التطور كصراع بين العلم والدين

سامح عسكر Ýí 2019-01-12


نظرية التطور لداروين كانت قاعدة علمية وليست مجرد نظرية، فقد أنتجت بعد ذلك عدة نظريات وحركات فكرية منها تطور التاريخ والمجتمع لكارل ماركس، وتطور النفس لسيجموند فرويد، أي تأثيرها في العلم كتأثير اكتشافات أخرى كقانون الجاذبية لنيوتن والنسبية لإينشتاين.

ولأن التطور فكرة جديدة وفقا لتاريخ الإنسان فمن الطبيعي أن يكون لها خصوم ، بالذات من أصحاب الرؤى الدينية الذين يعتقدون بإنكار التطور لأديانهم وهدم كل ما عرفوه في المجتمع عن الله والرسل والمصلحين، لذا فمن يعتقد أن الغرب قبلها وآمن بها بسهولة..هذا غير صحيح، وفي هذا المقال أطرح عدة نماذج تثبت أن خلاف الإنسان حول نظرية التطور لا زال ممتدا إلى اليوم، وهو خلاف يجري بمعزل عن نتائج العلم ومؤسساته الرسمية التي رأت التطور حقيقة علمية ككروية الأرض بالضبط.

أولا: عام 1925 في ولاية تينيسي الأمريكية منعت تدريس النظرية وحاكموا المؤمنين بها بوصفهم زنادقة منكرين لقصة الخلق في المسيحية، وسموا العملية ب "محاكمة القرد" ولا زالت أوساط بعض المتدينين المسيحيين ترفضها باعتبار أن القائلين بها يعتبرون أنفسهم قرودا، لكن التغير كان منذ الستينات بإلغاء هذه المحاكمات بوصفها تعزز الأصولية المسيحية في المدارس وهذا مخالف للدستور الأمريكي.

الرئيس "جورج بوش الإبن" كان له موقف من النظرية سلبي وإيجابي في نفس الوقت، قال إن قصة الوجود الإنساني يمكن تفسيرها بالتطور وبالمسيحية في نفس الوقت، ودعم كلا النظرتين رغم تناقضهم في محاولة لعلاج آثار التطور في المجتمع الأمريكي، ولمن لا يعلم فالحزب الجمهوري – التابع له بوش – يحصل على شعبية كبيرة بين المتدينين المسيحيين، وكلمته الشهيرة "حرب صليبية جديدة" بعد 11 سبتمبر تعكس أصولية قواعد هذا الحزب الدينية.

المهم..رفض الفلاسفة والعلماء كلام بوش بوصفه إنكارا للعلم، وهو نفسه – أي بوش – كان غير مهتم بقصة العلم ورفض تمويل أبحاث للخلايا الجذعية تتعارض نتائجها مع تصور المسيحيين لدينهم، في حين دعّم اتفاقية كيوتو التي كان الهدف منها تطوير وتوسيع الصناعة الأمريكية متجاهلا نصائح العلماء بالحد من الانبعاث الحراري في الأرض، وإيجاد سبل واتفاقات جديدة تضمن على الأقل ثبات الحرارة.

جاء الرئيس " باراك أوباما" بانقلاب على توجه بوش الديني ، ورفع الحظر عن أبحاث الخلايا الجذعية، وعقد اتفاقيات للمناخ بالحد من طرق الصناعة التي كان ينوي توسيعها بوش، مما وضع أوباما في مأزق اقتصادي داخلي لا زال تهمة للجمهوريين له حتى الآن في عصر ترامب، وكلما ينجز ترامب شيئا اقتصاديا يوجهه فورا لأوباما وهيلاري كلينتون بوصفهما مسئولين عن جمود الصناعة الأمريكية وانخفاض الوظائف – حسب تعبيره، مما يعيد الآن في المجتمع الأمريكي قصة الجدل القديم بين العلم والدين، فأوباما وفريقه الديمقراطي كان مناصرا للعلم ومقاوما لنفوذ المحافظين الذين يخدمون بالتبعية رؤية الفيل الجمهوري.

ثانيا: في إيطاليا سنة 2004 قررت وزيرة التعليم الإيطالية "ليتيسيا موراتي" Letizia Moratti وقف تدريس نظرية التطور في مدارس إيطاليا، لكن ردة الفعل المجتمعية والسياسية كانت شديدة فتراجعت عن القرار، ولأن الوزيرة لها مواقف سابقة وصفت بالعنصرية تم اعتبار هذه القرارات منها تخدم المحافظين الكاثوليك، فالوزيرة نفسها كانت قررت عام 2007 عدم فتح معارض للفنون تحتوي على عري أو مثلية جنسية.

وهذه رسالة بأن قرار دعم الإصلاحيين أو المحافظين يكون سياسي بالدرجة الأولى، فالوزيرة كان بإمكانها تهيئة إيطاليا لقبول حكم الكنيسة إذا ما تمادت في قراراها، بالضبط كما لو أن بوش تمادي في حربه الصليبية على المسلمين – في زعمه – فلن يكون لنتائج أعماله سوى إعادة نفوذ القساوسة بعد استبعادهم منذ قرون، وفي تقديري أن ذلك يدل على إمكانية شيوع الجهل بعد العلم، وأن مسيرة البشرية تاريخيا كما أنها تؤمن بتراكم العلم تؤمن أيضا أن للعلم حصون سياسية ومؤسسية تدافع عنه مهما كانت التحديات.

أذكر أنني ومنذ سنوات أنادي الرئيس السيسي بنصرة التنوير فعلا لا قولا ، وأن المستفيد من سياساته الحالية هم المحافظين والرجعيين مما ينقل المجتمع عشرات السنين إلى الوراء، فالرجل لم ينجز شيئا في مجال التنوير لا بتعديل مواد دستورية أو إلغاء قوانين مقيدة للحريات الدينية كما كان يُفترض أن يفعل أوائل سنوات حكمه، في حين يستعيض عن هذا الفشل بمؤتمرات عائلية تجمع بين الأزهر والكنيسة لا تحوي سوى (الكلام) وأحيانا الدموع والعواطف في مسلسل ردئ الصناعة يطلق سؤالا مباشرا: إذا كان السيسي حريصا على التنوير فلماذا لا يقرر ذلك بإعادة النظر في مواد دستورية وضعها الإخوان كالمادتين 2، 6، أو إلغاء قانون ازدراء الأديان الذي أصبح سيفا مسلطا على رقاب المثقفين؟

نموذج السيسي بالضبط كنموذج جورش بوش و ليتيسيا موراتي، لا يدعمون العلم وينصرون رؤاهم الدينية كاهتمامه الواضح ببناء دور العبادة على حساب المصانع والخدمات بهدف تحسين معيشة المواطنين.

ثالثا: في صربيا، وفي نفس العام 2004 أمرت وزيرة التربية "ليجلجانا كوليتش" Ljiljana colic باستبعاد نظرية التطور من مدارس صربيا، وحدثت نفس ردود الفعل الاجتماعية والسياسية، حين ثار عليها بعض رؤساء الأحزاب والبرلمان ورموز المجتمع المدني متهمين الوزير بإحياء سلطة الكنيسة وتدخلها السافر في العلم، ونظرا لأن الهجوم كان شديدا ألغت الوزيرة قرارها ثم استقالت..

إن الدافع الذي حرّك وزراء إيطاليا وصربيا لإلغاء نظرية التطور لم يكن صناعة شخصية أو حزبية، بل ميل لوجهة نظر المتشددين والأصوليين في المجتمع من ذوي الرؤى المحافظة الكاثوليكية، أي أن قراراهم كان منسجما مع رؤية فئة من الشعب – قد تكون الأغلب – لكنها أقل تأثيرا في دوائر الدولة العلمية والسياسية، وهذا يطرح فكرة أخرى أن إيمان الدولة بالعلم يفوق قدرة إيمان الشعب بالعلم، بالتالي لا يلزم تغيير قناعات الشعب كاملة لكي تتحرك الدولة من ناحية علمية.

وبالتالي الاحتجاج بالناس والعوام على أنهم غير جاهزين للعلم أو الديمقراطية هو نوع من التحايل والضعف، فلو أراد السياسيون تغيير الأوضاع للأحسن سيفعلوا، لكن منهم من لا يؤمن بالتغيير ومنهم لا يؤمن لكن ليست لديه الشجاعة والقوة لمواجهة خصومه، فلو كانوا ديمقراطيين مؤمنين بالحريات وناجحين لصاروا أقوى، وأتصور أن رؤساء العرب أضعف من إقرار العلم في المدارس وتحديث مجتمعاتهم لهذا السبب.

علما بأن التطور ممنوع حتى الآن في مدارس تركيا والسعودية لنفس السبب المسيحي، وهو تعارض نتائج النظرية مع قصة الخلق في الإسلام.. متسلحين أيضا بوجهة نظر الشعب التي ترفض هذا التفسير العلمي لنشأة الكون، وعليه فالصراع بين العلم والدين لم ولن ينتهي ما دام الحكام أو القائمين على المجتمع غير مؤمنين به، وأظن أن درجة الإيمان بالعلوم تزداد في مجتمعات منفتحة وديمقراطية مؤمنة بحقوق الإنسان أكثر، وقد قرأت قديما نتيجة لاستطلاع أجراه مركز أبحاث الرأي العام الروسي أن 25% من الروس مؤمنين بالتطور، طبيعي أن ترتفع هذه النسبة في مجتمعات أكثر انفتاحا كأوروبا والاسكندينافية، وتنخفض في مجتمعات أكثر انغلاقا كأفريقيا والشرق الأوسط..

علما بأن الروس يفترض أنهم أكثر إيمانا بالتطور لماركسية المجتمع قديما وإلى الآن، ولأن الحكومات السوفيتية المتعاقبة درست النظرية على نطاق واسع كبديل لقصص الخلق الخرافية – بوجهة نظرهم- وقتها.

أؤمن كما أن لخصوم التطور حقا في رفضها فعليهم أيضا تفسير قصة الخلق بنظرية علمية بديلة ، أو على الأقل التوفيق بين الدين والعلم كما يفعل بعض الباحثين في إثبات تطور الخلق في القرآن مثلا، فالأوساط العلمية لا تؤمن بالمفهوم الديني للكون لإنكاره الأسباب والتجارب والمشاهدات الحسية أحيانا، بل ترى أن هذا المفهوم كان سببا مباشرا في صراعات القرون الوسطى وإلى اليوم ، فلا يكفي التشكيك في نتائج العلم بل إيجاد البديل الصالح.

ورأيى أن مسألة إيجاد البديل هذه مستحيلة لاعتقاد أكثر المؤمنين بالربط بين قصة الخلق الدينية ووجود الله، رغم أنه لا يلزم، فالله كقوة عليا مطلقة مهيمنة يصلح لأن تدير منظومة التطور من منطلق علمها بالماضي والمستقبل معا، وأنه لا يجوز نسب أقوال بشرية لله خارج الأديان وأصلها الكتابي الأول، وفي تقديري أن هذا الجانب خدم المؤمنين بالله وبالتطور معا فوصلوا إلى نتائج منها أن الله أقر التطور في الكون ليس كنظرية علمية ولكن سنة كونية تلامس كل شئ بما فيها الفيروسات والميكروبات في المعامل والمختبرات.

فالعناد البشري ضد العلم لن يصل إلى شئ، فهو سلوك زائف معارض لتطور الحياه والكون معا نتيجته الحتمية "انتصار العلم" ومن يعتقد أن التطور ينكر الله ..هذا غير صحيح، فالله خلق العالم والحياه والكائنات..ثم أقٌر فيهم قانون التطور للارتقاء والتغير الذي يحدث منذ عصر الخلية الأولى قبل مليار سنة

اجمالي القراءات 4077

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-09-25
مقالات منشورة : 788
اجمالي القراءات : 7,601,078
تعليقات له : 102
تعليقات عليه : 411
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt