عقيدة التنظيم.. كيف يفكر النمل؟

اضيف الخبر في يوم الجمعة ١٠ - مارس - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الجزيرة


عقيدة التنظيم.. كيف يفكر النمل؟

نميل نحن البشر لتنظيم الأمور بما نعرفه عما تعنيه كلمات كـ"تنظيم"، نفضل مثلاً أن نتفق على إقامة حكومة منتخبة من الشعب يرأسها شخص ما ليدير الأمور على مستوى التخطيط المركزي، بعد ذلك تأخذ الحكومة تلك الخطة وتصنع برامج، ثم يبدأ تنفيذ البرامج عبر أفراد ينتمون لتلك الإدارات.
مقالات متعلقة :


قبل أربع مئة عام تصور الفيلسوف الإنجليزي "توماس هوبز"(1) أننا كائنات أنانية بطبعها، يحرص كل منّا على مصلحته الخاصة، مما قد يخلق تنافسا شديدا بين أفراد المجتمع، لذلك وجب علينا الانتقال مما سماه هوبز "الحالة الطبيعية" تلك الحالة التي نتحارب فيها مع بعضنا البعض، إلى المجتمع الحديث، يحدث ذلك عبر اتفاق (Social contract) بيننا كأفراد مجتمع على التنازل عن جزء كبير من حريتنا للحاكم الذي ينظم الأمور، ويفصل بيننا، على امتداد نفس الخط المعني بفهم الحالة الطبيعية كان "جون لوك" أقل حدة في التعامل مع تلك الحالة.

undefined
ذلك هو ما نعرفه عن عملية التنظيم، إنها خطة يسير الجميع عليها، طريقة هرمية يقف فيها القائد صاحب الخطط الأكثر عمومية في قمة الهرم، ثم يأمر فريق عمل ما -ذا درجة أعلى تخصصا- بتنفيذها، ويأمر هذا الفريق بدوره -أفرادا أعلى منه تخصصا- لتنفيذ خطط محددة محكمة، هنا يتكون ما نسميه: نظاما.

يبدو ذلك بديهيا جدا، فنحن نراه كل يوم في إدارة الدول وشركات الهاتف النقال والمنازل والمسلسلات التليفزيونية، وأفلام "سكورسيزي" و"تارانتينو"، فكل منهما يدير طاقم عمل كامل لصناعة فيلم رائع؛ لكن الأمور -في الحقيقة- ليست كما نظن، دعنا ندرس بعض العوالم المختلفة ونتعلم قليلا عنها.

لنبدأ بأسراب الطيور والأسماك. على عكس ما يمكن أن نتوقع، تدار تلك الجماعات بدون أي سيطرة مركزية، فقط عبر مجموعة من القواعد البسيطة التي يلتزم بها الأفراد ما يمكّنهم من إقامة نظام كامل. لفهم كيفية حدوث ذلك طوّر "كريج رينولد"(2) -سنة 1986- محاكيا حاسوبيا ثلاثي الأبعاد أُطلق عليه اسم "بويد Boid"، تقول تلك الفرضية إن كل طائر -بويد- يلزم نفسه فقط بثلاثة قواعد بسيطة:

لا تصطدم بجارك.
واكب سرعته واتجاهه.
كن بالقرب من مركز الفريق.
دعنا الآن نتصور أن هناك 80 سمكة في حوض ماء بعرض وطول 5 متر، تتحرك الأسماك بشكل عشوائي تماما في البداية، كل سمكة مبرمجة ذاتيا لتطبيق القواعد الثلاثة، فتقترب إحدى السمكات من أخرى، تتجنب التصادم بها؛ لكنها تواكب سرعتها، وتظل بالقرب منها، تقترب منهما سمكة أخرى تمر بمحاذاتهما بالصدفة؛ فتطبق -هي الأخرى- القواعد وتنتظم مع الفريق المتحرك، يحدث ذلك في مناطق عدة من الحوض الضخم ثم تتحرك المجموعات الصغيرة شيئا فشيئا؛ لتنضم لبعضها، مكونة مجموعة ضخمة واحدة. الأمر -إذن- ليس بتلك الصعوبة، كل ما تحتاجه السمكة /الطائر؛ هو النظر للجار فقط؛ وتطبيق "قوانينها" البسيطة. لنشاهد الآن ما يحدث حينما نطبق قواعد "رينولد" الثلاثة على قطيع من وحدات "إلكترونية" بدأت بنمط عشوائي:




لكي نفهم كيف يمكن لقواعد بسيطة أن تساعد كيانا مكونا من عدد ضخم من الأفراد على تنظيم ذاته؛ دعنا نتعلم قليلا عن اليراعاتFireflies) (3))، وهي نوع من الخنافس التي تتمكن من إصدار نبضات ضوئية، تظهر تلك النبضات بتزامن بديع منتظم في التجمعات الضخمة لذلك النوع من الخنافس؛ بمعنى أن مجموعة مكونة من -قُل- 2000 يراعة سوف تنبض جميعها معاً بتردد واحد منتظم، تتمكن اليراعات من خلق هذا النمط المنتظم عبر نفس القاعدة البسيطة: اتبع جارك، لنفترض أن هناك ساعة في دماغ كل يراعة في الفريق، هذه الساعة تتكون فقط من 5 أرقام في دائرتها، 1 و2 و3 و4 و5، يدور عقرب الساعة بينهم بانتظام، ويطلق نبضته الضوئية -فقط- حينما يصل العقرب إلى رقم 5 ثم يقف الضوء، وهكذا، لكن كل يراعة تتمكن من إعادة ضبط الساعة على 1 في أي وقت.


إذا كانت هناك يراعة "أ" ويراعة "ب" جارتها، تنبض كل منهما مرة كل 5 ثوان، لكن "أ" تبدأ في وقت مختلف عن "ب"، تقول القاعدة البسيطة لليراعة:

انبض مرة كل 5 ثوان.
حينما تشاهد نبضة جارك أعد ضبط ساعتك فورا.
هنا "أ" سوف تحاول الاقتراب من جارتها "ب" عبر إعادة التعيين حتى تتزامن معها تماما، ثم تبدأ مجموعات اليراعات في جوانب التجمع بتطبيق نفس القواعد، بالتدريج، ومع الوقت نحصل على نمط ضخم منتظم، تنجذب التجمعات الصغيرة لبعضها البعض بنفس الطريقة لتصبح مجموعة واحدة متزامنة. في هذا النموذج المحاكي سوف تجد نمطا مشابها:


النملة كائن بسيط، ذو قدرات عقلية وجسدية غاية في الضعف، لو تركت نملة واحدة في علبة بلاستيكية سوف تدور كثيرا ثم تموت من الإرهاق بعد فترة قصيرة، في الحقيقة يمكن أن تقول ذلك عن نملة واحدة، وعن عشرة، وعن مئة نملة؛ لكن حينما نتحدث عن نصف مليون نملة فإن الأمر يختلف، دعنا نقوم ببعض التجارب لفهم تلك القصة.

undefined

لنفترض أن على النملة أن تجتاز أيا من الطريقين A وB للحصول على الطعام، في متاهة كتلك، سوف يبدأ أفراد القطيع في الدخول من الفتحتين بشكل عشوائي، لكن النملة تفرز مادة كيميائية تدعى "الفيرمونات" Phermones تتركها موضع سيرها، تستطيع نملات القطيع أن تشتم تلك المادة بسهولة، وتتوجه ناحيتها، لكن كالعادة عندنا قاعدة بسيطة تتحكم في ذلك كله، تقول القاعدة:

توجّه ناحية التركيز الأعلى للفيرمونات.
هنا، حينما تعبُر النملة من الطريق الأقصر A، فإنها تصل أسرع للتفاحة وتعود أسرع لنقطة الانطلاق، فإذا كان طول الطريق A هو 1 متر مثلا وطول B هو 2 متر؛ فإن النملة سوف تعبر من A ضعف عدد المرات الذي تعبره أخرى من B في مدة زمنية محددة، ما يعني أن تركيز الفيرمونات سوف يكون أعلى في الطريق الأقصر، سوف يدفع ذلك باقي النمل للتوجه تلقائيا للطريق الأقصر.

undefined
يستخدم ذلك التكنيك لحل مشكلة رياضياتية شهيرة تحت اسم "مسألة البائع المتجول Travelling salesman problem"، وصل تاجر إلى دولة فيها عدد من المدن يساوي "س"، يجب على البائع أن يزور كل مدينة في الدولة مرة واحدة فقط، وبأقل وقت سفر بين المدن. رغم أنها تبدو سهلة الحل للوهلة الأولى، إلا أنه لا يُعرف لها خوارزمية سريعة لحلها، إذا كان هناك فقط 50 مدينة حينها يتطلب الأمر أكثر من ألف عام لإيجاد الحل. دعنا نضرب مثالا آخر، إنه يتعلق بأحد المشكلات التي نواجهها مع النمل؛ حيث نتساءل دائما: كيف يعرف قطيع النمل مكان برطمان السكر المغلق؟

تنطلق قطعان النمل بخطوط مستقيمة حينما تخرج من المستعمرة، تظل هكذا مستمرة في السير حتى تحصل على طعام، حينما يحدث ذلك تعود النملة إلى المستعمرة مفرزة الفيرمونات، هنا يتجمع باقي أفراد القطيع واحدا تلو الآخر على خط سير النملة التي وجدت الطعام، وينضموا إليها. يحدث ذلك أيضا عبر تلامس قرون استشعار النملات في أثناء تجولها خارج المستعمرة للبحث عن الطعام.

undefined
حسنا، ربما الآن أصبحنا أكثر إلماما بالفكرة: أفراد يعملون بقوانين بسيطة بجانب تفاعلات محلية مع الجيران، يؤدي ذلك لنشوء نظام معقد يحمل صفات أكبر من مجموع أفراده. يطور ذلك ما نسميه سلوكا جمعيا ما يؤدي لما نسميه "ذكاء جمعيا (Collective intelligence)"، بحيث يمكن لهذا المجموع حل مشكلات لا يحلها الأفراد وحدهم.

يفيد السرب في دفع المفترسات للابتعاد عن أفراده؛ حيث يبدو من بعيد ككائن ضخم، يساعد الذكور على اجتذاب الإناث وتسهيل حركة أفراد المجموعات وحمايتهم لبعضهم البعض، يشرح ذلك لنا سبب تطوير تلك الحالات من التنظيم الشديد في عالم الحيوان؛ لكن لا تزال العملية البحثية قائمة لفهم آلية عمل ونشوء تلك العمليات غير المركزية.

تساعد دراستنا لتلك النظم المعقدة (4) (Complex Systems) على تطوير فهمنا للتفاعلات بين البشر على شبكات التواصل الاجتماعيّ، والتي تعد هي الأخرى نظاما معقدا لا مركزيا بالضبط كأسراب النورس، تساعدنا في فهم كيفية تصرف المجتمعات في حالات الكساد، وكيفية التفاعل بين أجزاء الجهاز العصبي والمناعي؛ بل ويمتد تأثيرها لدراسة الأسواق الحرة والسياسات الدولية، تساعدنا تلك الأنماط الجديدة من الرؤية العلمية في تخليق شبكات ذكاء اصطناعي وأنماط لا مركزية للتفاعل على "الويب". "جوجل" نفسه هو نظام لا مركزي يتبع نفس طرق السرب. تساعدنا كذلك في تطوير نظم إدارة أكثر كفاءة للمؤسسات.

نحن -إذن- أمام وجهة نظر للعالم تختلف تماما عن وجهة نظرنا، ومع ذلك تحقق نتائج جوهرية في التكيف مع متغيرات الواقع، فهي تصنع -عبر مجموعة من القوانين البسيطة- واحدا من أعقد وأكثر المجتمعات تنظيما وتخصصا على كوكبنا، إنها وجهة نظر النملة.
اجمالي القراءات 356
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق