية تعد حوالي ألف ومائة مؤسسة.

3- وفي القرن الخامس عشر، كتب الفيلسوف وعالم اللاهوت " غيوم الأوكامي " حول أهمية فصل الزمني عن الروحي قائلا: (فكما يترتب علی السلطة الدينية وعلی السلطة المدنية أن يتقيدا بالمضمار الخاص بكل منهما، فإن الإيمان والعقل ليس لهما أي شيء مشترك، وعليهما أن يحترما استقلالهما الداخلي بشكل متبادل) .

4- الدكتور عبدالحي أحمد المنعم، أستاذ الشريعة بجامعة إيموري، يقول (إن فرض أو تقرير الشريعة عبر القوة القسرية للدولة، ينفي طبيعتها الدينية، لأن المسلمين حينها سيراعون تطبيق شريعة الدولة، ولن ينجزوا بحرية ما يفرض عليهم كمسلمين) .

5- الدكتور حسن حنفي - المفكر البارز، صاحب نظرية اليسار الإسلامي - تحدث عن الجوهر العلماني للإسلام الذي يراه دينا علمانيا لعدة اعتبارات، أهمها: أن النموذج الإسلامي قائم علی العلمانية، بمعنی غياب الكهنوت، أي بعبارة أخری غياب المؤسسة الدينية الوسيطة.

6- حتی تلك الجماعات السلفية الرجعية المتخلفة المسماة (أهل السنة والجماعة وغيرها) ، هم في الحقيقة علمانيون من حيث لا يشعرون، فأدبياتهم ومبادئهم تلزمهم بأن يلزموا المساجد والعبادات وأن لا يتدخلوا في السياسة وشؤون الحكم، وهذا هو لب العلمانية، ولكنهم قوم يجهلون.

 

أخيرا:

يمكن القول: أن العلمانية ليست أيديولوجيا أو عقيدة بقدر ما هي طريقة للحكم، ترفض وضع الدين أو سواه من الإيديولوجيات كمرجع رئيسي للحياة السياسية والقانونية، وتتجه إلی الاهتمام بالأمور الحياتية للبشر بدلا من الأمور الأخروية، أي الأمور المادية الملموسة بدلا من الأمور الغيبية.

اجمالي القراءات 12141

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2014-11-03
مقالات منشورة : 84
اجمالي القراءات : 960,654
تعليقات له : 60
تعليقات عليه : 67
بلد الميلاد : Yemen
بلد الاقامة : Yemen