عن أثيوبيا وعلاقتها مع السعودية
تمثل أثيوبيا أحد أكبر الدول الأفريقية وأكثرها أهمية ومحورية، يبلغ عدد سكانها أكثر قليلا من عدد مصر (حوالي 93 مليون) وتقع في عمق منطقة القرن الأفريقي الذي يتحكم بمدخل البحر الأحمر من الجنوب وساحل المحيط الهندي، وفي المساحة هي من أكبر الدول الأفريقية وأكثر ثراءً بالمقومات الطبيعية سواء من الغابات أو الأنهار أو الثروة الحيوانية، ورغم ذلك ولكثرة الحروب التي شابتها في أواخر القرن العشرين تعرضت لهزات اقتصادية بلغت قمتها في الثمانينات بحدوث مجاعة عظمى تم تداركها بعد سقوط النظام الشيوعي التسعينات..
في هذا التوقيت-مطلع التسعينات- كانت أثيوبيا لها سواحل على البحر الأحمر في مقابل سواحل المملكة من الناحية الشرقية، ولكن بعد استقلال أريتريا عنها فقدت هذه السواحل، ولم يعد يربطها بالمملكة أي جوار، لكن بقيت شبكة المصالح معها التي بدأت مع تكوين نواة الدولة الأثيوبية الحالية في مطلع القرن العشرين..
في عام 1948 أعلنت السعودية إقامة علاقات مع أثيوبيا بمستوى القائم بالأعمال، رغم أن هذه العلاقة كانت موجودة منذ عام 1929 قبل الإعلان الرسمي، وهي فترة حكم الامبراطور الأثيوبي .."هيلاسيلاسي".. كانت فيها علاقات أثيوبيا بالمملكة تصل لحد التعاون..تم تتويجه باتفاق.."كوينسي"..الذي تضمن فيه أمريكا حماية السعودية بالتنسيق مع (أثيوبيا ومصر) ووجود هذين الطرفين يعني أن العلاقة كانت قائمة قبل الإعلام الرسمي برعاية أمريكية..
السعودية تستثمر في أثيوبيا بمبالغ ضخمة حوالي 4 مليار دولار حسب اعتراف وزير الإعلام الأثيوبي اليوم، أو 12 مليار دولار كرقم غير معلن، وأغلب هذه الاستثمارات في قطاع الزراعة والري..وخصوصا محصول الأرز.
وهذا يعني أن السعودية لها مصلحة من سد النهضة -الذي يجري بناءه الآن- كونه يوفر مساحات لزراعة الأرز في أثيوبيا وبالتالي زيادة استثماراتها وأرباحها، وهذه النقطة جعلت المملكة تقف موقف (محايد) في موضوع سد النهضة ولا تمارس أي ضغوط على أديس أبابا لتبديد مخاوف مصر..وربما هذه الجزئية هي التي دفعت كثير من المصريين للتشكك في الدور السعودي في بناء السد وتهديد الأمن المائي لمصر..
الخطر الوحيد على علاقات أثيوبيا بالسعودية هو في حركة.."تحرير شعب تيجري"..وحركة .."شعب أورومو"..والأولى حركة سياسية شيوعية متحدثة بلسان شعب التيجري في الشمال وقريبة من الأريتريين أعداء أثيوبيا، والثانية تدافع عن حقوق شعب.."أورومو"..العرقي في جنوب البلاد ويمثل (ثلث السكان) ويطالب بحقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو الذي قام بالمظاهرات الأخيرة في أديس أبابا التي وصلت أخبارها لنا في مصر ولا نعلم طبيعتها..والكلام عن طبيعة هذه الحركات وتاريخ صراعها مع السلطة يطول..ليس هذا مقامها
وملمح هذا الخطر أن تمكن شعب التيجري من السلطة أو الانفصال يعني إقامة جمهورية شيوعية يسارية في القرن الأفريقي تشبه نظام .."منجستو"..الشيوعي في الثمانينات..والذي كان يعادي السعودية بوصفها حليفة للأمريكان، كذلك في انفصال شعب أورومو يعني إضعاف سلطة أديس أبابا بما يعني إمكانية انفصال كل الأعراق الأخرى بما فيها التيجري في الشمال وإقليم أوجادين الصومالي في الشرق، لكن النظام الحالي يؤمن مصالح المملكة وهو .."نظام فيدرالي تعددي"..يسمح بمشاركة كل العرقيات الكبيرة والمهمة في السلطة..
كذلك ولأن شعب التيجري له روابط ثقافية مع أريتريا التي انفصلت عن أثيوبيا عام 1991، وحتى الآن لم تنضم أريتريا للجامعة العربية لأسباب يراها الأريتريون بعدم الانتماء للعرب لغة وثقافة..
ولتوضيح الصورة
أثيوبيا لغتها الرسمية والقومية (أمهرية/ حبشية)
زي إيران لغتها الرسمية والقومية (فارسية)
شعب التيجري ليس أمهري/ حبشي، لذلك يطالب بحقوقه في اللغة والقوميات، مثل العرب والكورد والأذريين في إيران، علاوة على يسارية حركته السياسية جعلته في مواجهة مع النظم الليبرالية وأجبرت الاتحاد الأوروبي على دعم السلطة في أثيوبيا ضد المعارضة التيجرية ، واستطاع ميليس زيناوي جمع التبرعات والدعم النقدي والعسكري لبناء جيش أثيوبيا من وراء هذا الدعم..حتى تمكن في الأخير من بناء قوة عسكرية من أضخم القوى في أفريقيا..
باختصار: مشكلة أثيوبيا الرئيسة هي مشكلة لغات وقوميات،وبوجود شعب الأورومو ذو الأغلبيته مسلمة.. نشأت النزعة الطائفية وتعززت أكثر بسياسات الامبراطور المسيحي هيلاسيلاسي ضد هذا الشعب المسلم
ولتوضيح المشهد السياسي أكثر يمكن استعراض تاريخ أثيوبيا بإيجاز في هذا العرض
من 1928 إلى 1975 حكومة دينية (مسيحية) بقيادة الإمبراطور هيلاسيلاسي
من 1975 إلى 1991 نظام شيوعي انهار عقب انتصار أمريكا في الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار حلف وارسو، ومن أبرز معالمه معاداة السعودية ومصر لمساندتهم هيلاسيلاسي من قبل..
من 1991 إلى 2012 نظام دكتاتوري بقيادة ميليس زيناوي-رئيس الوزراء- قاد أثيوبيا للانفتاح وتحرير الاقتصاد..وتحسنت علاقات أثيوبيا بمصر ثم ساءت بعد محاولة اغتيال مبارك عام 94، لكن بقيت علاقتها مع السعودية مميزة بل تطورت..
من 2012 إلى الآن على خطى زيناوي، لكن سد النهضة طرح مشكلة في العلاقات مع مصر، في المقابل تعززت العلاقة مع السعودية
واضح من هذا الخط الزمني أن أثيوبيا تتأثر بأي مجريات إقليمية أو تغيرات في جوهر النظام العالمي، ويمكن اعتبار أن أثيوبيا الحالية هي (عقل وقلب ميليس زيناوي) ونظامه الشبيه بالنظم العربية الموالية لأمريكا بعد هزيمة الشيوعية..
كذلك من الخط الزمني يتضح أن حركة (تحرير شعب تيجري) رغم أنها يسارية إلا أنها انقلبت على الحكم الشيوعي، والسبب هو في تآكل شعبية النظام الشيوعي نفسه بسبب المجاعات التي ضربت أثيوبيا في الثمانينات في عهد منجستو وأودت بحياة مليون شخص..
كذلك حركة تيجري هي عضو تحالف السلطة الحاكم الآن بنظام فيدرالي، ولها أغلبية مقاعد البرلمان بالتحالف مع الحركة الأمهرية/ الحبشية وحزب الأورومو، وهذا يعني اتحاد الخصوم في حلف واحد مما يشكل (ضعف) في بنية النظام السياسي الأثيوبي..الذي شكل تحالفه الحاكم الآن ما يسمى (نظام الضرورة)..
السعودية يهمها في الأخير وجود حكومة قوية في أثيوبيا بغض النظر عن ماهيتها ولا أسلوبها وسياساتها، ويهمها إن تكون أثيوبيا واحدة لأن تعدد الدول في هذه المنطقة يعني تعدد مصالح، ونموذج أريتريا-بعد الانفصال- كان محزن للسعوديين لاستغلال إيران هذا الانفصال وإقامة علاقات مع أريتريا وقواعد عسكرية وشعبية..
أثيوبيا عمليا دولة هشة جدا، وفي أي وقت مهددة بالتفكك، فشعب تيجري في الشمال وأورومو في الجنوب وأوجادين الصومالي في الشرق، لكن ما حفظ لها كيانها هو (الدكتاتورية) خصوصا الدينية التي بدأت مع هيلاسيلاسي وانتهت مع ميليس زيناوي الذي توفى من 4 سنوات، لذلك يعتقد أن الرئيس الحالي سلطته أضعف من أن يحكم دولة بها هذا الكم من المشاكل الدينية والعرقية..ولولا النظام الفيدرالي الحاكم لرأينا تقسيم حقيقي للدولة..
المثير أن السعودية دعمت الامبراطور هيلاسيلاسي (المسيحي) ضد شعب الأورومو (ذو الأغلبية المسلمة) وهذا يعني أنها دولة تبحث عن المصالح وليس الدين
الإعلام المصري كان سخيف جدا في نشر مظاهرات شعب الأورومو على أنها تعاطف مع مصر في قضية السد، وهذا غير صحيح، حكومة أثيوبيا رفعت شعار بناء سد النهضة لتوحيد الأثيوبيين لهدف قومي، وهذا يعني إن سد النهضة محل إجماع داخلي في أثيوبيا، أما مظاهرات الأوروميين فكانت في سياق داخلي يتعلق كما نشر باضطهاد الأورميين وطردهم من العاصمة..ولا شأن بمصر لها على الإطلاق، والأسخف إن مؤيدي السيسي أشاعوا وقتها إن هذه جهود.."المخابرات المصرية"..في الضغط على أثيوبيا من أجل السد، وهذا غير صحيح، المخابرات المصرية في أثيوبيا بعد انهيار نظام مبارك (صفر) ووسائل الضغط المصري الآن على أثيوبيا (صفر) كون هذه الأدوات كلها كانت تتعلق بنظام زيناوي، الآن الوضع تغير في أُثيوبيا كثيرا ومصر كانت غائبة عن المشهد في القرن الأفريقي بعد ثورة يناير ففقدت كل أدواتها.
الخلاصة: علاقة السعودية بأثيوبيا موجودة منذ زمن طويل، ومشروعة لا حجة لإنكارها، وصمت السعودية عن سد النهضة هو لاستفادتها في كل الأحوال سواء انتفعت أثيوبيا أو لم تنتفع..ويؤسفني القول أنهم لن يخاطروا بخسارة دولة كبيرة ومهمة كأثيوبيا من أجل عيون السيسي الذي بأرباح سنة واحدة استثمروها في أثيوبيا يرضوه..ويكسبوا ولاءه ولو على فترات..وهذه نقطة ضعف النظام الدكتاتوري في مصر
كذلك علاقة المملكة بأثيوبيا تراعي الفارق الجوهري الذي أحدثته أثيوبيا في بناء أنظمة دول الجوار ومن أهمها (جيبوتي والصومال) وبالتالي كسب الموقف الأثيوبي هو كسب لجيبوتي والصومال بالتبعية، ولخلاف هاتين الدولتين مع أريتريا.. فعلى ما يبدو أن النظام الأريتري يقع في محيط معادٍ من الجنوب، لكن له علاقات جيدة مع السودان، والفضل في إنشاء هذا المحيط المعادي هو أثيوبيا لما لها من نفوذ أنشأه ورعاه نظام زيناوي القوي والذي يعد من أقوى أنظمة أفريقيا بعد نهاية الحرب الباردة..
كذلك لمجاورتها وعلاقتها المميزة مع كينيا، التي بدورها مفتاح الشرق الأفريقي مع تنزانيا وأوغندا، ومعهما رواندا وبوروندي، وهذا يعني أن العلاقة الجيدة مع أثيوبيا تعني كسب ولاءات هذه الدول جميعها، أو على الأقل وضع موطئ قدم يسمح بالتواجد والتأثير في منطقة استراتيجية هامة، وأزعم في تقديري أنها نفس الرؤية الإسرائيلية التي سمحت بتمدد إسرائيل في هذه المناطق، ولولا محاولة اغتيال مبارك وتدهور العلاقات المصرية الأثيوبية من حينها لرأينا دور مصر ولو (محدود) في هذه المنطقة، ولكن لغياب الرؤية وضيق الأفق انحسرت مصر وتمددت في المقابل السعودية وإسرائيل، اللذان بدورهما أصبحا اللاعب الجوهري في تشكيل سياسة أثيوبيا تجاه العرب بالعموم ومصر بالخصوص..
اجمالي القراءات
7637