السياسة والكنيسة:
دور السياسة في تعميق الخلاف المذهبي بين الكنيستين الشرقية والغربية (ق7 - ق11)

عبدالوهاب سنان النواري Ýí 2014-11-28


قائمة المحتويات:

م

الفصول والمباحث

الموضوع

ص

1

الآية الكريمة

 

 

2

الإهداء

 

 

3

شكر وتقدير

 

 

4

قائمة المحتويات

 

 

5

المقدمة

 

 

6

التمهيد

جذور الخلاف المذهبي بين الكنيستين (ق4 - ق6)

8

7

الفصل الأول

السياسة الدينية والإدارية لأباطرة بيزنطة (ق7 - منتصفق9)

14

8

المبحث الأول

محاولة التوفيق بين المذاهب وتوحيدها (ق7)

15

9

المبحث الثاني

الحملة على الأيقونات (ق8)

17

10

المبحث الثالث

المرحلة الثانية للحملة على الأيقونات (النصف الأولق9)

20

11

الفصل الثاني

السياسة الدينية والإدارية لباباوات روما (ق7 - منتصفق9)

22

12

المبحث الأول

ازدياد نفوذ البابوية (ق7)

23

13

المبحث الثاني

تحالفات البابوية ضد بيزنطة (ق8)

26

14

المبحث الثالث

إحياء الإمبراطورية الرومانية الغربية - المقدسة (النصف الأولق9)

29

15

الفصل الثالث

تطور الخلاف السياسي - المذهبي بين الكنيستين (منتصفق9 - ق11)

31

16

المبحث الأول

التنافس على السيادة الروحية والتبشير بالمسيحية (النصف الثانيق9)

32

17

المبحث الثاني

انشغال كل كنيسة بشئونها الداخلية ومشاكلها الخاصة (ق10)

35

18

المبحث الثالث

تفجر الخلافات والقطيعة الكبرى (ق11)

39

19

الخاتمة

 

41

20

قائمة المصادر والمراجع

 

43

 

 

المقدمة:

     الحمد لله القائل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[آل عمران : 19]  نحمد الله, ونستعينه, ونستهديه, ونثني عليه وحده لا شريك له.. وبعد..

     من الأخطاء التاريخية الفظيعة والشائعة, أن الديانات السماوية ثلاث: (اليهودية, المسيحية, والإسلام), وهذا مخالف لكلام الله سبحانه وتعالى, القائل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}. ومخالف أيضاً للعقل والمنطق, فالإله الواحد الأحد, لا يمكن أن يتعدد دينه, ولا يمكن أن تختلف أو تتناقض تشريعاته. ما حدث بالضبط, أن الله سبحانه وتعالى, أرسل رُسله بالإسلام, ولكن الناس كانوا يحرفون, ويبدلون, ويختلفون, ويفترقون؛ فيشرعون لأنفسهم تشريعات, تتناسب مع أهوائهم ومصالحهم, ثم يتقاتلون ويتصارعون فيما بينهم, وبذلك يبتعدون عن الإسلام. ومع هذا فكل فرقة كانت تدعي, أنها على الحق الذي أنزله الله جل وعلا, وأن باقي الفرق على ظلال مبين. وفي هذا يقول سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}. إذاً حُرفت وبُدلت تشريعات الله جل وعلا, ونشأت بدلا عنها أيدولوجيات, كاليهودية, والمسيحية, وغيرها.. ثم تفرعت عن هذه الأيدولوجيات, فرق وجماعات مختلفة ومتناحرة, قال تعالى نها: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

     ما يهمنا في دراستنا للتاريخ الوسيط, هو أن نفهم حقيقة ما حدث للمسيحية؛ وكنا وأثناء دراستنا لمقرر: دراسات في التاريخ الأوربي الوسيط - على يد الأستاذ الدكتور الفاضل/ عادل محيى الدين الالوسي - قد تناولنا بالبحث: بعثة السيد المسيح (ع), وما لاقاه وأصحابه من اضطهاد, من قبل بني إسرائيل؛ ثم ما حدث لرسالة المسيح, من تحريف وتبديل, تحت وطئت الاضطهاد المنظم والممنهج, من قبل الإمبراطورية الرومانية؛ والتي اعترفت أخيرا بهذه الرسالة, في مرسوم ميلان سنة 313م, ولكن بعد أن أصبحت مزيج من العقائد: اليهودية, والوثنية, والفلسفات اليونانية, وغيرها. كل هذا تحت عنوان: (نشأة البابوية) خلال الفترة (ق1 - ق5)؛ حيث بينا كذلك, كيف أن الكنيسة المسكونية, قامت مقام الإمبراطورية الرومانية المنهارة, وخاصة بعد سقوط روما, في أيدي البرابرة الجرمان, سنة 476م؛ ليصبح أسقف روما, صاحب الكلمة العليا, في العالم المسيحي, متقلدا عرش البابوية, الذي يضاهي عرش الإمبراطورية, من الناحية النظرية.

     وفي أثناء دراستنا لمقرر: دراسات في الحضارة الأوربية - على يد الدكتور الفاضل/ حسين صالح العنسي - كنا قد تناولنا بالبحث: أثر الدين في نفوس الناس, والأسرار المقدسة, والخدمات التي كانت تقدمها الكنيسة الغربية للناس؛ وكيف نشأت وتبلورت حكومة الكنيسة الغربية, وماهي مهام رجال الدين وطبقاتهم؛ ثم استعرضنا كيف دب الفساد في الكنيسة الغربية, لتظهر بعد ذلك جماعات نصبت العداء للبابوية, ودعت لتنقية العقيدة, وكيف أن البابوية واجهة هذه الجماعات, باعتبارها هرطقات خارجة من الملة؛ ثم كيف أن البابوية باركت بعض حركات الإصلاح, التي لم تهاجم البابوية, بل حرصت على رفع مكانة البابا, لينتهي الأمر بنشوب نزاع مرير بين الباباوات والملوك؛ حول مسألة التقليد العلماني, كل هذا تحت عنوان: (الجوانب الدينية في أوربا) خلال الفترة (ق5- ق15).

     وفي أثناء دراستنا لمقرر: دراسات في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية - على يد الدكتور الفاضل/ أحمد صالح العبادي - كنا قد تناولنا بالبحث وبصورة مختصرة: نبذة تعريفية عن الديانة المسيحية, مستعرضين أبرز المشاكل الدينية, التي عانت منها الإمبراطورية البيزنطية, والمتمثلة في المشاجرات الدينية, والشقاق المذهبي, بين مختلف الكنائس والمدارس الشرقية؛ والتي كانت تدور حول طبيعة السيد المسيح, وقضايا عقائدية أخرى مثل: التقية, وهل أن الإنسان مسير أم مخير, ومحاولة عودة الوثنية. كل هذا تحت عنوان: (الدين والمشكلات الدينية في بيزنطة) خلال الفترة (ق4 - ق6).

     وبعد هذه المغامرة البحثية, في هذا الجانب المعقد, من تاريخ العصور الوسطى, رأينا أن السياسة هي التي لعبت الدور الأكبر, في تحريف رسالة السيد المسيح, وهي التي شجعت وأثارت الخلافات المذهبية, خدمة لأهداف الأباطرة والباباوات, على السواء. وكان بإمكان رسالة السيد المسيح أن ترى النور, وكان بالإمكان أن تتلاشى الخلافات المذهبية, لولا أن السياسة تدخلت وأفسدت كل شيء, فأصبح العالم المسيحي شطرين: الشطر الأول- شرقي أرثوذكسي يوناني إغريقي بيزنطي. والشطر الثاني- غربي كاثوليكي لاتيني روماني. ومن هنا رأينا, وبتشجيع من الدكتور الفاضل/ أحمد صالح العبادي, أن نتتبع: (دور السياسة في تعميق الخلاف المذهبي بين الكنيستين الشرقية والغربية), خلال الفترة (ق7-ق11), وهي الفترة التي تبدء, بالصراع بين البابوية والإمبراطورية البيزنطية, وتنتهي بالقطيعة الكبرى, بين الكنيستين الشرقية والغربية.

     والبحث يتألف من: تمهيد وثلاثة فصول, يتألف كل فصل من ثلاثة مباحث. يقدم لنا التمهيد: صورة موجزة, لأهم القضايا التي أدت إلى ذلك الصراع الفكري, والاختلاف المذهبي, الذي ساد العالم المسيحي, ودور الأباطرة في تأجيج ذلك الصراع. كما يعرض لنا أبرز الاختلافات في الشعائرية والطقوس بين الكنيستين. كل هذا تحت عنوان: (جذور الخلاف المذهبي بين الكنيستين), خلال الفترة (ق4 - ق6), وهي الفترة التي تبدء, بالاعتراف بالمسيحية, كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية, وتنتهي بالصراع بين البابوية والإمبراطورية البيزنطية.

     ويتناول الفصلان (الأول, والثاني): السياسة الدينية والإدارية, لكلا من أباطرة بيزنطة والبابوية, على السواء؛ خلال الفترة (ق7 - منتصف ق9), وهي فترة الصراع والتنافس, بين عاهلي العالم الروماني؛ الإمبراطور البيزنطي من جانب, وبابا روما من جانب آخر. والفصل الأول, يتألف من ثلاثة مباحث, حيث يتناول المبحث الأول: المحاولات التي قام بها أباطرة بيزنطة, لتوحيد المذاهب والتوفيق بينها, حتى يتسنى لهم توحيد الإمبراطورية سياسيا, وما كان لهذه المحاولات من آثار سيئة, على الإمبراطورية, وذلك خلال القرن السابع. بينما يتناول المبحث الثاني: حيثيات المشكلة الدينية الكبرى, وهي المشكلة التي تعارف المؤرخون على تسميتها, باسم (حركة تحطيم الصور والأيقونات), وكسر التماثيل الدينية, التي تمثل: المسيح, والعذراء, والرسل, والقديسين, وذلك خلال القرن الثامن. فيما يتناول المبحث الثالث: المرحلة الثانية للحملة على الأيقونات, وما كان لهذه الحملة, من آثار ونتائج سلبية, على الإمبراطورية البيزنطية, وذلك خلال النصف الأول من القرن التاسع.

     ويتألف الفصل الثاني, من ثلاثة مباحث, حيث يتناول المبحث الأول: الظروف والإجراءات التي جعلت, بناء البابوية شامخا, ونفوذها الروحي واسعا, وسلطانها الزمني قويا, وذلك خلال القرن السابع. بينما يتناول المبحث الثاني: الجهود والتحالفات التي قامت بها البابوية, لتتحرر من سلطة الإمبراطور البيزنطي, وذلك خلال القرن الثامن. فيما يتناول المبحث الثالث: مباركة البابوية للجهود الجبارة التي بذلها شارلمان, لإحياء الإمبراطورية الرومانية الغربية, وما لهذا الحدث من انعكاس خطير, على وحدة العالم المسيحي, وذلك خلال النصف الأول من القرن التاسع.

     ويوضح الفصل الثالث: تطور الخلاف السياسي - المذهبي بين الكنيستين, خلال الفترة (منتصف ق9-ق11), وهي الفترة التي تبدء بالتنافس بين الكنيستين, على السيادة الروحية والتبشير بالمسيحية؛ وتنتهي بالقطيعة الكبرى. حيث يتناول المبحث الأول: حيثيات ونتائج التنافس, على السيادة الروحية, والتبشير بالمسيحية, وذلك خلال النصف الثاني من القرن التاسع. بينما يتناول المبحث الثاني: الأحوال والمشاكل الداخلية, التي عانت منها كلا الكنيستين, وذلك خلال القرن العاشر. فيما يتناول المبحث الثالث: الظروف والدوافع, التي أدت إلى تفجر الخلافات العقائدية, ووقوع القطيعة التامة والنهائية بين الكنيستين؛ وذلك خلال القرن الحادي عشر.

     وبعد هذا يشعر الباحث, أنه لم يعط الموضوع حقه من البحث, وأنه لم يجمع كافة خيوط القضية, وأن هناك قضايا هامة, لم يتمكن الباحث من التطرق إليها؛ نتيجة لقلة المراجع والمصادر التاريخية, في مكاتب المحافظة, ناهيك عن ضيق الوقت, ويأمل الباحث, بأن يتمكن من دراستها, بصورة أكثر عمقا, في موضوع رسالته.

                                                                  هذا ومن الله التوفيق

 

التمهيد- جذور الخلاف المذهبي بين الكنيستين (ق4 - ق6):

     بزوال الاضطهاد الديني بحق المسيحيين, وبوصول المسيحية إلى شاطئ الأمان, بدأت الكنيسة المسكونية, تشهد صراع عقائدي بين طوائف المسيحية المختلفة, وطفت على السطح المتناقضات: العنصرية والاجتماعية والفكرية, التي كانت مختفية في القاع, عندما كانت المسيحية مضطهدة. وكاد هذا الصراع أن يهدد وجود الكنيسة, بل واحدث انقساما شاسعا بين مريديها, وقضى على فكرة الكنيسة المسكونة الواحدة, التي تجمع كل المسيحيين.([1])

     والحقيقة أنه يصعب على المؤرخ, تصور ما بلغته المشاجرات الدينية والمشاقات المذهبية, حول القضايا اللاهوتية, من عنف وبغضاء. ومع ذلك, نعرض هنا وبإيجاز, أهم القضايا التي أدت إلى مثل هذا الوضع الحرج, إذ أنها كانت بالفعل سبباً مباشراً لهذه الانشقاقات, والتي لا يزال بعضها قائما حتى الآن. فالاختلاف الجوهري يقوم حول طبيعة السيد المسيح (1-33), هل هي طبيعة بشرية, أم طبيعة الإلهية, أم أن له طبيعتان, وأيهما الطبيعة الغالبة. فأتباع (الطبيعة الواحدة), والذين كان يهمهم في الدرجة الأولى, المحافظة على الوحدة الإلهية أو الجانب الإلهي في شخصية المسيح, قالوا: إن ظهور السيد المسيح بلحمه ودمه, وآلامه وصلبه، لم يكن إلا تشبيهاً. أما خصومهم (أتباع الطبيعتين), فقد رأوا في هذه كلها حقائق مطلقة, ووقائع لا يراودها الشك, وأن الطبيعة البشرية, تختلف عن الطبيعة الإلهية, بحيث أن الآلام التي تحملتها احداهما لا تمس الثانية بشيء.([2])

     وفي أفريقيا ظهر أول انشقاق, وذلك بعد اعتناق الإمبراطور قسطنطين الكبير (305-337), للمسيحية بقليل, قاد هذا الانشقاق أحد رجال الدين المتطرفين, واسمه (دوناتوس), مكوناً جماعة جديدة, أطلق على أتباعها بالدوناتيون؛ وذلك احتجاجاً على تعيين (كايكيليانوس), أسقفا على قرطاجة؛ لأن هذا الأسقف, أعلن العفو عن كل الذين خانوا العقيدة - أثناء اضطهاد الإمبراطور ديوقلديانوس (284-305), للمسيحيين - وسلموا الأناجيل لكي تحرق. واتسعت هوة الخلاف, عندما رفض الإمبراطور قسطنطين الكبير, تطبيق قوانين امتيازات المسيحيين, لتشمل أتباع حركة دوناتوس, بل أنه كلف السلطات العسكرية, بسحق هذه الحركة.([3])

     كان الدوناتيون, ينشدون كنيسة لا تضم سوى القديسين, فقوة الكنيسة من وجهة نظرهم, سوف تضعف إذا سمحت للأشرار - المرتدين والفاسدين - بالانخراط في صفوفها, إذ أن الرب سوف يحكم بعدله بين الناس جميعا, فيقصي الأشرار عن ملكوت السماوات.([4]) وفي عام 321, أدرك الإمبراطور قسطنطين الكبير, عدم جدوى هذا الاضطهاد؛ لأنه يزيد المنشقين عناداً على عنادهم, فكف يده عنهم. وفي مصر, أعلن القديس ميليتوس (أسقف أسيوط), اعتراضه على التسامح الذي ابداه القديس بطرس (أسقف الإسكندرية) نحو المسيحيين الذين خانوا العقيدة, أبان اضطهاد الإمبراطور ديوقلديانوس. وانشق ميليتوس, مكونا جماعة جديدة, كان أحد أعضائها ناسك ذكي, أسمه أريوس (256-336).([5])

     يرى أريوس, أن (المسيح) الابن  أقل من الأب في الجوهر, وأن المسيح مخلوق مثل بقية المخلوقات, ولكنه قال بسمو المسيح فجعله (سيد الخلق). وأقرت الآريوسية, أن المنطق يحتم وجود الأب قبل الابن. وقد ناهض هذه الآراء (أثناسيوس) (293-373) أسقف الإسكندرية, حيث قال: أن الأب والابن من جوهر واحد. ولما انتقل النزاع الديني, من مصر إلى غيرها من أقاليم الإمبراطورية الرومانية, أراد الإمبراطور قسطنطين الكبير, وضع حد لهذا النزاع في مرحلته المبكرة, فعقد مجمع ديني في مدينة نيقيه سنة 325؛ لإرساء قواعد الإيمان, ووضع صيغة للعقيدة, وهو ما عرف بقانون (الإيمان المسيحي). وقد ضم هذا المجمع 318 – أسقف, في أول مجمع مسكوني عرفته المسيحية. وانتهى المجمع إلى رفض آراء أريوس, ونفيه إلى (تربيه) في بلاد الغال, وإدانة أنصاره بالهرطقة .([6])

     غير أن النزاع بين الآريوسية والاثناسيوسية, لم يقف عند هذا الحد, فبعد أن مات الإمبراطور قسطنطين الكبير, خلفه على العرش ابنه قنسطنطيوس (337-361), وقد شرع الإمبراطور الجديد, يـبحث بنفسه أبوة المسيح, حتى انتهى رأيه إلى اعتناق مذهب أريوس, وفي سنه 353, تقرر طرد أثناسيوس من كرسي الإسكندرية. وعلى الفور, حشد قائد الحامية العسكرية الرومانية بمدينة الإسكندرية قواته, وهاجم الكنيسة التي كان يؤدي فيها أثناسيوس وأنصاره الصلاة, فقتل الكثير منهم, ولكن البطريرك أثناسيوس, لم يصب بأي أذى, وتمكن من الهرب. واختار الآريوسيون (جورج الكبادوكي) بطريركا على الإسكندرية, حيث بدأ في التو, سلسلة من الإجراءات العنيفة؛ لإرغام الناس على قبول المذهب الآريوسي, وقد استخدم القوة العسكرية, في سحق كل أولئك الذين رفضوا اعتناق مذهب أريوس, وذلك بتعذيبهم أو قتلهم أو نفيهم.([7])    

     أما الفرقة البيلاجيوسية, فقد نادت بحرية الإرادة وأن الإنسان مخير وليس مسير, وأنكرت توارث الخطيئة الأولى في صلب آدم, تلك الخطيئة التي سببت نقمة الله وخروج آدم من الجنة, حسب فهم البابوية. وسميت الفرقة بذلك الاسم نسبة إلى بيلاجيوس, وهو راهب انجليزي قدم إلى روما سنة 400, وغادرها إلى قرطاجة سنة 409, ومنها إلى فلسطين. وقد كدرت آراؤه الدينية الاجواء, في كل من أوربا وافريقيا وآسيا. لذا أصدر البابا إنوسنت الأول سنة 402, قرارا بتحريم الآراء البيلاجيوسية واعتبرها هرطقة. وأكد ذلك القرار مجمع افيسوس سنة 431.([8]) إلا أن البيلاجيوسية وجدت لها عشاقا بين رهبان بلاد الغال. ومن هناك انتقلت إلى انجلترا, حيث عجزت الكنيسة الكاثوليكية - الرومانية, أن تملي شروطها في هذه الولاية.([9])

     وفي منتصف القرن الخامس, أقرت مدرسة أنطاكية, أن للمسيح طبيعتين واضحتين (إلهية وبشرية) وأن الطبيعة البشرية هي الغالبة, وقالت: أن المسيح بشر استقرت فيه الإلوهية, وأن مريم (15ق.م-48م), ليست (أم المسيح الإله) ولكنها أم المسيح البشر. الأمر الذي جعل تلك المدرسة, تصطدم بآراء آباء الكنيسة المجمع عليها. وقد حدث أن راهبا من تلاميذ تلك المدرسة يدعى نسطوريوس (381-450), اعتلى كرسي بطريركية القسطنطينية في سنة 428, وراح ينشر آراء تلك المدرسة بحماس شديد ومهارة فائقة. وقد تصدى له كيرلس (412-444), بطريرك الإسكندرية, وقد وقف البابا سلستين إلى جانب كيرلس, وأعلن إدانة نسطوريوس, واعتبر آراءه هرطقة. وحسما للخلاف, دعا الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني (408-450), إلى عقد مجمع ديني لحسم الخلاف, وفي سنة 431, عقد المجمع في القسطنطينية, وتقرر إدانة نسطوريوس.([10])

     أما المونوفيزتية (الطبيعة الواحدة), فقال اتباعها: أن للمسيح طبيعة إلهية, منكرين أن للمسيح طبيعة بشرية. وقد تقرر في مجمع خلقيدونية سنة 451, بطلان هذا الرأي. إلا أن كنيسة الإسكندرية - بطلة المونوفيزتية ومهدها - لم تأبه لتلك القرارات. وأصبحت المونوفيزتية, المذهب الوطني في الحبشة ومصر وسوريا, وكانت من العوامل الهامة, في وقوع القطرين الأخيرين تحت الحيازة العربية فيما بعد.([11])

     وفي القسطنطينية, ظهر راهب يدعى إيوتيخيوس (أوتيخا) (378-454), وقد اعتنق مبادئ كيرلس, ولكنه أضاف بقوله: انه كانت هناك طبيعتان للمسيح قبل التجسد, طبيعية إلهية وطبيعة بشرية, ولكن بعد التجسد, اتحدت الطبيعتان معا, حتى أصبح للمسيح طبيعة واحدة فقط, وهي الطبيعة الإلهية. وبمعنى آخر, أن الطبيعة البشرية في المسيح تلاشت في الطبيعة الإلهية, كما تتلاشى تماما نقطة خل في المحيط.([12])

     وقد حاول الإمبراطور رينون (474-491), التوفيق بين أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة, وبين أصحاب مذهب الطبيعيتين, فنشر في يوليو سنة 482, وبموافقة بطريرك القسطنطينية أكاسيوس, مرسومه الشهير المعروفة باسم هينوتيكون أي مرسوم الاتحاد (الوحدة), واعترف هذا المرسوم, بقرارات المجامع المسكونية الثلاثة الأولى, السابقة لمجمع خلقيدونية (451), وهي نيقيه (325), وافسوس (431), والقسطنطينية (431). وقد تحاشى هذا المرسوم ذكر تعبير (مذهب الطبيعة الواحدة), كمحاولة لإيجاد حل وسط؛ الغرض منه اعادة الهدوء إلى مختلف الكنائس. والواقع انه كان من الصعب الوصول إلى أي توافق في المسائل الدينية، فلم يرض المرسوم أتباع مجمع خلقيدونية, ولا أتباع المونوفيزتية، ومن ثم زاد الخلاف بين الفريقين. فضلا عن ذلك أعلن البابا فيلكس الثالث (483-492), رفضه لمرسوم الاتحاد, وأصدر قرار الحرمان ضد بطريك القسطنطينية, فرد الأخير بأن حذف ذكر أسم البابا من الشعائر  الدينية, الأمر الذي أدى إلى شقاق بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية, استمر ثلاثين عام.([13])

     كانت الفرق المسيحية المتنافسة, تولي اهتماما كبيرا للحصول على مساعدة الحكومة, لإسكات معارضيها؛ ومن ثم فانه مع بداية وجود الإمبراطورية الرومانية المسيحية, استطاع الإمبراطور قسطنطين الكبير, أن يرس التقاليد التي جعلت من حق الإمبراطور, أن يقوم بحل مشكلات العقيدة, وفقا لرأيه الخاص في أغلب الأحيان, ولكي يدعو إلى عقد المجامع الكنسية ويرأسها ثم ينفذ قراراتها. وهنا تكمن بداية النموذج البيزنطي (الملك - الكاهن). وهو النموذج الذي يجمع فيه الإمبراطور, بين مهمة القيصر ومهمة البابا, وفقا للنظرية القائلة: بأن الإمبراطور, نائب الله في الأرض, وأنه يتفوق في سلطته الدينية, على جميع رجال الدين. فأخذ الأباطرة يلعبون دورا هاما ورائدا, في حياة الكنيسة المسكونية, التي أرتهن تاريخها - في جزء كبير منه - بالآراء الدينية والسياسية المتقلبة, لمختلف الأباطرة.([14])

     كان على الكنيسة المسكونية, أن تتبنى ثقافة مختلف المناطق التي كان اتباعها يقطنون بها؛ ولكن هذا كان ضربا من المستحيل. وهكذا كان ثمة تمهيد لانفصال مذهبي بين الشرق والغرب؛ إذ كان المسيحيون في الإمبراطورية الرومانية الشرقية, راغبين في صياغة العقيدة, وتحديد جوهرها, في مصطلحات منطقية وفلسفية. أما العالم اللاتيني في الغرب, فقد خلا في معظمه, من الخلاف المذهبي, وبدا الأمر في نظر المسيحيين الغربيين, وكأنما يحاول رفاقهم الشرقيين, أن يحددوا ما لا يمكن تحديده. وبدلا من الاهتمام بالمشاكل المنطقية والفلسفية, أهتم الغربيون بالمشاكل العملية, كالاهتمام بإدارة الكنيسة, والعلاقة بين الله والإنسان.([15])

     وبفعل التأثر بالتنظيمات الإدارية الرومانية السائدة, اقتبست المسيحية, العديد من تراتبيات النظام البيروقراطي في العمل. ليبرز للعيان منصب ديني جديد, تمثل في (البطريرك), حيث نصب خمسة بطاركة, في المراكز الرئيسية, التي شملت العالم المسيحي, وهي: (روما, القسطنطينية, أنطاكية, بيت المقدس, الإسكندرية). وقد ساهم الاختلاف المذهبي, إلى حد بعيد, في تعميق حدة الفواصل والانقسامات, بين هذه المراكز. إلا أن روما, حظيت بالمكانة الأسمى والأهم, لاستنادها على وراثة القديس بطرس.([16])

     غير أنه لم يكن في وسع بطاركة الكنيسة الشرقية, أن يعترفوا بالسلطان الأعلى لأسقف روما؛ لسبب واضح, وهو أنهم كانوا ومنذ زمن بعيد, خاضعين لأباطرة الروم البيزنطيين, وأن هؤلاء الأباطرة, لم ينزلوا حتى عام 871, عن دعواهم بأن لهم السيادة على روما بما فيها من باباوات.([17]) على أن هذه الدعوى لم تواجه, بأي تحد في بيزنطة حتى القرن الثامن, أما أسقف روما, ومنذ نهاية القرن الخامس, فكان ينكر حق الأباطرة, في التدخل في شئون الكنيسة, المذهبية والتنظيمية, وكان النزاع الذي استمر عدة قرون, نتيجة لذلك؛ بمثابة السبب الرئيسي, في الانشقاق بين الكنائس الشرقية والكنائس الغربية.([18])

     كان المحور الذي تدور عليه العبادات المسيحية, وأهم شعائرها هو (القداس), وكان هذا الاحتفال يعرف في القرون الأربعة الأولى, باسم (الحمد). وهو ذكرى للـ (عشاء الأخير للسيد المسيح), وهو جوهر الصلوات وعمادها الأساسي, ثم اجتمعت حوله, على مر الزمان, مراسيم متتابعة معقدة, من الأدعية والترانيم, تختلف باختلاف أيام السنة, وفصولها, والغرض الذي يقام من أجله هذا القداس أو ذاك. وقد دونت هذه المراسم في كتاب القداس؛ ليسهل على القس الرجوع إليها. وكانت الكنيسة الشرقية تفصل بين الرجال والنساء, وقت الاجتماع لإقامة القداس دائما, أما الكنيسة الغربية فلا تفعل ذلك إلا في بعض الأحيان.([19])

     وكانت مراسم تثبيت العماد والقربان المقدس, تقام عند أتباع الكنيسة الشرقية, بعد التعميد مباشرة. أما عند أتباع الكنيسة الغربية, فقد أجلت سن تثبيت العماد شيئا فشيئا, إلى السنة السابعة من حياة الطفل؛ حتى يتمكن من تعلم المبادئ الأساسية للدين المسيحي. وأدى انقسام الكنيسة إلى شرقية وغربية, إلى اختلاف في الشعائر الدينية, كما أدى عجز الباباوات الأولين, عن أن يفرضوا إرادتهم كاملة خارج حدود إيطاليا الوسطى, إلى وجود خلاف في الحفلات الدينية حتى داخل الكنيسة الغربية نفسها.([20]) لقد كانت العقيدة الكاثوليكية, تتحدث عن الروح القدس, بأنه: (ينبعث من الأب), ثم حدث أن تغير منطقها فجعلته: (المنبعث من الأب والأبن). واحتج رجال الدين الأرثوذكس, وقالوا: أن الروح القدس لا ينبعث من الأبن, بل ينبعث عن طريقه.([21])

     وهكذا أخذت الهوة, بين المسيحية الشرقية, والمسيحية الغربية تزداد, بسبب ما كان بينهما من اختلاف في: اللغة والطقوس والعقائد. فقد كان الثواب الكهنوتي, والطقوس, والآنية, والزخارف المقدسة, في الكنيسة الشرقية أشد تعقيدا, وأكثر زخرفا, وأعظم عناية, من مثيلاتها في الغرب. ومثلا, كان ذراعا الصليب الشرقي متساويين, وعلى العكس منه, كان ذراعا الصليب الغربي غير متساويين. وكان الأرثوذكس, يعمدون أطفالهم بأن يغمروهم في الماء المقدس, أما الكاثوليك, فكانوا فقط يرشون عليهم الماء. وكان الزواج محرما على القساوسة الكاثوليك, ومباحا للقساوسة الأرثوذكس. وكان القسيسون الكاثوليك يحلقون لحاهم, أما الأرثوذكس فكانوا يرسلونها. وتخصص رجال الدين الكاثوليك في الشئون السياسية, أما رجال الدين الأرثوذكس فتخصصوا في أمور الفكر.([22])ولم تؤيد الكنيسة الشرقية الحروب, بل كانت ترفض السماح بها, مهما كانت دوافعها, بعكس الحال في الكنيسة الغربية, التي شجعت الحروب, وأسهمت فيها بنصيب وافر, بل وباركتها البابوية, وأمدتها بتأييدها الروحي والمعنوي, تحقيقا لمصالحها.([23])

     هذه صورة موجزة, للصراع الفكري, والاختلاف المذهبي, الذي ساد العالم المسيحي, فأضعف وحدته, وقضى على فكرة الكنيسة المسكونية الواحدة, متسببا في ظهور قطبين للمسيحية: في الغرب روما, ذات المذهب الكاثوليكي, والثقافة اللاتينية, وعلى رأسه البابا. وفي الشرق القسطنطينية, ذات المذهب الأرثوذكسي, والثقافة اليونانية, وعلى رأسه الإمبراطور.

    

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول- السياسة الدينية والإدارية لأباطرة بيزنطة (ق7 - منتصفق9):

المبحث الأول: محاولة التوفيق بين المذاهب وتوحيدها (ق7).

المبحث الثاني: الحملة على الأيقونات (ق8).

المبحث الثالث: المرحلة الثانية للحملة على الأيقونات (النصف الأولق9).

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول-محاولة التوفيق بين المذاهب وتوحيدها (ق7):

     إلى جانب الاختلافات الفكرية والمذهبية, التي كان لها أسوأ الأثر, على وحدة العالم الروماني, المعروفة باسم (السلم الروماني) pox roman, وجدت الحواجز والفوارق اللغوية والحضارية أيضا. ففي هذه الأثناء (القرن السابع) كانت الإمبراطورية الرومانية, تنقسم إلى قسمين متباينين: القسم الغربي, وقد سادت فيه اللغة والثقافة اللاتينية. والقسم الشرقي, وسادت فيه اللغة والثقافة اليونانية, وذلك بحكم الموقع الجغرافي. كان هذا الشقاق ظاهريا في أول الأمر, عندما كانت الحكومة قوية, إلا أنه سرعان ما تفاقم خطره, حتى أصبح مع مرور الزمن حقيقة واقعة. فاصطبغت حضارة الشرق بصبغة يونانية بحتة, بينما اصطبغت حضارة الغرب بطابع لاتيني خالص. واختلفت العادات والتقاليد في القسمين, اختلافا واضحا, ولم يعد كل منهما يفهم الآخر تمام الفهم.([24]) ومن هنا, نستطيع أن نفسر الكثير من المواقف المختلفة والمتباينة, التي اتخذها كل من اللاتين واليونان ازاء بعض, ومواقفهما حيال الأحداث التي جرت في القرون التالية.([25])

     وتفصيل ما حدث, أن الإمبراطور هرقل (610-641), كان يتوق إلى توحيد إمبراطوريته, التي أنقذها من أعدائه الفرس.([26]) فبعد أن انتهى من حروبه معهم, أخذ يوجه عنايته نحو المسألة الدينية, التي كانت شغله الشاغل في ذلك الحين. وكان أقصى ما يتمناه, هو توحيد المذاهب المسيحية المختلفة, حتى تصبح كتلة واحدة. لقد أعتقد هرقل بعد انتصاره الكبير على الفرس, أنه أصبح حامي المسيحية, وأن هذا هو الوقت المناسب, لحل مشكلة انقسام المسيحية وتعدد مذاهبها, التي اخفق اسلافه في حلها. وكان يؤمن أن انتصاره الديني, سيكون أكبر عون له, لتحقيق الوحدة السياسية للإمبراطورية, واخراجها من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة والواقع.([27])

     سعى الإمبراطور هرقل, إلى التوفيق بين الشرق ذي المذهب الأرثوذكسي المونوفيزتي, القائل: بأن ليس للمسيح إلا طبيعة واحدة. وبين الغرب, المتمسك بمبادئ الكاثوليكية الأساسية, والقائلة: بأن للمسيح طبيعتين.([28]) وأستقر رأي الإمبراطور, بعد مشورة بعض كبار رجال الدين, على مذهب جديد وهو مذهب التوفيق أو مذهب التوحيد, ويقضي هذا المذهب: بأن يمتنع الناس عن مناقشة موضوع طبيعة المسيح وجوهره, وأن عليهم الاكتفاء بالقول: أن للمسيح ارادة واحدة فقط.([29]) وفي عام 638, أصدر منشورا بهذا الخصوص. وقد وافق البابا هونوريوس الأول, على هذا الاقتراح, وأضاف إلى ذلك قوله: إن مسألة الإرادة الواحدة أو الإرادتين, مسألة أتركها للنحويين؛ لأنها من المسائل القليلة الخطر. ولكن رجال الدين في الغرب نددوا بموقفه هذا؛ وعليه, فلم تؤد المحاولة المذكورة إلى أي وحدة دينية, بل - على العكس من ذلك - أدت إلى نزاع ديني شديد.([30])

     وبعد أن فشل الإمبراطور من الناحية الدينية, اتجه اهتمامه إلى الناحية الإدارية, ولإيضاح هذه المسألة, يحسن الاشارة إلى أهم ما حدث في أيام الإمبراطور هرقل. ففي عهده, اتخذت الإمبراطورية البيزنطية طريقا شرقيا يونانيا خالصا. لقد رأى هرقل, نظم دولته متضاربة بين لاتينية ويونانية. لهذا وجه, بأن تصبح اليونانية هي اللغة الرسمية للإمبراطورية, بعد أن كان النظام الإداري خليطا عجيبا من اللغتين. وقل تبعا لذلك, عدد المتكلمين باللاتينية, قلة ملموسة, في القطاع الشرقي من الإمبراطورية, وفي القسطنطينية بصفة خاصة, كما تناقص عدد المتكلمين باليونانية, في القطاع الغربي منها, وخاصة في روما. كذلك تخلى هرقل, عن الألقاب اللاتينية القديمة, واستخدم الألقاب اليونانية, مثل لقب باسيليوس, ومعناه حاكم أو ملك. وعلى هذا النحو, سارت الإمبراطورية البيزنطية, في طريق مختلف تماما, عن ذلك الطريق الذي سارت فيه روما القديمة؛ واتسعت تبعا لذلك هوة الخلاف بين شقي أوربا (الشرقي والغربي), حتى بات كل شق ينظر إلى الآخر, على أنه مهرطق وعدوه اللدود. وكان لهذا انعكاسه - بطبيعة الحال - على العلاقات بين الكنيستين الشرقية والغربية.([31])

     وقد عمل الإمبراطور قنسطانز الثاني (قسطنطيوس) (641-668), على التوفيق بين المذاهب لتوحيدها, فأصدر منشورا سنة 648, يبدي فيه ميله إلى مذهب سلفه هرقل, ويحرم فيه أي نقاش حول المونوفيزتية.([32]) ولكن البابا مارتن الأول (649-655), عقد مجمعا دينيا في روما سنة 649, وأعلن فيه, بطلان المرسوم الذي أصدره الإمبراطور, فقد كانت البابوية, تطمع في تحريم المونوفيزتية, واضطهاد أتباعها.([33]) فأمر الإمبراطور, حاكم رافنا, أن يقبض على البابا ويأتي به إلى القسطنطينية, ولما لم يذعن البابا لرغبة الإمبراطور, نُفي إلى شبه جزيرة القرم, ونصب الإمبراطور مكانه البابا هونوريوس, الذي سار مع رغبة الإمبراطور. ولكن المجمع المسكوني السادس, الذي اجتمع في القسطنطينية عام 680, رفض المذهب الجديد, وحكم على البابا هونوريوس, بأنه يحابي الخارجين على الدين.([34])

     على إن السياسة, أتت بنتائجها المدمرة على الإمبراطورية؛ ليس فقط, لأنها أبعدت أسقف روما, الذي لم يكن ممكنا أن تتحقق السيادة الكاملة, دون موافقته وتأييده؛ ولكن أيضا, لأنها, أدت إلى فقدان أغنى الولايات الشرقية, والتي استولى عليها العرب. فقد وجد الأباطرة انفسهم مضطرين, إلى اضطهاد مجموعات كبيرة, ممن اعتبروهم هراطقة في بلاد الشام وشمال إفريقيا, مما جعل هؤلاء, يتحولون إلى المعارضة السياسية, ويرحبون بالعرب باعتبارهم منقذين.([35])

المبحث الثاني-الحملة على الأيقونات (ق8):

     بعد أن انتهى الإمبراطور ليو الثالث الأيسوري (717-740), من حروبه مع العرب, الذين كانوا محاصرين لمدينة القسطنطينية, عمد إلى اتخاذ سلسلة من الاصلاحات الداخلية, والتي لا تقل أهمية في نظره, عن دفع العرب عن عاصمة ملكة.([36]) فقد أدخل كثيرا من التحسينات الإدارية, ونظم الشئون المالية, وحد من نفوذ كبار ملاك الأراضي. ففي سنة 726, أصدر باسمه, وباسم ابنه قسطنطين الخامس (740-775), مرجعا قانونيا, عرف باسم الأكلوجا ecloga(المختار), واشتمل هذا المرجع القانوني, على مختارات من أهم قواعد القانون المدني والجنائي, وقد اهتم فيه وبصفة خاصة, بقانون الأسرة والوراثة, بينما احتل القانون الخاص بالممتلكات, المرتبة الثانية. وكان الغرض من اصدار الأكلوجا, هو تزويد القضاة, بمذكرة قانونية, تساير الحاجات العملية, وتغنيهم عن القوانين المطولة, والمنسوبة للإمبراطور جستنيان الأول (527-565).([37])

     اعتمدت الأكلوجا, على القانون الروماني في مجموعة جستنيان الأول, التي ظلت أساس القضاء البيزنطي. ورغم ذلك لم تكن الأكلوجا, مجرد مختارات من القوانين القديمة, بل حاولت الاهتمام بالنواحي الإنسانية. واختلفت الأكلوجا عن قانون جستنيان الأول, بتأثرها بالتعاليم الكنسية, والأعراف والعادات الشرقية. وفي مقدمة الأكلوجا, أعلن الإمبراطور ليو الثالث, العزم على أن يضع حدا للرشوة والفساد, عند متولي الوظائف القضائية, وأن يوفر لرجال القضاء, مرتباتهم من خزينة الدولة.([38])

     على أن هناك مشكلة دينية كبرى, ظهرت في هذه الأثناء, وكان لهذه المشكلة آثار بالغة الأهمية, في تاريخ العلاقات بين المسيحيين في الشرق والغرب, منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا. وهي المشكلة, التي تعارف المؤرخون على تسميتها, باسم (حركة تحطيم الصور والأيقونات), وكسر التماثيل الدينية, التي تمثل: المسيح, والعذراء, والرسل, والقديسين. الأمر الذي ترك أثرا سيئا, على الإمبراطورية من الناحية الداخلية, وعلى موقف بابوية روما وكنيستها اللاتينية الكاثوليكية, من أباطرة بيزنطة, وهي التي كانت تؤمن بالصور والأيقونات, أيمانا عميقا, ورثته عن تاريخها القديم.([39])

     وتفاصيل المشكلة, أنه ظهر في القسطنطينية, رأي ينادي بتحريم تبجيل وعبادة هذه الصور والتماثيل, بعد أن انتشرت وشاعت, حتى أخذ المسلمون - بسببها - يعيبون على المسيحيين, أنهم يعبدون الأصنام. في حين رأى المؤيدون لعبادة الصور الدينية, أن تبجيلها أمر طبيعي, يقظيه احترام صاحب الصورة. على أن عبادة الايقونات, جاءت مصحوبة بكثير من البدع والخرافات, الأمر الذي استنكره المثقفون في الإمبراطورية البيزنطية, ومن بينهم الإمبراطور ليو الثالث نفسه, فقد كان على جانب من الثقافة, مكنه من تفهم حقيقة الوضع. وهنا نلاحظ أمرين: أولهما, أن عبادة الصور والايقونات, لم تكن بالأمر الجديد في المسيحية, وإنما ترجع بدايتها إلى القرن الرابع نفسه, أي إلى العصر الذي تم فيه الاعتراف بالمسيحية رسميا, وحينذاك بدأ تزيين الكنائس بالصور والتماثيل الدينية, وبدأت هذه الأيقونات, تحتل مكانة خاصة في قلوب كثير من أتباع الكنيسة. الأمر الثاني, أن الاعتراض على عبادة الايقونات, لم يكن وليد القرن الثامن, وإنما امتدت جذوره إلى ما قبل ذلك بكثير, فقد استاء بعض المسيحيين المخلصين من تصوير الانسان, بالفسيفساء أو النقوش الجصية البارزة (الفرسكو) أو نحتها في الحجر, واعتبروا ذلك من الوثنية, حتى أن مجمع (الوير), الذي عقد في أوائل القرن السادس في اسبانيا, نادى بتحريم وضع الصور والتماثيل في الكنائس.([40])

     ويبدوا أن عبادة الايقونات, انتشرت انتشارا واسعا في القرن الثامن, مما تطلب من الإمبراطور ليو الثالث, علاجا سريعا لهذه المشكلة. وهناك رأي يقول: أن الإمبراطور استغل هذه المشكلة, للقضاء على نفوذ الاديرة, بعد أن تضخمت ثروتها, وتضاعفت ممتلكاتها المعفاة من الضرائب, وازدادت حقوقها وامتيازاتها, مما جعلها خطرا كبيرا على الدولة. وقد وجد الإمبراطور, تشجيعا وتأييدا لسياسته اللاأيقونية, من بعض كبار موظفي الدولة, المدنيين والعسكريين, فضلا عن المثقفين من رجال الدين. ولم تلبث جموع الجند, أن سايرت الإمبراطور في سياسته, كما شايعت هذه السياسة, معظم الأجزاء الشرقية من الإمبراطورية. وهنا لا نستطيع أن نجد تفسيرا, لقوة الحركة اللاأيقونية في الشرق, عنها في الغرب, إلا في أثر العقيدة الإسلامية, التي قاومت الأصنام وعبادتها, فضلا عن تأثير اليهود, الذين حرموا عبادة الصور وتقديسها.([41])

     أما المعارضون, لسياسة الإمبراطور الدينية, فكان على رأسهم الديريون والرهبان, الذين وجدوا في عبادة الايقونات مصلحة خاصة لهم, فقد كانوا أول المنتفعين منها؛ لذا أخذوا يبذرون بذور الفتنة والشقاق في كل مكان, ووجدوا مؤيدين كثيرين لهم, وبخاصة بين كبار النبلاء, الذين تطلبت مصالحهم الخاصة, معارضة الإمبراطور والوقوف في وجهه, كما تمسكت بهذه العبادة, الطبقات الدنيا من الناس؛ نتيجة لجهل أفرادها, وانتشار البدع والمعتقدات الباطلة في أوساطها. وهكذا انقسم الناس, إلى معسكرين: أيقونيين ولاأيقونيين.([42])

     بدأ الإمبراطور حملته ضد الايقونات سنة 726, حيث عقد مجمعا, من الأساقفة وأعضاء مجلس الشيوخ, وأذاع بموافقتهم, مرسوما يطلب فيه: إزالة جميع الصور والتماثيل الدينية من الكنائس, وحرم تصوير السيد المسيح والعذراء والرسل والقديسين, وأمر بأن يغطى بالجص ما على جدران الكنائس من صور. وقد ثار عوام الشعب, وقاموا بمهاجمة الجنود, الذين حاولوا تنفيذ المرسوم بالقوة, وسير الثوار اسطولا ليستولي على القسطنطينية, منادين بإمبراطور جديد, ولكن الإمبراطور ليو الثالث, تصدى للثوار, ودمر أسطولهم, وزج بالزعماء المعارضين في السجون.([43])

     ويهمنا في هذا المقام, أن النزاع اللاأيقوني, كان له أثر خطير, بالنسبة لإيطاليا والبابوية, وعلاقتهما بالإمبراطورية البيزنطية. ذلك أن أواسط ايطاليا وروما ورافنا, وقفت جميعا إلى جانب البابوية في المعسكر الأيقوني, في حين كانت صقلية وجنوب ايطاليا في جانب الإمبراطور. وفي سنة 731, أصدر البابا جريجوري الثالث (731-741), قرار الحرمان ضد الإمبراطور ليو الثالث, وقد رد عليه الإمبراطور, بأن حرم البابوية من حقوقها وأملاكها, في صقلية وجنوب ايطاليا, وفصل الكراسي الاسقفية في هذه الجهات, عن سلطان البابا الديني والقضائي, وجعلها تحت سلطان بطريرك القسطنطينية.([44])

     وانتهى عصر الإمبراطور ليو الثالث الأيسوري, في عام 741, ومشكلة الأيقونات باقية, ليتصدى لها ابنه من بعده, بصورة أشد قسوة من أبيه.([45]) كما سار أباطرة البيت الأيسورية, بسيرة الإمبراطور ليو الثالث, فكانوا من كبار محطمي الصور, حتى أصبحت الإمبراطورة الأرملة (أيرين), وصية على ولدها, الإمبراطور قسطنطين السادس (780-797), في الفترة من 780 إلى 797, وكان إذ ذاك في العاشرة من عمره. وقد تمكنت من اكتساب حب الجماهير لها, وعطف رجال الدين عليها, بوقفها حركة اضطهاد أنصار عبادة الأيقونات. فقد عقدت في سنة 788, صلحا مع روما, ودعت المجمع المسكوني السابع - آخر المجامع المسكونية الكبرى - للانعقاد في مدينة نيقيه, للعمل على ارجاع عبادة الأيقونات, وكان هذا الإجراء, مبعث سرور للكنيسة الغربية ولغالبية الشعب. ونتيجة لهذا العمل, غفر رجال الدين ذنوب أيرين, ورفعتها الكنيسة إلى مقام القديسين؛ ولكن أنصار الحركة اللاأيقونية, وخاصة الجند الآسيويين, لم يرضوا عن هذا الإجراء, كما ساءهم أن تسودهم امرأة؛ لكل هذا وقفوا منها موقف المعارضة وثاروا عليها.([46])

 

 

 

المبحث الثالث-المرحلة الثانية للحملة على الأيقونات (النصف الأولق9):

     تميزت الفترة الأخيرة من حكم الأسرة الأيسورية, بكثرة ثوراتها, وعودة الحركة اللاأيقونية, وقد انتهى الأمر, بأن خلع أيرين عن العرش, وزير ماليتها المسمى (نقفور الأول), الذي حكم من سنة 802 إلى سنة 811, وهذا الإمبراطور, من أصل شرقي, أقامت أسرته في آسيا الصغرى؛ ولذلك كان مثل أسلافه الأيسوريين, محطما للتماثيل, رافضا بشدة عودة عبادتها. أما خليفته في الحكم, ميخائيل الأول (811-813), فقد أثار غضب الجيش, والمثقفين من الشعب؛ عندما أبعد محطمي التماثيل, عن الوظائف العامة, وأبدى عطفا على الرهبان الأيقونيين. ولكنه لم يلبث أن ذهب ضحية ثورة عسكرية, دبرها القائد الأرمني المعروف بـ (ليو الخامس) (813-820), والذي أصبح إمبراطورا للإمبراطورية البيزنطية, لتبدأ المرحلة الثانية للحملة على الأيقونات, كحملة سياسية ضد رجال الدين والرهبان, أكثر من وصفها بحركة دينية.([47])

     حرّم الإمبراطور ليو الخامس, عبادة التماثيل, تحريما باتا. ولتأكيد ذلك, عقد مجمعا دينيا, وتحت ضغط منه شخصيا, قرر رجال الدين الشرقيين: أن عبادة الصور والأيقونات, هرطقة والحاد. أما من تصدوا للدفاع عن عبادة التماثيل, فقد صدرت ضدهم قرارات الحرمان الكنسي, وكان على رأس هؤلاء البطريرك البيزنطي (نقفور). وكان لسياسة الإمبراطور اللاأيقونية, أثرها في توحيد مختلف العناصر المتنافرة, داخل صفوف الحزب الأرثوذكسي. وبات الأمر أكثر وضوحا عما كان عليه في القرن الثامن, وهو أن الخيوط الدينية والسياسية, تشابكت في بعضها, وانتجت الحركة اللاأيقونية. لتتمكن السلطة الإمبراطورية, من التحكم في الحياة الدينية. وانتهى حكم ليو الخامس, سنة 820, عندما اغتاله جندي يدعى ميخائيل العموري, والذي أصبح إمبراطورا للإمبراطورية البيزنطية, ليصبح اسمه ميخائيل الثاني العموري (820-829), وهكذا انتهى حكم الأسرة الأيسورية, لتبدأ أسرة جديدة في التاريخ البيزنطي, وهي الأسرة العمورية (820-867), وبعد حكم استمر تسع سنوات, مات ميخائيل الثاني, دون أن يحقق الوحدة الدينية للإمبراطورية.([48])

     دام حكم الأسرة العمورية, حوالي نصف قرن, لم تنجز فيه هذه الأسرة شيئاً, اللهم إلا موقف أباطرتها من الحركة اللاأيقونية, ما بين مؤيد ومعارض, ومتشدد ومتساهل. وفي عام 842, توفي الإمبراطور ثيوفيلوس (829-842), وأصبحت أرملة (ثيودورا) وصية على أبنها الصغير, ميخائيل الثالث (842-867), وقد تمكنت ثيودورا, من تحقيق هدوء وسلام ديني, كان له أثره في حالة الانتعاش التي عمت البلاد, ففي سنة 843, أعادت عبادة الصور, الأمر الذي ارتاحت له الأغلبية الساحقة, من جماهير الشعب ورجال الدين. وسرعان ما ظهرت الصور والأيقونات على جدران الكنائس بالقسطنطينية. وكانت حركتها هذه سريعة ومفاجئة, حتى أن محطمي التماثيل لم يتحركوا, حيث أن الإمبراطورة لم تتخذ من ناحيتها, أية اجراءات بقصد اضطهادهم أو التنكيل بهم.([49])

     وهكذا انتهى الصراع الأيقوني - اللاأيقوني, بالنصر الحاسم لمبجلي الأيقونات والصور المقدسة, وكان لهذا النزاع, أثره ونتائجه السلبية على الإمبراطورية البيزنطية. فقد أدى إلى تزعزع الأوضاع في الإمبراطورية البيزنطية, لمدة تزيد على مائة وعشرين عاما, من سنة 726 حتى 842. كما أدى إلى أن تتجه الإمبراطورية البيزنطية, اتجاها كليا ونهائيا تجاه الشرق, معطية ظهرها للغرب الأوربي, كما أدى إلى فشل الإمبراطورية البيزنطية, في محاولتها للسيطرة التامة على الكنيسة. يضاف إلى ذلك, أن الحركة اللاأيقونية, أسفرت عن تكدير العلاقات بين الكنيستين الشرقية والغربية, فظهرت الكنيسة الغربية (كنيسة روما) بمظهر الكنيسة المحافظة على نقاوة العقيدة المسيحية, وصاحبة المذهب الصحيح, مما زاد من تمسك باباوات روما بنظرتهم, في التفوق الروحي على سائر الكنائس, بما في ذلك الكنيسة الشرقية (كنيسة القسطنطينية).([50]) وهكذا جاء النزاع اللاأيقوني, ليزيد من حدة الشقاق, بين الكنيستين الشرقية والغربية, مما كان له أثر واضح في مستقبل المسيحية.([51])

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني- السياسة الدينية والإدارية لباباوات روما (ق7 - منتصفق9):

المبحث الأول: ازدياد نفوذ البابوية (ق7).

المبحث الثاني: تحالفات البابوية ضد بيزنطة (ق8).

المبحث الثالث: إحياء الإمبراطورية الرومانية الغربية -المقدسة (النصف الأولق9).

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول-ازدياد نفوذ البابوية (ق7):

     اتخذت البابوية صبغتها العالمية القوية, في عهد البابا جريجوري الأول (العظيم) (590-604), الذي اتصف بالكبرياء والاعتزاز بنفسه وبسلطته العليا, في مباشرة وظيفته البابوية, وتبدوا عظمته أشد ما تكون وضوحا, في النواحي السياسية والإدارية والتنصيرية, فقد كانت حكومته في روما, أقرب إلى الحكومة الدنيوية, منها إلى الحكومة الدينية. حتى أنه أخذ ينظم وسائل الدفاع ضد اللمبارديين, كإعداد الجند, وتحصين الأسوار, وشحن القلاع, بل وتوجيه الهجمات. وفي حالات أخرى, كان هو الذي يفاوض اللمبارديين باسم الشعب الروماني, حتى عقد معهم هدنة سنة 592, وفي سنة 598, عقد صلحا نهائيا مع ملكهم أجيلولف (590-616), انتهت بموجبه الحرب القائمة, والتي استمرت ثلاثين سنة.([52])

     وقد اظهر البابا جريجوري الأول, دقة وكفائه عالية, في إدارته لأملاك البابوية الواسعة, فقد اشرف اشرافا مباشرا, على ايراداتها ومصروفاتها, وبذل جهود كبيرة لتنمية مواردها, واستغلالها لتعود على أبناء العالم المسيحي بالخير, فكان ينفقها في: فدية أسرى المسيحيين, وتخفيف آلام المجاعات, وانشاء المستشفيات للعناية بالمرضى والجرحى, ودعم بناء الكنائس واصلاحها. وهنا نلاحظ أن أفق البابا جريجوري الأول, لم يقف عند الحدود الإيطالية, فقد حرص على أن يشعر جميع المسيحيين بأهميته, بوصفه أباً روحيا للجميع؛ فعندما سمع بحدوث أزمة اقتصادية في القسطنطينية, أسرع إليها بإرسال السفن المحملة بالقمح من صقلية, وعندما علم بحاجة اقباط مصر, إلى الأخشاب لبناء الكنائس والأديرة, أرسل لهم حاجتهم من سردينيا.([53])

     ورغم أن اختيار أحد أساقفة روما, ليشغل منصب البابوية, يتطلب موافقة الإمبراطور البيزنطي, وقبول البابا الجديد لجميع قرارات المجامع الدينية السابقة - وهذا ما حدث مع جريجوري الأول - إلا أنه سرعان ما أظهر تمسكا قويا, بأحقية كرسي أسقفية روما, بالسيادة على جميع الكراسي الأسقفية في العالم المسيحي. حتى أنه حاول - دون جدوى - فرض سيادة البابوية من الناحية القضائية, على الأساقفة الشرقيين بمن فيهم بطريرك القسطنطينية. وهكذا استطاع البابا جريجوري الأول - بفضل هيبته وتمسكه بحقوقه البابوية - أن يضرب مثلا عاليا, احتذاه خلفاؤه الباباوات من بعده. ويكفي أنه ترك لخلفائه - عندما توفي سنة 604 - بناء بابويا شامخا, ونفوذا روحيا واسعا, وسلطة زمنية قوية, لم يسبق أن حظيت بها البابوية من قبل. على أن هذه المكانة السامية, سرعان ما أدت إلى نوع من التنافس بينها وبين الإمبراطورية البيزنطية, نتيجة لاعتزاز كل من الطرفين بسمو مركزه, وهو تنافس أدى إلى الصدام العسكري أكثر من مرة.([54])

     ازداد النفوذ الروحي للبابوية, واستحكم سلطانها السياسي, حتى غدت تمثل احدى القوى الحاكمة في ايطاليا, وذلك إلى جانب اللمبارديين والإمبراطورية البيزنطية. وخير ما يوضح ازدياد نفوذ البابوية, في هذه الفترة, هو تضاعف ممتلكاتها الكنسية في ايطاليا, وهي الأملاك التي لم تضمن للبابوية, موردا ماليا ضخما فحسب, بل حققت لها نوعا من النفوذ المعنوي والمادي. ذلك أن أساقفة إيطاليا, استغلوا فرصة الفوضى السياسي والاجتماعية, التي سادت البلاد, وأخذوا يتملكون الأراضي, ويتخذون لأنفسهم صفة الحكام العلمانيين. فيعينون موظفي البلديات في المدن, ويشرفون على الأعمال العامة, ويجمعون الضرائب, وغير ذلك من الأعمال, التي هي في الواقع, من صميم اختصاص الحكام العلمانيين. وقد ساعد رجال الكنيسة, على تحقيق أغراضهم, في الاستيلاء على الأراضي, أن صغار ملاك الأراضي, بحثوا عن سلط قوية, يدخلون تحت حمايتها, فلم يجدوا وسط الفوضى, الناجمة عن النزاع بين اللمبارديين والبيزنطيين, سوى قوة الكنيسة, فسلموا لها أراضيهم مختارين, وأصبحوا شبه مستأجرين منها, وذلك مقابل حصولهم على نوع من الحماية والأمن.([55])

     والبابا لا يختلف - من الوجهة النظرية - عن غيره من الرعايا البيزنطيين, وذلك من حيث تبعيته للنائب الإمبراطوري في الغرب, ولكن نفوذ هذا النائب, أخذ يخبو ويتضاءل تدريجيا, بسبب افتقاره في معظم الحالات إلى المال والرجال, حتى صار نفوذه غير ملموس؛ ولاسيما أن نواب الإمبراطور البيزنطي, لم يتخذوا من روما, مركزا للدفاع ضد الخطر اللمباردي, وإنما آثروا الاقامة في رافنا, وبهذا تركوا روما, وليس فيها الا سيد واحد, وهو البابا. وهنا نلاحظ, أنه إذا كان البابا قد أصبح أعظم ملاك الأراضي في إيطاليا, فان الممتلكات البابوية لم تقتصر على المنطقة المحيطة بروما, وانما انتشرت في مختلف انحاء شبه الجزيرة الإيطالية,بل امتدت إلى صقلية, فضلا عن ممتلكات البابوية خارج ايطاليا؛ بحيث أنه يمكن القول: بأن الموارد الاقتصادية الواسعة, التي نعمت بها البابوية, كانت السر في القوة الزمنية التي تمتعت بها.([56])

     ولما كانت سلطة البابوية, آخذة في الزيادة, في حين كانت سلطة الإمبراطورية البيزنطية, آخذة في الضعف؛ كان لا بد من الصدام بين السلطتين. وفي نهاية هذا القرن, عندما رفض البابا سرجيوس الأول (687-701), أن يعترف بقرارات مجمع (ترولو) الذي انعقد عام 691, وقع الصدام الأول بين الإمبراطورية البيزنطة وبين البابوية, وأصدر الإمبراطور جستنيان الثاني (685-695), أوامره بعزل البابا والقبض عليه, ولكن الجنود رفضوا طاعة أوامر الإمبراطور, وثارت روما وتمردت, وحدثت ثورات في الغرب, ترتب عليها إعلان البنادقة بلادهم كدوقية مستقلة.([57])

     في هذه الفترة, تعرضت البابوية لخطر اللمبارديين, الذين استولوا على الأملاك البابوية, في شمال إيطاليا, كما أدى توسعهم نحو أواسط إيطاليا, إلى تهديد الأراضي البابوية, في هذه الجهات. وهذا الخطر, هو الذي جعل البابوية, تحافظ على علاقتها الودية بالإمبراطورية البيزنطة, وذلك حتى تعثر على حليف آخر, يحميها من خطر الإمبراطورية البيزنطية نفسها, ومن خطر اللمبارديين أيضاً.([58])

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني-تحالفات البابوية ضد بيزنطة (ق8):

     في العام 726, حدث الصدام الثاني, بين البابوية والإمبراطورية البيزنطية, عندما انحاز الإمبراطور ليو الثالث الأيسوري, إلى جانب محطمي الأيقونات (اللاأيقونيين), حيث قام البابا جريجوري الثاني (713-731), بمساندة مواطني روما, الهائجين والرافضين لتحطيم الأيقونات, وكتب إلى الإمبراطور ليو الثالث, يقول له: ( إن السلطة المدنية هي الجسد, والسلطة الكنسية هي الروح, إن سيف العدالة في يد القاضي, ولكن هناك سيفا أقوى هو سيف الحرمان, وهو في يد رجال الدين, أيها الطاغي, لقد جئت تهاجمنا مسلحا, ونحن جميعا عزل من السلاح, لا نملك إلا أن نلجأ إلى يسوع المسيح, أمير جيوش السماء, وندعوه أن يرسل شيطانا يدمر جسمك, ويخلص روحك. لقد انحنى البرابرة تحت عظمة الكتاب المقدس, وأنت وحدك أصم لا تريد أن تسمع صوت الراعي ). وما يهمنا في هذه الرسالة, هي الصيغة التي كتب بها البابا هذه الكلمات, التي إن دلت على شيء, فإنما تدل على لهجة قاسية, لا تصدر إلا من شخصية تتمتع بنفوذ قوي. ولم يقف الأمر عند هذا الحد, فقد التجئ البابا إلى البنادقة والايطاليين, ثم لجئ إلى اللمبارديين الآريوسيين المذهب, وأعار (ليوتبراند) ملك اللمبارديين (712-744), على أملاك الإمبراطورية البيزنطية, في شمال إيطاليا.([59])

     ويبدو أن البابا جريجوري الثاني, استغل هذه الأزمة, ليكسب حب وولاء الجماهير الثائرة؛ وليتحرر تحررا تاما, من سلطة الإمبراطورية البيزنطية, التي ضعف نفوذها في إيطاليا, وليجعل من سلطة البابا الزمنية, في أواسط إيطاليا حقيقة ملموسة. ففي سنة 730, استحوذ البابا, على السلطات الإمبراطورية في إيطاليا, كجمع الضرائب وغيرها, كما أصدر قرار الحرمان ضد النائب الإمبراطوري, مما يعتبر خروجا على الإمبراطورية البيزنطية.([60])

     وفي سنة 731, توفي البابا جريجوري الثاني, فخلفه البابا جريجوري الثالث (731-741), وكان هو الآخر, من كبار المتحمسين للأيقونات, مما أوقعه في عداء مرير مع الإمبراطور ليو الثالث, الذي أصدر مرسوما حدد اختصاص البابوية القضائية, وفصل أسقفيات (البريا وجنوب إيطاليا) عن سلطان البابوية. وفي العام التالي (732), أعد الإمبراطور ليو الثالث, أسطولا بحريا للقبض على البابا جريجوري الثالث, واسترداد أملاك الإمبراطورية البيزنطية من اللمبارديين. ولكن هبت زوبعة في البحر الأدرياتيكي, حطمت الأسطول, وقضت على المشروع البيزنطي. وتعتبر هذه الحملة, آخر محاولة جدية تبذلها الإمبراطورية البيزنطية, لاسترداد نفوذها المفقود في إيطاليا, إذ اضطر الأباطرة البيزنطيون بعد ذلك, إلى ترك الباباوات وشأنهم, في حين لم يعد للنائب الإمبراطوري نفوذ يذكر.([61])

     في هذه الأثناء, اتفقت وجهتي نظر حكام مملكة الفرنجة مع البابوية, حيث كان أحد الفريقين يحاول الغزو بالسيف والآخر بالصليب, وخرج المبشرون تحت رعاية المملكة, لتحويل الوثنيين في المانيا إلى المسيحية. وفي عام 739, نقل البابا جريجوري الثالث, إلى شارل مارتل - رئيس بلاط الفرنج وصاحب النفوذ الفعلي في المملكة - مفاتيح قبر القديس بطرس مع هدايا أخرى, وطلب منه القدوم إلى إيطاليا؛ لتخليصها من يد اللمبارديين, الذين باتوا يهددون روما تهديدا حقيقياً, غير أنه لم يكن لدى شارل مارتل, الوقت اللازم لإنجاز هذه الحملة, حيث توفي سنة 741.([62])

     خلف شارل مارتل, ابنه (بيبين الثالث) المعروف باسم (بيبين القصير) (741-768), وقد عمل بيبين القصير, طوال عشر سنوات على تقوية مركزه, في بلاط المملكة. وفي عام 751, ارسل إلى البابا زكريا (741-752), يطلب منه تنحية الملك الميروفنجي (شيلدريك الثالث), ليصبح بيبين القصير, ملكا على الفرنجة. وكان البابا زكريا, في حاجة ماسة إلى حليف قوي, وخاصة في هذه المرحلة, فقد انقطعت علاقات البابوية بالإمبراطورية البيزنطية تقريبا, كما أن اطماع اللمبارديين في ايطاليا اخافت البابا كثيرا؛ لذلك وافق البابا على الفكرة التي عرضها بيبين القصير. وأصبح الأخير ملكا على الفرنجة, وانتهى حكم الأسرة الميروفنجية (486-751), وبدأ حكم الأسرة الكارولنجية (751-987), وأرسل شيلدريك الثالث - آخر الملوك الميروفنجيين - إلى أحد الأديرة.([63])

     وقد تعززت الروابط بين البابوية ومملكة الفرنج, عندما زار البابا ستيفن الثاني (752-757) - بطريقة سرية - الملك بيبين القصير, وذلك سنة 753, وفي هذه الزيارة وقعت معاهدة بين الطرفين, حصلت البابوية بموجبها على ولاية (رافنا), وسائر الممتلكات البيزنطية السابقة في إيطاليا, بالإضافة إلى دوقيتي (سبولتو, وبنفنتو). وتعرف هذه الحادثة في التاريخ, باسم (هبة بيبين). ومقابل ذلك, قام البابا بتتويج الملك بيبين القصير, مرة أخرى ملكا على الفرنج, وذلك في يوليو 754. ويعتبر هذا الحادث, من الحوادث الهامة في تاريخ روما, في العصر الوسيط؛ لأنه لم يؤد إلى تأسيس الدولة البابوية فحسب, بل أدى كذلك إلى حماية الكارولنجيين لإيطاليا.([64]) غير أن هذا, لم يؤد إلى اتخاذ خطوة نهائية فاصلة, لتحرير البابوية من روابطها الرسمية بالإمبراطورية البيزنطية, إلا أنه من الواضح, أن البابوية تحررت فعليا - وبطريقة عملية - من تبعيتها للإمبراطورية البيزنطية.([65])

     وتعتبر فترة حكم شارلمان, التي امتدت من سنة 768 إلى سنة 814, من الفترات الهامة والحاسمة, في التاريخ الأوربي الوسيط. فمن أهم مميزات عصره: المزج التدريجي البطيء, بين التراث الروماني القديم, وبين حضارة الجرمان؛ مما انتج مدنية جديدة لها طابعها الخاص بها. كذلك تميز عهده: بانتشار الروح المسيحية في الغرب, نتيجة لجهود الكنيسة الرومانية الكاثوليكية (الغربية), ونشاط الباباوات, وكافة رجال الدين, الذين توجهوا إلى كثير من الأقطار الوثنية المجاورة, حيث بشروا فيها بالديانة الجديدة, وصادفوا في ذلك نجاحا كبيرا. هذا فضلا عما يرتبط بحكمه من: إحياء للإمبراطورية الرومانية الغربية - المقدسة, والقضاء على نفوذ الإمبراطورية البيزنطية في الغرب.([66])

     وتلبية لاستغاثة البابا أدريان الأول سنة 773, قام الملك شارلمان بحملة عسكرية, ضد آخر ملوك اللمبارديين المسمى (دزيدريوس) والذي كان قد استولى, على بعض المدن الواقعة في وسط إيطاليا, والتي كانت تخضع للبابوية, منذ أيام الملك بيبين القصير أبو شارلمان. وحدث في تلك الأثناء, أن تخلص البابا أدريان الأول, من تدخل الإمبراطورية البيزنطية في إيطاليا, عندما أعلن طاعة روما, من الناحية الشكلية النظرية للملك شارلمان.([67])

 

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثالث-إحياء الإمبراطورية الرومانية الغربية-المقدسة (النصف الأولق9):

     لم يكد ينته القرن الثامن حتى كان الملك شارلمان, قد قام بأعمال باهرة, لم يستطع القيام بها غيره من المعاصرين. ذلك أنه لم ينجح, في تكوين إمبراطورية ضخمة, في غرب أوربا فحسب, بل نجح أيضا, في حماية البابوية ونشر المسيحية, وإحياء كثير من مظاهر الحضارة الرومانية الغربية. وقد أثارت هذه الأعمال في عقول المعاصرين, ذكرى روما ومجدها القديم, فأخذوا يتغنون بهذه الذكرى, ويشعرون بالرغبة الجادة, في إحياء هذا المجد. وكان الملك شارلمان, يطمع في أن تخلع عليه البابوية لقب الإمبراطور بنفسها؛ حتى يكون لهذا اللقب وقعه في العالم الروماني أجمع. وقد لاحت له الفرصة سنة 799, وذلك عندما تآمر خصوم البابا ليو الثالث ضده, ووضعوا خطة تستهدف سمل عينيه, وقطع لسانه لإبعاده عن منصبه. ولم يلبث أن سمع الملك شارلمان, بأن البابا لم ينج من هذه المؤامرة إلا بصعوبة, فأرسل إليه يستدعيه, ثم استقبله في ترحاب. وبعد ذلك قام الملك شارلمان, بإرسال البابا مخفورا إلى روما, ثم لحق به بعد قليل, وفي روما عقد مجمع ديني؛ برأ البابا من جميع التهم التي ألصقها به خصومه, وبذلك عاد البابا إلى مباشرة مهام منصبه, في حين أصدر الملك شارلمان, أوامره بمعاقبة المتآمرين.([68])

     فكر البابا ليو الثالث, في وسيلة يرد بها الجميل للملك شارلمان, الذي أنقذ البابوية, وأثبت في كل مناسبة, أنه أخلص حليف, وأقوى دعامة للكنيسة الغربية. وفي الاحتفال الكبير, الذي أقيم بكنيسة القديس بطرس - سنة 800 - تمجيدا لعيد رأس السنة الميلادية, وبعدما انتهت الصلاة, تقدم البابا ليو الثالث بخطى وئيدة, ممسكا تاجا ذهبيا, ووضعه على رأس الملك شارلمان - الذي كان لايزال راكعا أمام المذبح - وقال البابا: (اللهم امنح الحيا والنصر لشارل العظيم, الذي يتوج بفضل الله, إمبراطورا عظيما على الروم). ومهما يكن من أمر, فقد قُدر لشارلمان, أن يحيي الإمبراطورية الرومانية في الغرب, ليصبح بذلك, مؤسس الإمبراطورية الرومانية الغربية المقدسة, والتي لعبت دورا عظيما في أحداث العصور الوسطى. أما البابوية, فقد قطعت - بتتويج شارلمان إمبراطورا - الرباط الواهي, الذي كان يربطها بالإمبراطورية البيزنطية, وفي الوقت نفسه, دعمت الرباط المتين, الذي كان يربطها بمملكة الفرنج, وأكسبته طابعا دينيا مقدسا.([69])

     أما بالنسبة للإمبراطورية البيزنطية, فإن اعلان شارلمان إمبراطورا في الغرب, مثل صدمة عنيفة لها؛ فمنذ سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس, والعالم لا يعرف إلا إمبراطورا واحدا, هو الإمبراطور البيزنطي, الذي تمتع بسيادة - ولو أسمية - على البابوية, وعلى الغرب بشكل عام, وذلك بوصفه وريث الأباطرة الرومان. وقيام شارلمان إمبراطورا في الغرب, يحرم الإمبراطورية البيزنطية من هذه السيادة. ناهيك عن أن تتويج شارلمان, لم يجعل منه إمبراطورا فحسب, بل يجعله الإمبراطور الأساسي في العالم الرومانية؛ لأن الإمبراطورية - من وجهة النظر السياسية في العصور الوسطى - لا تحتمل رأسين, مثلها مثل البابوية, وفي هذه الحالة, يصبح الإمبراطور شارلمان, صاحب الكفة الراجحة؛ كونه الإمبراطور الذي تخضع له الكنيسة الرومانية الكاثوليكية (العالمية).([70])

     وقد أدى ظهور إمبراطورية غربية, إلى ظهور مجتمع جديد, فقد ساعدت شخصية الإمبراطور شارلمان, على أعادة تشكيل حضارة غرب أوربا, وبدأت هذه الحضارة, تأخذ طابعا مميزا. وبمرور الزمن, ابتعد مجتمع شرق أوربا, عن مجتمع غرب أوربا, في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والروحي, وكان هذا الانفصال, أساس الاختلاف بين غرب وشرق أوربا في العصور الحديثة.([71])

     فمن ناحية القضاء والتشريع, حاول الإمبراطور شارلمان - سنة 801 - التشبه بالإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول, بتسجيل القوانين والعادات المتوارثة, في شكل مجموعة قانونية, تضمنت بعض القواعد العامة, كالأخلاقية والسياسية والدينية والجنائية؛ ليسترشد بها الحكام, في إصدار أحكامهم بين مختلف القبائل. ولكن هذه المجموعة, لم ترق إلى مستوى مجموعة جستنيان القانونية؛ فقد كانت مواد مجموعة شارلمان, مختلطة ببعضها, دون نظام, ودون ترتيب.([72])

     أما بوصفه حامي البابوية, فقد أخذ الإمبراطور شارلمان, يستغل مكانته في فرض سيطرته على الكنيسة الغربية, فهو الذي يعين الأساقفة, وهو الذي يدعو إلى عقد المجامع الدينية, لبحث المشاكل المتعلقة بالعقيدة, بل ويتولى رئاستها. كما أنه يشرع القوانين اللازمة للكنيسة, ويحدد حقوق رجال الدين - كنسيين وديريين - وواجباتهم. وبذلك أصبح الإمبراطور شارلمان, رأس الكنيسة والإمبراطورية دون تمييز بينهما. حتى الموسيقى الدينية, والمواعظ التي يلقيها رجال الدين, في مختلف المناسبات والأعياد, لم تسلم من تدخل الإمبراطور شارلمان وتعديله. كما أصبح رجال الدين, بمثابة أتباع مخلصين للإمبراطور, يخضعون لأوامره ونواهيه؛ وهكذا وجدت البابوية نفسها, خاضعة خضوعا تاما للإمبراطور شارلمان.([73])

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث- تطور الخلاف السياسي - المذهبي بين الكنيستين (منتصفق9 - ق11):

المبحث الأول: التنافس على السيادة الروحية والتبشير بالمسيحية (النصف الثاني ق9).

المبحث الثاني: انشغال كل كنيسة بشئونها الداخلية ومشاكلها الخاصة (ق10).

المبحث الثالث: تفجر الخلافات والقطيعة الكبرى (ق11).

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الأول-التنافس على السيادة الروحية والتبشير بالمسيحية (النصف الثاني ق9):

 

أولاً-التنافس على السيادة الروحية:          

     إلى جانب السيطرة على السلك الكهنوتي, سعى البابا نيقولا الأول (858-867) جاهدا, لفرض السطوة البابوية على الحكام السياسيين في الغرب. وفي صراعه مع الإمبراطورية البيزنطية, أكد البابا تفوق السلطة الروحية على السلطة الزمنية, كما أكد على الزعامة العالمية لكنيسة روما, وحقها في محاكمة الكنائس الأخرى؛ وذلك على أثر اقالة بطريرك القسطنطينية اجناثيوس سنة 857, وتعيين فوتيوس (858-867 , 877-886) بدلا عنه. إذ طلب أنصار الأسقفان تحكيم البابوية لحل الخلاف.([74])

     كان الراهب اجناثيوس, من بين الرهبان الذين فروا من وجه محطمي الأصنام (الأيقونات), وفي عام 840, استدعت الإمبراطورة ثيودورا, هذا الراهب وعينته بطريركا للقسطنطينية. كان البطريرك اجناثيوس, رجلا تقيا شجاعا, اصطدم برئيس وزراء الإمبراطورية البيزنطية (قيصر باراداس), وأصدر ضده قرار الحرمان؛ فما كان من قيصر باراداس, إلا أن نفى البطريرك اجناثيوس, ورفع إلى كرسي البطريركية فوتيوس, أعظم علماء ذلك العصر وأكثرهم تهذيبا.([75]) ومن امجاد جامعة القسطنطينية, وقف في وجه البابوية, فكان خير من يعرف كيف يحد من تدخلاتها؛ مما جعل الرأي العام البيزنطي, ينظر إلى البطريرك فوتيوس, نظرته إلى خير من يمثل المطلب الوطني. ولكن كثير من رجال الدين في القسطنطينية, استاءوا حين رأوا فوتيوس, يرتفع فجأة من بين العلمانيين إلى مقام البطريركية.([76])

     أرسل البابا نيقولا الأول, مبعوثيه إلى القسطنطينية لينظروا في الأمر, وفي رسائله إلى فوتيوس, وإلى الإمبراطور ميخائيل الثالث ابن ثيودورا, وضح البابا, المبدأ القائل: (بأن أية مسألة من المسائل الكنسية, في أي مكان, لا يصح أن يفصل فيها, من غير موافقة البابا), غير أن الإمبراطور عقد, مجمعا كنسيا, سنة 858؛ أقر تعيين فوتيوس. وقد انضم مبعوثا البابا إلى المؤيدين؛ فلما عادا إلى روما, أنكر عليهما البابا عملهما, واتهمهما بأنهما قد خرجا على تعليماته؛ وطلب من الإمبراطور, أكثر من مرة, أن يعيد الراهب اجناثيوس إلى منصبه. فلما تجاهل الإمبراطور هذا الأمر؛ أصدر البابا - سنة 863 - قرارا بحرمان فوتيوس؛ فهدد قيصر باراداس, بأنه سوف يبعث جيشا يخلع البابا من منصبه, ورد عليه البابا ردا بليغا, سخر فيه من قيصر باراداس, وأشار إلى خضوع الإمبراطورية للمغيرين عليها, من الصقالبة والسلاجقة الأتراك.([77])

     دعا البطريرك فوتيوس والإمبراطور ميخائيل الثالث, لانعقاد مجمع كنسي آخر, وقد انعقد هذا المجمع سنة 867, وأصدر قرارا بحرمان البابا, وشنع على عقائد وشعائر وطقوس الكنيسة الرومانية (الغربية), ومن بينها: قضية انبعاث الروح القدس من الأب والأبن, وحلق القساوسة للحاهم, وتحريم الزواج على رجال الدين؛ وأضاف البطريرك فوتيوس, إلى هذا قوله: (ولقد أصبحنا بفضل هذه العادات, نرى في الغرب, كثيرين من الأطفال لا يعرفون آبائهم). غير أن الموقف تبدل فجأة, بجلوس بازيل الأول (867-886) - مؤسس الأسرة المقدونية - على عرش الإمبراطورية البيزنطية, بعد أن قتل قيصر باراداس, وأشرف على اغتيال الإمبراطور ميخائيل الثالث؛ لذا نادى البطريرك فوتيوس, أن الإمبراطور الجديد قاتل سفاح, ورفض أن يمنحه العشاء الرباني.([78])

     ومثل كل حاكم بيزنطي, كان الإمبراطور بازيل الأول, متدخلا في شؤون الكنيسة بدرجة كبيرة, وفي البداية اتبع سياسة دينية مختلفة, عن السياسة التي انتهجها قيصر باراداس وميخائيل الثالث. فعزل البطريرك فوتيوس, ونفاه إلى أحد الأديرة, ثم رفع الراهب اجناثيوس إلى كرسي البطريركية (867-877), واستأنف العلاقات مع روما. وفي سنة 870, عقد مجمع كنسي في القسطنطينية, حضره مبعوث البابا هادريان الثاني (867-872), وأعلن هذا المجلس حرمان الراهب فوتيوس من الكنيسة؛ ومع ذلك لم يتفق رأي الإمبراطور بازيل الأول, مع مبعوث البابوية على مبادئ معينة؛ لأن كلا من الطرفين يعتنق وجهات نظر متعارضة - على طول الخط - وخاصة بشأن الحقوق, والاختصاصات القضائية لكرسي البابوية. وحيث أن مسألة الراهب فوتيوس, قد تم الفصل فيها بمعرفة البابا, فإن الإمبراطور كان مهتما, بإعادة بحث هذه المسألة, في مجمع كنسي, يعقد تحت إشرافه, فالقرار بحرمان الراهب فوتيوس, يجب أن يصدر من الإمبراطور, حسب رأيه.([79]) ولما مات البطريرك اجناثيوس سنة 877, قرر مجمع كنسي - عقد في نفس العام - أعادة الراهب فوتيوس إلى مقام البطريركية, ولم يعارض البابا يوحنا السابع, هذا القرار. وبهذا تأجل إلى حين, انشقاق الكنيستين الشرقية والغربية, إحداهما عن الأخرى, بموت بطلي هذا الصراع (البابا نيقولا الأول, والراهب اجناثيوس).([80])

 

ثانياً-التنافس على التبشير بالمسيحية:

     حركة التنصير أو التبشير بالمسيحية, رسالة سامية, نشطت للنهوض بها, الكنيستين الشرقية والغربية على السواء, وقد أدى هذا النشاط إلى تنافس وعداء شديد بينهما؛ وخاصة على.([81]) ففي أوائل الخمسينات من القرن التاسع, انتقل عرش البلغار إلى (بوريس), الذي حكم بلغاريا من سنة 852 إلى سنة 889, وقد ارتبط اسم  الأمير بوريس, باعتناق البلغار للمسيحية. والحقيقة أن المسيحية دخلت بلغاريا قبل عصر الأمير بوريس, وذلك عن طريق الأسرى البيزنطيين. وقد ارتبط اعتناق الأمير بوريس, للمسيحية بالوضع السياسي, الذي دفعه للبحث عن علاقات أكثر التصاقا ببيزنطة. حيث طلب من بيزنطة أرسال رجال الدين إلى بلاده؛ للعمل على نشر المسيحية. وفي حوالي سنة 864, وصل رجال الدين الأرثوذكس إلى بلغاريا, وتم تعميد الأمير بوريس, متخذاً اسم ميخائيل. انتشرت المسيحية بين البلغار؛ وأدى ذلك إلى زيادة نفوذ وهيبة الإمبراطورية البيزنطية في البلقان. ولكن الأمير بوريس, أدرك عدم استعداد بيزنطة منح بلغاريا, كنيسة مستقلة, فخاف أن تصبح مملكة البلغار, تابعة للإمبراطورية البيزنطية, من الناحية السياسية. لهذا قرر اقامة تحالف ديني مع روما, وأرسل وفدا إلى البابا نيقولا الأول, يطلب منه أن يرسل رجال الدين الكاثوليك إلى بلغاريا؛ وقد فرح البابا بهذا الطلب, وأرسل إليه بالأساقفة والقسس, وتم طرد رجال الدين الكاثوليك من بلغاريا.([82])

     غير أن الآمال التي عقدها الأمير بوريس, على تحالفه مع روما لم يتحقق منها شيء من الواقع, ولم يحركه خطوة واحدة تجاه هدفه الرئيسي, ألا وهو تأسيس كنيسة مستقلة؛ فقد رفضت روما الشخصين اللذين رشحهما الأمير بوريس, لرئاسة الأبرشية البلغارية, ولهذا تحول مرة أخرى نحو بيزنطة, وفي سنة 873, وصلت سفارته إلى القسطنطينية, تطلب الانضمام إلى الكنيسة الشرقية. وفي القسطنطينية انعقد مجمع ديني؛ للبحث في مسألة انتماء الكنيسة البلغارية, وبالرغم من الاعتراض الشديد الذي أبداه مبعوثي روما في المجمع, فقد جاء القرار لصالح بيزنطة؛ بسبب إجماع ممثلي الكنائس الشرقية الثلاث. فاعترفت الكنيسة البلغارية, بسيادة بطريركية القسطنطينية, ولكنها احتفظت بقدر كبير من الاستقلال الذاتي, وقد تعلمت الكنيسة الشرقية, درسا جيدا من السنوات السابقة, وبدأت تظهر أكثر تسامحا.([83])

     وهكذا حقق الأمير بوريس هدفه, عندما استغل بمهارة وحذق, التنافس بين روما وبيزنطة, ومن ذلك الحين, ظلت المملكة البلغارية - وبرغم الاحتجاجات المتكررة من البابوية - في كنف الكنيسة الشرقية, كما ظلت بلغاريا, تدور في فلك الحضارة البيزنطية؛ ولكن بيزنطة حصلت على ذلك, مقابل تقويض صداقتها مع روما. وفي الواقع كان الإمبراطور بازيل الأول, يؤمن بأن على بيزنطة, أن تقوم بدورها الحضاري والتبشيري, في العالم السلافي, بل وتوسع أيضا, في عمليات التبشير في روسيا, كما كسب للمسيحية, القسم الغربي من شبه جزيرة البلقان (الصرب), وبعمله هذا جعل هذه المناطق تخضع لنفوذ بيزنطة السياسي.([84]) أما الكنيسة الغربية, فقد اكتسبت (مورافيا, وبوهيميا, وسلوفاكيا, والمجر, وبولندا).([85])

 

المبحث الثاني-انشغال كل كنيسة بشئونها الداخلية ومشاكلها الخاصة (ق10):

 

أولاً - المشاكل الخاصة بالكنيسة الشرقية:

     يعتبر عهد الإمبراطور ليو السادس (ليو العاقل) (886-912), من العهود الهامة في تاريخ بيزنطة, حيث أدخل هذا الإمبراطور, الكثير من المبادئ والتشريعات في الناحيتين الدينية والإدارية, كما أمتد نشاطه إلى التأليف, في العديد من الجوانب, التي تتعلق بشئون الدولة وأنظمتها, كالجوانب التجارية, والصناعية, والعسكرية. كما أشرف على جمع واصدار مجموعة القوانين الإمبراطورية, فكون منها مؤلفا ضخما, يشمل ستون مجلدا, متضمنا جميع القوانين الإمبراطورية منذ عهد جستنيان. وبالإضافة إلى كل هذه الأعمال, فقد كان الإمبراطور ليو السادس, خطيبا مفوها, له مجموعة كبيرة من الخطب, والمقالات, والمواعظ الدينية, التي كتبها في شتى المناسبات, وله أيضا العديد من الكتب في الآداب الدينية.([86])

     في سنة 894, توفيت زوجة الإمبراطور ليو السادس, دون أن تنجب له وريثا للعرش, فتزوج من أحدى نساء البلاط, ولكنها توفيت أيضا دون أن تنجب, فعمد إلى الزواج مرة ثالثة - متخطيا بذلك القانون الكنسي والمدني. ولكنها ماتت هي الأخرى سنة 900, دون أن تنجب, فعمد إلى الزواج مرة رابعة سنة 905, وأخيراً اثمرت هذه الزيجة ولدا. ولكن الكنيسة البيزنطية لم تعترف بهذه الزيجات؛ لمخالفتها قوانين الكنيسة.([87])

     لم يتوقع الإمبراطور ليو السادس, هذا الموقف من الكنيسة؛ لأن غرضه من زيجاته كان سياسيا بحتا, وهو السعي بأي ثمن للحصول على وريث للعرش, ضمانا لاستمرار نسل البيت المقدوني. وكحل وسط للأزمة الناشبة بين الإمبراطور والكنيسة, أقترح بطريرك القسطنطينية (نيقولا مستيكوس): اعتراف الكنيسة ببنوة الطفل وتعميده, على أن ينفصل الإمبراطور عن زوجته الرابعة. ولكن الإمبراطور رفض هذا الاقتراح. وتأزم الخلاف بين الطرفين, وأخذ كل منهما في تحد الآخر. والواقع أن هذا الخلاف, لم يكن مجرد خلاف حول مسألة الزواج, بل كان صراعا على النفوذ؛ فالإمبراطور ليو السادس, يريد تثبيت أقدام الأسرة المقدونية في الحكم, في حين أن البطريرك نيقولا مستيكوس, كان يسعى إلى تعزيز استقلال الكنيسة الشرقية, حتى على الإمبراطور نفسه؛ لذلك أصر على تطبيق قوانين الكنيسة وتقاليدها المرعية, دون النظر إلى صالح البيت المقدوني.([88])

     واستمر الإمبراطور في تحديه للبطريرك, فعمد من بعد تعميد ابنه في يناير سنة 906, إلى تعزيز مركز زوجته الرابعة بإعلانها إمبراطورة. ولم يقبل البطريرك بهذا الوضع, وأصدر قرار الحرمان ضد الإمبراطور, ومنعه من دخول كنيسة سانت صوفيا. وحلا للإشكال الذي تطور تطورا خطيرا, اتفق الطرفان على تحكيم بابا روما. فأفتى البابا بشرعية الزواج, هادفا من وراء ذلك؛ أن تتسع الهوة بين الإمبراطور والبطريرك, مما يعود بالنفع على الباباوية, ومطالبها في السيادة العالمية؛ وهكذا ذهب البطريرك ضحية موقفه. والمهم من هذا كله, أننا راينا كيف أن الإمبراطور ليو السادس, يتحدى البطريرك ويخالف الكنيسة, ويضرب بتعاليمها عرض الحائط.([89])

     وفي سنة 963, توفي الإمبراطور رومانوس الثاني (959-963), فنادى الجيش بـنقفور فوكاس (963-969) إمبراطورا, ودخل نقفور فوكاس القسطنطينية, وحتى يضفي على عمله هذا صبغة شرعية؛ تزوج من الشابة الجميلة (ثيوفانو) أرملة سلفه. وهكذا أصبح إمبراطورا, ووصيا على طفليها القاصرين (بازيل وقسطنطين). وقد رفضت الكنيسة الشرقية الاعتراف بهذا الزواج. ولقي الإمبراطور نقفور فوكاس, الكثير من العنت والمضايقات من رجال الدين, الذين بالغوا في التشنيع به, مما جعله يفكر في الانتقام منهم بأية وسيلة, فوجه غضبه وانتقامه إلى الأديرة ورهبانها, ووصف الرهبان بأنهم أبعد الناس عن الدين. وفي سنة 964, أصدر قانونا ألغى به نظام الديرية, وأمر بإخراج الرهبان من أديرتهم, ومصادرة أملاكهم, وأن يتفرقوا في الصحاري, حتى لا يتسنى لهم التدخل في شئون الدولة. كما حرم فتح أديرة جديدة أو وقف أموال أو عقار على الأديرة القائمة, أو غيرها من المؤسسات الدينية. ولا شك أن حاجة الإمبراطور للمال لمواصلة حروبه, كانت الدافع الأساسي, وراء كل هذا الاضطهاد, الذي عاد على الإمبراطورية بأموال طائلة, استطاع من خلالها أن يعيد مجد بيزنطة القديم, بما ناله من توفيق حربي.([90])

     ولم تجد الكنيسة الشرقية, فرصة لإلغاء القوانين التي أصدرها الإمبراطور نقفور فوكاس, ضد الأديرة ورجال الدين, إلا عندما أصبح حنا الأول تزمسكيس (969-976), إمبراطورا مغتصبا للحكم, بعد اغتيال الإمبراطور نقفور فوكاس. حيث رفض بطريرك القسطنطينية, القيام بتتويجه باعتباره قاتل. ولما كان حنا الأول مغتصبا للكرسي الإمبراطوري, فقد كان يهمه الحصول على تأييد الكنيسة, مهما كان الثمن؛ وفي سبيل ذلك, أبدى استعداده لقبول شروطها؛ وقد تم له ذلك, في أواخر عام 969م.([91])

 

ثانياً - المشاكل الخاصة بالكنيسة الغربية:

     كانت البابوية في هذا الوقت, وحيده دون حليف, وسط مظاهر الفوضى الشاملة, والحروب الأهلية, والاخطار والغارات الخارجية, التي تعرضت لها أوربا, منذ منتصف القرن التاسع. حيث بدأت مظاهر الفساد والضعف, تنتشر في البناء العام للإدارة الكنسية, وبرزت العديد من التدخلات, في أدق تفصيلات الكنيسة, والمتمثل في منصب البابا, حيث غدا عرضة للتنافس بين أصحاب النفوذ, إلى الحدد الذي صار فيه يباع ويشترى. في حين أن مظاهر الترف والفساد والترهل الإداري, صارت من السمات الملازمة للفعاليات الإدارية الكنسية.([92])

     ورغم أن الكنائس المحلية, في مختلف بلدان غرب أوربا - والتي تباين مدى تبعيتها للسلطة الزمنية - ظلت تنظر إلى البابا, على أنه زعيمها الروحي, إلا أن نفوذ البابوية على هذه الكنائس, لم يعدُ أن يكون اسميا. فكثير من الباباوات أهملوا توجيه الكنائس توجيها رشيدا, ولم يفكروا في دعوة مجامع دينية عامة, وتركو هذه المهمة لملوك البلاد, كلا حسب مقدرته وسيطرته في بلاده؛ مما أدى إلى تفكك وحدة هذه الكنائس, وانعدام وجود رابطة تربطها, وهكذا اختلت أحوال الكنيسة الغربية بوجه عام.([93])

     وقام أمراء الاقطاع, بالاعتداء على الممتلكات البابوية؛ إذ كانت الكنيسة الغربية, تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي, وكاد الإقطاع - الذي أفترس الإمبراطورية الرومانية المقدسة - أن يلتهم الكنيسة أيضاً؛ لذا اعتمد رجال الدين على انفسهم, بالدفاع عن حقوقهم, ضد الامراء المحليين. ورأى المشرفون على إدارة هذه الأراضي, أنه لا يمكنهم المحافظة عليها إلا بالقوة؛ لذا أصبح رجال الكنيسة أشبه بالإقطاعيين, لهم أراضيهم وجندهم الاقطاعي, اولئك الجند الذين يقدمون خدماتهم العسكرية, لقاء التملك الضيعي. وبذلك أصبحت أراضي الكنسية, تحت تصرف الاتباع, هذا مع العلم بأنه لا يجوز شرعا للكنيسة, القيام بالمهام العسكرية مباشرة؛ لهذا لجأ المتزمتون منهم, إلى تكليف أحد السادة الاقطاعيين المجاورين الاقوياء, بقيادة الفرسان في أراضي الكنسية, وأصبح يشار إلى هؤلاء السادة بالحماة.([94])

     وبمرور الزمن, أخذ هؤلاء الحماة يعتبرون هذه الأراضي - وما عليها من أتباع - تابعة لهم, ثم أصبحوا يتحكمون في الانتخابات, الخاصة بالمراكز الدينية. لهذا حرص الأمراء على ملء المناصب الإدارية الكنسية الشاغرة, من قبل رجال دين يرتاحون لهم, فكان على رجال الدين تقديم الولاء للسيد الاقطاعي, الذي يستلمون منه المركز الإداري, بل أن وظائف رجال الدين غدت اقطاعيات.([95]) كما أدى زواجهم, إلى انصرافهم نحو جمع الثروة؛ ليورثوها لأبنائهم؛ وهكذا خرج رجال الدين عن دائرة اختصاصهم الديني, إلى المشاركة في الحروب, وعقد المجالس القضائية, وجمع الضرائب والمكوس الاقطاعية, لا داخل أراضيهم الخاصة فحسب, بل وفي أراضي النبلاء أيضا. وبعبارة أخرى, فان كبار رجال الدين - من أساقفة ومقدمي أديرة - غدوا أفصالا اقطاعيين, للملوك وكبار الأمراء, يؤدون لهم ما جرى عليه العرف الاقطاعي, من خدمات والتزامات معروفة.([96]) ومع ذلك, لم تنس الكنيسة مثُلها العليا, ولم يكن كافة أمراء الاقطاع, متنكرين للقيم الدينية؛ فغالبا ما يختار الأمراء, أفضل الاساقفة للمراكز الدينية, كما أن قسما من الاقطاعيين, قدم مساعدات قيمة للأديرة, ذات الرسالة الصادقة. وقامت بعض الأديرة - في أحلك فترات القرن العاشر ظلاما - بمحاولات من شأنها تنقية الكنيسة, من الشوائب التي التصقت بها, والعمل على أعلاء شأن البابوية, ووضع حد للتدخلات العلمانية.([97])

     فالصراع الذي نشب بين الأباطرة الفرنج والباباوات, كان نتيجة لما قامت به الكنيسة الغربية, من إصلاح مؤسساتها من الداخل, وتنظيم علاقاتها مع السلطات الزمنية, لأبعاد التدخلات السياسية عن شؤونها. وقد لعبت المؤسسة الديرية المساه بـ (أديرة كلوني) - التي تأسست سنة 910 - دورا فعالا, في مكافحة الفوضى داخل الكنيسة, والحد من تجاوزات السلطات الزمنية, على الحقوق الكنيسة, ذلك الإصلاح الذي قاد إلى أول مراحل هذا الصراع.([98])

     فاعترافا بقوة ملك الفرنج, (أوتو الكبير) (936-973), وسيرا على النهج التقليدي, في عدم اعتراف البابوية بالأباطرة البيزنطيين؛ قام البابا جون الثاني عشر (955-963), في عام 962, بتتويج الملك أوتو الكبير, إمبراطورا على الغرب؛ مكافأة لمساعدته العسكرية للبابوية, ضد الأمير الإيطالي (بيرنجر). ولكن الإمبراطور أوتو الكبير, لم يكتف باللقب الإمبراطوري, بل أخذ يتدخل في الشؤون البابوية, بشكل لم يسبق له مثيل. وأصبح هذا التدخل, سابقة سياسية ودينية خطيرة - سار عليها أباطرة الفرنج - كان لها تأثيرات سلبية, في العلاقات بين الطرفين؛ إذ بدأت العلاقات بالتوتر, بعد التتويج مباشرة. حيث رأى البابا وأنصاره, أنهم لم يجدوا في الإمبراطور حليفا بل سيدا؛ لهذا أعلن البابا تحديه لطموح الإمبراطور, وبدأ الصراع بين السلطتين الدينية والزمنية.([99])

 

 

المبحث الثالث-تفجر الخلافات والقطيعة الكبرى (ق11):

     تبلور المذهب الكاثوليكي في روما, خلال عهد البابا ليو التاسع (1049-1055), الذي أنقذ الكنيسة الغربية, من الأوضاع التي آلت إليها, وأعاد لها هيبتها ووقارها السابق.([100]) والبابا ليو التاسع, هو أحد رجال الإصلاح, الذين انجبتهم حركة كلوني الديرية, والتي كان من أهدفها اعلاء النفوذ البابوي, وتقوية مركز البابوية والكنيسة الغربية؛ ليكون لها دور فعال في توجيه وإصلاح الناس.([101])لم يكتف البابا ليو التاسع, بإدارة شئون الكنيسة الغربية؛ والتدخل في الشئون السياسية, لبلدان غرب أوربا؛ بل عمل على تأكيد السمو الروحي, والنفوذ السياسي للبابوية, في شئون الأقاليم البيزنطية, وكان من الطبيعي, أن تقاوم الإمبراطورية البيزنطية, والكنيسة الشرقية, هذا التدخل.([102])

     وكما هو واضح, فالأحداث السياسية, لا الاختلافات العقائدية, هي التي شطرت العالم المسيحي إلى شطرين, أحدهما شرقي, والآخر غربي. ففي سنة 1043, عُين ميخائيل كرولاريوس, بطريركا للقسطنطينية, وكان في الأصل راهبا, ولكن الذي رفع من شأنه, هو تاريخه السياسي لا تاريخه الديني. فقد كان ميخائيل كرولاريوس كبير وزراء الإمبراطورية البيزنطية, وكان الخضوع للباباوية من أصعب الأمور على نفسه.([103]) وكان البطريرك ميخائيل كيرولاريوس, يسعى إلى أن يكون بطريركا وإمبراطورا, في نفس الوقت - تشبها ببابا روما - وأن يصبح له من المركز والنفوذ, ما لا يقل عن زميله الغربي في شيء.([104])

     في سنة 1053, أذاع البطريرك ميخائيل كيرولاريوس, رسالة باللغة اللاتينية - كتبها راهب يوناني - يلوم فيها الكنيسة الغربية؛ بسبب إرغامها رجال الدين على العزوبة, ولاستعمالها خبزا فطيرا في القربان المقدس, ولإضافة الفقرة القائلة: بأن الروح القدس ينبعث من الأب والابن. ثم أغلق البطريرك ميخائيل كرولاريوس, جميع الكنائس - البيزنطية - التي تستخدم الشعائر الكاثوليكية, وأصدر قرار الحرمان بحق جميع القساوسة, الذين يصرون على استخدام تلك الشعائر.([105]) ولما كان انفصال, الكنيسة الشرقية عن الكنيسة الغربية, يعتبر تحدي صريح ومباشر للبابوية؛ فقد بادر البابا ليو التاسع, بإرسال خطاب إلى البطريرك ميخائيل كرولاريوس, يعلن فيه: أحقية سيادة الكنيسة الغربية على الكنيسة الشرقية.([106]) ويطلب منه, أن يعترف بسيادة البابوية, ويصف كل كنيسة ترفض هذا الاعتراف بأنها: (جمعية من الخارجين على الدين, وجماعة من المنشقين, ومعبد للشيطان).([107])

     وفي صيف سنة 1054, أرسل البابا ليو التاسع, وفدا إلى القسطنطينية, برئاسة الكاردينال همبرت؛ ليناقشوا الإمبراطور قسطنطين التاسع (1042-1055), في الفوارق التي تبعد فرعي المسيحية, أحدهما عن الآخر. وقد كان مسلك الوفد البابوي, مشوبا بالتعالي والكبرياء, وعدم الاحترام. وفي المقابل, أبدى البطريرك ميخائيل كرولاريوس, شعورا مماثلا؛ مما جعل الاختلافات بين الطرفين تصل إلى ذروتها. عندها وضع الكاردينال همبرت, قرار الحرمان على مذبح كنيسة القديسة آيا صوفيا بالقسطنطينية, معلنا اللعنة على البطريرك ميخائيل كيرولاريوس وأتباعه, الذين وصفهم بالهراطقة وأتباع الشيطان.([108])

     وردا على ذلك, عقد البطريرك ميخائيل كيرولاريوس, مجمعا دينيا, أصدر في نهايته, قرار الحرمان ضد الوفد البابوي, ومن يشايعهم, وكل المتصلين بهم. وهكذا حدثت القطيعة الكبرى أو الانشقاق النهائي, بين الكنيستين الشرقية والغربية, التي كانت نتيجة لعلاقات سلبية معقدة, عبر قرون عديدة ماضية, تمثلت في الفروق: الثقافية, والسياسية, والاقتصادية, بين العالمين الشرقي والغربي. فمسألة اتمام القطيعة بين الكنيستين, كانت مسألة زمن ليس إلا, بعد أن اتخذت كل منهما طريقا اختلف تماما عن الطريق الذي اتخذته الأخرى.([109])

     وليس هناك من شك في أن هذا الانفصال النهائي بين الكنيستين, يمكن أن يعتبر نصرا للكنيسة الشرقية, التي استقلت تماما عن البابوية, وأصبح نفوذ بطريركها, على درجة كبيرة من العظمة, في العالم السلافي, وفي الكنائس الشرقية. إلا أن هذه القطيعة, كانت ذات نتائج خطيرة الأثر, بالنسبة لمستقبل الإمبراطورية السياسي؛ لأنها قضت على كل أمال, في الوصول إلى تفاهم سياسي مع الغرب اللاتيني - الذي ظل تحت تأثير قوي من البابوية - في الوقت الذي أخذ خطر السلاجقة الأتراك, يقترب من الإمبراطورية البيزنطية؛ مما جعلها في حاجة ماسة لمعونة الغرب.([110])

    

 

 

الخاتمة:

     بزوال الاضطهاد الديني - في القرن الرابع - وبوصول المسيحية إلى شاطئ الأمان, بدأت الكنيسة, تشهد صراعا عقائديا, بين طوائفها المختلفة, وطفت على السطح المتناقضات: العنصرية والاجتماعية والفكرية, التي كانت مختفية في القاع, عندما كانت المسيحية مضطهدة. وكاد هذا الصراع, أن يهدد وجود الكنيسة, بل واحدث انقساما شاسعا بين مريديها, وقضى على فكرة الكنيسة المسكونة الواحدة, التي تجمع كل المسيحيين. فقد كان هناك ثمة تمهيد لانفصال مذهبي, بين الشرق والغرب؛ نتيجة لتباين ثقافة مختلف البلدان المسيحية.

     وبفعل التأثر بالتنظيمات الإدارية الرومانية السائدة, اقتبست المسيحية, العديد من تراتبيات النظام البيروقراطي في العمل. ليبرز للعيان منصب ديني جديد, تمثل في (البطريرك), حيث نصب خمسة بطاركة, في المراكز الرئيسية, التي شملت العالم المسيحي, وهي: (روما, القسطنطينية, أنطاكية, بيت المقدس, الإسكندرية). وقد ساهم الاختلاف المذهبي, إلى حد بعيد, في تعميق حدة الفواصل والانقسامات, بين هذه المراكز. إلا أن روما, حظيت بالمكانة الأسمى والأهم, لاستنادها على وراثة القديس بطرس. وقد أخذ الأباطرة البيزنطيون, يلعبون دورا هاما ورائدا, في حياة الكنيسة, التي أرتهن تاريخها, بالآراء الدينية والسياسية المتقلبة, لمختلف الأباطرة.

     لم تؤد المحاولات التي قام بها أباطرة بيزنطة - في القرن السابع - لتوحيد المذاهب والتوفيق بينها, إلى أي وحدة دينية أو سياسية؛ بل على العكس من ذلك, أدت إلى نزاع ديني سياسي شديد, فقدت على أثره الإمبراطورية البيزنطية, أغنى ولاياتها الشرقية في بلاد الشام وشمال إفريقيا, فقد وجد الأباطرة انفسهم مضطرين, إلى اضطهاد مجموعات كبيرة, ممن اعتبروهم هراطقة, مما جعل هؤلاء, يتحولون إلى المعارضة السياسية, ويرحبون بالعرب باعتبارهم منقذين, كما استطمت الإمبراطورية البيزنطية بالبابوية, اتخذت بيزنطة على أثره, طريقا شرقيا يونانيا خالصا.في الوقت الذي ازداد النفوذ الروحي, واستحكم السلطان السياسي للبابوية, وخير ما يوضح ازدياد نفوذ البابوية, هو تضاعف ممتلكاتها, وتضخم مواردها المالية. واصبحت حكومتها في روما, أقرب إلى الحكومة الدنيوية, منها إلى الحكومة الدينية؛ في الوقت الذي أخذ نفوذ بيزنطة, يخبو ويتضاءل تدريجيا. مما أدى إلى حدوث تنافس, بينها وبين البابوية, وهو تنافس أدى إلى صدام عسكري.

     أما الحملة على الأيقونات - خلال القرن الثامن, والنصف الأول من القرن التاسع - فكانت سياسية الهدف من وراءها, القضاء على نفوذ الاديرة, بعد أن تضخمت ثروتها, وتضاعفت ممتلكاتها المعفاة من الضرائب, وازدادت حقوقها وامتيازاتها, مما جعلها خطرا كبيرا على الدولة. وقد كان للنزاع الأيقوني - اللاأيقوني, أثره ونتائجه السلبية على الإمبراطورية البيزنطية؛ فقد استغلت الكنيسة الغربية هذه الأزمة, لكسب حب وولاء الجماهير الثائرة, وظهرت بمظهر الكنيسة المحافظة على نقاوة العقيدة المسيحية, وصاحبة المذهب الصحيح, مما زاد من تمسك باباوات روما بنظرتهم, في التفوق الروحي على سائر الكنائس. كما استغلت البابوية, ضعف نفوذ بيزنطة في الغرب, لتتحرر من سلطتها تحررا تاما, ومن اجل هذا عقدت عدة تحالفات ضد بيزنطة, كان أهمها التحالف مع الفرنج, لتحيي بتحالفها مع ملوك الفرنج, الإمبراطورية الرومانية الغربية - المقدسة, وبهذا قطعت البابوية الرباط الواهي, الذي كان يربطها ببيزنطة, وظهر مجتمع جديد, ذو طابع مميز, واصبحت الكنيسة الغربية, خاضعة لملوك الفرنج.

     كان الغرض من تأكيد السيادة الروحية للبابوية - خلال النصف الثاني من القرن التاسع - هو فرض السطوة البابوية على الحكام السياسيين في الغرب والشرق, وقد أدى هذا إلى فتح باب النقاش, في الاختلافات المذهبية بين الكنيستين, وهو نقاش لم يخل من التشنيع بالآخر, واصدار قرارات الحرمان ضد بعضهما؛ على أن النشاط التبشيري, كان غرضه سياسي أكثر منه ديني, وقد أدى هذا النشاط, إلى تنافس وعداء شديد بينهما.

     في القرن العاشر, انشغلت الكنيسة الشرقية, بصراعها مع أباطرة بيزنطة, وهو صراع الهدف من وراءه؛ تعزيز استقلالها وفرض هيبتها على الأباطرة, الذين نكلوا بمعارضيهم. بينما عانت الكنيسة الغربية, من الفوضى والحروب الأهلية, التي عصفت بغرب أوربا, فانتشرت مظاهر الفساد والضعف, في بناءها العام, وأصبح نفوذ البابوية اسميا, بعد ان استولى الإقطاعيون على ممتلكات الكنيسة, وأصبح رجال الدين خاضعين للحكام الزمنيين, ولم تكد الكنيسة تتعافى من محنتها, حتى دخلت في صراع مرير, مع أباطرة الفرنج.

     كانت أحداث القرن الحادي عشر, السياسية لا الاختلافات العقائدية, هي التي شطرت العالم المسيحي إلى شطرين, فقد سعى بطريرك الكنيسة الشرقية, إلى أن يكون له من النفوذ والمركز, ما لا يقل عن زميله الغربي (البابا), فحدث الصدام والقطيعة النهائية بينهما, بإصدار كل منهما قرار الحرمان بحق الآخر, وهكذا حدثت القطيعة الكبرى أو الانشقاق النهائي, بين الكنيستين الشرقية والغربية, والتي كانت نتيجة طبيعية, لعلاقات سلبية معقدة, عبر قرون عديدة ماضية, تمثلت في الفروق: الثقافية, والسياسية, والاقتصادية, بين العالمين الشرقي والغربي. فمسألة اتمام القطيعة بين الكنيستين, كانت مسألة زمن ليس إلا.

 

 

المصادر والمراجع:

1- إدوار بروي وآخرون, تاريخ الحضارات العام - القرون الوسطى - مج3, ترجمة: يوسف أسعد داغر وفريد م. داغر, منشورات عويدات, بيروت-باريس, ط/3, 1994.

2- نورمان ف. كانتور, التاريخ الوسيط - قصة حضارة: البداية والنهاية - القسم الأول, ترجمة: قاسم عبده قاسم, ط/2, دار المعارف, القاهرة, د.ت.

3- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14, ترجمة: محمد بدران, مكتبة الأسرة,  مصر, 2001.

4- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج8, ج16, ترجمة: محمد بدران, مكتبة الأسرة,  مصر, 2001.

5- إسماعيل نوري الربيع, تاريخ أوروبا في العصور الوسطى - دراسة في توزيع القوى السياسية, دار شموع, د.م, 2001.

6- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية (284-1453), دار المعرفة الجامعية, الإسكندرية, 1998.

7- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ, تاريخ العصور الوسطى الأوروبية وحضارتها, ط/2, دار النهضة العربية, بيروت, 1987.

8- حسنين محمد ربيع, دراسات في تاريخ الدولة البيزنطية, ط/7, دار النهضة العربية, القاهرة, 2000.

9- سعيد عبد الفتاح عاشور, أوربا العصور الوسطى - التاريخ السياسي, ج1, ط/8, مكتبة الانجلو المصرية, القاهرة, 1997.

10- سيد أحمد على الناصري, تاريخ الإمبراطورية الرومانية السياسي والحضاري, ط/2, دار النهضة العربية, القاهرة, 1991.

11- عبد القادر أحمد اليوسف, العصور الوسطى الأوروبية 476-1500, المكتبة العصرية, صيدا - بيروت, 1967.

12- محمود سعيد عمران, معالم تاريخ الإمبراطورية البيزنطية (مدخل لدراسة التاريخ السياسي والحربي), دار المعرفة الجامعية, الإسكندرية, 1998.  

13- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ, معالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى, دار المعرفة الجامعية, الإسكندرية, 1998.

14- محمود محمد الحويري, مصر في العصور الوسطى من العصر المسيحي حتى الفتح العثماني, ط/2, المكتب المصري, القاهرة, 2002.



[1]
- سيد أحمد على الناصري, تاريخ الإمبراطورية الرومانية السياسي والحضاري, ط/2, دار النهضة العربية, القاهرة, 1991. ص: 437

[2]- إدوار بروي وآخرون, تاريخ الحضارات العام - القرون الوسطى - مج3, ترجمة: يوسف أسعد داغر وفريد م. داغر, منشورات عويدات, بيروت - باريس, ط/3, 1994. ص:51 

[3]- سيد أحمد على الناصري, مرجع سابق, ص: 437

[4]- نورمان ف. كانتور, التاريخ الوسيط - قصة حضارة: البداية والنهاية- القسم الأول, ترجمة: قاسم عبده قاسم, ط/2, دار المعارف, القاهرة, د.ت.ص: 103

[5]- سيد أحمد على الناصري, مرجع سابق, ص: 437

[6]- محمود محمد الحويري, مصر في العصور الوسطى من العصر المسيحي حتى الفتح العثماني, ط/2, المكتب المصري, القاهرة, 2002. ص: 27

[7]- نفس المرجع, ص: 28

[8]- عبد القادر أحمد اليوسف, العصور الوسطى الأوروبية  476 - 1500, المكتبة العصرية, صيدا - بيروت, 1967. ص: 40

[9]- سيد احمد علي الناصري, مرجع سابق, ص: 497

[10]- محمود محمد الحويري, مصر في العصور الوسطى من العصر المسيحي حتى الفتح العثماني, مرجع سابق, ص: 35

[11]- عبد القادر أحمد اليوسف, مرجع سابق, ص: 41

[12]- محمود محمد الحويري, مصر في العصور الوسطى من العصر المسيحي حتى الفتح العثماني, مرجع سابق, ص: 37

[13]- محمود محمد الحويري, مصر في العصور الوسطى من العصر المسيحي حتى الفتح العثماني, مرجع سابق, ص: 40

[14]- نورمان ف. كانتور, مرجع سابق, ص: 73

[15]- نفس المرجع, ص: 66

[16]- إسماعيل نوري الربيع, تاريخ أوروبا في العصور الوسطى - دراسة في توزيع القوى السياسية, دار شموع, د.م, 2001. ص: 113

[17]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14, ترجمة: محمد بدران, مكتبة الأسرة,  مصر, 2001. ص: 357

[18]- نورمان ف. كانتور, مرجع سابق, ص: 75

[19]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج8, ج16, ترجمة: محمد بدران, مكتبة الأسرة,  مصر, 2001. ص: 34

[20]- نفس المرجع, ص: 15

[21]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14, مرجع سابق, ص:359

[22]- نفس المرجع, ص: 358

[23]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية  284-1453, دار المعرفة الجامعية, الإسكندرية, 1998. ص: 167

[24]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ العصور الوسطى الأوروبية وحضارتها, ط/2, دار النهضة العربية, بيروت, 1987. ص: 57

[25]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية, مرجع سابق, ص: 129

[26]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14, مرجع سابق, ص: 352

[27]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية, مرجع سابق, ص: 108

[28]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14, مرجع سابق, ص: 352

[29]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق, ص: 108

[30]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14,مرجع سابق, ص: 352

[31]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق, ص: 129

[32]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14,مرجع سابق, ص: 352

[33]- سعيد عبد الفتاح عاشور, أوربا العصور الوسطى - التاريخ السياسي, ج1, ط/8, مكتبة الانجلو المصرية, القاهرة, 1997. ص: 167

[34]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14,مرجع سابق, ص: 352

[35]- نورمان ف. كانتور, مرجع سابق, ص: 75

[36]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق, ص: 123

[37]- حسنين محمد ربيع, دراسات في تاريخ الدولة البيزنطية, ط/7, دار النهضة العربية, القاهرة, 2000. ص: 107

[38]- نفس المرجع, ص: 108                                                      

[39]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق,ص: 123

[40]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 130

[41]- نفس المرجع, ص: 131

[42]- نفس المرجع, ص: 132

[43]- محمود سعيد عمران, معالم تاريخ الإمبراطورية البيزنطية (مدخل لدراسة التاريخ السياسي والحربي), دار المعرفة الجامعية, الإسكندرية, 1998.   ص: 101

[44]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 133

[45]- محمود سعيد عمران, معالم تاريخ الإمبراطورية البيزنطية,مرجع سابق,ص: 101

[46]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق, ص: 134

[47]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق,ص: 135

[48]- نفس المرجع, ص: 136

[49]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق, ص: 141

[50]- حسنين محمد ربيع, مرجع سابق, ص: 132، 137

[51]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 133

[52]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 165

[53]- نفس المرجع, ص: 165

[54]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 166 , 167

[55]- نفس المرجع, ص: 163

[56]- نفس المرجع, ص: 164

[57]- محمود سعيد عمران, معالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى, دار المعرفة الجامعية, الإسكندرية, 1998. ص: 160

[58]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 164

[59]- محمود سعيد عمران, معالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى,مرجع سابق,ص: 161

[60]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 169

[61]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 170

[62]- محمود سعيد عمران, معالم تاريخ أوروبا في العصور الوسطى,مرجع سابق,ص: 162

[63]- نفس المرجع, ص: 162

[64]- نفس المرجع, ص: 163

[65]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 174

[66]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ العصور الوسطى الأوروبية وحضارتها,مرجع سابق,ص: 137

[67]- نفس المرجع, ص: 138

[68]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 207

[69]- نفس المرجع, ص: 209

[70]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 110

[71]- حسنين محمد ربيع, دراسات في تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق,ص: 131

[72]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ العصور الوسطى الأوروبية وحضارتها,مرجع سابق, ص: 141

[73]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 214

[74]- عبد القادر أحمد اليوسف, مرجع سابق, ص: 134

[75]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14,مرجع سابق,ص: 360            

[76]- إدوار بروي وآخرون, مرجع سابق, ص: 214

[77]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14,مرجع سابق,ص: 360

[78]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14,مرجع سابق, ص: 361

[79]- محمود سعيد عمران, معالم تاريخ الإمبراطورية البيزنطية,مرجع سابق,ص: 137

[80]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14,مرجع سابق, ص: 361

[81]- إدوار بروي وآخرون, مرجع سابق, ص: 214

[82]- حسنين محمد ربيع, مرجع سابق, ص: 155

[83]- محمود سعيد عمران, معالم تاريخ الإمبراطورية البيزنطية,مرجع سابق, ص: 138

[84]- نفس المرجع, ص: 139

[85]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14,مرجع سابق,ص: 373

[86]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق,ص: 152

[87]- نفس المرجع, ص: 150

[88]- نفس المرجع, ص: 150

[89]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق, ص: 151

[90]- نفس المرجع, ص: 161

[91]- نفس المرجع, ص: 169

[92]- إسماعيل نوري الربيع, مرجع سابق, ص: 114

[93]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 335 , 339

[94]- عبد القادر أحمد اليوسف, مرجع سابق, ص: 137

[95]- عبد القادر أحمد اليوسف, مرجع سابق, ص: 137

[96]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 335

[97]- عبد القادر أحمد اليوسف, مرجع سابق, ص: 138

[98]- نفس المرجع, ص: 146

[99]- نفس المرجع, ص: 143

[100]- إسماعيل نوري الربيع, مرجع سابق, ص: 114

[101]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق, ص: 191

[102]- حسنين محمد ربيع, مرجع سابق, ص: 164

[103]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14,مرجع سابق,ص: 390

[104]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق, ص: 191

[105]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14,مرجع سابق,ص: 390

[106]- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ الدولة البيزنطية,مرجع سابق,ص: 191

[107]- ول ديورانت, قصة الحضارة - عصر الإيمان, مج7, ج14,مرجع سابق,ص: 391

[108]- حسنين محمد ربيع, مرجع سابق, ص: 164

[109]- نفس المرجع, ص: 165

[110]- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 428

اجمالي القراءات 16760

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2014-11-03
مقالات منشورة : 84
اجمالي القراءات : 960,731
تعليقات له : 60
تعليقات عليه : 67
بلد الميلاد : Yemen
بلد الاقامة : Yemen