في حديث مع زميل في العمل قلت له..هل تؤمن أن داعش على المنهج الصحيح؟..قال –بلا تردد- لا..كانت إجابة قاطعة لم تترك فرصة لسؤال آخر على نفس النحو، ولكن سألته مرة أخرى: هل الخلافة وتطبيق الشريعة والحدود هي أمور واجبة في الدين؟..قال: نعم ولكن ليس بما تقوم به داعش..قلت: إشرح لي كيف تطبق الخلافة والشريعة بغير منهج داعش؟
قال:يجب أن يتمتع المسلمون بالكفاية في المال والغذاء والأمن كي أحاسبهم..يعني قبل قطع اليد يجب أن أقضي على الفقر أولا، وقبل الجلد(والرجم) يجب تزويج شباب المسلمين
قلت: هذا يعني أن من حق المسلم أن يسرق ويزني كون مجتمعه لم يصل لحد الكفاء..هذا لو افترضنا إن حضرتك (سوبر مان) ستقضي على الفقر وتنجح في تزويج شباب المسلمين..!
قال: من قال لك ذلك؟
قلت: أنت
قال: صحيح يجب أن يكتف المسلمون من المال والجنس الحلال ولكن هذا لا يعني عدم إقامة الحدود..
قلت: إذن ما الفرق بين هذا الكلام وما تفعله داعش؟!
مشكلة المسلم العادي أنه لا ينتبه للفارق بين النص والتطبيق، وهذا يوقعه في كثير من التناقضات التي يهرب منها غالبا بالتحايل، فداعش مثلاً هي إفراز طبيعي لمشكلة تطبيق الشريعة المنصوص عليها قبل 1400 عام، أي أن المشكلة ليست في الفهم أو أن داعش لا تطبق المنهج الصحيح، بل المشكلة الرئيسية في .."طبيعة النص"..وهل يصلح -على ظاهره- لتقرير شريعة تحكم مليارات البشر؟..أم أن الدين شئ آخر أهم من النص نفسه.
معضلة الدين والنص تفرض على المسلم الإجابة على السؤال التالي: هل ستكون مسلما لو لم تعرف القرآن؟..لو قال (نعم) فهذا يعني أن داعش لديه تمثل حالة سلبية بالفعل، وأنه على دراية بالفروق بينه وبين التطرف، أما لو قال نعم فهذا تقرير منه بأن الإنسان الصالح هو فقط (مسلم) وأن غير المسلمين هم (أشرار بالضرورة) وهي نفس الرؤية العنصرية التي تأثر بها الدواعش حتى أصبحوا هكذا مجرمين..
بالمناسبة حتى القرآن لا يقر لهم بصلاح المسلمين فقط..بل أقر بصلاح طوائف أخرى من أهل الكتاب، والآيات التالية تشهد عليهم أن القرآن كان أكثر إنصافا:
قال تعالى:
1-"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون".. [آل عمران : 113]
2-"وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب".. [آل عمران : 199]
هذا يعني أن المعيار الإلهي ليس بالانتماء هذا مسلم وهذا مسيحي.. أو هذا مؤمن وهذا كافر..بل المعيار بالعمل الصالح بدلالة قوله تعالى.." ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا".. [النساء : 123]
فحصر الإيمان والصلاح بالاعتقاد فقط بالنص القرآني هو أول طريق الدواعش، وهو حال معظم المسلمين شيوخهم وعوامهم الآن..حتى بعض المثقفين يعتقدون أنهم قادرين على تمييز الحسن من الطيب بمجرد النص،حتى لو أشكل عليهم بعض مفاهيمه فيطرحون المشكل عن النص إلى كاهلهم في محاولة يائسة للتشبث بأدنى فكرة تربطهم بالدين الذي فهموه ونشأوا عليه في الصغر..
مشكلة التطبيق يطرحها القرآن بطريقة مختلفة لإرشاد المسلم على طريقة فهمه للأشياء..سنذكرها، وكأنه يصرخ بوجه المسلمين جميعا أن النص المجرد لا يكفي لفهم الدين، وأن الأهم من ذلك كله هو قابليته للتطبيق، وأن العلماء الذين مدحهم في القرآن ليسوا علماء نظريين أو قال فلان وعلان..بل هم العلماء (العمليين) الذين أدركوا الواقع وشرعوا في تكييف النص عليه وليس العكس كما يفعل المسلم العادي..
الطريقة واضحة وهي مختصرة في كلمتين (التاريخ والاعتبار) التاريخ لفهم سلوكيات البشر وتجارب الآخرين، أما الاعتبار فمن تجاربهم على قاعدة علمية تقول أن.."الواقع متغير..والفكر أسير للواقع، فإذا تغير الواقع سيتغير الفكر بالضرورة ويُصبح معه النص مجرد كلام ميت"..وهذا ما أوقع الدواعش وجماهير المسلمين في (حيص بيص) مخيرون فيه ما بين التمسك بالدين وبين الواقع العالمي والإنساني الذي يرفض الاحتكام لشرائعهم التي نشأوا عليها منذ وفاة الرسول.
والآيات في هذا الصدد كثيرة..وكثرتها دلالة على التأكيد بأن التاريخ جزء لا يتجزأ من فهم الدين، وهو عنصر مهم أهمله الشيوخ واكتفوا بعناصر ثلاث–القرآن والحديث والإجماع - وكلها أدوات (نظرية) جعلت من الإسلام (مجرد كلام) لا يقبل الفعل..بينما أهملوا التاريخ(الأداة العملية الوحيدة) التي قررها الله في عدة مواضع:
قال تعالى:
1-"قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين".. [آل عمران : 137]
2-"قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين".. [الأنعام : 11]
3-"قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين".. [النمل : 69]
4-"أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها "..[الروم : 9]
5-"قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين".. [الروم : 42]
والأسلوب يتكرر في القرآن بنفس الصيغة وصيغ أخرى تفضح توجه المسلمين الذين أنكروا هذه الآداة العجيبة التي-وبسبب إنكارها-اختصروا الإيمان والإسلام في مجرد كُليمات يقلها المسلم في حياته ويحرص على قولها في الخاتمة، وهو سلوك نمطي موجود عند كل المسلمين ، وبسببه تحول الشخص الذين يدين بالإسلام إلى مشروع عنف تجاه الآخرين، وهذا لمسناه بعد استفحال خطر الإرهاب في سوريا والعراق وحالياً في أوروبا.
رغم أن الدين الإسلامي به مساحة تواصل وسلام روحي جيدة تمكن القائمين عليه بالتعايش والانسجام في وسط غير متكافئ من حيث القوة والعدد، أو حتى مجرد الفكر، وهذا الكلام لن يُعجب المتعصبين ضد الإسلام ..وألمس لهم حرصهم على حياة البشر ورؤيتهم لخطر المسلمين على أنه خطر للدين الإسلامي نفسه، وأعزه في الغالب لانتشار صورة مزيفة عن الدين ..بل وعن الأديان كلها..في وسائل التواصل وفي ميادين الحرب والسياسة.
ياأخي لو لم يكن الدين فكرة تليق بالاعتناء ما حرص عليه الإنسان الذكي والحكيم منذ آلاف السنين، نعم تتنوع الأديان وتتعدد الأفكار والمصالح..نعم يوجد اتجاه قوي ضد الأديان ولديه نظريات وأفكار جيدة، لكن وبرؤية أخرى يمكن توظيف هذه القوى الغير دينية لصالح الدين، أي أن فكرة اللادينية في الأخير هي فكرة دينية من حيث الجوهر..بحيث تهرب من صورة الدين السلبي والفوضوي إلى عالم أكثر نظام، وهذه الرؤية تتحكم غالباً في من يخاصمون الأديان على أسس علمية نهلوها من حركة الأجسام وتكوين الذرات والبروتونات، ومؤخراً في نظرية انفجار الكون من جزء من بلايين الأجزاء من البروتون..
كل ذلك حملهم على الاعتقاد بأن النظام هو الذي يحكم وليس الإله، وعدم معرفة الإنسان بالنظام ليس دليلا على عدم وجوده، رغم أن نظرية الانفجار الكبير –كمثال-تصلح لتأكيد فكرة الإله الخالق من العدم، فحتى ملايين الأجزاء من البروتون هي مجرد حسابات رياضية عند نقلها للواقع يصبح الحديث عن جزء البروتون هو حديث عن العدم.
بالمناسبة هذه الرؤية العلمية –النظامية-للكون هي نفس رؤية الدواعش الذين يرون الكون مجرد نظام بدأ في توقيت معين وسينتهي في توقيت آخر، وبمساعدة نصوص معينة ظنوا أنهم علموا هذا التوقيت الذي سينتهي فيه وإليه العالم، وعلى الأرجح هم يعتقدون أن هذا التوقيت حان الآن، وأن دولتهم في الموصل والرقة هي التي بشر بها النبي وعن طريقها سيظهر المهدي ثم تأتي الملاحم تباعا..بدءاً من الدجال ونزول المسيح مروراً بيأجوج ومأجوج..ونهاية بنفخة الصور لإسرافيل..
وهذا ما يحمل الداعشي على الصبر وطاقته العظيمة في حشد الأنصار وقدرته على الإقناع، بحيث أن أكثر من 30 دولة تحاربه منذ عام ونصف ولا زالت دولته كما يقولون.."باقية وتتمدد"..على الرغم من خسائرهم وقتلاهم بالمئات تقريبا بشكل شبه يومي..إلا أن قدرتهم على تجنيد آخرين من أهالي القرى والمدن المحتلة أو من المتطوعين الأجانب تستحق النظر..
هذا لا يعني أن رؤية الملحد أو الداعشي أو اللاديني للكون هي رؤية غير صحيحة، ولكن تشابهها في بعض المراحل يُعطي لمحة عن طبيعة الصراع الحالي..أنه ليس مجرد صراع بين دين وآخر ..بل بين أقطاب في الفكر مستحيل أن تتعايش، واستحالة التعايش هي حالة سياسية ترافق غالباً الثورات والتغيرات الاجتماعية الكبيرة.
فعن طريق التاريخ وسير الأولين نفهم أن محطات التغيير الدينية والانقلابات الفكرية العُظمى تحدث مع الثورات السياسية، لأن الثورة ليست فقط تؤثر في مجال السياسة بل أيضاً في مجال الاجتماع، وحركة المجتمع تؤثر في الفكر الذي بدروه يساعد على رؤية مختلفة للدين وللكون.
هذا يعني أن المسلمين والعرب ما قبل .."الربيع العربي"..ليسوا هم من يعيشون الآن..فقد تغير الحال وانقلب في أماكن كثيرة، وإن تشابهت بعض الرؤى والثقافات بصفتها .."موروث ديني"..نتج عنها صراع أقطاب ما بين التطرف الديني وقطبه الآخر اللاديني، على أن العديد من اللادينيين أذكياء أحسبهم لديهم القدرة على التمييز بين هذا التطرف وذاك، وأن وضعهم يجب أن يكون في سياق الفكر البشري الطبيعي الذي يقبل الاختلاف والتعايش بين الجميع.
فالصراع الحالي هو بين الداعشية واللادينية، وقد انعكس على أصحاب الاتجاهات الأخرى بحيث رآهم الداعشي لادينيين وملحدين..أمثال مؤيدي التنوير الإسلامي كإسلام بحيري وعبدالله نصر وعدنان ابراهيم والمالكي وشحرور ومنصور وغيرهم..بينما يراهم اللاديني المتعصب إما أصوليين أو لادينيين متنكرين، أما الملحد الطبيعي فيرى كل هذه الأفكار ضرورية لصنع الخلاف ليست بالضرورة تتفق أو تختلف معهم حتى يضعهم في حيز تصنيف.
مهم جدا الانتباه لعدم التصنيف، فمبدأ الدواعش -وجهلة الأديان -وضع كل مخالف في صندوق أسود وغامض، بحيث يراه شريرا طبقاً للحكمة التي تقول أن.."الإنسان عدو ما يجهل"..فما بالك وقد أعطاه لوناً قبيحا-وهو الأسود- كي تكتمل فكرة شيطنته ومن ثم الانتقال لمرحلة التخلص منه للأبد.
اجمالي القراءات
9224