آحمد صبحي منصور Ýí 2012-10-05
كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى):دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .
الباب الثاني أخبار الشارع المصري في عصر السلطان قايتباى
الفصل الثالث : الإنحلال الخلقى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى :
نبذة عن تشريع الانحلال الخلقى فى الشريعة السّنية المملوكية
1 ـ العصر المملوكى كان عصر المتناقضات . كان يرفع لواء الشريعة الاسلامية بينما يطبق شريعة مناقضة هى شريعة السّنة . كان المماليك يتزعمون ( العالم الاسلامى ) بينما كانوا يدينون بثقافة الاستبداد والتعصّب والحروب الدينية و كل ما يمتّ لثقافة العصور الوسطى حتى فى نظام الإقطاع ونظام الفروسية والسخرة وإسترقاق الفلاح و الاحتكار واستنزاف الطبقات الوسطى وتحالف رجال الدين مع السلطة السياسة واستغلال الدين فى تركيع الشعوب . ساد هذا فى اوربا وفى عالم المسلمين على السواء ، مع مناقضة كل هذا لقيم الاسلام فى العدل والاحسان والحرية الدينية و السياسية .
2 ـ بل مع تسلط وتسيد التصوف ـ ومع العداء بين التصوف والسّنة فقد توارث المماليك عن أسيادهم الأيوبيين ما يعرف بالتصوف السنى الذى حصر الشريعة السنية فى ميادين العبادات والقضاء الشرعى بين الناس طبقا للمذاهب السنية الأربعة بينما إختص التصوف بالناحية العقائدية من تقديس الأولياء الصوفية أحياءا ومقبورين ، والاعتقاد فى كراماتهم ومعجزاتهم فى الدنيا وشفاعتهم فى الآخرة . وأتيح للتصوف والطرق الصوفية تسيد الحياة اليومية والعقلية والعلمية والتأثير السياسى الهائل . ولكن وقف المماليك بالمرصاد لأى تطرف صوفى فكرى يعلن الاتحاد ووحدة الوجود ، كما وقفوا بالمرصاد أيضا لأى تطرف سنّى ممّا سبّب محنة إبن تيمية . وبهذا تمّ تطبيق ( التصوف السنى ) وتجاوز التناقض بين السنة و التصوف بتهميش التطرف فى الإثنين . وتحديد مجال هذا وذاك .
3 ــ كان هذا وثيق الصلة بالحياة الدينية لأى مجتمع يسطر عليه دين أرضى يتأسّس على التدين السطحى المظهرى حيث يتسيد رجال الدين ، وتنتعش مظاهر التديّن فى اللحى والزى والعمائم والنقاب لتخفى إنحلالا خلقيا بشعا وفسادا فى السياسة وفى السياسيين والموظفين ووحشية فى تعامل السلطة مع ( الرعايا )، كل هذا مع التسابق فى تشييد المؤسسات الدينية من مساجد وجوامع وقباب وأضرحة وخوانق وزوايا وأربطة وتخصيص أوقاف هائلة لها تنفق على من يعيش فيها من مدرسين وطلبة وأطفال أيتام وصوفية متفرغين للعبادات الصوفية بينما هم يمارسون الشذوذ والانحلال الخلقى والغيبة والنميمة والتمتع بما يأتيهم من رزق وفير . وتأسيس هذه البيوت الدينية كان يأتى من المال السحت والسلب والنهب ومن تسخير الناس فى البناء تحت سياط التعذيب . ولا علاقة بهذا بالاسلام ، ولكنها الشريعة السّنية التى كانت فى خدمة التصوف .
4 ـ ولكن على أى حال ، فقد أدّى التصوف بانحلاله وإنفتاحه الى تخفيف التشدد السّنى ، لذا فشل إبن تيمية فى حركته ، وعاش العصر المملوكى يمارس الفجور متمتعا بأساس هام من أسس التصوف وهو عدم الاعتراض ، بديلا عن التدخل فى حياة الناس بالاكراه فيما يعرف لدى السنيين الحنابلة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والذى سيطر به الحنابلة من قبل على الشارع العباسى فى القرنين الثالث والرابع الهجريين .
5 ــ فى ظل ( عدم الاعتراض ) أتيح للمجتمع المصرى أن ينطلق فى المجون كيف شاء ، فى المنتزهات وفى الموالد وحول النيل ، وشارك فى هذا الكرنفال السلطان والمماليك والفقهاء والقضاة والعوام . وانتشرت فضائح كانت للتسلية وليس للإستنكار أو العقوبة فقد كان معظم أبطالها من شيوخ الشرع السّنى ( الشريف ). وحاول فقيه سنّى متأخر فى عصرقايتباى هو ( البقاعى ) إحياء حركة إبن تيمية فلقى العنت ورفضه ولفظه العصر .
6 ـ وقام ( النقاب السّنى ) بعقد الصلح بين الانحلال والمظهر الخارجى لورع المرأة وتدينها الظاهرى. فالنقاب يعطيها مظهر الحشمة المتطرفة ويعطيها أيضا فرصة ممارسة الزنا بدون أن يتعرف عليها أحد .
هذه هى الخلفية التى نقرأ من خلالها ما سجّله مؤخنا إبن الصيرفى أحداث الشارع المصرى والحياة اليومية للمجتمع المصرى فى عصر قايتباى فى ظل تطبيق الشريعة السّنية .
إبن الصيرفى ومنهجه فى تسجيل الفضائح الخلقية
1 ــ لم يكن ابن الصيرفي من هواة تسجيل الفضائح، وإنما كان يمر عليها مرور الكرام، وهو بهذا يختلف عن ابن إياس الذى جاء بعده واحتفل بتسجيل الانحلال الخلقي الذى ساد عصره. ومع ذلك فإن بعض الإشارات في كتاب الهصر تنبئ عن هذا الإنحلال الخلقي، فإذا مدح ابن الصيرفي السلطان قايتباى بأنه عفيف الفرج لا يلوط ولا يزني ولا يسكر فمعناه أن غيره شاع وقوعه في هذا الاثم وأنّ تعفف قايتباى عنه أصبح منقبة ومكرمة تضاف له. نفس المدح قاله مؤرخنا عن الأمير طوخ الأبو بكرى ت 876:( كان عفيفاً عن الفروج والمنكرات لا يلوط ولا يزني ولا يسكر)، ومعناه أن غيره أدمن اللواط والزنا والسكر.
2 ــ وإبن إلصيرفى لم يكن فى جرأة المقريزى وتلميذه جمال الدين أبى المحاسن ابن تغرى بردى ، وكانا يصفان أمراء المماليك بجرائم الفسق والفساد، ولكن إبن الصيرفى يقول عن الأمير تانى بك المحمدي 875 ه فى لهجة حانية:( كان عفا الله عنه يظلم نفسه لانهماكه في الملذات.).!.
3 ــ وإبن الصيرفى قد يتشجع أحيانا بعلوّ صيت الأمير المملوكى المتوفى فى مجال الفسق ، فيعبّر عن رأيه بصراحة ، فيقول عن الأمير قانم نعجة ت 873 : ( كان من الأشرار الظلمة ، كثير الفسق والزنا ، وإن سكر عربد ، حتى أنه في بعض سكره عض أنف إنسان فأكله ، وأراح الله المسلمين منه ومن ظلمه وشؤمه وآذاه وافتراه ، وجعل الحميم مأواه.).ويقول عن الأمير طومان بان الظاهرى 874( كان ظلوماً غشوماً منهمكاً في اللذات.).
بعض حوادث الانحلال الخلقى فى تاريخ الهصر
1 ــ وأشار مؤرخنا بإيجاز إلى بعض حوادث الانحلال فقال : ( وحصل في هذا الشهر (ربيع الآخر 874) أن قاسم الوزير، نائب عظيم الدولة الداودار الكبيرــ كبسه (ضبطه )الوالى بالجزيرة ومعه امرأة فأطلقت. ). و( الوالى ) فى هذا العصر هو مدير الأمن فى عصرنا.
2 ـ ويذكر في حوادث محرم 874 فضيحة كان بطلها أحد (الأشراف) الذى وقع في هوى امرأة جزّار فأفسدها على زوجها حتى طلقها، وبعد طلاقها تزوجها الشريف، وذهب الجزّار إلى الداودار الكبير يشكو (الشريف)، يقول مؤرخنا عن الجزّار الزوج السابق وشكواه ليشبك من مهدى : ( وأنهى إليه أن الشريف أفسد زوجته حتى طلقها وتزوجها، فأرسل في الحال له النقباء والطواشية وهجموا على المرأة في دارها وحضروا بها بين يديه هى وزوجها الشريف.). وكانت المرأة قريبة لبيت البارزى أحد البيوت المشهور وهم أصحاب صدارة في مصر والشام في ذلك الوقت ، فتشفعوا لها عند الداودار الكبير حتى صفح عنها وعن زوجها الشريف، وقيل أنه غرّمهما ألف دينار للزوج السابق.
إنحلال خلق مرتبط بالنيل
1 ــ وكان الانحلال الخليق للعوام في القاهرة مرتبطاً بأى تجمع عام على النيل أو لأى مناسبة سياسية، وحينها( يختلط الرجال والنساء والصبيان) وتحدث المفاسد، ويتم الوصال برعاية الشيطان.وتعبير(إختلاط الرجال والنساء) شاع فى العصر المملوكى ليدل على مناسبات الانحلال الخلقى فى الموالد وفى المناسبات العامة وليالى(الوقيد) أى إضاءة الشوارع ليلا ، وفى المنتزهات المزدحمة خصوصا على ضفاف النيل.
فقد زاد النيل في صفر 875 فاحتفل الناس بوفاء النيل وحدث الالتقاء المحرم بين الرجال والنساء والصبيان، ومؤرخنا يعرض لذلك على استحياء قائلا:( تحولوا قبل وفاء البحر إليه بأيام عديدة إلى الروضة والجسر والجزيرة ، وأظهروا مفاسد وقبائح لا يسعنا ذكرها.).!.لماذا يا صيرفي لا يسعك ذكرها؟ إنطق يا شيخ وأرحنا.!
وكأنّه يستجيب لرجائنا ، إذ ينطق في نفس الموضوع ببعض تفصيلات قليلة فيقول: ( وأظهروا المفاسد والقبائح والزنا واللواط والخمر والحشيش وركوب البحر بالملاهي ، وما قدمناه. ).
2ــ وحدث أن نقص النيل فأمر السلطان الوالى بالتوجه بأعوانه إلى النيل ( ليمنع الناس من اتيان هذا الفسق ونودى هناك أن أحداً لا يفعل منكراً ومن وجد عنده شيء من المنكر، ينكل به). كانوا يمنعون الانحلال فقط إذا خافوا نقصان النيل وحدوث مجاعة. وكان هذا من سمات العصر المملوكى ، أن يتوقف الانحلال على ضفاف النيل وغيره إذا خيف نقصان النيل لاعتقادهم إن هذا غضب الاهى على ما يرتكبونه. ثم إذا إنتهت الأزمة عادوا الى مجونهم المعتاد، وتظاهروا به فى المنتزهات وعلى النيل.وقوله:( وأظهروا المفاسد .. والزنا واللواط ) معناه أنه ما كان يحدث في الخفاء وفي البيوت أظهروه علنا على النيل.
وفي يوم الأحد 9 شوال 875 كان هناك احتفال أطلقوا من أجله النيران الملونة، وفي ليلة ( الوقيد تلك ) كان الموكب، ( واجتمع لرؤيتها الرجال والنساء والشيوخ والصغار وغالب سكان مصر)، ويقول مؤرخنا: ( وانقلبت مصر والقاهرة لآجله وتهتكوا ). أى أنه بمجرد أن تقام الاحتفالات وتظهر الأضواء يهب أهل القاهرة للفسق. ومصطلح ( التهتك ) كان يعنى الافراط فى الفسق أو فى الحزن أو فى أى مسلك ممقوت.
إنحلال خلقى جماعى ( جماعة ) لأى سبب وفى أى تجمّع وحشد
وبدون النيل تنفّس العوام والخواصّ الانحلال . في يوم الخميس 8 محرم 876 أقاموا احتفالاً بوصول حملة الداودار الكبير إلى حلب لحرب شاه سوار واستمرت الاحتفالات وصاحبتها مظاهر الانحلال الخلقى المعتاد، يقول ابن الصيرفي: ( لكن ترتب على هذا من المفاسد ما لا يحصى ، من شرب الخمر وتهتك النساء مع الرجال مع الصبيان ، وانهماك العوام والأكابر والأواسط على استمرارهم في ذلك بحيث أنه لم يقع له أمر مثل هذا، لاسيما عدم تعرض المماليك السلطانية لأحد من الخلق ببنت شفة )".كانت العادة أن يشترك المماليك السلطانية والجلبان في هذه الاحتفالات فينجم عنها اغتصاب وقتل، ولكن لم يحدث ذلك في تلك المناسبة، فأتيح للناس أن يمارسوا انحلالهم الخلقي في هدوء ( وبالتى هى أحسن ) ، وشارك فيه مع العوام الأكابر والأواسط من الرجال و النساء والصبيان، أى ذابت الفوارق بين الطبقات وأصبح الجميع جسداً واحداً يرقص في محراب إبليس طبقا لشريعتهم السّنية الابليسية .
معابد الانحلال الخلقى
1 ــ وقد سكت ابن الصيرفى عن الانحلال وطقوسه فى المناسبات الدينية كالموالد وفى بيوت العبادة كالمؤسسات الصوفية والترب و المقابر ( المقدسة ) و (الترب )حيث إعتاد الناس المبيت فيها والقباب وغيرها. وممارسة الانحلال فى ظل النقاب .
2 ـ ويبدو أنه أضطر للإشارة الى الأماكن المشهورة بالمجون والانحلال فى القاهرة والتى كانت مخصوصة لتأدية طقوس الفساد الخلقي العام الجماعى مثل الروضة والجسر والجزيرة على النيل بالإضافة إلى أرض الطبالة (العباسة الآن) وبركة الرطلى. وكانت العاهرات اللائى يدفعن ضرائب الدولة يقمن في هذه الأماكن أكثر من غيرها، وبعضهن كُنّ يتهربن من دفع الضرائب، لذا كانت تصدر الأوامر من السلطان الورع قايتباى ـــ لا بمنعهن من الفاحشة ولكن لتحصيل الضرائب منهن. ويتم هذا طبقا للتشريع السّنى وبرعاية قضاة المذاهب الأربعة والفقهاء السنيين الكبار فى هذا العصر ، ومنهم إبن حجر العسقلانى والعينى وشيخ الاسلام زكريا الأنصارى والسيوطى .!!
3 ــ في يوم الجمعة 4 ربيع ثان 876 يقول مؤخنا القاضى المحترم : ( بلغ السلطان نصره الله أن الخواطئ ( أى العاهرات) يفعلن المنكر بالجنينة التى هى أرض الطبالة ففحص عن ( أى سأل عمّن ) يأخذ جعلهن، ( أى يجبى منهن الضريبة ) ، ورسم بالكبس عليهم، وتوجه أعوان الوالى إلى المكان المذكور وضربوا جماعة من الأجانب وحبس شريفاً من الأشراف كان يمارس الفسق هناك وأخذ منهم الضرائب وأطلقهم، ولم يتعرضوا للخواطئ بشيء.). وبالمناسبة .. ( فالخواطىء ) كنّ يرتدين النقاب .! ولكن يتميزن بعلامات تفصح عن وظيفتهن وهن فى الشارع .
4 ــ نسينا أن نسأل مؤرخنا القاضى المحترم ابن الصيرفي عن رأيه في الدولة التى تدعى تطبيق الشريعة وتبيح الزنا وتأخذ عليه الضرائب وتسميه "ضمان المغانى".
الهوامش
1) أنباء الهصر: 188، 399، 454، 215، 113، 135، 148، 124، 203، 205، 271، 319، 337.
تاريخ الانضمام | : | 2006-07-05 |
مقالات منشورة | : | 5098 |
اجمالي القراءات | : | 56,350,167 |
تعليقات له | : | 5,429 |
تعليقات عليه | : | 14,789 |
بلد الميلاد | : | Egypt |
بلد الاقامة | : | United State |
خاتمة كتاب ( القرآن الكريم والنحو العربى )
الكسائى : تلميذ الخليل ومؤسّس مدرسة الكوفة النحوية
في الرد على مقالة (لا نفرق بين احد من رسله )
الإخوان مرض .. التوصيف والعلاج
الجزء الثانى من حوار احمد صبحى منصور مع جريدة الوقت
دعوة للتبرع
المترفون والهلاك: انا شاب مسلم اسعى الى لمعرف ت ديني المعر فه ...
الجبن والخنزير: من المور وث ان الخنز ير حرام اكله كله وقد...
أحبتى الأمازيغ : السل ام عليكم أستاذ ي الفاض ل احمد صبحي...
سلمويه الطبيب: هل ساد التعص ب ضد المسي حيين كل العصر...
لا تقنطوا : أنا في حالة لا يرثى لها،ق انتة من رحمة...
more
نعم نجد ذلك واضحاً في سلوك كثير من المصريين سواء من المسلمين أو المسيحيين على السواء.. فالكثرة الغالبة تمتنع عن ارتكاب جرائم الانحلال الخلقي في أماكن كسب لقمة العيش من دكاكين ومحلات بقالة ووسائل مواصلات خاصة يملكها فرد من أفراد الشعب وعيادات ومدارس خاصة وغيره..
ليس التزاماً حقيقياً ولكنه خوف على لقمة العيش من أن تزول أو تنقص لأنهم يعتقدون أن المنحل خلقياً والفاجر في مكان كسب لقمة العيش سوف يعاقبع الله.. بأن ينزع منه الرزق الوفير أو ينقصه..!
لذلك هم يخافون على لقمة العيش ولا يخافون الله في هذا التصرف..
بدليل أنهم بعد في المساء وبعد ضمان كسب لقمة العيش يذهبون فيشربون ويشكرون وربما يزني منهم ويفجر من امتنع عنه في الصباح..
إنها ثقافة التصوف والسنة في التحايل لضمان تدفق الرزق ولقمة العيش..
شكرا لك أستاذنا العزيز..