د. رفيق حبيب يكتب: الإصلاح السياسي بين الإسلامي والعلماني

عثمان محمد علي   في السبت ٠٥ - يونيو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً


ربما يريد البعض تجاوز الثنائية السياسية بين التيار الإسلامي والتيار العلماني، ولكن التجاوز لن يتم بالتمني، بل بالتعامل الواقعي. ففي البلاد العربية والإسلامية تتعدد التيارات السياسية والاجتماعية والثقافية، ولكن الفجوة الأكبر تتحقق بين التيار الإسلامي والتيار العلماني. فبين التيارات الإسلامية من المشتركات في الثوابت والقيم العليا، ما يجعلها أقرب لبعضها البعض، وبين التيارات العلمانية من المشتركات في الثوابت والقيم، ما يجعلها أقرب لبعضها البعض ولكن ما بين التيار العلماني والتيار الإسلامي اختلاف حول الثوابت، أن النقل حول بعض الثوابت، والاختلاف في الثوابت، أي في القيم والمبادئ العليا، يعمق المسافة الفاصلة بين التيارات، أكثر بكثير من الاختلاف حول الفروع.

مقالات متعلقة :


والحاصل أن بين التيار العلماني والتيار الإسلامي خلافًا في القيم السياسية العليا الحاكمة للنظام السياسي الرشيد، مما يجعل تصور كل منهما النظام السياسي الرشيد أو الصالح مختلفا. والتعدد في حد ذاته يعبر عن طبيعة الأشياء وطبيعة البشر والمجتمعات، ففي كل المجتمعات هناك تعدد سياسي، ولكن التعدد الحادث في البلاد العربية والإسلامية بين التيار العلماني والتيار الإسلامي، مثل حالة خاصة، لأن كلا منهما استمد مرجعيته من إطار مختلف. والاختلاف في المرجعية التي تستمد منها الأفكار، يوسع الاختلاف، وربما يحوله إلي خلاف. فالتيار العلماني يري أن المرجعية تستمد من العصر، ومن القوة المتقدمة في العصر الحالي، ومادام الغرب يمثل الحضارة المتقدمة، لذا تصبح الحضارة الغربية هي المرجعية التي يمكن أن تحقق التقدم والنهوض. ولكن التيار الإسلامي يري علي العكس من ذلك، أن المرجعية تستمد من التاريخ الحضاري لكل أمة أو شعب، وأن تلك المرجعية تمثل الخصوصية الحضارية الخاصة بكل أمة أو شعب، وأن الحضارة المتقدمة لا تمثل النموذج الأفضل لكل شعوب الأرض، حتي وإن كانت تمثل الأفضل للشعب الذي ينتمي لها، وتقدم من خلالها.

لذا نجد اختلافًا بين التيار العلماني والتيار الإسلامي في تعريف المشكلة التي تمر بها الأمة الإسلامية، ومصدر هذه المشكلة. فالتيار العلماني يري أن المشكلة تنبع من عدم قدرة الشعوب العربية والإسلامية علي تبني الحضارة المتقدمة وإعادة إنتاجها، كما يري التيار العلماني أن الموروث التاريخي للشعوب العربية والإسلامية، حيث إنه لا يراها أمة واحدة، يمثل عقبة في طريق التقدم، لذا يلزم التخلي عن الموروث الحضاري للشعوب العربية والإسلامية، مع احتفاظها بقدر من الخصوصية الثقافية داخل إطار الحداثة الغربية. وإذا استطاعت الشعوب العربية والإسلامية - حسب رؤية التيار العلماني- توظيف الموروث الحضاري والديني لإعادة إنتاج الحداثة الغربية بصورة لها تميزها الثقافي، رغم التزامها بقواعد وقيم الحداثة الغربية، عندئذ سوف تحقق تلك الشعوب التقدم والرقي.

ولكن التيار الإسلامي له رؤية مختلفة، فهو يري أن التقدم لا يتحقق بتقليد الآخر المتقدم، وأن الحضارات لها تميزها عن بعضها البعض، وأن لكل أمة حضارتها المختلفة، وعليه فإن الشعوب العربية والإسلامية تمثل أمة واحدة، ولها حضارة واحدة، هي الحضارة الإسلامية، وعلي هذه الشعوب التمسك بحضارتها وتميزها الحضاري، ولها - بل عليها- التعلم من الآخرين، واقتباس الطرق والأساليب والعلوم والمعارف، دون اقتباس القيم. وبهذا تستطيع الأمة الإسلامية تحقيق التقدم والرقي والنهوض، من خلال قيمها الحضارية الخاصة، وبالتعلم من الآخرين، دون تبعية لهم، ودون نقل لقيم الآخر. ففي التصور الخاص بالتيار الإسلامي، تنتج القيم من المرجعية الحضارية والدينية للأمة الإسلامية، حيث تستمد منها القيم والمبادئ والأحكام والقواعد الرئيسة.

وبهذا يصبح الالتزام بالمرجعية الغربية بالنسبة للتيار الإسلامي هو مصدر التأخر والتدهور والسقوط في التبعية، والالتحاق بالغرب، وهو أيضا مصدر عدم قدرة الأمة علي مواجهة الاستعمار الخارجي. أما بالنسبة للتيار العلماني، فيصبح التمسك بالمرجعية الحضارية للأمة الإسلامية هو مصدر تخلفها وتراجعها، وهو سبب تأخرها، وهو الذي يمنعها من اللحاق بالغرب المتقدم، وعليه يصبح السبيل للتقدم والنهوض، مختلفًا عليه بين التيار العلماني والتيار الإسلامي، مما يجعل لكل منهما طريقا محددا يتعارض مع الآخر. وفي الواقع، سنجد أن طريق النهوض من خلال الالتحاق بالحداثة الغربية يمثل طريقا متعارضا في مساره مع طريق النهوض من خلال إحياء الحضارة الإسلامية. فكل من التيارين يسير عكس الآخر، وأحدهما بالطبع يسير عكس حركة التاريخ وقوانينه، وهو التيار الذي سوف يتراجع وربما يختفي في النهاية، والآخر يسير مع مسار حركة التاريخ، وتبعا لقوانين التاريخ، وهو الذي سوف يبقي في النهاية. وكل تيار بالطبع، يري أنه يمثل حركة التاريخ، وأنه يسير طبقا للقوانين الموضوعة لحركة التاريخ البشري.

ولكن هذا الاختلاف العلماني الإسلامي، والذي تحول إلي خلاف مزمن، أصبح من ضمن أهم العوامل المعرقلة لمسيرة الإصلاح السياسي في مصر، كما في غيرها من البلاد العربية والإسلامية. فكل مشاهد الحراك السياسي في مصر تشير إلي بروز الخلاف العلماني الإسلامي في كل مرحلة من المراحل، وهو ما يتكرر في العديد من الدول العربية والإسلامية. ثم يضاف لهذا الخلاف المزمن، موقف النخب السياسية الحاكمة، وموقف الدول الغربية، والتي تدخل طرفا بين التيارات السياسية العلمانية والإسلامية. ومن المعروف أن النخب السياسية الحاكمة تواجه التيار الإسلامي أكثر من مواجهتها التيارات الأخري، خاصة العلماني، لما له من شعبية. والدول الغربية تساند التيار العلماني، لأنه يتبني مشروع الحداثة الغربي. لذا تدخل كل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية علي ساحة المعركة بين التيار العلماني والتيار الإسلامي، بصورة تأزم العلاقة بينهما، وتعرقل كل سبل التفاعل الحر بين التيارات السياسية.

ثم نصل في النهاية إلي المعادلة الصفرية، فالمواجهة بين التيار العلماني والتيار الإسلامي مستمرة، واستبداد الأنظمة الحاكمة مستمر، وهيمنة الدول الغربية مستمرة. وبهذا تصبح المنافسة بين التيار العلماني والتيار الإسلامي بلا جدوي حقيقية، في ظل غياب الحرية السياسية، وغياب التداول السلمي للسلطة. وتستفيد النخب الحاكمة من ذلك الخلاف، فهي تستفيد من الهجوم المستمر من التيار العلماني علي التيار الإسلامي، بوصفه القوة الشعبية الأولي التي تقف أمام النخب الحاكمة. وتستفيد الدول الغربية المتدخلة في شئون المنطقة من هيمنة التيار العلماني علي وسائل الإعلام وعلي الساحة السياسية، رغم ضعف شعبيته. ولكن كل الأطراف الأخري تخسر، لأنها تستنزف في معركة بلا طائل. والمشكلة الحقيقية هي في غياب المجتمع عن معادلة السياسة. فمن ير طريقًا ما للنهوض والتقدم، عليه أن يكسب تأييد المجتمع، لأنه لن يقيم مشروعه إذا رفضه المجتمع، لذا فالحكم الأخير علي تلك المشاريع، ليس الدليل العقلي أو السياسي، وليست الحوارات والتحالفات، بل المجتمع نفسه، الذي سوف يختار في النهاية الطريق الذي يسلكه ويحقق له النهوض والتقدم الذي يتمناه. ولولا فقدان المجتمع حرية الحركة، ما استمرت تلك المعركة بين التيار العلماني والتيار الإسلامي تدور في دائرة مفرغة، فالمجتمع هو القادر علي فرض تأثيره في كل التيارات، وبالتالي هو القادر علي التقريب بينها أو الفصل بينها، وهو القادر علي تحديد الطريق الأنجع، لأنه سيختار النجاح الذي يريده، والنهوض الذي يحلم به، والتقدم الذي يناسبه.

ولأن المجتمع تم تغييبه، وحصار قواه الفاعلة، ومحاصرة مؤسساته النشطة، لذا استمرت تلك الحوارات النخبوية بين التيارات السياسية، واستمرت عملية عرقلة الإصلاح السياسي، لأن المجتمع لم يستطع فرض جدول أعماله علي كل التيارات، وفرض المرجعية التي يختارها طريقا للنهوض.

 

اجمالي القراءات 3472
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق