صفحات من تاريخ التنوير (4)

سامح عسكر Ýí 2014-11-27


ليس المقصود من التنوير هو القضاء على الجهل أو الجريمة بشكل تام..هذا غير ممكن، حيث من حكمة الخالق أن يدفع الله الناس بعضهم ببعض، وهذا يعني ضرورة وجود النقيضين أو المختلَفين، ليس كما تصور الجانب المتطرف للماركسية، حيث تصوّر ماركس أحياناً أنه يمكنه القضاء على البرجوازية، وأن نعمل على إشعال الصراع معهم حتى تسير عجلة التاريخ، والقائل يرى أن التاريخ لن يتقدم إلا بالصراع وأن يقضي طرف على آخر، بينما في الإسلام وفي كل الأديان لا يوجد صراع بل.."دفع"..أي المقصود هو إحداث عملية توازن وليس عملية إقصاء لضرورة وجود النقيضين كفريضة لاستمرار الحياة.

أضرب مثلاً على ذلك أن مفهوم التدين الشائع يُعطئ صورة عن الرب أنه واحدُ متفردُ بائنُ من خلقه، وعلى هذا المفهوم كل الأديان تقريباً عدا بعض الفلسفات الهندية التي أثرت في المنطقة العربية ونادى بها الشاعر الصوفي الشهير.."الحسين بن منصور الحلّاج"..ت 309هـ، الذي جرت محاكمته وقتله صلباً بعدما قال بهذا المذهب الهندي وآراء إصلاحية أخرى، واختصار هذا المذهب أن الله وجميع مخلوقاته هم كيان واحد في موجود واحد، فلا موجود حقيقي إلا الله، أما الإنسان والحيوان والطير...إلخ جميعهم صور مُشخّصة للإله في الأرض، وجميعهم يستمدون وجودهم الحقيقي من وجود الله، وهذا يعني أن مفهوم التفرد والإبانة عند جميع البشر المتدين ليس هو المفهوم الصحيح.

هذا المذهب هو المشهور بمذهب.."وحدة الوجود"..وقد رد البعض عليه قديماً وحديثاً بنظريات عقدية أشهرها أن الله هو الوحيد الذي هو.."واجب الوجود"..أي لا موجود قبل وجود الله، أما المخلوقات فهم.."ممكن الوجود"..أي وجودهم بين الحقيقة والعدم لا يؤثر في وجود الله بذاته.

المهم أن ظهور هذا المذهب جاء بسُنّة الدفع الوارد ذكرها في الأديان ، خاصةً الدين الإسلامي في قوله تعالى.."ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"..(البقرة:251)..أي وجود مثل هذه المذاهب ضروري حسب سنة الرب وحكمته في بقاء خلقه واستمرار الحياة، ولغاية تُفجّر طاقات الإنسان وإبداعاته في تصور الأفضل وسلوك الأميز، لكن الإنسان بفُجره وتسلطه يريد أن يحتكر هذه السنة لنفسه، فتنشأ الصراعات والحروب ويعلو المجرمين والطُغاه ليحكموا رقاب الناس بالباطل، فينتشر الجهل وتنحط الأمم.

والسؤال الذي يدور دائماً في هذه الأحوال التي يعلوها الرفض والإقصاء والاضطهاد، إذا كان الله قد ارتضى لعباده أن يكونوا على هذه الأديان فكيف يسوّغ الإنسان لنفسه أن يزعم غضب الله على وجود هذه الأشياء، حينها يُعلي مصالحه على مصالح الآخرين بل على مصالح الدين نفسه، ودليلنا في القرآن قال تعالى.." ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون"..[المؤمنون : 96]..فلو كان أي فكر هو سيئة بميزان الله فهو مدفوع بالحسنة، ولا يقول قائل أن الاضطهاد والقتل مجرد الرأي هو حسنة، بل سيئة لا يرضاها الله وتكسر نواميس الكون وتُحدث الخلل وعدم التوازن الذي هو في النهاية مدعاةً للفُجر وشيوع المظالم.

إن ما حدث للحلّاج هو مأساة لا زال تلاميذه يرددون مظلمته إلى الآن، رغم أنه مقتول منذ أكثر من ألف عام، لكن على ما يبدو أن مأساته اتصفت بصور مظالم كثيرة أشهرها مظالم آل البيت وإحياء ذكرى استشهاد الحسين في موقعة الطف عام 61هـ.

وبغض النظر عن ماهية أفكار الحلّاج فما حدث له هو صورة من صور القمع والكبت التي هي ألدّ أعداء التنوير، نُلاحظ أنه منذ قتل الحلّاج ومن قبله اضطهاد المعتزلة وأهل الرأي وقد توقف الفكر والاجتهاد، وجَمُد الدين الإسلامي إلى حدود وأفهام أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وأخبار البخاري ومسلم، في قرار إسلامي اتسم بالغباء المفرط وقتل النوابغ والمبدعين وتكريس ثقافة الانهزام وشيوع غريزة النقص، في انتقال عجيب من رحابة الفكر وحرية الاعتراض والنقد إلى تسلط الجُهّال والكَذَبة وسيادة كل مذاهب التقليد والتعصب الأعمى.

كان هذا التقليد منتشر قديماً قبل مقتل الحلّاج وخصوصاً في عهد الدولة الأموية التي قتلت مبدعين عظام ومفكرين تنويريين كمعبد الجهني..(ت80هـ)..والجعد بن درهم..(ت105هـ)..وغيلان الدمشقي..(ت106هـ)..والجهم بن صفوان..(ت128هـ) وهؤلاء جميعاً كانوا من صفوة مفكري العرب والمسلمين الذين لا يقلون شأناً عن طه حسين ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وفرج فودة ونصر أبو زيد ، لكن قتلهم التعصب الأعمى والتقليد الفاضح الذي يُمثل كما قلنا جانب العاطفة في العقل الإنساني، لكن قد يكون ممثل العاطفة على قدر من الوعي لا يحمله على العدوان، أما هؤلاء فقد اعتدوا وقتلوا المبدعين ولم يكن لهم من العقل شيئاً، وأقل ما يُوصفون به أنهم أعداء للإنسان وللأديان وللحضارة.

الشاعر المصري الكبير.."صلاح عبدالصبور"..ت 1981م، له مسرحية شعرية بعنوان.."مأساة الحلّاج"..أعاد فيها صياغة قصة الحلاج ونضاله المجتمعي، ووصل إلى أن سبب محاكمة الحلّاج وقتله لم يكن فقط بسبب آرائه الدينية بل لآرائه الاجتماعية والفلسفية والإصلاحية ، أما المسرحية فلها بُعد فلسفي رائع أنصح به، وغير المسرحية فلصلاح عبدالصبور رأي شهير في الحلّاج ساقه في كتابه.."حياتي في الشعر"..قائلاً..." كان عذاب الحلاج طرحا لعذاب المفكرين فى معظم المجتمعات الحديثة ، وحيرتهم بين السيف والكلمة ، بعد أن يرفضوا أن يكون خلاصهم الشخصى بإطراح مشكلات الكون والإنسان عن كواهلهم هو غايتهم ، وبعد أن يؤثروا أن يحملوا عبء الإنسانية على كواهلهم"..(حيات في الشعر ص219).

ويظهر من كلام عبدالصبور تأثره بالحلّاج ليس فقط كشاعر أو مفكر ولكن أيضاً كمُصلح وتنويري رفيع، فقد ساقه بين كل من احتاروا في خيار السيف والكلمة، والمعنى أن كثيراً من المفكرين والنوابغ يملكون العلم والقدرة للنهوض ..لكن يخافون على أنفسهم ويؤثروها على البشرية في سلوك أناني غير مسئول، لكن الحلّاج لم يكن كذلك، قرر أن يؤثر نفسه وعذابه على عذاب البشرية من الجهل، فكان جزاءه اجتماع الفقهاء والغوغاء عليه، في تكرار لما سُقناه في الحلقة السابقة لمأساة .."هيباتيا"..وكأن قضية التنوير هي في ذاتها مأساة..!

اجمالي القراءات 6459

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-09-25
مقالات منشورة : 788
اجمالي القراءات : 8,082,860
تعليقات له : 102
تعليقات عليه : 410
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt